المقاومة العراقية ... دوافعها ... وآفاقها
بقلم : محمود جديد
- شكّل الاحنلال الأمريكي للعراق نكبة عربية جديدة في بداية قرن جديد ،وفي ظلّ انحطاط عربي لم تشهده أمتنا بهذا التردّي الخطير منذ زمن طويل ،وقد بدا فيه النظام العربي الرسمي مفكّكا خانعا ،ذليلا وتابعا ... غير أنّ هبّة آلاف المتطوعين من أقطار عربية عديدة لنجدةالعراق قبيل العدوان الغادر عليه ،وأثنائه ، وصمود واستمرار الانتفاضة الفلسطينية البطلة في وجه الاحتلال الاسرائيلي ،وجاهزيّة وصمود المقاومة اللبنانية في وجه التهديدات والضغوط والتحرّشات الاسرائيلية ،وثمّ اندلاع المقاومة العراقية في وجه قوى الاحتلال والطغيان الأمريكي ، كل ّ هذه المشاعل المضيئة بدّدت قليلا الظلام الذي يلفّ الأمة العربية ، وبعثت الأمل في النفوس بأنّها ما زالت تمتلك مخزونا نضاليا للدفاع عن ذاتها وكيانها المستهدف : هويّة ،وسبادة ،وكرامة ،وثروة ،وحدودا ، ووجودا .....
دوافع المقاومة العراقية المسلّحة : إنّ من يلقي نظرة الى الواقع الراهن في الساحة العراقية بمنظار طائفي وجغرافي ، يرى جنوبا شيعيّا مبتهجا لسقوط النظام العراقي ،ورافضا للاحتلال بأسلوب سلمي ،ووسطا عراقيّا سنيّا بأغلبيته حزينا لذهاب النظام ، ورافضا للاحتلال بأسلوب مقاوم ، وشمالا سنيّا سعيدا لسقوط النظام ،ومتعاونا مع الاحتلال ...وعند استخدام منظار قوميّ وعرقي يرى أكرادا متحالفين مع الأمريكان شمالا ، بينما يرى عرب الوسط العراقي يحملون السلاح ضدّ الاحتلال بهدف إخراجه ، ويرى عرب الجنوب يكتفون بمقاومة سلمية حتى الآن ،والمطالبة بدور للأمم المتحدة من أجل انتقال السلطة الى الشعب العراقي بشكل ديمقراطي ...
أمّا من يعيش في الوالقع العراقي ، ويدرس أسلوب حكم النظام السابق خلال 35 عاما ، وما جرى خلالها من أحداث ،وتطوّرات وتفاعلات فإنّه سيدرك أنّ التمايز الراهن بين مكوّنات الشعب العراقي بالنسبة للاحتلال ،هي تمايزات وخلافات سياسية في جوهرها ، وإن أخذت لبوسا طائفيّا من حيث الشكل ، أو أريد لها أن تظهر بهذا المظهر ... فلوكان / صدّام / من الجنوب لانعكست الصورة ،وتبدّلت المواقع والتقييمات ...لأنّ النظام السابق اعتمد أدواته الرئيسيّة ( أمن- حرس خاص – حرس جمهوري – وحدات خاصّة...الخ )بشكل أساسي من الوسط العراقي ،كما عيّن بعثيّين في معظم المواقع والمناصب والوزارات ،وقيادات الجيش من الطائفة السنيّة ،وخاصّة في فترة الثمانينات والتسعينات ، كما حظي الوسط بعناية خاصة في مجالات عديدة ، كلّ هذا بهدف الاستقواء بهذه الطائفة وليس إكراما لها ، وهذا النهج اعتمده الكثيرون من الحكّام العرب بهذا الشكل أو ذاك في العديد من الأقطار العربية الأخرى ... وبالتالي فإنّ هذه السياسة العراقية الداخلية خلقت تمايزات طائفية وعرقية ،وفي الوقت نفسه فقد تعرّض جنوب العراق وشماله لموجات من البطش والقمع ،والإهمال ،ممّا خلق كرها وأحقادا بين النظام وهاتين المنطقتين أخذت شكلا طائفيّا في الجنوب ، وقوميّا في الشمال بالرغم من جوهرها الساسي ، كما لم يسلم الوسط العراقي نفسه من قمع النظام ، فلاحق أحزابا ذات هويّة إسلامية وقومية ويسلرية ،وحتى رموزا وقيادات بعثية ،لابل وصلت التصفيات الى عائلة صدّام نفسه ،لأنّ المعيار الأساسي عنده كان يقوم على إزاحة أيّ مركز قوّة يشكّل ، أو يمكن أن يشكّل تهديدا سياسيا وأمنيّا للنظام ،ولذلك فإنّ الدافع الأساسي كان سياسيا قبل كلّ شيء آخر ...
والآن، وبعد العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله ،وسقوط نظام صدّام حسين فإنّ المتضرّر الأكبر كان الوسط العراقي ،فلا توجد اأسرة فيه لم تخسر شيئا ( بشريّا ، مادّيا،معنويّا )، ولم تنته الأمور عند حدّ الخسارة ،بل شنّ المحتلّ الأمريكي حملة شرسة في الوسط لمتابعة صدّام ومساعديه ومعاونيه الكبار والأساسيين ،وملاحقة عناصر الأمن والجيش والحرس الخاص ،وفدائي صدّام،وقيادات حزب البعث ،وخلال هذه الحملة الارهابية تعرّض المواطنون العراقيون هناك الى ممارسات قهر وإذلال دون تمييز بين ربّ أسرة وشيخ عشيرة وشابّ، وامرأة ، وخرق لحرمات المساجد والمنازل والأسر العراقية ولأعرافها وتقاليدها ،كما تعرّضوا لنهب الأموال والممتلكات والمدّخرات ، ووصل الأمر الى حدّ تدمير المنازل وجرف المزروعات على الطريقة الاسرائيلية... كل هذه الظروف الصعبة، والممارسات الأمريكية الإجرامية ،جعلت روح المقاومة والثأر تنمو وتتعاظم في النفوس ،بالاضافة الى الشعور الوطني الكامن في أعماق العراقي ،والذي يدفع دائما باتجاه الثورة ضدّ المحتلّ بشكل عفوي وتلقائي ،وخاصّة أنّ الذخيرة والسلاح متوفّران بشكل كبير بين أيدي المواطنين ....
- وعلى كل حال فإنّ المقاومة العراقية أصبحت حقيقة واقعة تركت بصماتها وانعكاساتها على مجرى الأحداث في العراق ، وعلى الخطط والقرارات الأمريكية ، وتشارك فيها قوى عديدة ،فمنها مجموعات من بقايا النظام السابق من حرس خاص وجمهوري ،وأمن،وفدائي صدّام ومناضلين من حزب البعث ،إضافة عناصر من العشائر التي تتعرّض للقمع والاهاب ، ومن يقايا المتطوعين العرب ، ومجموعات ذات توجّه إسلامي ، وقد وصل عدد الفصائل والتنظيمات التي أعلنت عن مشاركتها حتى الآن الى 27 طرفا ... وعموما،فإنّ كثرة عددها هذا له إيجابياته في الفترة الراهنة ،إذ يعقّد كشفها وتفكيكها ،ويصعّب التكهّن يخططها ،وأماكن ضرباتها ،ولكنها ستحتاج مستقبلا لتوحيد الخطط والجهود ، والتوصّل الى وضع برنامج سياسي واضح يضمن استثمار النتائج السياسية والعسكرية لتضحياتها،ولكن هذا قد يفجّر صعوبات ومشاكل مستقبلية كثيرة ، نظرا لكثرة عددها ، وتباين توجّهاتها السياسية والعقائدية ...
- أمّا حول ممستقبل المقاومة بعد اعتقال صدّام ، فوجهة نظري كانت قبل الاعتقال وبعده بأنّ النسق الأول في أية قيادة حاكمة عاجزة موضوعيّا عن قيادة عمل مقاوم فعّال بعد سقوطها ،لا بل تشكّل عبئا سياسيا وأمنيا عليها ،بينما تكون الأنساق الثالثة والرابعة أكثر جدارة في ذلك ، وكلّنا أمل وثقة بأن هذه المقاومة ستصمد وتتصاعد وتتوسّع على كامل الأرض العراقية ،لأنّها الخيار الحاسم والوحيد القادر على إجبار االقوات المحتلّة على الرحيل ... وإحباط ا لمخططات الأمريكية ...
موقف الإدارة الأمريكية ،وخططها في العراق : بعيدا عن الخطاب المتناقض أحيانا لمكوّنات الإدارة الأمريكية ،فإنّ الهدف الحقيقي لغزو العراق جاء واضحا على لسان /باول / أمام الكونغرس الأمريكي قبيل العدوان حين قال :" إنّ الهدف من احتلا ل العراق هو إعادة صياغة المنطقة بما يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية "،وهذا الهدف يصبّ في خدمة الهدف الاستراتيجي الأكبر الذي يتمثّل باستمرار الهيمنة الأمريكية على العالم ، والتفرّد بقيادته طيلة هذا القرن ،،،وما عدا ذلك ليس إلاّ تضليلا وغطاء وتبريرا للتنكّر الأمريكي للشرعية والقوانين والأعراف الدولية ، وحتى للدستور الأمريكي نفسه ..
- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل تسير الأمور بشكل مريح لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي ؟ والجواب بالطبع :لا ... فالمقاومة العراقية بشكل خاص وأساسي ، والرفض الشعبي من قبل الأكثرية الساحقة للشعب العراقي للإحتلال الأمريكي بشكل عام ، جعلت الأمريكان يدفعون فاتورة بشرية ومادّية وسياسية باهظة التكاليف لم تدخل في حسبانهم بهذا الشكل، وأحبطت الكثير من خططهم ، وجعلتهم يغوصون في حرب استنزاف مفتوحة على كل الاحتمالات ،فبالرغم من إبقائهم 130ألف جندي أمريكي فوق الأرض العراقية لتأمين وتثبيت الاحتلال ،واستنجادهم بعشرات الدول للمشاركة عسكريا ومادّيا في تحمّل أعباء الاحتلال ، فإنّهم عجزوا عن حسم الأمور بما يشتهون ،وخاصة أن الوقت أ خذ يحاصر الإدارة الأمريكية بسبب دخولها عام الانتخابات الرئاسية ، والتذمّر الشعبي الأمريكي ابتدأ يتزايد بسبب الخسائر الأمريكية البشرية والمادية ....ونتيجة لهذا كلّه فإنّ القرارات المتاحة ل /بوش / هي :
ا – زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق من أجل محاولة الإسراع في حسم الموقف هناك ، غير أنّ قرارا كهذا غير مضمون العواقب ، ويعني مزيدا من التورّط والاستنزاف، ومزيدا من الرفض الشعبي الأمريكي في عام مصيري ل /بوش / بسبب الانتخابات المقبلة ، ولذلك يصبح هذا القرار مستبعدا ...
ب – تسليم السلطة والسيادة للشعب العراقي والإنسحاب من العرا ق، والقول للعالم لقد(حرّرنا )العراق من نظام ديكتاتوري خطر ، وقبضنا على /صدّام/ ومساعديه الأساسيين ،،، ولكنّ مثل هذا القراريتناقض مع الأهدا ف الحقيقية لإحتلال العراق ، ويعتبر تراجعا خطيرا للمحافظين الجدد، وفي الوقت نفسه يشكّل نصرا للمقاومة العراقية ،يؤثّر سلبا على المخططات الأمريكية في المنطقة والعالم ، ولذلك يصبح مستبعدا أيضا ....
ج – إشراك واسع للأمم المتحدة في إدارة العرا ق مع تخويل / مجلس الحكم / صلاحيات اكبر ، وسحب قسم من القوات الأمريكية الى الولايات المتحدة الأمريكية ، وانكفاء المتبقي منها في المناطق الكردية في شمال العراق ، والى مقربة من الحدود الأردنية والكويتية ... وهدا القرار يخفّف خسائر القوات الأمريكية ، وفي الوقت نفسه يبقيها سيفا مسلّطا ومشرعا على رقاب الشعب العراقي ، وعاملا مؤثّرا على سير الأحداث في العراق،مع السعي الجاد لخلق وزرع الفتن الطائفية والعرقية ، ثمّ استثمار المتاعب والمضاعفات الداخلية لتصبح عودة الدور الأمريكي المباشر مطلبا شعبيا عراقيا ( وعربيا رسميا) وهذا القرار غير مستبعد ، ولكنّه غير مرجّح ...
د – استمرار الدور الأمريكي وفق آليته الراهنة مع تشديد قبضته الارهابية والإجرامية ، ومحاولة الاسراع في إيجاد أجهزة أمنية وعسكرية عراقية تخدم وتساند هذا الدور ،ممّا يخلق الظروف لتخفيف عدد القوات الأمريكية ، وإعادة قسم منها الى أمريكا في الصيف القادم بحيث تشكّل تلك العودة ورقة انتخابية ل/بوش/ وفي الوقت نفسه إيجاد مجلس وطني عراقي له صفة تمثيلية ما ،على غرار ما جرى ويجري في افغانستان تنبثق عنه حكومة عراقية ( مؤهّلة ) للإعترا ف الدولي، لتصبح قادرة على اتّخاذ القرارات السياسية والاقتصادبة والأمنية ،وبالتالي تصبح جاهزة لعقد وإبرام الاتغاقات والصفقات مع الحكومة الأمريكية في مجال الاقتصاد والأمن والدفاع بحيث تضمن( المصالح ) الأمريكية في قطاع النفط ،وإعادة الإعمار ،والتواجد العسكري الأمريكي الدائم في قواعد ثابتةفي العراق لآجال طويلة ، وتصبّ الدراسة التي أعدّتها وزارة الخارجية الأمريكية ووافق عليها البيت الأبيض ضمن هذا السياق ،حيث تنصّ تلك الدراسة "على أن يجرى في نيسان /أبريل / المقبل عرض 20 اسما من القيادات العراقية لاختيار أحدهم لرئاسة العراق على أن يتمّ هذا الاختيار بمعرفة البيت الأبيض والأمن القومي والخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية ، وأنّ الشخص الذي سيتمّ اختياره ستتم تهيئة المسرح في داخل العراق من أجل انتخابه رئيسا للبلاد كما سيجري اختيار ثلاث شخصيات من هذه القائمة لمناصب نائب رئيس الجمهورية ،ورئيس الوزراء ونائبه ، وأنّه مع بداية هذه المرحلة ستنتهي مهمة /بريمر/ في العراق لتبدأ مرحلة جديدة في البلاد " ... ولهذا كلّه يصبح الخبار الأخير هو القرار الأكثر احتمالا .
وعلى كل حال فإنّ الضغط المستمرّ والمتصاعد للمقاومة العراقية وللرفض الشعبي الواسع للإحنلال العامل الأهمّ في مضمون أيّ قرارتتّخذه الإدارة الأمريكية .
موقف الشيعة من المقاومة المسلّحة وآفاقه : كثرت أصوات الغيورين على مستقبل العراق وأمّته العربية ،والتي تطالب الشيعة بالانتقال من المقاومة السلمية للاحتلال الى المقاومة المسلّحة، وهذه الأصوات محقّة في مطالبتها ،ولكنّ البعض اقتنصها فرصة سانحة للغمز والهمز من موقف المرجعيات الدينية الشيعية خاصة ،والشيعة عامّة،والتهجّم عليهم بدوافع مذهبية وطائفية،مستخدمين أحيانا عبارات استفزازية تصبّ كمحصّلة في خدمة المخطط الأمريكي في العراق عن قصد أوجهل .. وهنا سأحاول جاهدا التعرّف على خلفيات ودوافع الموقف الشيعي كمساهمة متواضعة لإجلاء بعض أوجه الحقيقة،وتفسيرها دون تبريرها ...
ا – العوامل المحتملة لتأخّر الشيعة عن المساهمة الفعّالة في المقاومة المسلّحة:
- إنّ تاريخ الشيعة في العراق قديمه وحديثه مليء بالمعاناة والكوارث ، وقد ترك ربع القرن الأخير جروحا غائرة في نفوسهم نتيجة تصفيات مراجعهم الدينية، والقمع الدموي الذي تعرّضوا له ،وخاصّة أثناء قمع (الانتفاضة) في عام 1991 ،والتي تورّطت فيها جماهير غفيرة من الشيعة في الجنوب يتحريض ودفع من بعض العسكريين والسياسيين الشيعة في وقت يتعرّض فيه العراق الشقيق للعدوان الثلاثيني الغادر ،وهذا التوقيت يشكّل بحدّ ذاته خطأ كبيرا ، ولكنّ القمع الدموي الهستيري الذي جوبهت به فاق كلّ تصوّر ... وهذه الجروح الغائرة لايمكن أن تندمل بالسرعة التي يتوقّعها ،أو يرغبها البعض ،ولابدّ من مرور مزيد من الوقت ، أومزيد من المخاطر ،والظروف الصعبة الجديدة التي تنسيهم آلام تلك الجروح ... صحيح أنّ الاحتلال الأمريكي يعتبر كارثة كبرى بكل الأوجه والمفاهيم ،ولكنّ شعورهم بزوال (كابوس النظام) عن صدورهم ،وأوهامهم بالديمقراطية المستوردة عن طريق الأجنبي التي تجعلهم يلعبون دورا سياسيا بارزا في العراق ... هذا كلّه جعل قطاعات هامّة من جماهير الجنوب العراقي تعيش في نقطة التماس بين الواقع والخيال،بما يشبه انعدام الوزن السياسي ،وحسب تقديري أنّ الأشهر القليلة القادمة ستوقظ هؤلاء ليجدوا خيار المقاومة المسلّحة شاخصا أمام أعينهم لابديل عنه،ولابدّمنه للتحرير الحقيقي وطرد المحتلّ ....
ب – مضمون الموقف السياسي لمرجعيات الشيعة وبعض رموزهم السياسية :
- تلعب المرجعيات الدينية دورا هامّافي الحياة السياسية والاجتماعية للشيعة ،وقد قيل بأنّ هذه المرجعيّات درست الموقف من المقاومة ضدّ الأمريكان فقهيا، وخلصت الى أنّ الشعب العراقي قد عانى ربع قرن من ويلات الحروب ،وإنّ الخوض في حرب جديدة مع الأمريكان قد تكون ويلاتها أدهى وأمرّ ، وفي وقت لم يعدّ الشعب العراقي عدّته الكافية لخطوة خطيرة كهذه، وأنّ خيار المقاومة لم تستوف شروطه بعد، لأنّ المفهوم الإسلامي لإعلان الجهاد يتطلّب سلوك كافّة الطرق المتاحة الأخرى قبل إقراره ،واذا لم تفلح هذه الطرق يصبح خيارا شرعيّا ملزما ،ومن هنافإنّ مرجعية السيّد: السيستاني طالبت باعتماد مقولة : " إلزموهم بما ألزموا أنفسهم به " أي مطالبة الأمريكان بتنفيذ وعودهم بتحرير العراق وتطبيق الديمقراطية ، وفي الوقت نفسه اعتمدت المرجعية المقاومة السلمية ضدّ الاحتلال كخطوة أولى ، ومطالبة الأمم المتحدة بأن تقوم بدور فاعل في إدارة شؤون العراق على طريق استعادة سلطته وسيادته بأقصر الآجال من خلال انتخابات شعبية ديمقراطية ،وهم يرون أنّ أغلبيتهم العددية ستوصلهم الى المشاركة الفعّالة في حكم العراق عن طريق الديمقراطية ،بعد أن همّشوا في الماضي، "فالمعروف أنّ ثلاثا وسبعين وزارة تشكّلت منذ قيام العراق الحديث ،توالى على رئاستها 31 رئيسا لم يكن للشيعة منها سوى خمس ،وطوال 45 عاما من الحكم الجمهوري فلم يتسلّم رئاسة الوزراء إلاّ شيعيّ واحد ،ولتسعة أشهر فقط ،ولم تقم إعادة تكليف أيّ من هؤلاء الخمسة بتشكيل وزارة ثانية ، بينما أعيد تكليف نوري السعيد على سبيل المثال :
14 مرّة، وجميل المدفع ي7مرّات ".:( من مقال علي السعدي في جريدة السفير اللبنانبة يتاريخ 30/12/2003 ) .
- لا استبعدأن تكون ديون العراق ال /127/ ملياردولار ، والتعويضات المفروضة عليه ال/199 /ملياردولار ، ومئات المليارات الأخرى اللازمة لإعادة إعمار البنية التحتية المدمّرة ،قد شكّلت ورقة ضاغطة على خيارات قادة الشيعة والآخرين من قادة العراق الذين يرون أنفسهم حكّام العراق المحتملين ، باعتبار أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال هيمنتها الراهنة على العالم هي الجهة الوحيدة القادرة على إلزام أطراف الديون والتعويضات بالتخلّي عن الجانب الأساسي منها ، وبالمساهمة في إعادة ما دمّرته الحرب العدوانية ،وقد باشرت في هذا الاتّجاه من خلال تعيين وزيرا لخارجية الأمريكية السابق/بيكر/ لتنفيذ هذه المهمة ... ولكن هنا يتساءل المرء : هل ا لخطوة الأمريكية هذه لوجه الله ،وإكراما لشعب العراق و مستقبله ؟ '( والجواب بالطبع : لا )، أم بمثابة من يريد تسمين بقرة ليتمكّن من استغلال حليبها وعجولها ؟ فبدون تخفيض الديون أو إلغائها ، وشطب التعويضات ، لايمكن لاقتصاد العراق أن ينهض لعقود من الزمن ، وبالتالي سيكون انتاج النفط العراقي رهينة لهذا الغرض لآجال طويلة ، وبذلك يصبح العراق غير صالح للاستغلال والنهب من قبل الشركات الأمريكية ، وفي الوقت نفسه يشكّل عبئا ماذّيا على إدارة الاحتلال ويودي بأحد أركان وأهداف الاحتلال الأمريكي للعراق ....
ج – لم يتعرّض الجنوب لعمليات القهر والإذلال والإرهاب التي تعرّض لها وسط العراق ، بسبب ملاحقة رموز وبقايا أجهزة النظام السابق التي تنتمي بمعظمها الى هذه المنطقة ،كما أنّ إدارة الاحتلال حصرت هذه المهمّة بالقوات الأمريكية المشبعة غطرسة وغرورا ، والمنفلتة من عقالها دون رادع قانوني أو أخلاقي يلجمها، إضافة الى اعتماد النهج الاسرائيلي في إرها ب المواطنين وإذلالهم ،بينما كلّفت القوات البريطانية ذات الخبرة الاستعمارية الطويلة الخبيثة،في مناطق الجنو ب، ومعها القوات متعددة الجنسيات ،والمشكّلة من 34دولة حتى الآن ، ويأعداد قليلة تتراوح مابين 150- 1500 جندي لكل منها ، ونتيجة لضعف عددها ،وقدومها لتنفيذ مهمات سخرة لصالح الأمريكان ،وعدم إيمانها بالحافز على المواجهة والقتال جعلها هذا كلّه تحاول كسب ودّ الشيعة ،والسعي للتقرّب منهم ،ومن جهة أخرى ،فحسب تقديري أنّ المخطط الأمريكي اعتمد نهج تأجيل المواجهة مع الشيعة في الجنوب حتى يتمّ القضاء على مقاومة الوسط ،وعندئذ تحشد امكاناتها مجتمعة مع قوات حلفائهالتصفية الحساب هناك ، وضمن هذا السياق نفهم سياسة النفس الطويل التي اتبعتها إدارة الاحتلال مع جماعة /مقتدى الصدر/في بغداد وكربلاء والنجف ، بالرغم من أعمال ( الشغب ) والاستفزاز التي نفّذتها ضد القوات الأمريكية المحتلة ...
د – لايوجد في الجنوب كميات من السلاح والذخيرة المخبّأة بشكل مخطط مسبقا كما هوفي الوسط،مع العلم أنّ السلاح أصبح متوفّرا بحدوده الدنيا في كلّ مكان من الأرض العراقية ،كما لم يتوفّرالقدر الكافي من المال كما هو الحال في الوسط ، وهذان العاملان : السلاح والتمويل عنصران هامّان في توفير شروط المقاومة . ومن جهة أخرى ،فإنّ بقاء /صدّام/ طليقا طيلة أشهر عديدة ، وصدور بياناته المتتالية ،وغياب برنامج سياسي واضح للمقاومة الراهنة شكّل عامل (فرملة) لانطلاق مقاومة فعّالة في الجنوب ، لأنّ قسما من الجماهير هناك كانت تخشى عودته ، ولذلك لا ترغب في تجيير نضالها وتضحياتها لصالحه ...يضاف الى هذا كلّه إدخال موضوع ( المقابر الجماعية ) ضمن دائرة الحرب النفسية والحملة الإعلامية الأمريكية كان يستهدف إلهاء جماهير الجنوب بمشاكل وأمور جانبية تمسّ مشاعرهم الإنسانية والعاطفية الخاصة ،وحقنها بجرعات كره جديدة ضدّ النظام السايق ..
ه – السياسة الإعلامية العربية والدولية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية ، والتي ركّزت على تقديم صورة وسط عراقي مقاوم ،وجنوب (مسالم ومتعاون )من أجل إشعار مناضلي الوسط بعزلتهم المحلية والدولية ... كما أظهرت وكأنّ الوسط خال من الشيعة ،والجنوب خال من السنّة بينما الواقع يشير الى وجود (أقلية ) شيعية في الوسط ،ويوجد بين صفوفها مقاومون ومعتقلون ،فعلى سبيل المثال: أهمّ رجل دين شيعي في /بعقوبة/ معتقل لدى القوات الأمريكية ،كما أنّ أماكن شيعية مقّدّسة تعرّضت للأذى في سامراء ،والشمال العراقي ،وفي الوقت نفسه يوجد في البصرة عشائر سنيّة ذات نفوذ معتبر ، ولم تحمل السلاح كما حمل الوسط ، وبقيت خطواتها متناسقة مع محيط الجنوب ... وعلى كلّ حال فلقد جرت مجموعة من العمليات الهامّة والفعّالة في الجنوب مثل: مهاجمة مقرّ قيادة القوات الإيطالية وتدميرها في الناصرية ،وتدمير دورية بريطانية وأعمال منعزلة أخرى ضدّ القوات البريطانية في البصرة ،ومهاجمة القوات البلغارية في كربلاء ، وقتل مجموعة من ضبّاط المخابرات الإسبان بالقرب من الحلّة ، وما جرى مؤخّرا في / الكوت /من مواجهة دامية بين المتظاهرين والقوات الاوكرانية ...الخ فالشيعة ليسوا ملتزمين مائة في المائة برأي المرجعيات، حيث توجد عناصر منهم تنتمي الى حزب اليعث ، واحزاب وطنية وقومية ويسارية أخرى ، وتتلقّى توجيهاتها وأوامرها من قادة أحزابها ... هذا وقد انبرى أحد رجال الدين المحسوبين على مجموعة مقتدى الصدر غاضبا على شاشة إحدى الفضائيات العربية بسبب الطمس والتغييب المتعمّد للدور الشيعي المقاوم ...
و –العوامل التي تساعد على دفع الشيعة نحو خيار المقاومة المسلّحة :
- فرض حكومة عراقية ا نتقالية تخدم المصالح المريكية وخارج الأطر الديمقراطية لتسلّم السلطة والسيادة من الأمريكان ،بدلا من انتخابها من ممثلي الشعب العراقي ،وهذا يعني بالنسبة للشيعة نكوص واضح للإدارة الأمريكية عن وعودها بخصوص الديمقراطية في العراق ،وخلق العراقيل لإبعاد الشيعة عن دور فاعل مستقلّ في العراق يتناسب مع عددهم ، وتصميم أمريكي على تسليم عملائها وأتباعها مقاليد الحكم بأسلوب غير شرعي ولاديمقراطي ، كمدخل ومقدّمة لإبرام اتفاقات أمريكية – عراقية مجحفة ،وضارّة بالمصالح الوطنية العراقية ...
- وضع دستور عراقي يعتمد القيم الغربية المنافية للقيم الإسلامية ، وعدم اتباع الطرق الديمقراطية في صياغته والتصديق عليه ...
- خصخصة النفط العراقي لصالح الشركات الأمريكية ،وهذا يعتبر خطّا أحمر لايمكن أن تقبل به المرجعيات الشيعية ، أو أيّ عراقي آخر فيه ذرّة من الوطنية والكرامة ...
- إطالة أمد التواجد الأمريكي في العراق والإصرارعلى إقامة قواعد أمريكية فوق أرضه ... أو محاولة تقسيمه .
- تفاقم التغلغل الإسرائيلي في العراق ،والاعتراف العراقي بالكيان الصهيوني ، وإقامة علاقات دبلوماسية معه، وتزويده بالنفط ...
- إحراز المقاومة المسلحة في وسط العراق نجاحات ملموسة ضدّقوات الاحتلال الأمريكي ، وفي هذه الحالة سينفلت عقال الجماهير الشيعية ، ولربّما الكردية أيضا من أيّة قيود مذهبية أوطائفية أوقومية وسياسية من أجل المشاركة الواسعة في الكفاح المسلّح ، وعندئذ ستعمّ المقاومة الأرض العراقية ، وتدّعم بزخم شعبي مكثّف قادر على تحرير العراق من الاحتلال ...
وأخيرا نستطيع القول : إنّ كلّ الدلائل تشير الى أنّ المقاومة المسلّحة في الجنوب قادمة ن فالعوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية والخدماتية والنفسية تتفاعل بسرعة في فترة مابعد اعتقال صدّام ، وما تشبّث ا/السيستاني / بموقفه ،وإصراره على ضرورة إجراء انتخابات شعبية لاختيارممثليه في الجلس الوطني القادم ،وكلامه مع رؤساء عشائر السماوة والرميثة الذين قابلوه إلاّ مقدّمات وتعبيرات عن نهج المرجعية التي تسير على طريق تحضير الجنوب للانتقال الى مقاومة أكثر فعاليّة ضدّ الاحتلال ، وممّا قاله لهم :" إنّ السلطة لكم وليس لمن جاء من الخارج ... يجب أن تكون السلطة أنتم ، والمجلس المقبل يجب أن يكون مؤلّفا من أبناء الشعب المنتخب "... وتابع قائلا :" إنّ ثوّار ثورة العشرين ثاروا ضدّ المحتلّ الانكليزي ، نريدكم ثوّارا كما كنتم ، نريد السيادة لكم ، ونحن في خدمتكم ،وخدمة جميع أبناء الشعب العراقي صاحب التاريخ الناصع والمجد الكبير ، ويجب أن يكون لكم الدور الكبير اليوم كما كان لكم الدور في ثورة العشرين .." هذا مع العلم أنّ مضمون الاتفاق بين إدارة الاحتلال ومجلس الحكم حول انتقال السلطة الموقّع في 15 /11 /2003 يعتبر تحايلا على الديمقراطية يستهدف التغطية على الدور الأمريكي في اختيار أعضاء المجلس الوطني الجديد ، إذ ينص على تشكيل لجنة مكوّنة من 15 عضوا في كل محافظة مهمتها اختيار مندوبي المحافظة ، على أن يختار المجلس البلدي المعيّن من قبل إدارة الاحتلال خمسة أعضاء من هذه اللجنة ، ويعيّن مجلس الحكم خمسة آخرين ، وتعيّن إدارة الاحتلال بالتسيق مع مجلس الحكم الخمسة المتبقين ، كما اشترط الاتفاق على ضرورة حصول كل عضومترشّح الى المجلس الوطني على 11 صوتا من أعضاء اللجنة المعيّنة في كل محافظة ، وبمعنى آخر أنّ كل خمسة أعضاء من هذه اللجنة قادرون على إستبعاد أي مترشح ولو حصل على عشرة أصوات من أعضاء اللجنة ، وبذلك تتمكّن إدارة الاحتلال من غربلة المترشحين وقطع الطريق على أي شخص لاتريده ، وذلك عن طريق الدائرة المغلقة من التعيينات التي خلقتها في المحافظات ومجلس الحكم ...
-وعلى كلّ حال : فإن الواجب الوطني والقومي ، والوعي السياسي يفرضان على كل مخلص أن بنظر الى لوحة المقاومة السلمية للاحتلال ، والمقاومة المسلّحة له بمنظار التكامل ، وأن يسعى صادقا من أجل تعميق الوحدة الوطنية ،ورصّ الصفوف من أجل استكمال اللوحة النضالية على كامل التراب العراقي ضدّ الاحتلال ، لا أن ينظر اليها بمنظار التناقض التناحري الذي يصبّ في خدمة المحتّل واستمرار وجوده فوق الأرض العراقية ، فهامش مناورة هذا المحتّل قد ضاقت كثيرا ، وأهدافه الحقيقية من العدوان على العراق واحتلاله ستظهرها الأيام القادمة القريبة واضحة وضوح الشمس لكلّ ذي بصيرة ، ممّا يزيل أيّة غشاوة عن أعين البعض ، ويسرّع في انتشار المقاومة المسلّحة ( قبل فوات الأوان ) في جنوب العراق وشماله ، فتصعيد المقاومة وشموليتها هما الوسيلتان الأساسيتان القادرتان على إجبار الأمريكان على التخلّي عن أطماعهم الاستعمارية ، والتفتيش عن وسائل وطرق للانسحاب من العراق قبل أن يتلقّنوا دروس فيتنام جديد أكثر إيلاما ....
- والنصر دائما حليف الشعوب المكافحة الصابرة .