السبت‏، 01‏ شباط‏،2003

 

وحدة فصائل الحركة الديمقراطية السورية

 

 هل حانت اللحظة المناسبة؟

 

بقلم : د.مرهف ميخائيل

 

تُشير الاحداث المتسارعة الحالية إلى تغيرات نوعية على وشك الوقوع ،فهناك مجموعة عوامل  تتفاعل في الخفاء منذ زمن بعيد ،وهي عوامل ولادة (وربما كانت عوامل فناء لأمة بكاملها على المدى البعيد ) لحركة سياسية ناضجة وقادرة على ادارة عملية الصراع ،وأول هذه العوامل التي نقصدها :

تراكم الاشباع السلطوي ونفاذ فاعليته.

تغيرات موضوعية خارجية كونية .

هزال وتشرزم البدائل المفترضة للحكومات .

الضياع الايديولوجي الذي أصاب الاحزاب بعد نفاذ الايمان بمصداقية الفكر الاشتراكي واستحالة تطبيقاته في الواقع الفعلي .

التغير النوعي الذي أصاب القيم الاجتماعية، وبالتالي اصابة التوازن الاجتماعي بعدوى "اللاعقلانية ".

ثورة المعلوماتية، وامكانية انتشار التبادل الفكري، و الحوارات الفكرية  بسرعة الثانية .

تقادم وبطالة كثير من القيم بفعل التطور الفعلي في الواقع الكوني، وسرعة التواصل والتبادل الكوني المعرفي الحالي.

الامكانيات الجديدة الفردية المتاحة، بفضل التطور الحاصل وتأثيرها في الجماعة .

الحرب الامريكية ضد العالم العربي، والتي "ندعوها" الحرب ضد العراق .

أحداث ال11 من سبتمبر 2001 وحصائلها على العالم .

وجود اسرائيل كعدو يمتلك تكنولوجيا متطورة واسلحة فتاكة بل ونووية .

لماذا وحدة فصائل المعارضة السورية   

الآن ؟ولما لا العربية؟

 

  هل من الممكن فعل شيء ما ذو قيمة، ويعود على المجتمع السوري –والعربي- بالفائدة بالدرجة الاولى ، دون هذا التوحيد،توحيد جميع الطاقات التي يحتاج إليها الواقع السوري-والعربي- ؟

هل يجب الاعتراف بالعجز ، في جميع النواحي والمجالات ، عند الجميع دون استثناء ،ماعدا الامكانيات الفردية الموجودة في هذا الفصيل أو ذاك أو حتى داخل السلطة(او السلطات) ، وهل هذا هو منبع فكرة التوحيد و ضرورتها ؟

لنفترض أننا كفصائل معارضة ضعيفة ومشرزمة وهزيلة ، لم نتوحد ؟ ماذا سوف يحدث ؟ هل هناك قوة أخرى سوف تدفع بما تبقى من معارضات الى الوحدة ، ورص الصفوف ومواجهة التحديات في الواقع الفعلي ؟

هل ستتجاوز الاحداث  هذه الاشلاء المتناثرة  من المعارضات ، فتجبر الواقع  على  خلق معارضات ذات نوعية مختلفة ، بطرق عملها، و مناهج تفكيرها، و بإسلوب معالجتها للاحداث؟

هذا ماسنحاول الإجابة عليه ولو كبداية لانطلاقة فكرية حوارية ذات إتجاه توحيدي يتجاوز كل الصيغ الحالية المصابة بالعجز لاسباب موضوعية وذاتية.إن القوى الحالية مصابة بالشلل  ولذلك لم تعد قادرة على الحركة والحياة ، وبقائها مرهون بمعالجة شللها ،وعلاج شللها هو توحيد قواها في تيار واحد تنضم اليه كافة القوى دون استثناء .

لقد حانت اللحظة التي يجب أن نتكاشف فيها، فنجمع بها قوانا ونتعرف على ما يجمعنا وما يفرقنا فنزيل الخلافات ونقوي لحمة وحدتنا ،فنواجه بشجاعة متطلبات اللحظة الراهنة التي تتميز بالخطورة والدقة البالغة التي لا تشبهها لحظة تاريخية أخرى .ربما كانت شبيهة ببداية القرن العشرين عندما كانت أغلب البلدان العربية تحت طائلة حكم الاستعمار .لكن النتائج سوف تكون أخطر بألاف المرات  بل بملايين المرات، لأنها سوف تُلغي نهائياً ماندعوه نحن العرب "الكيان العربي  " ، بل ربما ألغت تفكيرنا وقضت على ماتبقى من قيمنا النبيلة .وربما كان حالنا خلال الخمسين سنة القادمة حال إخوتنا في فلسطين، مشردين دون أرضنا و مشتتين في أسقاع الارض، مثلنا، مثل  بقية شعوب الارض المنقرضة .مع الإشارة إلى أن عوامل فناؤنا قد تتحول إلى عوامل ولادتنا ،هذا إذا مااستنهضنا قوانا وجمعناها محولين الهزيمة انتصارا ضد الغزاة الجدد وضد هذه الأنظمة المصابة" بالهزال السياسي والكساح والصرع السياسي" .

عوامل ولادتنا وفنائنا:

أولاً : تراكم الإشباع السلطوي ونفاذ فاعليته....هل يختلف إثنان على أن الأنظمة التي تحكم بلداننا قد أفلست لدرجة الجدب ، ولم يبقى فيها أي قدرة حقيقية على الأستمرار بالإسلوب الذي حكمت فيه منذ لحظة ولادتها .لقد ُأشبعت جميع الطرق التي تسمح للحاكمين بالإستمرار في وظيفتهم التي بقوا فيها منذ ثلاثين عاماً دون إنقطاع .فالفساد المستشري في جسم الدولة السورية على الخصوص والعربية على العموم ، وصل لدرجة نوعية بحيث لم يعد هناك قدرة على ممارسته ،أي أن المواطن غير قادر على دفع ثمن هذا المبدأ السلبي ولكنه المربح والمثري بالنسبة لطبقة الحاكمين المرتشين وأقربائهم ومن لف لفهم وكان بخدمتهم ....إذاً "كل شيء زاد عن حده ،انقلب الى ضده " ،وهذا ماحدث بالضبط بالنسبة للمجتمعات العربية  ومايحدث في الدول العربية عموماً والسورية على الخصوص .

هناك مئات المقالات التي كتبها كتاب عرب وسوريون ، تعرضوا فيها لفساد الدول العربية والسورية خاصة ، لأنها مثال سيء لما يحدث ببلدان حُكمت بمباديء فارغة المضامين أكل الدهر عليها وشرب، وأصبحت في مصاف دول افريقية  من حيث دورها الاجتماعي  ونفاذ قدرتها على الاستمرار،مما أبعدها عن الحضارة الحديثة وعن التطور الحالي وجعلها مشلولة الارادة بسبب تعارض مصالح القائمين عليها والتطور الحديث لمفهوم الدولة والمواطنية وحقوق الانسان  .

ويظهربيناً لكل دارس وباحث عن أسباب هذا الاشباع االسلطوي أو بتعبير أخر الافلاس السياسي  والاداري ،أن حجر الزاوية في هذا البناء الضعيف قائم على المبدأ الاساسي الذي يتبناه الحكام الخائفون من شعوبهم ، وهو مبدأ مراقبة كل شيء والتجسس على كل شيء ...رسم كل شيء في دوائر مخابراتية وتنفيذ ذلك عن طريق أناس لاضمير لهم ولامباديء تسير عقولهم ....وكل مايهمهم هو جمع المال هذا من الناحية الداخلية  . وبالتالي إبعاد المواطن عن مواطنيته وخنق حريته ولجم خياله وإفقاره وممارسة كل أ شكال الطغيان والغش والسرقة حيال ممتلكاته ،والانبطاح والتأقلم مع سياسات اسرائيل وأمريكا.

تم العمل بهذا المبدأ منذ ظهور الدولة السورية ...وقد طغى وساد عندما وصل الى السلطة أفراد بطريقة غير شرعية و بأساليب غير ديمقراطية بل وعنيفة ومجرمة في أحيان كثيرة . مما جعل الحكام غير الشرعيون، يبتدعون أساليب جديدة في الحكم ...وصلت بالبعض الى نبش العشائرية والطائفية والبدوية و العصبية في أحيان كثيرة ...مما مزق النسيج الاجتماعي للشعب السوري خاصة والشعوب العربية عامة ، وتفككت وحدته وتقطعت روابط ولحمة اجتماعيته، وصار يعيش بحالة من السلبية ،لأنه غير قادر على مقاومة الأساليب العنيفة التي يستخدمها النظام السياسي العربي المدعوم من كل القوى الغربية....

مما سبق يمكننا ان نستنتج ، أن السلطة أو الدولة التي تتبنى أساليب في الحكم لاتستند الى مباديء إنسانية تعترف وتحترم بحقوق الآخر، هذه السلطة أو الدولة لايمكنها أن تستمر في تطورها بشكل طبيعي، وبالتالي ، فاستشراء الفساد والسرقة والرشوة وانعدام القيم وتجاوز القانون ، يصبح تحصيل حاصل ...لأنه ببساطة ، تم بناؤها على مبدأ خاطيء هو عدم احترام القانون وعدم  الوصول الى الحكم بشرعية ،وبالتالي إستبعاد الإنسان المواطن من حسابات الأفراد الحاكمون ...اذاً تم استنفاذ وا شباع جميع طرق الفساد والاستغناء لجمع المال ...ولم تعد هذه الطرق ممكنة واقعياً وعملياً ...فتأتي العوامل الموضوعية الخارجية التي تلعب دورمكملاً في إبراز علامات الموت والتآكل والانعدام بل والتلاشي...

 

                                                                                            ثانياً : تغيرات موضوعية خارجية ذات طابع كوني:

لقد ربحت في نهاية المطاف المباديء "الشريرة" وانهزمت المباديء "الخيرة " ،فسقط جدار برلين وسقطت معه كثير من الأحلام التي بناها اسلافنا "مفكري الاشتراكية العلمية" ، وكذلك سقطت كثير من المفاهيم و المشاريع والاحلام التي تم بناؤها على اساس هذه المفاهيم وربما قلنا تأجلت، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً بحدة هو هل البيروقراطية هي وحدها المسؤول عما حدث في دول ادعت "الاشتراكية " وفور سقوطها انكشفت عورة هذه الاشتراكية "المتخلفة " ؟

وفور سقوط جدار برلين المشهور تم توحيد المانيا وتمت محاكمة الكثير من ال"قادة" الذين سقطوا بحكم سقوط دولهم وبالتالي تم عقابهم عن طريق الواقع " فظهروا على حقيقتهم كخونة للاشتراكية العلمية " ، واعتقد ان السبب الاساسي في سقوط هذه الدول هو "تصلب شرايين الاشتراكية " التي تم تطبيقها بشكل غير علمي بل بشكل فوقي وسلطوي أي "باسلوب ستاليني " ...إن أول تغير حدث وسبق التغيرات الكبرى هو سقوط القوة التي كانت تحفظ التوازن ، مما سبب انعدام التوازن الاجتماعي في الكون ، وبالتالي اطلاق العنان و استفراد الامريكان كقوة وحيدة عظمى   في العالم،وبعد السقوط السوفييتي جاء  انضمام روسيا الى هذه القوة الغاشمة لكي تقويها  وتعطي لمفكري الرأسمالية دليل اضافي على " قوة المباديء الرأسمالية "الامبريالية ...خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واختفاء حلف وارسو وتهافت الدول السابقة في الحلف على الانضمام الى اوروبا الرأسمالية  . وكان اول المتلهفين الحكام البولونيون الجدد ...فالجميع رأى بأم عينه نهاية شاوشيسكوا المريعة ..وسقوط الدولة السوفييتية  وانحلال الحزب الشيوعي وخيانة غورباتشوف ويلسين للحزب الشيوعي السوفييتي ...أثناء هذا الوقت كانت هناك ثورة أخرى تنمو ويقترب انفجارها وهي ثورة الاتصالات والاعلام الآلي الحديثة المرعبة ...فالانترنيت والساتيلات أشعرت الناس جميعا انهم قريبون من بعضهم وأنهم يعيشون في قرية صغيرة ، وأن مايحدث هنا وهناك ليس إلا أحداث في الجوار مهما كان البعد بين هذا وذاك .

ويمكن أن نضيف أن موت حافظ الاسد له خصوصيته على الواقع السوري ، مما فضح واقع القوى .فهامش بسيط من حرية التعبير عبر الوسائل الحديثة ولو أنها مضبوطة بحدود معينة ،كان له الأثر الحسن على استجلاء كثير من الأمور . وكان لحرب الخليج واضطفاف  جميع الدول مع أمريكا معناه الكبير وانعكاساته ، وكذلك الحرب التي دارت بين العراق وإيران لصالح الامراء والملوك في الخليج ، بعد الثورة الإيرانية وانهيار نظام الشاه .وجاء ليختم كل هذه الأحداث ماحدث في ال 11 سبتمبر 2001 وكذلك الحرب الامريكية ضد الطالبان واستفرادها بالعالم وسطوتها على البترول هنا وهناك .

ثالثاً : هزال وضعف وتشرزم  البدائل المفترضة للحكومات الحالية

لا أحد يستطيع أن  يقول العكس ، الجميع يعترف أن المعارضة السورية هزيلة وضعيفة ولا تشكل أي قوة ضاغطة على النظام ، مع العلم أن النظام ساقط  ولا يحتاج إلا لدفعة قوية لكي يسقط سقوطاً مهولا .وإذا استمر حتى الآن فلأن المعارضة غير موجودة فعلياً على أرض الواقع ، وإنما توجد، وتواجدها هزيلاً يجعل كهنة النظام السوري يرقصون لفرحهم في العتمة ،لانها لا تؤذي النظام بل " لاتخرمشه " بمخالبها المتآكلة والمقلمة بفعل واقع الارهاب والسجون والرعب الديكتاتوري الذي ظل مطبقاً على صدرها كما على صدر الشعب السوري  خلال الثلاثين عام الماضية، وقد تم هذا بعلم جميع القوى التي تدعي "الدفاع عن حقوق الانسان" والخ من الكلام عن الحرية ..الخ . إنها معارضة يتيمة بالرغم من تشابهها مع مثيلاتها من المعارضات العربية الاخرى الهزيلة والمصابة بداء الهزال وربما الصرع ...لانها غير فاعلة على الاطلاق بل منفعلة  بالاحداث وتلهث وراءها زاحفة في وضع مزري يثير الشفقة .هل الطغيان الذي مارسته الأنظمة العربية وخاصة النظام السوري ،هو المسؤول عن هذا الواقع ؟

حيث كان من المفروض بحسب علوم الاجتماع، ان تكون القوة البديلة لهذه الحكومات التي بات بقائها على دفة السلطة غير ممكن، لان الاسباب الداعية لوجودها واستمرارها قد نفذت . وكذلك دورها الاجتماعي كقائدة للمجتمع ومديرة لشؤونه بات بحكم المستحيل ،لسبب بسيط أنها شاخت وتطورها غير ممكن لأن جسدها الاجتماعي مصاب بشيخوخة وعقم مفضوحين للداني والقاصي ...فالمجتمع السوري لم يصب بامراض في تاريخه كما اصيب خلال هذه المرحلة من تاريخ سورية حيث الحكام استغلو الواقع وثروة المجتمع لمصالحهم الشخصية ، فصار الانسان السوري فقيراً ومنافقاً ومرتشياً ومذلولاً. وضاعت جميع القيم التي تربى عليها وتركها لنا الاجداد الاشداء الاباة ، فجاؤوا هؤلاء لكي ينبشوا كل القيم الميتة والمدفونة بحكم قيمتها السلبية فأنعشوها واستغلوها لكي يجمعوا الثروات المالية ....وهكذا صار الشعب السوري فقيراً وأمياً وغارقاً في التخلف والفقر ....

ومع ذلك نرى بأم أعيننا أن هيكل الدولة موجود ولكن الذي يسيره هو مجموعات مخابراتية على اتصال لحظي مع الحاكم .فشؤون الدول العربية تُدار ليس بحسب القوانين الموضوعة وإنما بحسب رغبة الحاكم ،مثلما كان الامر أيام الامارات والدويلات في العهود الماضية .

رابعاً : الضياع الإيديولوجي بعد سقوط التجربة الاشتراكية ودخول الشك باستحالة تطبيق الاشتراكية ، وفقدان الحدود الفاصلة مابين أبيض وأسود:

 

بعد أن اعتقد البعض بخلود الفكر الاشتراكي وبصحة تطبيقاته غير القابلة للشك ، جاءت مرحلة الشك وإذ بهؤلاء يكفرون بهذا الفكر ونراهم يغيرون معسكرهم، فيتحولون إلى منظرين للأنظمة الديكتاتورية(كما يفعل الشيوعيون في سورية ،والاشتراكيون المغاربة ،والناصريون في مصر الخ) وبالتالي إلى أداة قمع فكرية ،تُضاف إلى باقي الأدوات التي قمع ويقمع بها النظام الشعب السوري ...حتى ذهب بالبعض إلى دعوات لتعليق مشانق "رفاق" الأمس بسبب أنهم طرحوا أفكارا للنقاش مخالفة لافكار الفريق الاخر الذي يتحالف مع النظام ويرتكب كثير من الجرائم باسمه أي غير قادرين على تحمل  خلاف الرأي ...والرآي الآخر .

وأما باقي الفئات من المثقفين الذين كان الفكر الاشتراكي بالنسبة لهم طريقة تفكير وإسلوب عمل ، حيث العلمية والمنهجية والإسلوب الديالكتيكي وحيوية الفكر ومرونته ...كلها أدوات تساعد على حل مشكلات الواقع المعقدة ..هؤلاء، كثير من الافكار الصحيحة التي تخدم العملية النضالية مازالت تحظى لديهم بالاحترام .

ويجب الإعتراف بأن الأكثرية الساحقة من البشر أُصيبوا بحالة ضياع إيديولوجي ...تركت أثارها على طرق تفكيرهم وأساليب عملهم ، وهذا ينطبق على الشعب السوري وعلى الشعوب الأخرى ....

التغير النوعي الذي أصاب القيم الاجتماعية، و التوازن الاجتماعي  "باللاعقلانية " :

من المعروف علمياً أن الحقائق تضمحل أمام الاكتشافات التقنية التي بمقدورها أن تثبت علمياً "خطأ" هذه الحقائق .وقد ينطبق قولنا على القيم، ماقلناه على الحقائق العلمية ...وفي علم الديالكتيك يتم تفسير كثير من الظواهر عن طريق استخدام القوانين الفلسفية المعروفة من أيام هيجل ...إن تراكم المعارف العلمية في جميع الميادين واتساع رقعتها وسهولة الحصول عليها ، ووصولها إلى عدد كبير من البشر ...كل هذا كان له نتائجه العملية المباشرة ...وهو تغير نوعي طرأ على القيم الاجتماعية  ،والاخلاقية خاصة...مماتدعوه الحاجة الى اعادة النظر بالمنظومة القيمية – اذا جاز التعبير – فالقدرات المكتسبة الحالية المتراكمة منذ عهود في العلوم الاجتماعية ، تؤثر في دفع الفئات الاجتماعية الى تبني اساليب جديدة في العمل السياسي والمعرفي ...فكثير من الظواهر الحالية المتمثلة في تقارب وتماثل القيم الاجتماعية المتبناة من قبل الافراد وفي مختلف المجتمعات ...أدى الى نوع من توحيد القيم والدفع الى تبني عادات وتقاليد متشابهة ...إلا أن العادات والقيم في صراعها الابدي كظاهرة صراع الجديد والقديم ، متمثلا في قانون وحدة وصراع الاضداد ...هذا الصراع الاجتماعي القيمي التي تقوده الثورة الاعلامية والاتصالية الحالية ...سوف يؤدي بالضرورة الى وحدة القيم ...في نهاية المطاف ...ولكنه قبل ان يصل الى هذه النقطة من التطور ،سوف يمر بمراحل شتى ...حيث يقاوم البشر فيها هذه التغيرات ويعيقون حركتها ..لانها تمحي جزءاً عزيزاً عليهم مختزن في ذاكرتهم الفردية اولا والجماعية ثانياً .

وفي مرحلة ما ،يفقد المجتمع أو المجتمعات توازنها وقد تصبح القيم لاعقلانية أي لايؤيدها العقل ...بالرغم من أنه لايستطيع إلا قبولها والانسجام معها لانها تمثل تياراً ثورياً ..جاء نتيجة التراكم المعرفي الكمي وهاهو يصبح نوعياً أو كيفياً ...ولذا يصبح التعاطي معه مسألة لابد منها كونها مفروضة على الواقع بحكم التطور الفعلي  للمجتمع الذي نحن جزء منه .وهذا مالم يفهمه الحكام العرب حيث الجميع حاول تأبيد "الاستقرار " ولكن هيهات أن يستطيع البشر ايقاف حركة التطور المجتمعية على الاقل ..فالكون أو حركة التطور الكونية هي جزء لايتجزء من حركة تطور عام ،ومجتمعاتنا المحكومة بأساليب ماقبل الثورة الاعلامية اصيبت بالشلل لانها لم تكن يوما من الايام جزء من هذه الحركة التطورية الكونية .وهذا له ايجابياته القليلة وسلبياته الكثيرة ...وبالتالي انعكاساته بل وتفسيره لحالة الشلل الذي يصيب المجتمعات العربية ...ووجود أنظمة سياسية متخلفة ولاتمتلك الحد الادنى من القدرة على التطور والانسجام للتناغم مع هذه التطورات الكبرى ،جعلها فريسة سهلة  للمجتمعات المتطورة وخاصة التي تمتلك القوة ...فنرى الولايات المتحدة تغزو العراق دون أي احراج وتؤيدها دول تسمي نفسها "متحضرة " ...إذا نستنتج ماقد ردده علينا الاجداد منذ القديم وتركوه لنا كميراث معرفي وهو" جهلك ،عدوك " أي بمعنى أنني إذا كنت جاهلاً لأمر ما ،فسوف اكون ضحية لهذا الجهل ...فمجتمعاتنا التي تم إقفالها في وجه التطور لمختلف الحجج وكلها حجج واهية وغير مبنية على الحكمة والعقل ،هذه المجتمعات تدفع اليوم فاتورة هذا الانغلاق الذي هو في حدود كبيرة منه ،كان مقصوداً خوفاً من المعرفة والعلم ،لانه من المعروف ان الحكام الجهلة لايستطيعون ان يحكموا شعوب متعلمة ومثقفة .والنتيجة أن الجميع اليوم يدفعون الثمن ...واي ثمن!!!

خامساَ:ثورة المعلوماتية، وامكانية انتشار التبادل الفكري، و الحوارات الفكرية  بسرعة الثانية :

مَنّ كان يتخيل مايحدث اليوم في عالم الانترنيت وطرق الاتصال المرعبة ؟ ...في هذه اللحظة التي أكتب فيها ،يمكنك أن تراني وكذلك قراءة ما أكتبه وبامكاننا ان نتبادل الرأي وبتكلفة بسيطة بل ومجانية ...

مازالت الثورة المعلوماتية في بدايتها لتغيير وجه الكرة الأرضية بل الساحة الكونية ،ويعود الفضل الأول للعلماء الأمريكيين في تطوير ونشر وإثبات الفوائد التي يجنيها البشر من وراء انتشار هذا السلاح الفعال والاداة النوعية للتأثير على تطور الكون والانسان معا،وكذلك نحن أمام عملية ولادة وموت ،ولادة مجتمعات جديدة واساليب تفكير وعمل جديدتين كليا ،وموت عالم آخر هزيل ومصاب بالكساح والشلل  نتيجة لعدم قدرته على التأقلم واكتساب المعنى المعوماتي في الواقع الفعلي المباشر.

إلا أنه يجب التحذير والوقوف في وجه الاستثمار غير الانساني لهذا السلاح الفعال في تقريب البشر من بعضهم البعض عن طريق الغاء الحدود المباشرة وتوحيد المعارف عن طريق سهولة التبادل المعرفي وكذلك الحوار الديمقراطي للوصول الى الحقيقة النسبية طبعاً.

ومن المفيد الإشارة الى أن العولمة تعتمد كثيراً في امتداداتها الاخطبوطية عبر الكرة الارضية على الاتصالات الحديثة وعلى الانترنيت .ويعتمد تجمع الكتل الكوني للشركات المتعددة الجنسيات على هذه الوسائل الحديثة للتمكن والسيطرة على التطور الكوني للانسان ....وتكمن ثورة المعلوماتية على شيء هام جدا وهو توفر المعرفة للجميع عبر البنك المعرفي الكبير والكوني وهو الانترنيت ، و بكلفة بسيطة في الدول الحديثة وبكلفة كبيرة (في الدول غير المتحضرة )تبعا لهذه الدول ولانظمتها السياسية واستعدادها للتأقلم مع العولمة والثورة المعلوماتية والاتصالاتية .

فكل انسان موجود على سطح الكرة الارضية او حتى في الفضاء الخارجي يستطيع ان يتبادل الرأي او المعرفة مع أي انسان اخر، عن طريق هذه الاداة الجديدة وهي الانترنيت .كما ان حرية النشر والكتابة اصبحت من السهولة لدرجة ان كل واحد يمتلك حاسوبا،  ومتمكن من علوم الحاسوب ان ينشر كتاباته  وبتكلفة بسيطة ...ولم يكن هذا لوقت قريب الا حلما لايمكن تحقيقه .

تقادم وبطالة الكثير من القيم بفعل التطور الفعلي في الواقع الكوني:  بفضل سرعة التواصل والتبادل الكوني المعرفي الحالي،تم التخلي عن كثير من القيم وتبني قيماً جديدة تتظابق مع الواقع، وهي نتاج البشرية المعرفي للقيم الانسانية منذ بداية التاريخ .

ومع ذلك يبقى الانسان عبدا لحاجاته وبالتالي لمصالحه ،فقد عرفت البشرية مجموعات كبيرة وكثيرة من القيم المعرفية التي على أساسها يتم تنظيم المجتمع وضبطه وجعله انسانيا وحمايته من الافكار والقيم الانتحارية المدمرة للجنس البشري . ولذلك تم تحريم بعض القيم وكذلك تمت تذكية قيم أخرى ...وكل ذلك يخضع لحكمة البشر المكتسبة من الواقع والتجربة المباشرة والمتراكمة عبر اجيال مختلفة .

وعن هذا النطاق لايخرج التطور الحالي في الكون ، فتفسير الظواهر مرتبط بالقانون الذي يحكم حركتها ومسارها ،حياتها وزوالها ...وصراع القيم يخضع لقانون الاضداد وليس هناك تغيرات تحدث في الكون منعزلة عن بعضها البعض  ،كما أن المجتمعات تتغير بفعل   قوانين وقواعد أرضية أي حصيلة للتجربة البشرية المجتمعية .

 

سادساَ:الامكانيات الفردية المتاحة وقدرتها على التأثير في الجماعة :

لم تتح الفرص الفردية، عبر التاريخ كما هي متاحة اليوم ، للتأثير في الجماعة وللعب دور نوعي وكيفي لدفع الجماعة إلى مواقع متقدمة ،على طريق التطور العام للجماعات البشرية .فحتى الآن حاربت السلطات الديكتاتورية التجمعات أو بمعنى آخر كل مايؤّمن انتشار التواصل وتبادل الاخبار والاشاعات ...الخ .لأن الانظمة القائمة على الفضائح لاتريد أن يعرف هذه الفضائح إلا عدداً قليلاً من أفراد هذه الدول .وهذا شيء طبيعي لان الحاكم يحس بالوحدة و يقتله الشك بل  الشكوك ...حتى أن البعض لاينام الليل بل ينام في النهار لأنه يخاف من المؤامرات ومن الطامعين في الحكم ..ويقول كما يقول المثل "السراق بيقول كل الناس سراقين مثلي "...لكن الثورة المعلوماتية الحديثة أعطت للفرد كثير من القدرات والحرية لتبديل العالم والمجتمع الذي يعيش فيه ، وذلك عن طريق إيصال كلمته وفكره الى أكبر عدد ممكن من الناس أي المواطنين مثله .فهؤلاء الأفراد ذوي النوعية عالية الجودة والمنتشرين في هذا الفصيل أم ذاك ، محصنون ضد قدرة الحاكم على تشويههم واستغلالهم ، هؤلاء هم الخميرة الحية التي سوف تُنضج وتلعب دوراً بارزاً في تبديل الواقع العربي المتعفن وبالتالي السوري . مايلزمهم هو خندق يجمعهم لكي يسلطون بنادقهم باتجاه واحد لبناء وطن تفتخر به الأجيال القادمة ....عليهم أن يدركوا أنهم ذوي نوعية ضد التفتت والكسر، وبالتالي توحيد جهودهم مهمة نضالية، يجب انجازها لأنها الجسر الذي سوف تعبر عليه الأجيال القادمة الى وطن الحرية والوحدة والديمقراطية والعدالة .فعليهم أن يُحافظوا على ذاتهم غير القابلة للبيع والشراء ، المخلصة لوطنهم وامتهم ابدا...غير أبهة بالملمعات المادية والثروة ...عليهم أن يعرفوا أنهم الأغنى وأن قيمتهم لاتُقدر بثمن ...فهم سوف تُخلدهم أمتهم لأنهم يعملون لتخليدها ...

سابعاَ:الحرب الأمريكية ضد العراق ...هي حرب لمنع العالم العربي من التقدم وتحقيق المجتمع الديمقراطي العادل .

"الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى" ....تتحكم بالواقع العربي والسوري مزدوجة وقد ندعوها مزدوجة أو مركبة القمع والتسلط ..أي أن الانسان العربي يعاني من نوعين من القمع في كل لحظة من حياته ...قمع الحاكم المباشر عليه (وهو مكمل للقمع الثاني ) ..وقمع التكتلات الدولية القوية والشركات المتعددة الجنسيات التي تُمثلها الولايات المتحدة الامريكية ...الأول سياسي والثاني اقتصادي ولكنه في مرحلة التحول الى سياسي- اقتصادي في آن واحد ...

إن النضال المشروع الذي يجب أن تتبناه الفصائل السورية المتحدة هو محاربة هذين النوعين من القمع والتحرر من كل أشكال القمع مهما حسن شكله وتنوع لونه ...ولكن كيف؟ والجواب هو بوحدة فصائل المعارضة السورية أولاً والعربية ثانياً ..وتبني استراتيجية شاملة قائمة على كنس الانظمة الحالية بجميع أشكالها واستبدالها بسلطات منتخبة فعلا من الشعب ...ومقارعة ودحر كل اشكال الاستعمار والعبودية الجديدة التي تريد الادارة الامريكية فرضها على الواقع العربي الراهن .

ولكن محاربة الامريكان له الاولوية والوقوف الى جانب الشعب العراقي البطل الذي تحضر الادارة الامريكية الطائشة الحالية الحرب ضده ..

ثامناَ:أحداث ال11 من سبتمبر هي نتيجة الظلم الذي تدعمه وتسانده الادارة الامريكية ومن لف لفها وسار في محيطها ...ليست سوى التعبير الحي عن الحقد الذي تُخبأه الشعوب المظلومة للأمريكي الذي طغى وزاد في طغيانه ..بالرغم من أن هناك كثير من ضحايا تلك الكارثة هم من الناس البريئين اللذين" لاناقة لهم ولا جمل" فيما تفعله الادارة الامريكية في شعوب العالم ..هل يُلام عربي أبيّْ من الثأر لأطفال العراق وشيوخه اللذين ماتوا بالملايين نتيجة الحرب والحظر الجائرين ؟؟ ...إن الامريكين في ممارساتهم الحالية وظلمهم الجائر وكذبهم ...لن ينتجو سوى ظواهر تشبه ال"بنلادنية " ...بل ربما كانت الظاهرة البنلادنية سوى بداية لعهد جديد من الصراع بين الشباب العربي والظلم الامريكي القادم بشكله المكشوف والمفضوح ...إن التاريخ الحديث مطبوع بما حدث ذات يوم في تلك المنطقة من العالم وهي وطننا العربي ...فقبل أن يأتي رجل عربي اسمه محمد ليوحد العرب على كلمة واحدة ويدحر جميع الامبراطوريات في التاريخ  وخاصة الرومانية والفارسية ...

حدث أن جرب عرب آخرين في دحر هذه الامبراطوريات  أمثال زنوبيا ملكة تدمر ...

هل التاريخ يُعيد نفسه ...ولكن أين هو هذا العربي الذي سوف يوحدنا ويقودنا الى دحر الامبراطورية الامريكية والصهيونية ؟؟؟ هل هو موجود ؟ ولماذا لم يأتي حتى اللحظة ؟

 

تاسعاَ:وجود "اسرائيل " كقوة غريبة تمتلك القوة النووية :

لاأستطيع ان أنسى ماسمعته ذات يوم في فرنسا من قبل ممرضة فرنسية، كانت تتحدث مع زميلاتها ،وكان الحديث يدور حول اسرائيل وفلسطين ،قالت :" إن اسرائيل دولة مصطنعة ولذلك تواجه تحديات كبيرة ،لأنها جسم غريب في وسط ومحيط عربيين"..لايجب أن تُعطل إرادتنا ويُشل تفكيرنا من كون الكيان الصهيوني يمتلك أسلحة فتاكة وقنابل نووية ...لقد عاش الكون بأكمله كيف ينتصر الطفل الفلسطيني على القوة النووية الاسرائيلية بالحجارة لأنه صاحب الارض وصاحب الحق ...مع أن هذا الطفل تُرك لوحده في مواجهة هذه القوة النووية ...فكيف لو تم دعم هذا الطفل من قبل اخوته العرب ...؟

نعم إن الكيان الصهيوني جسم غريب ومصطنع ...ولن يُكتب له البقاء ...فبقاؤه مرهون بمنع الشباب العربي الحر الابي من المشاركة الفعلية والعملية ،المنظمة والعلمية .

ألم يُثت العلماء العراقيون على امتلاك قدرات كثيرة حتى النووية ؟

فالعلم ملك للبشر جميعا ومن انتاجهم جميعا ...لايحق للحلقة الحالية من العلم ان تكون ملك للامريكين او غيرهم ومنع الشباب العربي من المشاركة فيها بقوة وبفعالية ...إنها استراتيجية مجنونة خرقاء تلك التي يدعو لها الامريكيون حاليا وبعض الغربيون ...كان الافضل ان يتم تثبيت نظام عالمي يعطي حق العلماء قدره مهما كان دينهم واصلهم ولونهم،

إنه الجنون بعينه أن يمنع العرب من المشاركة في بناء الحضارة الحديثة ..إنها اساليب فاشلة لن تفضي بنتيجة تلك المحاولات من المنع للعرب بمشاركتهم بدفع الحضارة الى الامام كما فعلوا بالامس غير البعيد...

إن الصهيونية كفكرة خاطئة وغير علمية لن يكتب لها الحياة ، ولسنا بعيدين عن اليوم الذي نرى الكيان الاسرائيلي  مفككا ...يصاب بالشلل والموت ...لأن العالم بدأ يدرك الاكاذيب والاختلاقات الصهيونية ..وبدأت الكثير من الاصوات في الغرب وامريكا تدعوا الى ايقاف الكذب الصهيوني بل ومحاربته ...وقد يشهد القرن الحالي زوال الدولة الصهيونية ،بسبب بسيط وهو امكانية العرب الحقيقيين على كشف الحقيقة الصهيونية للعالم . 


د.مرهف ميخائيل  ، طبيب