2003
مع استمرار وحدة التوجه الرجعي العربي، نحو إنضاج ماسُمي بالنظام العربي، منذ بداية سبعينات القرن الماضي، من على قاعدة إلحاق الهزيمة الشاملة بنواة نظام عربي في طور التشكيل، كانت اتخذت من محاولة مقاومة المشروع الصهيوني-الأميركي، كما من جملة من التحولات الاجتماعية و الاقتصادية مدخلاً لإقامة وتثبيت شرعيتها، أخذت تبرز الأبعاد الوظيفية للنظام العربي الجديد، بعد أن تم ترشيد النظام العائلي السعودي وتوفير أسباب قيادته لهذا النظام. ولم يكن لأحد من عناصر وتلاوين هذا النظام ليستطيع التغريد خارج السرب، إلا بما تسمح مقتضيات صيرورته باتجاه الاندماج الاقتصادي والسياسي بمنظومة الهيمنة الأميركية.
منذ مجيئه عام 1970، واحتلاله كرسي السلطة، وجد النظام السوري نفسه أمام فيض من الدعم الخارجي، متعدد الأشكال، يقابله رصيد موضوعي من المعطيات السياسية والاقتصادية التي انطوت عليها تجربة الفئات الوسطى في سورية بعد أن باتت مصدر تغذية لسياساته وغلالة تغطي ممارساته، كما وجد نفسه أمام عوامل هامة أخرى تجلّت بعامل "الجغرافيا السياسية"، وعامل "سيطرة الدولة على الاقتصاد"، بما يعني الدولة ذات الوظيفة الاقتصادية.
شكل العامل الجيوسياسي، نمطاً من الريع السياسي، إلى درجة جعلت النظام يعتقد بأن أهمية هذا العامل، تضاهي مايشكله النفط بالنسبة لمحميات الخليج، بدلالة دخوله الخدمة بسرعة قياسية، على قاعدة من التتجير السياسي والعسكري، من هنا بدا في عين النظام مادة لخيار "استراتيجي"، إذا كان ثمة مايدعو للحديث عن خيارات استراتيجية خاصة بالنظام.
حمل هذا الريع الطاقم السياسي السوري الحاكم نحو مطامح بعيدة، لكنها، في نفس الوقت، مطامح قائمة على الخفة والوهم، ومما يعزز هذا الرأي هو أن القناعة المسترخية لأهل النظام تعاملت مع هذا النمط من الريع كما لو كان بديلاً عن كل العوامل والدناءات الأخرى.
تجسدت أولى المطامح المذكورة في السعي الحثيث لاحتلال موقع ومكانة اللاعب الأصيل في مضمار الترتيبات، بطابعها وموضوعها الأميركيين، على صعيد المنطقة؛ فلقد داعبت خيال أهل النظام مقولة الوصاية على دول سوريا الطبيعية في إطار الترتيبات المذكورة، واعتبار ذلك محطة رئيسية باتجاه الحصول على بطاقة الشريك في تلك الترتيبات؛ لكن سرعان ما اكتشف أهل النظام بأن الطريق نحو تلك المواقع المنشودة مغلق، ويحتاج إلى تزكيات مركبة وغير مضمونة، ليس أقلها تزكية النظام الملكي الأردني على سبيل المثال لا الحصر.
ومع انعقاد حملات التصفية على مدار عقد سبعينات القرن الماضي، وخصوصاً ماتعلق منها بالجانب الفلسطيني، ومع اتساع الردّات السياسية والاجتماعية على الساحات العربية، والتي لم تكن أحداثها تخلو من مظاهر متناقضة، بات في مقدور المرء فصل القمح عن الزِوان، مثلما بات يعي أهمية الدور السوري في رفع مدامك النظام الرسمي العربي وتصليب بناه؛ لكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من أهمية بعض الأوراق التي كانت في متناوله، فلم يحل ذلك دون اضطلاعه بدور المهمات الخطرة والغامضة، سواء أكان على الصعيد الفلسطيني أو اللبناني أو العراقي-الخليجي الخ... قلنا عل الرغم من ذلك بقي النظام دون الشريك، في الجوهر، ودون مستوى المهمات "النظيفة". أي بقي محكوماً بسمعة وجاذبية، وبالتالي تنوع ضغوطات البازار الأميركي من جهة، وبطبيعة التبدلات الداخلية التي كان عليه أن يجريها من جهة أخرى.
وكثيراً ماعبرت هذه العلاقة عن نفسها بوصول الطرفين إلى إجراءات تكفل بعض الامتيازات للنظام، كما تكفل تعويضات أو لقاء أتعاب، مترجمة، في لغة السياسة؛ بمساعدة النظام على تصريف أزماته، وتنفيس احتقاناته الداخلية، والأهم من كل ذلك، هو تجديد البيعات الخارجية له، وهذا شرط ثمين، في نظر النظام، لإظهار أن مايُسمى بالتأييد المطلق له، من قبل الأموات قبل الأحياء حكاية لايشوبها ذرة من غبار.
ومثلما فتَّق الريع للعامل الجيوسياسي من مطامح مجانية لدى أهل النظام، فقد لعب عامل وظيفة الدولة الاقتصادية، مدعوماً بالسخاء البترودولاري دوراً مكملاً، إذ سرعان ما استوى ذلك ليس في وقائع مركزة الدولة (السلطة) فقط، وإنما في شخصنتها أيضاً، حيث كانت المقدمة الفعلية لتهميش المجتمع وتفكيك بناه الاجتماعية الوطنية.
لقد تحولت الوظيفة الاقتصادية للدولة من مصدر للتنمية إلى مصدر يغذّي تغّولها كسلطة، أي تحولت إلى أداة ضبط اجتماعي وسياسي واقتصادي، يعزز ذلك واقع ربط احتياجات القطاعات الاجتماعية بفروع السلطة، لا بوضعها رب عمل فحسب، وإنما بوضعها رب سياسة أيضاً..رب لايحدُّه شيء في إضفاء "المواطنة" على من يشاء ونزعها عمن يشاء!.
لقد أصبح جبروت الدولة (السلطة)، في نظر هذه القطاعات الاجتماعية، كأنه قدر طاغ لا رادًّ له، مما عجل في إذعان النفسية الاجتماعية وانقيادها إلى ماكانت تبتغيه السلطة منها، وهو التسليم ب"ألوهيت"ها!، وخصوصاً في فترة التصدعات الداخلية الناجمة عن صراعات سلطوية بشأن وضع اليد على المداخيل الوطنية. وفي اللحظات التي تداخلت فيها الصعوبات المتراكمة مع الاستحقاقات المطلوبة من الخارج، انتقل نمط التعبئة الداخلية، عبر تأطير الذعر الجماهيري، إلى المستوى الذي تم فيه اعتبار الحلول الأمنية المعيار الوحيد في التعامل مع المجتمع، وبروز منطق الإرهاب كآلية رئيسة من آليات الممارسة السلطوية المنفلتة من أي عقال.
ومع توسع دائرة الأحداث، وبالتالي، اشتعال الأزمات العميقة في المنطقة، عمدت الولايات المتحدة الأميركية إلى نقل مستوى العلاقة، بينها وبين النظام إلى حالة مركبة من الاشتراطات، والتي لم يكن لها أن تقود، إلا إلى ارتهان عميق أتاح "تشليح" النظام السوري لسياساته الواحدة تلو الأخرى.
عملياً ماكان لمسألة مصالحة المجتمع، والانفتاح على المسائل الداخلية الشائكة، والاستقواء بالشعب ومن ثم إقامة التوازن المجتمعي على أساس من المشاركة الجماهيرية في القرار السياسي العام أن تلامس ذهن أهل النظام، بسبب انحسار وضيق القاعدة الاجتماعية التي تسنده، والاستعاضة عن ذلك بإطلاق يد المؤسسة الأمنية، الضامنة الأولى والأخيرة، للطبقة السياسية الحاكمة، ولأصحاب البيوتات المالية وشرائح البرجوازية الطفيلية، وبسبب أن تسليم السلطة، حتى لو كان نظرياً، بمكامن قوة المجتمع، مجسدة بمصالحه العليا، لابد أن تصبح آليات الحكم القائمة على النزعة الاستئثارية والنزعة الاستئصالية قابلة للتفكك بسهولة.
كان أخطر ماأقدمت عليه السلطة، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، يكمن في اعتبار أن النظام هو الوطن بعينه، وأن الوطن هو النظام بالذات، وسارعت إلى قرن عملية الحل "الوطني" باعتصار الوضع الداخلي، وإبراز شخصية الحاكم، لا كمعطى واقعي، وإنما كمعطى رسالي. وكان من الواضح أن سياسة العقاب الجماعي الهستيري التي سادت فيها ماكان لها أن تستند إلا على مثل هذا النزوع.
لقد كان التماهي بين المرامي الأميركية، في عزل وتهميش واستنقاع الوضع الداخلي السوري، مايضاهي حاجة النظام، ليس إلى استبعاد فعاليات المجتمع وقواه الاجتماعية والسياسية الحية وحسب، وإنما إلى تدميرها ونسف كل إمكانية تنطوي عليها. ووجه التناقض هنا، هو أن النظام كان وعى منذ البداية، بأنه غير محصن بأية شرعية مستمدة من المجتمع، وخصوصاً بعد أن حول نتاج التجربة التنموية الاجتماعية والسياسية السابقة إلى طاحونته الخاصة، فلاح له أن من الأهمية بمكان أن يرفع يافطة الخطر الخارجي الأميركي-الصهيوني ليعلي من شأن الحلول الأمنية إياها، حيث باتت هذه الحلول بمثابة العلامة الفارقة، التي تشير إلى درجة ومستوى قبضة النظام على الأوضاع الداخلية، القبضة التي تعني قدرة النظام للتأهل المستمر كلاعب متجدد وقابض على جميع المقادير الداخلية.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية ترى في سيطرة النظام على أوضاعه الداخلية شرطاً مبدئياً للتأهيل، فإن نوعية هذا التأهيل ماعادت كما هي، وإنما راحت تختلف من مرحلة إلى أخرى، ومن مسرح إلى آخر، وترتبط بدرجة حرارة السوق السياسية، وما تفرضه من صراعات، وما تقود من تسويات الخ..
شكَّل انتصار السلطة على المجتمع مدخلاً لعبور الخارج على الداخل، وقد تزامن ذلك مع انهيار أيام وشهور وسنوات العسل النفطي، وانفلاش الوضع الاقتصادي، وجفاف ريع العامل الجيوسياسي، وسقوط الاتحاد السوفييتي السابق، ومن ثم إعادة إنتاج السياسة الأميركية على نحو مختلف. لقد وقفت الولايات المتحدة على حقيقة أن إمساك النظام السوري بتلابيب المجتمع، كما لوكان مجتمعاً مملوكياً، أو كما كان لو خلق ليكون مستعبداً، مثًّل أقصر الطرق، نحو إيجاد الشروط التي تصبح فيها المقومات الوظيفية للنظام جزء لا يتجزأ من فعالية القوة الخارجية المهيمنة. وما واقعة استدعاء القوات الأميركية بُعيد اجتياح القوات العراقية للكويت، ودور النظام السوري في ذلك، وما واقعة إرسال قوات سورية تحت راية القوات الأميركية في حرب الخليج الثانية، سوى دليل دافع لمدى سيطرة أهل النظام على قراراتهم السياسية و الوطنية.
كان من المسلم به أن غياب الأسد لايعوّضه سوى استمرار "الأسدية"، أي استمرار النظام دون أي تبديل يُذكر. من على هذه القاعدة جاء الرئيس الإبن، كما لو كان صورة شخصية عن أبيه وحسب. ويكفي المرء أن ينظر إلى ماسُمي بالإجراءات الدستورية حتى يتبين خلفية هذه الإجراءات ومراميها.
في التاريخ يقوم الفرق بين معنى السياسة التي تُضع بين دهاليز التصور، وهي سياسة متأنقة تحمل صفات وآفاق منتجيها، وبين معناها كخيارات كبرى، أي تلك التي لاتضعها سوى المشاريع الكبرى والتطلعات الاجتماعية البعيدة، والحوامل الاجتماعية الفاعلة، والبرامج المتقدمة، والأساليب المبدعة، والقيم العميقة، والتي بدورها، كسياسة تضع الإنسان في موقع ترتفع فيه سويته السياسية والفكرية والتاريخية، وتبنيه ككيان إنساني مستقل، وكذات اجتماعية وسياسية فاعلة تضعه مثلما يضعها باعتباره شريك في إنتاج وتعميم هذه السياسة أيضاً. بينما تسعى السياسة المعلبة إلى تعليب وعي الإنسان وإخراجه من السياق الواقعي للحياة السياسية. تُبرز النتائج الملموسة لكلا الصيغتين أن الأولى لاتعود إلا إلى الموات السياسي، بينما تقود الصيغة الثانية إلى الحياة السياسية.
من هنا، يمكن القول أن مجيء الرئيس الإبن لم ينطوِ على أي مشروع مستقبلي، لا بالمعنى الزمني أو الوقائعي، وإنما بمعنى قدرته على كسر الشروط التي جاءت به إلى السلطة كوريث، والانحياز إلى الكتلة المجتمعية الأساسية كأداة موضوعية للتغيير. وطالما كان الأمر عصياً أمام هذا الخيار، فقد كان سهلاً أمام مشروع ماضوي فاقد لكل الأبعاد السياسية والاجتماعية والإنسانية، لكنه وجد رصيده الفعلي في آليات تسكين وضبط الواقع، وفي شهوة طبقة سياسية لاتعرف الشبع.
كان من الواضح أن مجرد الخروج عن النص سوف يعني مخاطرة مخيفة لهذه الطبقة، لذا عمدت منذ البداية إلى محاولة أسطرة الوقائع والسياسات بتغليف وشدّ شخصية الرئيس الإبن إلى واقع العطالة المحكوم بقانون أعم هو قانون الفراغ الثاوي في الحياة السياسية والاجتماعية السورية، مدفوعة لحماية مواقعها وامتيازاتها بأية وسيلة.
من هنا لم يبدّل تلوين قفص الواقع الراهن من الأمر شيئاً، ولم يكن خطاب السلطة الجديد أكثر من مداورة على متطلبات التغيير، ولم تكن حكاية الإصلاح سوى أداة امتصاص لما كان يُنظر إليه أنه حراك مدني-سياسي، حيث رأت فيه السلطة خطراً غير محسوب النتائج والذي يمكن أن يودي بقواعد اللعبة التي يقوم عليها النظام. إذن ماكان بوسع المشروع الماضوي سوى إعادة ترميم بعض السياسات، وتلميع بعض المفاهيم، وتمويه آلية توزيع المغانم من جديد. والاتكاء على ما تقدمه المعطيات الدولية، فلقد دفعت السياسة الأميركية الوقائية الجديدة النظام السوري إلى محاولة إنعاش سياساته، أو إيجاد مادة لها، خاصة بعد الحادي عشر من أيلول 2001 باعتبار الإرهاب آفة عالمية، يجب محاربتها في كل مكان، ولم يكن باعث النظام في ذلك سوى اقتناص هذه المناخات في سبيل تطويق وإعادة بعض الإرهاصات المجتمعية والسياسية في سورية إلى قمقمها ونشر سياسة القمع المباشر بتغطية أيديولوجية وسياسية أعم.
الواقع أنه ماكانت لأية صعوبة أن تبرز دون أن تكشف عن حقيقة ماضوية مشروعة، ودون أن تعجِّل في عودته شبه المذعورة إلى أرشيف مرحلة الأب، بما في ذلك التنصل حتى من الإشارات والإيحاءات التي أطلقها خطاب القسم، ويكفي للتدليل على ذلك تسليط الضوء على خطاب الرئيس السوري في افتتاح جلسة مجلس الشعب الجديد، قبيل أيام من غزو القوات الأميركية للعراق، حيث يعتقد المرء بأنه يصغي إلى واحد من خطابات 1984 في سورية، سواء تعلق ذلك بالدافع، أو بالأسلوب أو بالمرمى، والأشد مفارقة في الموضوع، هو أنه بقدر ماهوجمت المعارضة السورية، وبقدر ماتم وصفها بالنعوت، بقدر ماشدد الخطاب على الضمانات من الدول المتنفذة.
لم يكن في مقدور المرء أن يفسر لماذا كانت يد النظام على الزناد بمواجهة من كان يطالب بالحريات والإصلاح؟ ولماذا بلغ منطق التهديد حد الوقوف على إجراءات عملية؟. هل هي مقتضيات الحدة الوطنية؟ وهل هذه المقتضيات تسير على هدى الاندفاعة الهمجّية الأميركية ابتداءً من العراق؟ أسئلة لايهم الإجابة عنها هذه الأيام، طالما كان التكوّر في الماضي هو وسيلة السيطرة على الحاضر.
بعد احتلال العراق، لم يعد لدى أحد من الأنظمة مايقوله. لقد تبدٌّد حتى الكلام، وباتت السياسات مقتصرة على شراء الوقت، ورسا السعر على النظام العربي كما لو كان جثة هامدة، وهو كذلك، وامّحت الخطوط، كما لو كانت مرسومة على رمل، فالسياسة الأميركية التي كانت تُنفذ بالوكالة، لم تعد ذات موضوع، والمقايضات التي كانت تجري إبان ذلك، لم يعد لها مايبررها، والتغطيات، التي كانت سياسة شبه ثابتة للولايات المتحدة الأميركية تجاه الأنظمة في افتراس شعوبها، تحولت إلى أدوات تجميل للسياسة الأميركية بعد أن تم سحبها من الخدمة.
شكل سحب هذه التغطية عن واقع النظام السوري المسألة الأشد وطأة، والأكثر خطورة؛ لأنها جاءت مقترنة بحقائق سياسية جديدة، من أهمها بروز إدارة أميركية مؤدلجة ربطت نجاحاتها، لابل مصائدها بمدى استيلائها على مصادر الثروات والمداخيل العالمية، وبمدى تحويل خصومها الحقيقيين أو المحتملين إلى أطراف مشلولة. التواجد المادي المباشر للقوة الأميركية على الأرض العربية والتبشير بإقامة لوحة سياسية جديدة في المنطقة العربية. تماهي سياسة الإدارة المذكورة مع المشاريع الصهيونية القريبة والبعيدة، وهي المتعلقة بخلق الأسس النفسية والاقتصادية للمكوَّرات العرقية والطائفية وتجسيدها ب"دول" تحت الوصاية المركزية الأميركية والصهيونية.
إن نزوع الحضور الأميركي الطاغي لإشادة لوحة جيوسياسية في المشرق العربي يقف وراء حقيقة أن الدول الإقليمية القائمة لم تعد ذات وظيفة ضمن الشروط الراهنة، ومن هذه الدول سورية، وعلى الرغم من مداورة النظام لهذا المعطى، ومحاولة تصوير أن دوره صالح في كل مكان وزمان، فإن شيئاً خطيراً يتربص بأبعد من تركيبة النظام السياسية، لاسيما إذا ماأخذنا بعين الاعتبار الحيِّز الذي يمكن أن يحتله الكيان الصهيوني في الطور التالي من الترتيبات الأميركية. لذا لم يكن من باب الدراية أو الحكمة أن يقيس أيًّ وعي سياسي الإجراءات والمطالب الأميركية بمقاييس المراحل الماضية، وإنما بمتطلبات الاستراتيجية الأميركية المستجدة.
في هذا السياق لابد من القول بأنه من الصعوبة أن يرقى وعي طبقة سياسة متخمة ومستنفرة، سيطرت بوسائل العنف والقمع الدموي، وتكوَّنت بوسائل الاغتصاب والنهب، إلى إدراك مؤشرات الأزمة العامة على حقيقتها، لأن وجودها مرتبط بنفي ومحاربة أي مؤشر يدل على استنفادها وتخشبها، ولما كان الاستنفاد المذكور هو الذي يغذي الأزمة العامة فمن الطبيعي أن تصبح مسؤوليتها، في ظل ظروف الخطر الخارجي، مضاعفة، وإذا كانت اللحظة السياسية القائمة، بما تنطوي عليه من مفاجآت، قد جعلت من انغلاق هذه الطبقة على نفسها الرد الوحيد على منطويات اللحظة المذكورة، فمن الطبيعي أن تهرب من مواجهة الحقائق، متوسلة نوعاً من التكتيك السائب الذي يغطي على خواءها، ومن الطبيعي أن ترى في تغريب وتغييب الشعب، والاحتيال على وعيه ضمانة ثابتة لسيطرتها الدائمة، حتى لو باتت قضايا الوطن والشعب على كف عفريت.
مالك حسن كاتب سوري (أخذت المقالة عن الرآي عدد 25)ا{