التغيير الديمقراطي في سورية

 

 ابراهيم ماخوس


* كيف تقيمون نضوج أسباب التغيير في سورية ؟

يوجد تناقض كبير بين الظروف الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتغيير الديمقراطي وبين قصور العوامل الذاتية الضرورية لذلك ( كما سنرى لاحقا).



ذلك أن الأوضاع في القطر السوري والوطن العربي عامة في غاية الاحتقان المتراكم القابل للتفجر، خلال حوالي ثلث قرن من طغيان الأنظمة الفاشية والقمع المركب الجسدي- السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي- الإعلامي- النفسي بحيث أصبحت الجماهير تعاني من( الاحتلال النفسي) والبؤس الاقتصادي والتهميش السياسي الكامل.

* كيف تنظرون إلى علاقة الداخل والخارج في هذا التغيير ؟

أولا وقبل كل شيء، وفي مقدمة أي كلام أو بيان حول الأوضاع المتردية في القطر السوري، وتحليل وفضح دور النظام الفاشي المدمر، وضرورة التغيير الديمقراطي البالغ الإلحاح ..لابد من البدء حتما، ومنعا لأي التباس أو اختلاط أو تضليل للجماهير بأوهام المراهنة على( الخارج) بما يصل إلى درجة الخيانة الوطنية والقومية، لابد من التركيز على تحليل وفضح وتعرية وإدانة المخطط الإمبريالي الصهيوني، الذي يستهدف سورية ولبنان والوطن العربي بأسره، بطمس هويته القومية الحضارية، وتفتيته ونهب ثرواته، وتحويله إلى سوق استهلاكية لفضلات المنتجات الغربية، وشعبه المقسم إلى خدم وعبيد عبر ما يسمى( مشروع الشرق الأوسط الكبير) الذي بدأ بكارثة استباحة العراق وتدميره وتمزيقه، ويسعى حاليا لاجتياح لبنان، وانتزاعه من كيان أمته العربية، وتحويله إلى( غرفة عمليات متقدمة) أمريكية -صهيونية ،لمواصلة الهيمنة المطلقة على سورية وتوظيف نظامها في خدمة مخططاته:

- بدءا بنزع سلاح المقاومة الوطنية اللبنانية الباسلة في لبنان، وكذلك الحال في المخيمات الفلسطينية بتوطين البعض وتهجير البعض الآخر إلى استراليا وكندا وغيرهما..

- انخراط النظام الكامل مع( النظامين العميلين في مصر والأردن) و(السلطة الفلسطينية الجديدة) في عملية تصفية المقاومة الوطنية والإسلامية، وبالتالي تصفية قضية فلسطين من الأساس، والصلح الاستسلامي مع العدو الصهيوني حتى بدون استرجاع كامل الجولان.

- استخدام هذا النظام في ضرب وتصفية المقاومة الوطنية والإسلامية الباسلة في العراق، وفي كل ما يساعد الاحتلال والنظام العميل.

- وبالتالي تحويله إلى أداة طيعة في خدمة المخطط الأمريكي- الصهيوني في المنطقة...ذلك أن القيادة الأمريكية المتصهينة الطاغية لم تعد تقبل بترك أي هامش لفظي تستخدمه الأنظمة لستر عورتها أمام الجماهير ...بل تريدها عارية تماما..كما حصل مع النظام الليبي المفضوح...

علما أن الوضع في سورية والمنطقة، لا يسمح بذلك للنظام السوري، بل يؤدي إلى سقوطه، وعمل أمريكا بكل السبل لاستبداله بنظام آخر( أكثر استجابة) لمطالبها، لأن الإمبريالية لن تسمح – طالما استطاعت- بقيام نظام وطني ديمقراطي حقيقي لأنه سيكون حتما ضد مصالحها اللاشرعية ومخططاتها في المنطقة.

- وبالتالي، فان أية مراهنة على التغيير من( الخارج) كما حدث مع عملاء الإمبريالية والصهيونية في العراق ، يشكل تكرارا إجراميا لذاك( النموذج )الخياني المدمر وخيانة وطنية وقومية كبرى ، يجب أن ترفض مبدئيا وفورا ، بشكل قاطع ، وتفضح وتحارب بكل قوة من فبل القوى الوطنية الديمقراطية والجماهير الشعبية في القطر السوري.

- فالتغيير الوطني الديمقراطي الحقيقي المطلوب، يجب أن ينبع من الداخل ومن الداخل فحسب، وعبر تحالف جميع القوى الديمقراطية الحية بدون استثناء، ونضالها لاستنهاض الجماهير، والاستعداد الكامل لدفع ثمن كل ما يستوجبه هذا التغيير من جهود وتضحيات جليلة...

* كيف ترون جاهزية المعارضة شعبيا وسياسيا للدخول في هذه العملية ، وأين يكمن قصورها إن وجد ؟

إن جاهزية المعارضة ضعيفة شعبيا وسياسيا ، الأمر الذي يشكل التناقض الرئيسي بين نضج العوامل الموضوعية وتخلف وقصور العوامل الذاتية ، حيث تعرضت القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة لقمع مركب متواصل منذ حوالي ثلث قرن وحتى الآن ، لم يعرف له القطر السوري مثيلا في تاريخه..فقدت معه ، عددا هاما من خيرة قياداتها المتميزة، شهداء داخل سجون النظام أو بسبب الأمراض والعذاب والمعاناة خلال سنوات الاعتقال الطويلة..كما تعرض بعضهم الآخر من قادة وكوادر، ولا يزال، للقمع الشديد والملاحقة والتجويع، وكذلك للتشرد والهجرة الاضطرارية في الخارج..الأمر الذي أصابها بنوع من الشيخوخة..من جراء منعها من الاتصال بالجماهير والأجيال الشابة المتلاحقة لتجديد تنظيماتها السياسية واستعادة قواها اللازمة لعملية التغيير..

في الوقت الذي تحول فيه القطر إلى سجن كبير والمنظمات الطلابية والشبابية و النقابية والشعبية و المهنية عامة ، من مرحلة الحضانة إلى الكهولة..إلى( زرائب وسجون) ، تشرف عليها قيادات مخابراتية فاسدة مؤبدة..وهكذا..

الأمر الذي ينطبق على المعارضة في القطر السوري، وفي مصر بالذات..

- ناهيكم عن استمرار تشرذم هذه القوى المعارضة لفترات طويلة ، وما أصابها من ارتداد وسقوط بدلا من المبادرة العاجلة إلى تشكيل جبهات وطنية ديمقراطية عريضة...وعدم تمكن بعض فصائلها من تجاوز أمراض وترسبات العصبويات الماضية البالغة الضرر..بدلا من التلاحم النضالي المصيري المسؤول والدعم الأخوي الصادق المتبادل ، في مواجهة الأنظمة القمعية التابعة..الأمر الذي يدعو( التجمع الوطني الديمقراطي) – الذي يشكل حاجة وطنية إنقاذية، والأمل الأساسي في التغيير الديمقراطي المنشود - إلى المزيد من التماسك والمحبة، والنضال للانفتاح على كل القوى القومية واليسارية والإسلامية والمنظمات الشعبية والمدنية والشخصيات الوطنية المستقلة المؤمنة حقا وصدقا بالديمقراطية ، وعلى قاعدة الديمقراطية بالذات..وصولا إلى تكوين جبهة عريضة شاملة لسائر هذه القوى الحية..

- ومع اعترافنا بالصعوبات الواقعية المعقدة ، التي تعترض التواصل مع الجماهير الشعبية ، وتجاوز (الوضع النخبوي) الضيق الذي يميز معظم قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية ، وتحويلها إلى( طلائع ثورية)...فلابد من العمل على ابتكار السبل والوسائل المناسبة لتحقيق هذا التواصل الذي لابد منه ولا غنى عنه، في عملية التغيير الديمقراطي المنشود..وابتكار أشكال واجهية متعددة في المجتمع.للعمل من خلالها على ذلك..بالإضافة إلى المشاكل المادية البائسة لمعظم هذه القوى المعارضة المذكورة ..

* ما الأدوات والوسائل التي ترجون اعتمادها من أجل التغيير ؟

يجب أن تكون سلمية ومتعددة – مالم يفرض النظام عكس ذلك- بالاستفادة من تجربة غاندي وفقا للظروف الحالية ، واستخدام البيانات التوضيحية والمطلبية، والاهتمام بقضايا الجماهير الحياتية، وترسيخ هذه المطالب والأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحددة في أذهان الجماهير..وعقد الندوات والتجمعات ، حيثما أمكن..وكذلك الإعتصامات السلمية، وبأعداد متزايدة ..وتنظيم بعض الإضرابات العمالية والطلابية والمهنية..والمظاهرات (الطيارة) بقدر المستطاع....وصولا – وحسب مدى تجاوب النظام- أو من تبقى لديه شيء من الوطنية والوعي في داخله ويريد المساهمة في إنفاذ نفسه وإنقاذ البلد ككل..حتى درجة العصيان المدني الشامل.

علما أن مواصلة الإلحاح على مطلب عقد( المؤتمر الوطني الشامل)، الذي يتولى دراسة الأوضاع، والاتفاق على برنامج مرحلي للإنقاذ الوطني، وفقا لمطالب( التجمع الوطني الديمقراطي) المطروحة :

بدءا بإفراغ السجون من المعتقلين السياسيين الوطنيين وعودة المهجرين دون قيد أو شرط، و اعتذار النظام للشعب، وتعويض المتضررين (علما أن لاشيء في الدنيا يمكن أن يعوض عن شهداء الوطن الأعزاء، ومن ضاعت منهم أهم سنوات حياتهم في السجون والملاحقة والمنافي)..وإلغاء حالة الطوارئ، ووضع دستور ديمقراطي حديث، يقوم على فصل السلطات، وضمان الحريات الفردية والجماعية والتعددية السياسية والإعلامية، وحق المعارضة الديمقراطية السلمية، ورفض العنف، والتداول السلمي على السلطة..الخ..عبر الأسلوب المناسب، سواء من قبل المؤتمر مباشرة، أو من مجلس تأسسي منتخب..لتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ الوحدة الوطنية الطوعية الصلبة التي تشكل القلعة الحصينة في وجه العدو الامبريالي الصهيوني باستنهاض وتنظيم وتسليح الجماهير ، وبالتحالف مع المقاومة اللبنانية، والفلسطينية، والعراقية، والقوى التقدمية في لبنان، والأردن، ومصر، على الخصوص والتعاون مع إيران، في موقف واضح محدد ، وتحييد تركيا-على الأقل- كون شعبها المسلم يتعاطف مع الأمة العربية..وتلتقي مع سورية والعراق ضد قيام( دولة كردية) عميلة في العراق ..وصولا إلى الاتصال والتفاعل النضالي مع القوى المحبة للحرية والعدالة والمناهضة للعولمة الإمبريالية المتوحشة في العالم بأسره..وبالتالي تحويل القطر السوري والمنطقة بأسرها إلى ساحة مواجهة مستعصية على أمريكا وإسرائيل ، بل قد تستنهض قوى الأمة في الأقطار العربية الأخرى ، وتشكل منطلقا لنهوض قومي عربي ديمقراطي جديد.

* هل يشكل" المؤتمر القطري" القادم برأيكم محطة أمل لقرارات جدية بهذا الاتجاه ؟

نذكر مجددا بعدم المراهنة على الشخص..ذلك أن الذي يتحكم في السلطة هو المركب العسكري الأمني –الكهنوتي ( من بعض الرموز المرتزقة العميلة للنظام، وهم من جميع المذاهب والطوائف ) و البرجوازية الطفيلية الهجينة والمسعورة، التي لا رب لها ولا دين ولا وطن سوى المال ، بأقصى ما يمكن، وأقصر زمن، وبكل الوسائل والأساليب..وبالتالي ما لم يتمكن المؤتمر من إبعاد (الديناصورات )المتعفنة ورموز (المركب المذكور) بصورة عامة..اللذين يعارضون أي إصلاح ديمقراطي حقيقي..فقد يخرج المؤتمر المذكور بالتخلي عن(الديكور القومي) وتكريس (القطرية) المطبقة عمليا، وإلغاء كل الشعارات القومية اللفظية المعهودة، حول فلسطين، والوحدة العربية..الخ نزولا عند رغبة أمريكا وعملائها الرجعيين في المنطقة في سياق مخطط التفتيت وطمس الهوية القومية المطروح.

كما قد يخرج ببعض(الإصلاحات) الشكلية على غرار الوضع في مصر ، بالنسبة( للمعتقين) أو(المهجرين) بشكل انتقائي وشروط مذلة ، تلغي عمليا حق العودة الطبيعية..وكذلك الحال بالنسبة لما يسرب عن( قانون الأحزاب الجديد)

الذي قد يتيح المجال لبعض( المجموعات) المصطنعة وحتى ربما لبعض أطراف "التجمع الوطني الديمقراطي".. وبشروط صعبة وغير مقبولة من "التجمع" طبعا ، لأن الغرض منها هو تحويلهم الى مجرد( ديكور) لتزيين (ديمقراطية) النظام التنفيسية الكاذبة..حيث لا تسمح ( حالة الطوارئ ) في مصر مثلا للأحزاب المعارضة العريقة المعروفة بأي( تجمع شعبي) مهما كان محددا خارج مكاتب الحزب بالذات..وهكذا تستمر قبضة النظام و(حزبه) و(جبهته) الكارتونية المرتزقة في موقع السيطرة الشاملة السابقة على السلطة..والنقابات والمنظمات الشعبية وغيرها ..

..ونحن وان كنا نعتقد أن هذا( المؤتمر) غير مهيأ للإقدام على إصلاحات حقيقية تستجيب للحد الأدنى من مطالب التجمع الوطني الديمقراطي" وسائر القوى الوطنية والإسلامية الديمقراطية

نتمنى أن تدفع المخاطر الماحقة التي تحيط بالوطن..وحتى بالنظام ذاته..ببعض من يكون قد تبقى من (النويات الوطنية) التي يمكن أن تدرك ذلك..إلى الاستجابة لمطالب المعارضة الديمقراطية المعروفة..فلا تتوقف نتائج المؤتمرعند تحقيق بعض الإصلاحات الشكلية المضللة، التي تلبي الإملاءات الأمريكية فقط لضمان استمرارية النظام في السلطة.

* يبدو أن الاستبداد لا يريد أن يرحل ، ما النتائج المترتبة على استمراره أكثر ؟

إن النظام الاستبدادي لن يرحل برضاه، كما لم يحدث لأي نظام مشابه من قبل، والنتائج المترتبة على استمراره، هي الخضوع المطلق للمخطط الأمريكي الصهيوني المطروح..وفقدان الاستقلال الوطني ،وتهديد الوحدة الوطنية بالذات..

وفي حال عدم قدرة النظام، بتركيبته الحالية ، على الاستجابة المطلوبة لكل ذلك..فقد تعمل أمريكا على خلطه وإعادة صياغته وفق( التشكيلة) التي تكون أكثر ملائمة لخدمة المخطط المذكور....وبما يقطع الطريق على أي بديل وطني ديمقراطي حقيقي..كونه الأكثر عداءا للتحالف الامبريالي الصهيوني ومخططاته العدوانية على الوطن والأمة.

- وهنا ومع تأكيدنا، بأنه ليس من حق أحد أن يصادر التطور أو التشكيك المسبق بغيره، ومع دعوتنا الصادقة للتعاون مع الحركات الإسلامية الديمقراطية السلمية..فإننا نشير فقط إلى المساعي الأمريكية الأخيرة (السرية و العلنية) لمحاولة احتواء بعض الحركات الإسلامية وتطمينها بقبول التعاون الأمريكي معها في حال وصولها إلى السلطة ؟..ونأمل أن لايكون الإخوة في سوريا من هؤلاء.

* كيف ترون صورة سورية المستقبل ؟ وأين موقعها اليوم بين الحلم والواقع ؟

لقد كانت سورية، بحكم موقعها الجغرافي ودورها المتميز في الحضارة العربية الإسلامية،( قلب العروبة النابض) ، منذ الاستقلال الوطني وحتى قيام الردة عام1970....ولابد أن نناضل جميعا ، بلا هوادة، بكل صدق وتفان وإخلاص، وبتعاون الجميع القوى الحية مع جماهير الشعب ، كي تعود صورة سورية المستقبل القومية الديمقراطية الوحدوية، لتصبح أكثر تجددا وإشراقا..فتحلق بجناحي الحرية الديمقراطي الاقتصادي الاجتماعي، والديمقراطي السياسي ، لتكون طليعة النهوض القومي التحرري الوحدوي المنشود في الوطن العربي( المنكوب حاليا) بالتعاون مع سائر القوى التقدمية وخاصة في مصر على طريق استعادة الوحدة السورية المصرية( بعد زوال النظامين الديكتاتوريين الحاليين) بمضامينها الديمقراطية الشعبية، كقاعدة أساسية لنضال طويل وشاق ، لتحرير فلسطين، وكنس الوجود الاستعماري المركب من وطننا العربي بأسره، ومواصلة تحرير وتوحيد الأمة.

-إذا كان ما ذكرناه، يجسد( الحلم الثوري المشروع) لكل أجيال القطر السوري والأمة العربية بأسرها.. الأمر الذي يستوجب تحقيقه نضال وتضحيات الجميع..فان الركون( للواقع) الحالي المتعفن واحتمالاته القادمة الأشد خطورة، يعني عودة الاستعمار المركب القديم والجديد..إذا تخلت الجماهير وطلائعها المناضلة عن الثورة في مواجهة ذلك.

-وبالتالي سقوط القطر السوري والوطن العربي بأسره في مستنقع( المشروع الشرق أوسطي الكبير) المدجج بخوذات الحلف الأطلسي وهيمنة العدو الصهيوني.. بكامل أبعاده التفتيتية الإبادية الشاملة المعروفة.. الأمر الذي علينا جميعا أن نتصدى له ونقاومه بكل طاقات الأمة، مهما بلغت المصاعب والتضحيات إذ رغم اعترافنا بجبروت التحالف الإمبريالي الصهيوني وقوته الطاغية، فانه يحمل في طياته عوامل انهياره، كما أنه ليس قدرا إلهيا ليرد..بل يمكن هزيمته ودحره.

 

الدكتور إبراهيم ماخوس

الجزائر 17/04/2005

"الرأي / خاص"