_النظام الشمولي ينهي نفسه بنفسه: _
_لماذا الشمولية العربية استثناء؟ _
ميشال كيلو : النهار 26/4/2004
في كتاب شهير اصدره عام 1954 بعنوان "مراحل النمو الاقتصادي"، قسّم الاقتصادي الاميركي والت وايتمان روستو حياة النظام الشمولي مراحل ثلاثاً، يتشكل في أولاها: ثم يحاول اصلاح نفسه في الثانية وينهار في الثالثة.
يقول روستو ان المرحلة الأولى من عمر النظام الشمولي تكون ايديولوجية، بمعنى ان النظام ينبني فيها انطلاقاً من "ترسيمة مغلقة" تحدد ماهيته وطابعه ونمط انتاجه المادي والمعنوي واشكال اشتغاله وآليات عمله ومصالحه وحتى نمط زعامته. في هذه المرحلة، التي تكون الايديولوجيا فيها المنطلق والمعيار، ينفرد حزب او تنظيم سري بمطابقة الواقع الجديد مع ما فيها من رؤى وخطط يجب ان يتشكل على صورتها ومثالها، الأمر الذي يجعل النظام الايديولوجي منبع النظام الشمولي ومصدره الوحيد، ويضفي القدسية على حملتها وخاصة القياديين منهم، الذين يتحولون الى كائنات فوق بشرية، معصومة وطهورة، لا يجوز المسّ بها او انتقادها في أي ظرف او حال، بما انها تنفرد بمعرفة مفاتيح هذه الايديولوجيا واسرارها، حيث تكمن صورة الواقع المسبقة والنقية، ويتجسد نظامه المنشود في حملتها وما يصدر عنها من أقوال وأفعال.
هذه المرحلة تنتهي الى أزمة شاملة تتظاهر في أمرين خطيرين: عجز الايديولوجيا عن ايجاد علاج من داخلها وبأدوارتها للمشكلات التي ينتجها تحققها في النظام الجديد، الذي يكون شمولياً بالضرورة، من جهة، وتحول الشمولية من وعد الى كابوس، نتيجة غياب الدولة والمجتمع المتعاظم عن نظامها وانقلابها الى بنية فوقية تعمل وفق معايير اوامرية واحدية الاتجاه، تنزل من فوق الى تحت، حيث البشر أدوات يتم تحريكهم في المنحى المطلوب، يكون التحكم فيها أكثر سهولة وتلبية لمصالح "النظام العام"، بقدر ما تتلاشى ارادتها وتموت حريتها، من جهة أخرى. بكلام آخر: تقوض الشمولية الدولة والمجتمع، فلا يبقى من حامل لمشروعها غير سلطة يزداد طابعها الاكراهي الى أن يصير هويتها الوحيدة ومركز اعادة انتاجها واستمرارها. ولأن هذه السلطة تلغي بصورة متعمدة ومتعاظمة أساسها المجتمعي: فإنها تتحول الى بناء معلق في الفراغ، لا يستند الى أي أساس، يعيد انتاج نفسه من فوق، من القيادة ممثلة في شخص الرئيس أو الأمين العام، فيشل الجمود حركته ويحول اجهزته الأمنية والادارية والحزبية... الخ الضخمة: المكلفة بادارته او حمايته، الى عبء يتصدع تحت ثقله.
ببلوغ النظام الايديولوجي هذا الوضع، تبدأ مرحلة تفككه الأولى، التي تأخذ شكلاً محدداً يكمن في استعارة آليات وتقنيات ادارة وحكم من خارجه. آليات وتقنيات غير ايديولوجية، تستخدم من أجل علاج أزماته وارساء قواعد نواظم جديدة لوجوده تضمن تحديثه وتطويره وجعله قادراً على الحياة في زمن تغير، وسط عالم لا يشبهه ويمارس عليه ضغوطاً مصيرية. في هذه المرحلة، يحل جيل جديد من القادة محل الجيل الأول، الايديولوجي، الخارج من النضال السري والتنظيم الحديدي، على صلة بالايديولوجيا لكنه لا يعتبرها مصدر معارفه ومواقفه والفيصل الذي يقيس به كل شيء ويعيد انطلاقاً منه انتاج كل شيء.
انه جيل تكنوقراطي مؤدلج ولد في فترة ازدهار الايديولوجيا ونجاحات نظامها الأولية الكبيرة وترعرع في حقبة مآزقها التالية، لذلك تراه يعيش الأزمة التي انجبتها الشمولية والتي تبدأ الآن بالتظاهر في كافة مناحي عملها. في هذا الواقع، يرفض هذا الجيل مقايسة الواقع بالأيديولوجيا، ويعزف عن الاستمرار في انتاجه انطلاقاً منها. ويحصر جهوده في تخطّي نقاط ضعفها، بفصل بعض جوانب الواقع والنظام عنها، والتعامل معهما كموضوعين يتمتعان باستقلالية نسبية عن اجهزتها وأفكارها ووعودها. مع هذا الجيل. ينتقل مركز ثقل الايديولوجيا اكثر فأكثر الى مجال الضبط والربط، تحار الايديولوجيا المعصومة في تبرير الخطوات الاصلاحية، التي تجافي طابعها الأصلي وأمرها السائد.
تنتهي هذه المرحلة الى الفشل، عندما يتأكد عجز تقنيات الادارة والسلطة المأخوذة من خارج النظام الأيديولوجي عن تخليصه من أمراضه ومشكلاته الكثيرة، التي لا تني تتفاقم بلا توقف. عندئذ، تبرز عقلية مقطوعة الصلة بالايديولوجيا، تغلب عليها نزعة تقنية محضة، ليس لقضية النظام وطابعه أهمية أولى بالنسبة اليها، فهي تريد "قطاً يصطاد الفئران ولا يهمها لونه"، كما قال ذات مرة الصيني دينغ سياو بينغ. بسيطرة هذه العقلية - التي يمثلها جيل النظام الشمولي الثالث - على مقاليد السلطة، يسقط هذا النظام، لأن استمراره يصير ببساطة ضرباً من الاستحالة.
هل هذه الترسيمة صحيحة؟ هل صحيح ان النظام الشمولي يمر بمراحل ثلاث تنتهي بسقوطه الحتمي؟ اذا راقبنا التجربة التاريخية الحديثة، وجدناها تؤكد صدق ما تنبأ به روستو قبل انهيار النظام الستاليني بحوالى أربعين عاماً، حين مثل ستالين النظام الايديولوجي وخروتشوف ثم بريجينيف النظام المختلط وجاء غورباتشوف اخيراً يصلح عبر تقنيات سلطة من خارج الايديولوجيا الستالينية وضعاً سرعان ما تبين انه غير قابل للاصلاح، فانهار ببساطة رغم عدم وجود أية معارضة منظمة له، دون ان يدافع عنه أحد من الشعب او من حزبه الشيوعي بملايينه التسعة عشر. وفي الصين مثّل ماو تسي تونغ وطاقمه النظام الايديولوجي، الذي تلته مرحلة دينغ سياو بينغ التقنوية ذات الخلفيات الأيديولوجية الملطفة، التي ينمو داخلها منذ نيف وعشرين عاماً جيل ثالث مقطوع الصلة بالايديدولوجيا، يتعلم تقنيات الادارة والسلطة من الرأسمالية، مع ان اختفاء النظام الشمولي من الصين لن يأخذ على الأرجح شكلاً انقلابياً كما في روسيا، بل سينتج عن تحويل طويل الأمد ومتدرج، بما ان النظام المختلط الحالي اثبت قدرة مدهشة على مواجهة المشكلات الكثيرة، التي يطرحها النظام الشمولي، وكذلك مشكلات مرحلة تفككه الأولى، التي تغذّ السير نحو المرحلة الثانية والنهائية.
وعندنا في البلدان العربية؟ لا شك في ان الحقبة الايديولوجية من حياة نظمنا الشمولية قد انتهت، وان أزمة النظام الايديولوجي تدفع بنا نحو المرحلة الأولى، حيث يريد جيل جديد استخدام تقنيات سلطة مأخوذة من خارج النظام لمداواة أمراضه واعادة انتاجه في شكل جديد. ربما كان هذا يفسر خوف رموز النظام الايديولوجي في سوريا وبقية البلدان العربية من الاصلاح حتى في صيغته المخففة جداً - التي يسمونها التحديث والتطوير ضمن الاستمرارية - كما يفسر عجزها المتزايد عن مقاومته، رغم ما تستخدمه ضد الاصلاحيين في الدولة والمجتمع - مع ما بينهم من اختلافات حقيقية - من اسلحة مأخوذة من خارج مجال الأزمة الحقيقية، تستخدم فيها ديماغوجيا وشعارات وطنية الخطاب، مع ان خطابها الوطني الذريعة لا يمنعها من التصرف بطرق يجعل استمرارها تقويض الأمن الوطني، الداخلي والخارجي منه، مسألة وقت حسب!
تقول اطروحة روستو ان النظام الشمولي يتفكك حتماً وبالضرورة، بقوة آليات تنبع من داخله وازمات ينجبها بنفسه، وليس بقوة المقاومة الداخلية التي تواجهه او ضغط المعارضة الداخلية المنظمة الذي يتعرض له. النظام الشمولي قد يقتل نفسه بنفسه، حتى لو لم يرفع أحد في وجهه اصبعاً. فهل تكون الشمولية العربية استثناء هذه القاعدة، رغم ما تكنّه شعوبها لها من كره، وتبديه تجاهها من ممانعة ومقاومة؟
_البرنامج النووي الإسرائيلي.. تآكل مسوغات الغموض الإيجابي_
صالح محمد النعامي : الجزيرة نت 25/4/2004
مع إفراج السلطات الإسرائيلية عن مردخاي فعنونو خبير الذرة الذي قضى ثمانية عشر عاما في السجن بعد إدانته بالكشف عن أسرار البرنامج النووي الإسرائيلي، يجدد الجدل داخل إسرائيل وخارجها حول مستقبل هذا البرنامج.
في إسرائيل برزت العديد من الأصوات الداعية إلى إعادة تقييم سياسة "الغموض الإيجابي" التي اتبعتها الدولة العبرية إزاء برنامجها النووي منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي وحتى الآن، وهي السياسة القائمة على رفض دوائر صنع القرار الإقرار بشكل رسمي بامتلاك ترسانة نووية، لكن في نفس الوقت إعطاء كل المؤشرات غير المباشرة على وجود مثل هذه الترسانة.
وتهدف إسرائيل من وراء هذه السياسة مراكمة عامل الردع في مواجهة الدول العربية، وردعها عن مجرد التفكير بأنه من الممكن القضاء على دولة إسرائيل ونحن هنا بصدد مناقشة مستقبل سياسة "الغموض الإيجابي"، في ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية وبالاستناد إلى جملة الحسابات التي دفعت الدولة العبرية إلى اتباع هذه السياسة.
سادس قوة نووية في العالم
حتى قبل مبادرة فعنونو بالكشف عن أسرار البرنامج النووي الإسرائيلي، فقد كان العالم بأسره لا يعي فقط أن إسرائيل دولة نووية، بل إن هناك تقديرات بأن حجم الترسانة النووية في الدولة العبرية يؤهلها لاحتلال المكانة السادسة في ترتيب الدول التي تملك ترسانات نووية كبيرة.
وحسب التقارير التي قدمتها وكالة الاستخبارات الأميركية CIA فإن إسرائيل تملك حوالي 400 رأس نووي، فضلاً عن نجاحها في تطوير قنابل هيدروجينية. وحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية فإن الدولة العبرية قد طورت صواريخ تحمل رؤوسا نووية قادرة على ضرب أي بقعة في العالم.
العام الماضي حدث تطور هام على البرنامج النووي الإسرائيلي عندما تم مد سلاح البحرية بغواصات مزودة بصواريخ تحمل رؤوسا نووية، وفسر هذا التطور في حينه على أنه جاء من أجل تمكين إسرائيل من ضرب الدول العربية والإسلامية البعيدة جغرافيا عن الدولة العبرية، في حال مثلت هذه الدول خطراً عليها.
جذور سياسة "الغموض الإيجابي"
منذ الإعلان عن قيام الدولة العبرية في العام 1948، فطن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفد بن غوريون إلى ما اعتبره "حلولاً خلاقة" لمواجهة التهديدات العربية على وجود الدولة العبرية.
بن غوريون كان مبهوراً بالخطوة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة بإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان من أجل حسم الحرب العالمية الثانية. وهو اعتبر أن ضمان مستقبل الدولة العبرية يكمن في قدرتها على تطوير برامج أسلحة غير تقليدية، وبالذات البرنامج النووي لردع الدول العربية عن مجرد التفكير بإمكانية تهديد وجود الدولة العبرية.
استعان بن غوريون بشخصين كان لهما بالغ الأثر في انطلاق البرنامج النووي الإسرائيلي وتطوره، وهما المدير السابق للهيئة النووية الإسرائيلية البروفيسور إيرنتس ديفد بريغمان الذي شغل في نفس الوقت منصب مدير قسم الأبحاث في وزارة الدفاع، والمدير العام لتلك الوزارة في ذلك الوقت شمعون بيريس الذي تولى فيما بعد منصب رئيس الوزراء، والآن يتزعم حزب العمل المعارض.
وعبر شبكة علاقاته الواسعة استطاع بيريس في العام 1957 إقناع الحكومة الفرنسية بتزويد إسرائيل بمفاعل ذري، بعد أن طور علاقات خاصة مع الرئيس الفرنسي شارل ديغول.
في الفترة الممتدة من العام 1966 وحتى نهاية العام 1967، أنهت إسرائيل المرحلة الأولى من برنامجها النووي بإنتاج عدد من القنابل الذرية يتراوح بين ثلاث إلى سبع قنابل. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تطورت أغراض البرنامج النووي الإسرائيلي لتشمل تطوير قنابل هيدروجينية، فضلاً عن تطوير رؤوس نووية يمكن تركيبها على صواريخ، إلى غير ذلك من الأغراض.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التزمت بسياسة "الغموض الإيجابي" ورفضت بإصرار التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، بدعم وتأييد الولايات المتحدة التي دعمت استثناء إسرائيل من التوقيع على المعاهدة دون بقية دول المنطقة التي سارعت واشنطن إلى غزو بعضها وتهديد الآخر في سعيها لمنع هذه الدول من تطوير السلاح غير التقليدي.
في نفس الوقت فقد فرضت الدولة العبرية رقابة مشددة على تغطية الإعلام الإسرائيلي لكل ما يتعلق بالبرنامج النووي، لكن من ناحية ثانية كانت دوائر صنع القرار في الدولة العبرية تشعر بالرضا إزاء نشر بعض التسريبات في وسائل الأعلام الأجنبية على اعتبار أن مثل هذه التسريبات يمثل رسائل واضحة للدول العربية حول هامش الإمكانيات الكبير الذي تتمتع به الدولة العبرية في أي مواجهة معها. بن غوريون، وقادة الدولة العبرية من بعده، اعتبروا أن الترسانة النووية الإسرائيلية بمثابة "بوليصة التأمين" التي يعني التنازل عنها غياب أي قدر من المسؤولية تجاه مستقبل الدولة وأمن سكانها.
رهانات إسرائيل على سياسة "الغموض الإيجابي"
يعتبر "الغموض الإيجابي" جزءاً أساسياً من الإستراتيجية الأمنية للدولة العبرية التي أرسى دعائمها بن غوريون. وترى إسرائيل أن عامل الردع الناجم عن إدراك العالم العربي لامتلاكها ترسانة نووية ضخمة، هو العامل الأهم في دفع تلك الدول لتجنب خوض حروب ضد إسرائيل، وهناك في الدولة العبرية من أدعى أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات خطط لحرب محدودة ضد إسرائيل في العام 1973، خوفاً من ترسانتها النووية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين كان يكثر من التلميح بدور الترسانة النووية في تيئيس العالم العربي من ثمار أي مواجهة مسلحة مفتوحة مع إسرائيل. وهناك من بين كبار الإستراتيجيين الإسرائيليين من يرى أنه بعد خمسة عقود على هذه السياسة فإنها تثبت نفسها.
ويقول الجنرال والإستراتيجي الإسرائيلي الدكتور رؤفين فيدهستور إن إسرائيل اليوم أكثر أمناً بفضل ترسانتها النووية، مضيفاً أن أدراك قادة الأنظمة العربية لتلك الحقيقة هو الذي كفهم عن التخطيط لإبادتها. وفي إسرائيل قناعة متجذرة بدور ترسانتها النووية في دفع دول عربية للتوقيع على معاهدات سلام معها.
وقد عبر عن ذلك بشكل واضح، شمعون بيريس، حيث قال "السلام لن يأتي بنفسه، ولن يأتي بتأثير قوى غيبية، لكن إسرائيل أدركت أنه بإمكانها أن تحقق السلام إذا نجحت في إقناع العرب أنه بواسطة التقدم العلمي (يقصد تطوير المشروع النووي) فإن إسرائيل قادرة على أن تقضي على أي فرصة للعرب لتهديد وجودها".
لكن الترسانة لم تنجح –حسب الإسرائيليين– فقط في دفع العرب إلى طاولة المفاوضات، بل إنها عملت على خفض سقف توقعاتهم في المفاوضات.
ويقول أوري ساغيه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقاً إنه عندما يقدم العرب للمفاوضات وهم يعلمون أنه لا يوجد أمامهم إلا خيار المفاوضات، فإن هذا يساهم في خفض سقف مطالبهم، إذ أنهم يدركون أنهم يفتقرون إلى أوراق ضغط، تتمثل في إمكانيات مادية تهدد وجود إسرائيل.
وهناك سبب موضوعي يجبر إسرائيل على "الغموض الإيجابي"، وهو أن هناك قانونا أميركيا يحظر تقديم أي مساعدات اقتصادية وعسكرية لأي دولة تطور أسلحة نووية. ونظراً لحجم المساعدات الأميركية الهائل لها، فإن الدولة العبرية لا تفكر في تغيير سياستها القائمة بشأن برنامجها النووي.
دعوات لمراجعة "الغموض الإيجابي"
باستثناء بعض المنتمين لمدرسة "ما بعد الصهيونية" فإن أحداً في الدولة العبرية لا يدعو إلى ضرورة التخلص من برنامجها النووي. لكن في المقابل هناك دعوات متزايدة لضرورة مراجعة سياسة الغموض الإيجابي، ودراسة إمكانية أن تبادر الدولة إلى وضع العالم أمام الحقائق كما هي والإعلان رسمياً عن وجود ترسانة نووية.
المؤيدون لمثل هذه الخطوة يقولون إن الظروف الدولية والإقليمية تسمح لإسرائيل باتخاذ مثل هذه الخطوة، ويشيرون إلى تجربة كل من الهند وباكستان اللتين بادرتا إلى الإعلان عن ترسانتهما النووية، بل وعرض تجاربهما النووية بشكل استعراضي دون أن يتعرضا إلى عقوبات جدية.
ويعتقد هؤلاء أن الإدارة الأميركية ستبدي تقهما كبيراً للإقرار الإسرائيلي بوجود ترسانة نووية، حيث لمح أكثر من مسؤول أميركي إلى أن على العالم أن يسلم بوجود الترسانة النووية الإسرائيلية، بحجة أن وجود حكومة منتخبة ديمقراطياً في الدولة العبرية يجعلها تتعامل بـ "مسؤولية" مع ترسانتها النووية، بخلاف "الأنظمة المارقة التي تفتقد لمثل هذه المسؤولية"، وفق المنطق الأميركي.
ويرى المنادون بالتخلص من سياسة "الغموض الإيجابي" أنه لا داعي للخوف من ردة أنظمة الحكم في العالم العربي في حال أقرت إسرائيل بترسانتها النووية. ويقول نائب حزب العمل حاييم رامون الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن التابعة للبرلمان الإسرائيلي أن الأنظمة الحاكمة في العالم كل ما يعنيها الآن هو ضمان مواصلة بقائها في أعقاب ما حل بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
وهناك من يرى في تطوع ليبيا لدعوة الدول العربية للتخلي عن برامج الأسلحة غير التقليدية دون انتظار إسرائيل، دليلا آخر على أن العالم العربي لم يعد يعنيه البرنامج النووي الإسرائيلي.
ويرى المنادون بوضع حد لسياسة الغموض البناء أن من شأن مثل هذه الخطوة على المدى المتوسط أن تعفي إسرائيل من الاستجابة للدعوات بانضمامها لمعاهدة حظر نشر الأسلحة النووية، في نفس الوقت فإن إقرار إسرائيلي رسمي بامتلاك تل أبيب ترسانة نووية يكرس مزيدا من الصدقية لعامل الردع في مواجهة العالم العربي.
الإفراج عن فعنونو يقلص مبررات "الغموض الإيجابي"
رغم أن هناك من يقول إنه لم يعد في جعبة فعنونو أسرار تتعلق بالبرنامج النووي الإسرائيلي، إلا أن هناك إجماعا على أن الإفراج عنه يقلص الحاجة إلى مواصلة سياسة "الغموض الإيجابي"، وذلك لسببين هامين:
1- نية فعنونو شن حملة دعائية عالمية لمطالبة العالم بتجريد إسرائيل من قدراتها النووية، ومهاجمة النظام العالمي الحالي الذي يتيح تسليم العالم بانفراد الدولة العبرية دون سائر دول المنطقة، بعدم التوقيع على معاهدة انتشار الأسلحة النووية. وهذا سيشكل عامل إحراج شديد لكل من إسرائيل وأميركا.
2- رغم القيود التي فرضتها الدولة العبرية على حرية التعبير بالنسبة لفعنونو، إلا أنه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في باحة السجن فور تحرره، ألمح إلى تورط الولايات المتحدة بمساعدة إسرائيل في مجال تطوير برنامجها النووي.
فقد قال فعنونو إن الفتاة الحسناء التي تدعى سيندي، والتي استخدمت في إغوائه واستدراجه لكي يقع في أيدي عناصر الموساد الذين نقلوه إلى إسرائيل، كانت في الحقيقة عميلة إما لجهاز المخابرات المركزية CIA أو لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، ليلمح إلى أن للولايات المتحدة مصلحة في عدم تسليط الأضواء على مراحل تطوير البرنامج النووي الإسرائيلي.
ما تقدم يجعل البعض يرى أن تخلص إسرائيل من "الغموض الإيجابي" أضحى مصلحة أميركية، لأن إقرارا إسرائيليا بالترسانة النووية يعني درء الحرج عن واشنطن في حال واصل فعنونو الحديث عن الدور الأميركي في تطوير البرنامج النووي الإسرائيلي، مع العلم أن القيود على فعنونو سيتم رفعها في غضون عام.
ومع كل ما تقدم، ومع كل هذه الدعوات، فإنه لا توجد مؤشرات على أن مؤسسة الحكم في إسرائيل بصدد تغيير سياسة "الغموض الإيجابي" في المستقبل المنظور.
_إعادة قراءة تقرير فانونــو النــووي_
د. محمد عبد السلام : الأهرام 26/4/2004
عاد الفني الاسرائيلي موردخاي فانونو الي الظهور مرة أخري ليثير ضجة قريبة مما أثير في5 اكتوبر1986 عندما قامت صحيفة صنداي تايمز البريطانية بنشر تقريرها الشهير حول أسرار الترسانة النووية الاسرائيلية استنادا علي ماقدمه لها من معلومات ووثائق وصور تتعلق بقدرات وأسلحة اسرائيل النووية, التي لم تكن هناك حتي ذلك الوقت فكرة محددة حولها, بعيدا عما كان مفهوما من أن اسرائيل تمتلك أسلحة نووية.
خلال تلك السنوات لم تحدث عملية اعادة تقويم حقيقية لبعض عناصر التقديرات التي بنيت علي أساس معلومات فانونو, بل وتم تجاهل بعضها كلية, وكان التاريخ قد توقف عند ذلك العام علي الرغم من ظهور تقارير أخري تحمل معلومات علي نفس المستوي من التوثيق تلقي بظلال من نوع ما علي بعض ماذكره فانونو في ذلك الوقت وكذلك تطورات تؤكد بعض ماظل ثمة شك من الناحية الفنية بشأن الابعاد الاستراتيجية للحقائق المحيطة به.
لقد كان تقرير فانونو الذي نشرته الصحيفة يمثل ـ بكل المقاييس ـ انقلابا حقيقيا في التقديرات السائدة بشأن قدرات اسرائيل النووية, التي كانت تعتمد حتي ذلك الحين علي افتراضات نظرية تستند علي معادلات أكثر مما تعتمد علي معلومات حقيقية, وعلي الرغم من أن مصادر مختلفة قد أشارت الي أن بعض الدول العربية كانت لديها معلومات محددة حول مايدور فإن تلك المعلومات لم تنعكس بصورة ما علي التصريحات أو المقترحات أو الاتصالات أو القرارات أو حتي وسائل الاعلام بدرجة تؤكد أن شيئا ما يتحرك.
كانت أهمية التقرير تتمثل في أنه قد أكد للمرة الاولي بشكل نهائي أن اسرائيل تمتلك أسلحة نووية, وكانت تلك المسألة لاتزال محل تحليل, خاصة من جانب الدول العربية التي كانت تتراوح بين اتهامات التأكيد ونفسية النفي, خاصة مع عدم اجراء اسرائيل تجارب نووية معلنة, فقد كشف عن صور ووثائق تتصل بعملية فصل البلوتونيوم ـ239 وصور رؤوس نووية فيما سمي ماخون ـ2 الذي كان يعمل فيه.
وقد تمثل التطور الذي لحق بهذه المسألة خلال السنوات التالية, في تجاوز دلالات ماأشار اليه فانونو في نفس الاتجاة فقد نشرت دورية جينز انتيلجنس ريفيو صورا فضائية للقواعد النووية الاسرائيلية عام1994 ليتضح منها أن ماذكره فانونو بشأن وجود أسلحة بشكل مؤكد قد أصبح قديما فهناك قوة نووية تم نشرها فعليا علي مسرح العمليات وأن اسرائيل قد أصبحت تتصرف عمليا كدولة نووية معلنة وأن استراتيجية الغموض النووي لم تعد استراتيجية عسكرية قائمة علي الردع العام من خلال عدم اليقين, وانما مجرد غطاء سياسي قائم علي انكار رسمي لايوجد حرص حقيقي علي تأكيده عمليا.
كانت النقطة الثانية هي أن معلومات فانونو أكدت أن عدد الرؤوس النووية الاسرائيلية أكبر مما كان يعتقد فقد ذكر أن طاقة مفاعل دايمونة قد رفعت عام1976 لتصل الي15 ـ ميجاوات, وبالتالي كان المفاعل قادرا علي انتاج مواد يمكن من خلالها فصل نحو40 كلجم من البلوتونيوم سنويا بما يعني امتلاكها بين100 و200 رأس نووي خلال السنوات العشر السابقة فقط, وكان ذلك يعني وجود ترسانة كبري وليس مجرد أسلحة.
ولقد استمرت معلومات فانونو تشكل أساس معظم التقديرات الخاصة باعداد الاسلحة النووية الاسرائيلية حتي عام2004, فقد تصاعدت تلك الاعداد عام1991 لتصل ـ كما ذكر سيمور هيرش في كتابه الخيار شمشمون ـ الي300 سلاح نووي ثم قفز الرقم عام1997 تبعا لتقديرات جينز انتيلجنس ريفيو الي400 رأس نووي بطاقة اجمالية تصل الي50 ميجا طن وتبعا لما أشار اليه تقرير اذاعته شبكةNBC الاخبارية الامريكية في سبتمبر1993 فإنه حتي اذا تم القبول بالتقديرات المتحفظة ذاتها فإن الترسانة النووية الاسرائيلية قد تكون أكبر من ترسانة بريطانيا.
ورغم ذلك شهدت الفترة التالية نوعا من التشكيك الموثق أيضا في أهم تقديرات فانونو ففي عام2001 بث موقع اتحاد العلماء الامريكيين صورا فضائية التقطت بواسطة اقمار صناعية امريكية لمنطقة مركز النقب دايمونة خلال سنوات تمتد من الستينيات حتي بداية القرن الحالي مع تحليل مقارن للقطتين لمنطقة المفاعل التقطت الاولي في سبتمبر1971 والثانية في يوليو2000, وأوضحت المقارنة أن شيئا لم يتغير في نظام تبريد المفاعل منذ ذلك العام, وأن برجي التبريد ظلا كما هما عليه وكان ذلك يعني مايلي:
1 ـ أن رفع طاقة المفاعل من24 ميجاوات الي70 ميجاوات قد تم عام1970 وتبعا لتقارير بدأت تتوالي ربما يكون ذلك قد تم عام1969 بحيث بدأ حجم البلوتونيوم يتصاعد منذ عام.1970
2 ـ أن معلومات فانونو حول رفع طاقة المفاعل مرة أخري الي150 ميجاوات عام1976 غير صحيحة فلم يتم رفع طاقة المفاعل مرة أخري تبعا لتحليلات الصور الفضائية.
كانت تلك المعلومات الجديدة تمثل انقلابا مضادا اذ انها كانت تعني أن عدد الاسلحة النووية الاسرائيلية فعليا أقل بكثير مما يثار بشأنه منذ عام1986 وتبعا لتقديرات الاتحاد فان العدد المتصور لها بين100 و200 رأس نووي بافتراض تغير الكتلة الحرجة علي الرغم من أن بعض الدقة في التقدير كان من الممكن أن تقود تقدير الاتحاد الي رقم يتراوح بين125 و250 رأسا نوويا.
النقطة الثالثة التي أوضحها تقرير فانونو هي أن البرنامج النووي العسكري الاسرائيلي كان أكثر تطورا مما كان متخيلا فقد كان انتاج اسرائيل لمواد كالليثيوم6 ديوترايد يعني انتاجها قنابل اندماجية هيدروجينية وبالتالي نيوترونية, نشرت صور نماذج مختبرية لها فلم تكن ترسانة اسرائيل النووية تتضمن فقط أسلحة انشطارية ذرية من عيار20 كيلو طن,ا وانما أسلحة أكبر حرارية وأسلحة أصغر تكتيكية, وهي مسألة طرحت أيضا تساؤلات مختلفة لاتقل أهمية عما أثير بشأن العدد.
ان هذه المسألة تحديدا قد سقطت من الاذهان خلال الفترة التالية وكأنها لم تكن فلم يتم التركيز كثيرا علي أن اسرائيل قد أصبحت تمتلك أسلحة هيدروجينية لأن أحدا لم يكن يدري لماذا قامت اسرائيل ايضا بتصنيع مثل هذه الاسلحة وقد تم التركيز كثيرا ـ علي العكس ـ بمسألة امتلاك اسرائيل أسلحة تكتيكية لكن التفاصيل التي تمت الاشارة اليها بهذا الشأن خلال الفترات التالية كانت مثيرة لدرجة كان من الصعب تصديقها فقد ذكر أنها قامت بتصنيع مدافع نووية أو الغام نووية من عيارات غير معتادة وفي ظل افتقاد معلومات جديدة كان من الصعب المضي في الشوط الي ماهو أبعد من الإقرار بوجود أسلحة تكتيكية.
لكن يظل الأهم أن الاطار المحيط بقوة اسرائيل النووية برمته قد ابتعد عن دايمونة التي لايزال موردخاي فانونو يتصورها كمركز لادارة الشئون النووية الاسرائيلية اذ كانت هناك تقارير تنشر بانتظام منذ اوائل الثمانينات تشير الي أن اسرائيل قد قامت بتشكيل قوة نووية علي نطاق واسع وقامت بنشر عناصر من قواتها النووية فعليا علي مسرح العمليات في النقب والجولان فلم تعد أسلحة اسرائيل النووية تقبع داخل السرداب منذ فترة طويلة, بل ان اسرائيل أصبحت تتصرف علي نطاق معين وكأنها دولة نووية معلنة تمتلك قوات نووية وليس مجرد أسلحة نووية وأصبحت دول المنطقة تدرك أنها من الناحية العملية تواجه قوات نووية تم نشر عناصر منها علي مسرح العمليات بحيث أصبحت جاهزة للاستخدام.
ان تقرير فانونو ـ في النهاية ـ ينتمي لزمن سابق يتعلق بوقت كانت التساؤلات الاساسية فيه تنصب علي قدرات اسرائيل النووية بينما جرت مياه كثيرة في الشرق الاوسط منذ18 سنة لم تتوقف خلالها اسرائيل عن تطوير قدراتها التسليحية النووية كما وكيفا بحيث أصبحت هناك حاجة لمعلومات اضافية يمكن من خلالها تقدير الكيفية التي تفكر بها اسرائيل في كل مايتعلق بامتلاك واستخدام اسلحتها النووية التي يحيط بها حاليا شرق أوسط مختلف سوف تتحول ملامحه التسليحية تماما عما كانت عليه.
_أبعاد المخطط الصهيوني - الأمريكي لتصفية العلماء العراقيين_
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
( أخبار الخليج ) 26/4/2004
لم يكن خافيا الدعم الواضح الذي تلقته الولايات المتحدة من إسرائيل في الحرب التي شنتها ضد العراق، سواء كان ذلك من خلال التقارير التي أمدها بها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) حول القدرات المزعومة للنظام العراقي السابق فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل والتي ثبت خطؤها وزيفها، أو من خلال المساعدة الفعلية بجنود ومعدات حربية إسرائيلية، فضلاً عن تدريب الجنود الأمريكيين على أساليب ووسائل قمع المقاومة العراقية بنفس الطريقة التي تستخدمها تل أبيب مع فصائل المقاومة الفلسطينية.
وقد نالت إسرائيل العديد من المكافآت نظير هذا الدعم بدءًا من تخلصها من التهديد المزعوم لنظام صدام، وحصولها على نصيب وافر من الكعكة العراقية في شكل عقود إعادة الإعمار، كما استطاعت أن تعيد الحديث عن إمكانية إحياء خط أنابيب «حيفا ــ كركوك« للحصول على النفط، وربما المياه العراقية، ناهيك عن تمكنها من إبعـاد أنظـار العالم عن الجـرائم الـتي تـقـوم بـها في الاراضي الفلسطينية المحتلة من قتل وهدم وتشريد. وفيما يبدو فإن المصالح الأمريكية ـ الإسرائيلية تقابلت في نقطة التقاء أخرى، وهي تفريغ العراق من العلماء والخبراء في مجال الأسلحة الكيماوية والجرثومية، ومن المثقفين والفنيين وفقًا لخطة منهجية منظمة عن طريق إغرائهم للعمل في أمريكا وذلك لتحقيق عدد من الأهداف أولها: منع العراق الجديد من إعادة بناء قدراته في مجال الأسلحة الكيماوية أو الجرثومية بعد أن وصل إلى درجة كبيرة من التقدم في هذين المجالين. وثانيها: منع وصول هؤلاء العلماء إلى أي من الأقطار العربية أو الإسلامية التي قد توظفهم لإنتاج أسلحة دمار شامل في برامج سرية جديدة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تكرار تهديد العراق لجيرانه ولإسرائيل. وثالثها: معرفة المصادر التي استقى منها هؤلاء العلماء خبراتهم لتجفيفها ولإشاعة الذعر في نفوس العلماء العرب الآخرين بألا يفكروا في الاقتراب من مجالات البحث التي ترى واشنطن أنها محظورة عليهم. ويقوم هذا المخطط على عدد من المحاور الأساسية، وهي: المحور الأول: تدمير البنية التحتية العراقية المتطورة التي سعى العراق لبنائها منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي مستفيدًا بقدراته المالية التي وفرت له التكاليف الباهظة لامتلاك الأسلحة المتطورة، والدعم الأمريكي والغربي له في ضوء علاقات التحالف التي كانت قائمة بينهما آنذاك، بيد أنه مع التطورات المتلاحقة التي شهدتها المنطقة وتحول العراق كما قيل إلى مصدر تهديد للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، بدأ التفكير من جانب كل من تل أبيب وواشنطن في البحث عن الكيفية التي يمكن من خلالها وأد هذا المشروع وتدميره نهائيًا قبل أن يتطور، ففي يونيو 1981 نجحت تل أبيب في إجهاض البرنامج النووي العراقي عندما قامت بقصفه وتدميره ثم تمكنت واشنطن من استصدار مجموعة من القرارات غير المسبوقة من مجلس الأمن لتدمير هذه البنية ونزع أسلحة العراق عقب حرب الخليج الثانية، ومع تولي إدارة بوش الابن مقاليد الحكم في 2001، استغلت هذه القضية كمبرر لإعلان الحرب ضد العراق، وبعد سقوط بغداد في التاسع من أبريل عام 2003 أكدت مصادر علمية عراقية عديدة أن الحرب وعمليات النهب والسلب التي أعقبتها دمرت أكثر من 70% من المعامل والأجهزة داخل الجامعات العراقية ومراكز البحث العلمي، التي خسرت حتى الآن جهود أكثر من 1300 شخص من حملة الماجستير والدكتوراه أي نحو 8% من إجمالي عدد الأكاديميين البالغ 15500 شخص. المحور الثاني: ملاحقة العلماء والخبراء الفنيين العراقيين والعرب العاملين في برامج التسليح العراقية، فمنذ بدء البرنامج النووي العراقي عملت إسرائيل على تعقب العلماء العرب الذين كانت لهم صلة بتطوير هذا البرنامج، وهو ما حدث مع عالم الذرة المصري «أمين يحيى المشد« الذي استعين به كحلقة وصل مع مؤسسة الطاقة الذرية في فرنسا ولكن عناصر من الموساد الإسرائيلي استطاعت اغتياله في باريس أثناء مهمة له هناك في صيف عام .1980 وقبيل الحرب ضد العراق أكد المراقبون أنه رغم كون النفط هو العامل الأساسي الذي يحرك هذه الحرب فإن استهداف العلماء العراقيين كان عاملاً مهمًا أيضًا، وهو ما عبر عنه البريجادير جنرال «فينسنت بروكس« من مقر القيادة المركزية الأمريكية في قطر قبل شهرين من الحرب عندما تحدث عن أهمية العلماء العراقيين بالنسبة للولايات المتحدة قائلاً: «إن واشنطن لها أهداف أخرى غير الإطاحة بصدام، على الأخص مقدرة العراق على تطوير أسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية ضمن برنامج القضاء على أسلحة الدمار الشامل«، كما عبر عن ذلك بوضوح «جاك بوت« رئيس بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في العراق قبل الحرب حين قال: «يجب أن نحدد ما إذا كانت توجد قدرات نووية في العراق أم لا؟ وبالنسبة لي فإن ذلك يشمل العقول والأسلحة«. كما تحدث العديد من الدوائر داخل أمريكا عن ذلك أيضًا، فقد دعا «جون بي ولفثال« ـ عضو برنامج حظر انتشار الأسلحة النووية بمؤسسة «كارينجي« ومستشار سابق لسياسات منع الانتشار النووي في وزارة الطاقة الأمريكية ـ إلى استقطاب علماء العراق، مذكرًا بما حدث بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث تعاونت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان على إغراء علماء الأسلحة السوفييت لضمان عدم قيامهم ببيع خبراتهم أو أي مواد تحت تصرفهم كسبًا للرزق، وأوضح أنه يمكن تبني نفس الحل في العراق فبدلاً من تعقب الخبراء يجب منح غالبيتهم عفوًا عامًا رسميًا مقابل تعاونهم، وفي أكتوبر 2002 كتب «مارك كلايتون« في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور« يحذر من العقول المفكرة التي تقف وراء المخزون العراقي من الأسلحة، وقدم لائحة بأسماء علماء العراق الذين تدربوا في الولايات المتحدة وقال: «إن هؤلاء العلماء والفنيين أخطر من أسلحة العراق الحربية؛ لأنهم هم الذين ينتجون هذه الأسلحة«، ودعا المفتشين الدوليين إلى ضرورة إيجاد هؤلاء الأشخاص إلى جانب مهمتهم في البحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
وقد اتخذت واشنطن العديد من الإجراءات لتحقيق هدفها في تفريغ العراق من علمائه قبل إعلان الحرب عليه، فقد أصرت على تضمين قرار مجلس الأمن رقم (1441) الذي صدر عام 2002 فقرة تجبر العراق على السماح للمفتشين الدوليين باستجواب علمائه وفنييه حتى لو تطلب الأمر تسفيرهم هم وعائلاتهم خارج البلاد، لضمان الحصول على معلومات منهم عن برامج التسلح العراقية، وفي مطلع عام 2003 أقر الكونجرس الأمريكي قانون «هجرة العلماء العراقيين« والذي ينص على منح العلماء العراقيين الذين يوافقون على تقديم معلومات «ذات مصداقية« بشأن برامج التسلح العراقية تصريح إقامة دائما في الولايات المتحدة. وبعد نجاحها في احتلال العراق وإسقاط نظامه وضعت القوات الأمريكية العلماء العراقيين في بؤرة اهتمامها، فسارعت بالحصول على قوائم بأسمائهم، خاصة الذين ساهموا في برنامج التسلح العراقي، من لجان التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية والتي تعاقبت على العراق قبيل الحرب، وقد وجه العلماء العراقيون بعد سقوط بغداد رسالة استغاثة عبر الإنترنت حملت عنوان «علماء الأمة المهددة« طلبوا فيها من كل الجهات العربية المعنية العمل على إنقاذهم من عمليات المداهمة والتحقيق والاعتقال التي تنفذها ضدهم قوات الاحتلال، كما أكدوا أن القوات الأمريكية تطالب علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات بشكل خاص بتسليم ما لديهم من وثائق وأبحاث علمية وأنها تضغط عليهم بوسائل عديدة سواء من خلال تحديد إقامة بعضهم في بيته ووضع حراسة على منازلهم، ومنع آخرين من الذهاب إلى أعمالهم. وفيما يبدو فإن الخطة الأمريكية عملت على إجبار العلماء العراقيين على الاختيار من بين عدة بدائل هي إما العمل داخل بلادهم شريطة التزامهم بعدم تقديم خبراتهم إلى دول معينة تحددها واشنطن، وقد أعدت الخارجية الأمريكية في هذا الصدد خطة حملت اسم «مبادرة رعاية العلوم والتكنولوجيا والهندسة في العراق« فاقت ميزانيتها 20 مليون دولار من أجل توظيف العلماء العراقيين في أبحاث سلمية داخل العراق، وإما إغراء هؤلاء العلماء بالعمل في الولايات المتحدة نفسها مع منحهم حق الإقامة فيها، وقد أكدت مصادر علمية رفيعة المستوى في العراق أن ثمة مفاوضات تدور مع الكثير منهم لنقلهم إلى مراكز بحثية غربية، كما عرض على العديد منهم السفر إلى إسرائيل، والعمل في جامعاتها ومعاملها التي تتسم بدرجة عالية من التطور والتقدم التكنولوجي والعلمي، والحصول منها على درجات علمية، وقد استجاب بعضهم بالفعل لمثل هذه الدعوات وعلى رأس هؤلاء الدكتور كنعان مكية رئيس قسم الدراسات الشرق أوسطية في جامعة بوسطن الأمريكية والمحاضر في العديد من الجامعات الأوروبية، وطاهر لبيب أستاذ علم الفيزياء النووية، ومحمود أبو صالح المتخصص في التكنولوجيا. وقد اتضحت خطة إسرائيل بشأن التطبيع مع العراق في المجال العلمي بشكل كبير بعد سقوط بغداد، فمنذ ذلك التاريخ وحتى يوليو الماضي فقط عقدت في إسرائيل 25 ندوة وحلقة نقاشية حول العراق، وقد حظيت هذه الندوات باهتمام كبير من المسئولين الذين حرصوا على حضور بعضها مثل «إيهود أولمرت« وزير التجارة والصناعة وسليمور لفنتز وزيرة التعليم، و«تومي لبيد« وزير العدل، و«يوسف برتيسكي« وزير البنية التحتية و«يهودديت تأوت« وزيرة البيئة وغيرهم من المسؤولين السياسيين وحتى العسكريين الذين دعموا هذا التوجه، كما دعمها مفكرون إسرائيليون عديدون فعلى سبيل المثال أكد «يهودا بن دافيد« أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية أن «مسألة التطبيع مع العراق يجب أن توضع في أولى مهام الحكومة«، كما أشار «كوهين أولمرت« أستاذ الأدب العربي في ذات الجامعة إلى «ضرورة منح أكبر عدد من العلماء والمفكرين العراقيين المناصب المهمة حتى يصبحوا مدينين لإسرائيل بالجميل والعرفان«. ولعل هذا ما يفسر الترحيب الشديد الذي يقابل به أي أستاذ أو عالم عراقي يزور إسرائيل، فقد استقبل أكثر من 4000 طالب و150 أستاذًا جامعيًا «كنعان مكية« لدى وصوله مطار بن جورويون في تل أبيب، كما تم منحه درجة الدكتوراه في العلوم الإنسانية من جامعة تل أبيب، كما منح إياها طاهر لبيب ولكن في مجال تخصصه، بينما منح محمود أبو صالح درجة الماجستير في العلوم التكنولوجية من معهد وايزمان للعلوم. أما من يرفض من العلماء العراقيين التعامل مع هذه الخيارات السابقة فإن المصير غامض، وكانت مصادر عديدة قد حذرت من مخططات تهدف إلى اغتيال النخبة العراقية من أصحاب «الياقات البيضاء« على حد تعبير الناطق باسم قوات الاحتلال في العراق الجنرال «مراك كيميت« الذي كشف مؤخرًا عن حملة واسعة من الاغتيالات جرت في العراق واستهدفت الطبقة المتعلمة، مشيرًا إلى أن عددهم بلغ منذ مايو الماضي ما يقرب من 1000 مواطن عراقي. وكانت رئيسة مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد «هدى النعيمي« قد اتهمت جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) يوم 28/3/2004 بالوقوف خلف سلسلة الاغتيالات وعمليات التصفية التي تستهدف علماء ومدرسين في جامعات العراق المختلفة، مشيرة إلى أنه قام بالفعل باغتيال ما يقرب من 100 عالم وخبير عراقي حتى الآن، وأضافت أن ثمة عروضا إسرائيلية ربما قدمتها تل أبيب إلى هذه الطائفة، والتي تمثل النخبة العراقية، بعد احتلال البلاد بمساعدة أطراف خارجية للعمل في جامعاتها أو التعرض للاغتيال، بهدف تفريغ هذا البلد من العلماء وأصحاب الكفاءات العلمية. وفي فبراير الماضي أكدت أوساط علمية عراقية أن ما يقرب من 2400 من عناصر القوات الخاصة الإسرائيلية قد اتخذت من العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى مقرًا لها لتنفيذ سلسلة من عمليات الخطف والاغتيال والتفجيرات، وهو نفسه ما حذر منه جنرال فرنسي متقاعد في 8 أبريل 2003 عندما أكد أن عناصر من وحدات الكوماندوز الإسرائيلي دخلوا الأراضي العراقية بعد سقوط نظام صدام مباشرة في مهمة تستهدف اغتيال العلماء العراقيين الذين كانوا وراء برامج التسلح العراقية التي أرعبت إسرائيل لفترات طويلة، وعددهم ما يقرب من 3500 عالم عراقي من بينهم 500 اشتغلوا في تطوير مختلف الأسلحة. وقد وصل عدد العلماء الذين تمت تصفيتهم جسديًا منذ سقوط بغداد وحتى الآن 10 علماء، آخرهم الدكتور «غائب الهيتي« الأستاذ في الهندسة الكيماوية في جامعة بغداد الذي اغتيل يوم 16/3/2004 أثناء عودته من عمله، وذلك بعدما تلقى رسائل تهديد بالقتل إذا لم يترك عمله في الجامعة، ومن قبله الدكتور «مجيد حسين علي« الأستاذ في كلية العلوم بجامعة بغداد والمتخصص في مجال بحوث الفيزياء النووية وخاصة مجال الطرد الذري، الذي يعتبر أساس علم الذرة. ولم تقتصر التصفيات الجسدية على علماء الكيمياء والفيزياء والرياضيات وحدهم بل توسعت لتضم مجالات أخرى، فالدكتور «عبداللطيف المياحي« مساعد مركز دراسات الوطن العربي في بغداد اغتيل يوم 19/1/2004 بعد يوم واحد من ظهوره في إحدى القنوات الفضائية العربية مدافعًا عن أهمية إجراء انتخابات مبكرة في العراق، وقد أشار «هاني إلياس« الأمين العام للرابطة الوطنية لأكاديميي ومثقفي العراق، إلى «أن معظم حوادث الاغتيال التي تمت في العراق تأتي في إطار الانتقام الثأري أو تصفية الحسابات، ذلك أن القتلى هم من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والقضاة والمحامين ممن يشهد لهم بالخلق والسمعة، كما أنهم يشتهرون بإقبالهم على خدمة أبناء مجتمعهم«. على أية حال فإن مخطط استهداف النخبة العراقية بوجه عام وعلماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات بشكل خاص له تداعيات خطيرة منها: 1 ــ أن السعي الأمريكي ــ الإسرائيلي إلى تصفية العراق من علمائه هو سلسلة تستهدف تفريغ العراق من علمائه وعقوله التي هي أساس تقدمه وتطوره، وهو أمر ليس بجديد فقد اغتال الموساد الإسرائيلي من قبل العالمة المصرية في مجال الأبحاث النووية «سميرة موسى«، والخبير النووي الدكتور «يحيى المشد«، والآن فإن علماء العراق بين خيارين إما الانضمام إلى الجامعات والمعامل الأمريكية أو الإسرائيلية وإطلاق الوعود بعدم تقديم المساعدة لدول أخرى وإما التعرض للحبس أو عمليات التصفية. 2 ــ أن محاصرة العلماء العراقيين واستقطابهم، سيمنع الدول العربية الأخرى من الاستفادة من خبراتهم الكبيرة كل في مجال تخصصه، كما أنه سيمنعهم من إفادة العراق ومن المعروف أن النظام السابق اهتم بهذه النخبة وأنفق عليها؛ إذ ان تكلفة تأهيل كل شخص من حملة شهادة الدكتوراه في الخارج هي 240 ألف دولار كما أشارت التقديرات، ولهذا وبمجرد سقوط بغداد هرب عدد من هؤلاء العلماء إلى الدول المجاورة وخاصة سوريا خوفًا من الاستهداف الأمريكي لهم، وقد نشرت صحيفة «واشنطن تايمز« في عددها الصادر يوم 6/5/2003 نقلاً عن أحد المسؤولين بالحكومة الأمريكية أنه يعتقد أن عددًا من علماء الأسلحة البيولوجية العراقيين فروا إلى سوريا من بينهم «رحاب طه« المتخصصة في «الحرب الجرثومية«، وحذرت الإدارة الأمريكية دمشق بعد ذلك، وقد نجحت القوات الأمريكية في اعتقال بعض العلماء منهم «هدى صالح مهدي عماش« خبيرة «بكتيريا الجمرة الخبيثة«، بينما سلم بعضهم نفسه طواعية إلى القوات الأمريكية خشية القتل كما حدث مع المستشار العلمي للرئيس المخلوع الفريق عامر السعدي، وقد تبعه الدكتور «جعفر ضياء الدين« الذي يعتبر الأب الروحي للبرنامج النووي العراقي. 3 ــ يكرس المخطط السابق التفوق الاستراتيجي لإسرائيل على الدول العربية المحيطة بها، ويساعدها في ذلك ازدواجية المعايير التي تتميز بها الإدارة الأمريكية، وخاصة في التعامل مع ملف أسلحة الدمار الشامل؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه إدارة بوش بكل الطرق والوسائل بدءًا من المفاوضات مرورًا بالضغوط والتهديد بفرض عقوبات وانتهاءً بشن حرب ضد الدول التي ترفض التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها أو تسعى لامتلاكها، فإنها تغض الطرف عما تمتلكه إسرائيل من ترسانة نووية تعدت 250 رأسًا نوويًا، فضلاً عن أسلحتها الكيماوية والجرثومية. 4 ـ أن تجريد العراق ومن ورائه بقية العالم العربي، من إمكانياته العلمية والمعرفية من شأنه أن يؤدي إلى مصادرة مستقبل التنمية في المنطقة بعد تصفية رأس المال «البشري والمعرفي« لبلدانها، ووفقًا لتقرير منظمة العمل العربية الصادر في شهر نوفمبر 2003، فإن العالم العربي يسهم بـ30% من الكفاءات المهاجرة بين البلدان النامية، فيما تستحوذ كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا على 75% من الكفاءات العربية المهاجرة. إن مخططات استهداف العلماء العرب بشكل عام والعراقيين بشكل خاص يعد أمرًا بالغ الخطورة، لكونه عاملاً آخر من العوامل التي تسهم في ترسيخ الضعف والوهن العربي مقابل التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي في كافة المجالات، وهذا يحدث تحت مرأى ومسمع الدول العربية ومؤسساتها الثقافية والعلمية دون محاولة الوقوف في وجه هذه التحديات، وردع الدول التي تقف خلف هذه المخططات.