_مقاربة حول أهم إشكاليات حقوق الإنسان في العالم العربي (1)_
الدكتور عبدالله تركماني : نشرة المرصد التي تصدرها جمعية حقوق الإنسان في سورية
تقف قضايا حقوق الإنسان اليوم ضحية تناقضين : أولهما، الإرهاب، باعتباره يمثل اعتداء صارخا على الحقوق الأولية للإنسان . وثانيهما، مكافحة الإرهاب، التي تستخدمها كافة حكومات العالم لتبرير عدم التزامها بالمعايير والإجراءات التي يفرضها التزامها بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان .
إذ تجمع التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان في العالم على أنّ هذه الحقوق قد أصيبت بنكسة معتبرة بعد جريمة 11 أيلول/سبتمبر 2001، فممارسات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب تجاوزت مقتضيات الطابع الاستثنائي لمواجهة الاعتداءات التي تعرضت لها الولايات المتحدة، ولم تقف عند التدابير الاستثنائية التي قوّضت العديد من الضمانات القانونية التي كافح العالم من أجل إرسائها عبر نصف القرن الأخير تحت حجــة " العنصر الأمني " الذي أصبح السمة المهيمنة على مجمل العلاقات الدولية .
مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ليقول، في خطابه لمجلس الأمن الدولي يوم 18 كانون الثاني/يناير 2002 : " علينا أن نكون واضحين في أنه ليس هناك مبادلة بين اتخاذ إجراءات فعالة ضد الإرهاب وحماية حقوق الإنسان، بل على العكس، فأنا أعتقد، أنه على المدى البعيد، سنجد أنّ حقوق الإنسان، جنبا إلى جنب مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، هي أفضل أدوات واقية ضد الإرهاب . نحن بالتأكيد نحتاج إلى الحيطة لمنع وقوع عمليات إرهابية، وإلى الحزم في إدانة ومعاقبة المسؤولين عنها، لكننا سنوقع هزيمة بأنفسنا إذا ضحينا بأسبقيات أساسية أخرى، مثل حقوق الإنسان أثناء عملية المواجهة " .
لقد أصبحت حقوق الإنسان أحد أهم القضايا على قائمة الاهتمامات الدولية في العالم المعاصر، وأحد أهم المعايير للحكم على مدى رقي أو تحضر النظام السياسي في أية دولة.
_وعلى المستوى الفكري، يمكن دراسة حقوق الإنسان كمجال مميز للسياسة الدولية بأكثر من منظور :_
_المنظور الأول_، يرصد تطور حركة حقوق الإنسان باعتبارها حركة عالمية، وهي تعد بذلك أحد التجديدات المؤسسية الهامة في النظام الدولي . وربما لا تعد هذه الحركة فعلا من حيث أنها قد أصبحت تشكل فاعلا دوليا، بقدر ما تعد كذلك من حيث غرضها . إذ أنها تنبثق من الاعتقاد بأنّ مسؤولية الدفاع عن حقوق الإنسان في أي مكان من العالم هي مسؤولية دولية مشتركة، وأنه إذا كان قد ثبت أنّ الحكومات مجتمعة لا تستطيع القيام بها بسبب ما يسود السياسة الدولية الرسمية من تقاليد سياسة القوة والمصالح الأنانية المباشرة للحكومات، فإنها ينبغي أن تصبح مهمة يضطلع بالقيام بها الرأي العام المنظم في منظمات قومية وعالمية . ومن المثير أن نرى أنّ هذا المدخل للكفاح من اجل حماية حقوق الإنسان قد أثمر ثمرات طيبة في دعم نضال الشعب العربي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي .
_والمنظور الثاني_، يستمر في تفضيل دراسة قضية حقوق الإنسان كأحد موضوعات السياسة الدولية، أي التفاعل بين الدول وتكتلات الدول في النظام الدولي القائم على السيادة القومية وعلاقات القوة والمصلحة . ويركز هذا المنظور على الطبيعة المنافقة والمزدوجة للتلاعب بقضية حقوق الإنسان لتحقيق مصالح أنانية من قبل بعض الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية . وفي كثير من الأحيان تتم الدراسة من هذا المنظور بقدر كبير من حسن النية وبقصد الكشف عن طبائع الدول وسلوكها وأسباب ودوافع تحركها الدولي والخطاب السياسي ـ الديبلوماسي الذي تستخدمه في الساحة الدولية . وفي أحيان أخرى لا تفتقد تلك الدراسات قدرا من سوء النية إذ تقصد إلى تسريب إيحاء غامض بأنه ليس في الأمر جديد، وأنّ علينا أن نجتنب إثارة قضايا حقوق الإنسان حتى لا نقع فريسة التلاعب الدولي المنظم بهذه القضية، وأن نستدعي تدخل الأقوياء في الشؤون الداخلية للدول الضعيفة .والواقع أنّ هذه المقولة بها بعض الصدق، ولكن ليس الصدق كله . إذ أنّ استفادة الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان، باعتباره مسؤولية مشتركة للبشرية، من قوة هذه الدولة أو تلك، أو من قدرة الأمم المتحدة على استخدام هامش استقلالها النسبي عن الدول الأعضاء لنصرة حركة حقوق الإنسان، فإنّ ذلك لا يغير من تقديرنا لحقيقة أنّ هذه الحركة تنبعث فعلا من الضمير العالمي، الذي يستجيب له ويشارك في تطويره فئات من المثقفين والمناضلين من جميع أركان الكرة الأرضية .
_أما المنظور الثالث،_ فهو بالضرورة منظور يقوم على الفلسفة والثقافة السياسيتين . ويتبلور هذا المنظور في إدراك موحد بأنّ احترام حقوق الإنسان لم يعد حكرا للسياسة الدولية، وإنما قد أصبح جزءا لا يتجزأ من السياسة الداخلية لمختلف المجتمعات، وأنه بذلك يتحول إلى معيار أمين للمشروعية والمصداقية السياسيتين . وفوق ذلك، فإنه إذا كان مبدأ احترام حقوق الإنسان أحد أهم معايير الحكم على الشرعية والمصداقية للنظم السياسية، فإنّ علينا أن نقّلب في أوجه التشابك والتداخل بين ديناميكية التطور السياسي وخصائص وطبيعة الدولة من ناحية، وثقافة حقوق الإنسان من ناحية أخرى . ويعاضد هذا الاتجاه بروز إشكالية مدى التناغم بين مضمون نصوص هذه المواثيق والعهود من ناحية والثقافات السياسية والظروف الموضوعية التي تميز المرحلة الراهنة من تطور المجتمعات المتأخرة في عالم الجنوب من ناحية ثانية .
وهكذا، سوف نتناول أهم إشكاليات حقوق الإنسان في العالم العربي وفقا للعناوين التالية : كونية وشمولية حقوق الإنسان، تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان العربي، معوّقات تطور نظرية وممارسة حقوق الإنسان في العالم العربي، حول الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الحركة العربية لحقوق الإنسان .
_(1) - كونية وشمولية حقوق الإنسان_
تكشف دراسة الوثائق الدولية المدى الواسع لكونية وشمولية حقوق الإنسان ( ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وعهدي حقوق الإنسان اللذين تم إقرارهما في سنة 1966 والخاصين بالحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعدد من الاتفاقات الدولية التي تم إبرام معظمها في إطار منظمة الأمم المتحدة، فضلا عن مواثيق إقليمية خاصة بحقوق الإنسان في أوروبا والأمريكتين وأفريقيا ) . إذ أنّ المفهوم الذي تحدده هذه الوثائق، التي حظيت بقبول واسع في المجتمع الدولي تمثل في تصديق عدد كبير من الدول عليها وأصبحت بمثابة قواعد عرفية للقانون الدولي، هو مفهوم شامل ينطوي على ثلاث فئات من الحقوق، يتفق كل منها مع جيل معين من حقوق الإنسان ساهمت أقسام متباينة من البشرية في صياغته :
فالفئة الأولى، هي الحقوق السياسية والمدنية، وتتمثل في حقوق الحياة والحرية والكرامة الشخصية، البدنية والمعنوية، وضمان المحاكمة العادلة وحرية العقيدة والتعبير والتنظيم المهني والسياسي وانتخاب الحاكمين ... الخ .والفئة الثانية، هي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل حقوق العمل وفقا لأجر عادل، والتعليم، والعلاج، والدخل المناسب .
أما الفئة الثالثة من هذه الحقوق، فهي ما يمكن تسميته بحقوق الشعوب أو الحقوق الجماعية، مثل حقوق تقرير المصير والسلام، والتنمية والبيئة، فضلا عن استخدام اللغة الوطنية وصيانة الثقافة القومية .
وهكذا، فمفهوم حقوق الإنسان في الوقت الحاضر مفهوم شامل لا يقتصر على فئة واحدة من الحقوق دون غيرها، فهو يشمل حقوق الأفراد والجماعات والشعوب، كما ينطوي على حقوق سياسية ومدنية مثلما ينطوي بنفس القدر على حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية . ومع ذلك، لا يمكن القول بأن التجمعات الدولية المختلفة تعطي نفس الدرجة من الأهمية لكل فئات هذه الحقوق، أو أنها تتبنى نفس المعايير في الدعوة لها وحمايتها أو حتى الاعتراف بها .
فمن الوجهة التاريخية المقارنة، لا شك في أنّ الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة تبنت ورعت واستثمرت مبادئ حقوق الإنسان بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحضارات . ولكنّ هذا الواقع التاريخي لا يعني إطلاقا أنّ هذه المبادئ لم تنشأ إلا في الحضارة الغربية الحديثة، كما لا يعني أنّ الطريقة الوحيدة لفهمها وتطبيقها هي الطريقة التي ابتدعتها تلك الحضارة، ففي الحضارة العربية ـ الإسلامية كانت هذه المبادئ تعمل باستمرار، وتتخذ أشكالا متناسبة مع ما توفره البنية الثقافية العامة، في تفاعلها مع البنى الاقتصاديةوالاجتماعية والسياسية، وإن كان ظهورها لم يتحقق في شكل انتشار وسيادة ومركزية كما حصل في الغرب الحديث والمعاصر . ولذلك عندما نتحدث، نحن العرب اليوم، عن هذه المبادئ، فإننا لا نتحدث عن شيء غريب تماما عنا، عن قيم لا تمت إلى تراثنا بصلة .
_إنّ العرب تفاعلوا مع الحضارة الغربية، وأيقنوا أنّ نهضتهم وتقدمهم مستحيلان دون الاستفادة من حضارة الغرب . ذلك لأنّ التطور الحضاري الغربي يمتلك، منذ بداية التاريخ الحديث، زمام المبادرة التاريخية والحيوية الدافعة، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية . _
لقد اهتم مفكرو عصر النهضة العربية بالظاهرة الديمقراطية في الغرب، منذ بداية احتكاكهم به في العصر الحديث، من خلال الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وما تلاها من اتصالات واحتكاكات . وقد برز من بين مفكري النهضة وروّاد الإصلاح عدد يصعب حصره، من بينهم : رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وأديب اسحاق، وعبد الرحمن الكواكبي، وجمال الدين الافغاني، ومحمد عبده، وعبد الله النديم، ورشيد رضا، وغيرهم كثيرون . فهذا رفاعه الطهطاوي يقول في كتابه المشهور " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " : " وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه، هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأنّ الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة " . ويؤكد خير الدين التونسي في كتابه المشهور " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك " أنّ التقدم في المعارف وأسباب العمـران " لا يتيسر للعرب والمسلمين بدون إجراء تنظيمات سياسية تناسب التنظيمات التي نشاهدها عند غيرنا في التأسيس على دعامتي العدل والحرية اللتين هما أصلان في شريعتنا، ولا يخفى أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك " .
وفي كل الأحوال فإنّ مبادئ حقوق الإنسان تندرج ضمن المبادئ العامة للبشرية كلها، بحيث أنّ الخصوصية القومية لا ينبغي أن تقوّض المبادئ العامة، بل تقتضي تدعيم المعايير الدولية لا الانتقاص منها، والتشديد على القضايا الأكثر إلحاحا في بلداننا العربية وليس تجاوزها. وإذا كان تدويل مسألة حقوق الإنسان يعد نقلة نوعية وتقدما إيجابيا على طريق رفع الإنسان من مرتبة الموضوع إلى مرتبة الشخص القانوني، فإنّ إشكالية العالمية تطرح قضية الخصوصية الحضارية، بالرغم من أنّ المفهوم المعاصر لحقوق الإنسان هو تراث مشترك للإنسانية كلها، فقد ساهمت مختلف الشعوب في تكوينه، وشكلت الحضارات المختلفة روافد متلاقية في تشكيله. إنّ الحرية هي أصل جميع الحقوق، وهي قيمة في حد ذاتها تملأ حياة الإنسان وتعطيها معنى . وضمن هذا الإطار يجب أن نتفهم طبيعة الخلافات الدولية حول قضايا حقوق الإنسان والمعايير التي تحكمها، ففي الوقت الذي يركز الغرب على الدعوة للحقوق الفردية فإنّ بلدان عالم الجنوب تركز على الحقوق الجماعية للشعوب، مما جعل أغلب الباحثين في مسائل حقوق الإنسان يدعون إلى فكرة شمولية هذه الحقوق . فحقوق الأفراد تبقى ناقصة إذا كانت الجماعات التي ينتمون إليها لا تتمتع باستقلالها أو بحقها في تقرير مصيرها، كما أنّ الخبز بدون الحرية لا طعم له والحرية بدون الخبز لا معنى لها أيضا .مع العلم أنّ إنكار عالمية حقوق الإنسان والدعوة إلى التضحية بفئة معينة منها قد اقتـرن - في أغلب الأحيان - بإنكار كل حقوق الإنسان الأخرى، ولا يبدو أنه اقترن - في كل الحالات - بالإسراع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية . فقد استقر الفكر الإنساني على وجود ترابط عضوي بين التنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك العلاقة المتبادلة التي لا تقبل التجزئة بين مجموعة فئات الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أنّ الأساس في هذا الترابط هو قيام الأنظمة الديموقراطية على منظومة ثلاثية لحقوق الإنسان والتعددية السياسية والفكرية والمشاركة السياسية، بحيث تغدو الحقوق مبادئ موجهة والتعددية أطرا تنظيمية والمشاركة ممارسة عملية للحقوق والواجبات . وفي الواقع، تطرح إشكالية الخاص والعام سؤالا جوهريا : هل تعني نسبية الأخلاق وتاريخية التطور الاجتماعي جواز التحلل من التقييد بحقوق الإنسان، كما وردت في الشرعة العالمية، تحت حجة الخصوصية القومية ؟ .
يجمع الباحثون المختصون بقضايا حقوق الإنسان على أنّ لإشكالية العالمية والخصوصية حساسية خاصة، لأنّ الأصل في حقوق الإنسان أنها مسألة عالمية بامتياز، إذ أنّ هذه الحقوق تترتب للإنسان لمجرد كونه إنسانا، بقطع النظر عن أية خصائص، حيث المساواة هي المبدأ الأساسي الناظم لمفهوم حقوق الإنسان . ففي المؤتمر العربي لحقوق الإنسان، الذي عقد في القاهرة من10ـ12 نيسان/أبريل 1993، ورد في التقرير العام عن الخصوصية الحضارية : أنها كانت بمثابة كلمة الحق التي يراد بها الباطل . فالخصوصية الحضارية مفهوم صحيح في ذاته، وضروري لمواجهة التنوع الاجتماعي والثقافي بين بلدان العالم وثقافاته المختلفة، لكنّ المؤكد " أنه استخدم بشكل نمطي ثابت من جانب النظم العربية للتحلل من التزامات قانونية وواجبات إنسانية " ._ فثمة بلدان عربية استخدمته كذريعة لعدم التصديق على العهود والمواثيق الدولية، كما تم التذرع به لتعطيل إصدار وثيقة قومية (الميثاق العربي لحقوق الإنسان) تلبية لنداءات الأمم المتحدة، وتم عبره إفراغ مضمون مشروع هذه الوثيقة من العديد من الالتزامات القانونية . _