أضواء على " وثيقة إعلان القاهرة "
الصادرة عن مؤتمر الحوار الفلسطيني
* بقلم : محمود جديد
- إنّ الفراغ الكبير الذي تركه الشهيد / أبو عمّار / ، وملئه بقيادة فلسطينية لها خيارات واضحة تعتمد (التسوية) مع الكيان الإسرائيلي كطريق (وحيد لابديل عنه) ،والاستهداف الأمريكي المباشر للوطن العربي باحتلالها العراق ، والتدخّل السافر والوقح في الشؤون الداخلية العربية ، وخاصة في السودان ولبنان ، ومحاولة إعادة صياغة المنطقة وفق مشيئتها وإرادتها ، والمعاناة الطويلة والمريرة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ...هذا كلّه شكّل عامل ضغط على فصائل انتفاضة الأقصى كي تقبل بالموافقة على التهدئة مع ( إسرائيل) ، ولكنّ هذا القرار ، وما يحيط به من مخاطر ، جاء في وقت حافظت فيه المقاومة الفلسطينية البطلة على توازنها الكفاحي ، وأحبطت الرغبة الإسرائيلية الجامحة في كسر إرادتها النضالية في التصدّي للاحتلال بعد حوالي أربع سنوات ونصف من الكفاح الشاق ،ممّا أعطاها حصانة من التفريط بالحقوق ، وثقة بالنفس وبخياراتها السياسية والنضالية المستقبلية ، وجرأة على القبول بالموافقة على التهدئة دون التنازل عن سلاحها ، وعن حقها المشروع في استئناف مقاومتها المسلّحة للدفاع عن القضية والحقوق ، وهذا ما ماتجسّد في نصّ وثيقة إعلان القاهرة التي جاءت تتويجاً لمؤتمر الحوار الفلسطيني الذي انعقد في القاهرة ما بين 15-17 /3 /2005 وبمشاركة الرئيس الفلسطيني وحضور اثني عشر تنظيما وفصيلاً ...
- جاء في مقدّمة القرارات والتفاهمات :" تأكيد المجتمعين على التمسك بالثوابت الفلسطينية دون أي تفريط ، وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة من أجل إنهاء الاحتلال ،وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة ، وعاصمتها القدس ، وضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاهم " . وهذا التأكيد يعتبر دفة السفينة وبوصلتها التي تمنع السلطة الفلسطينية من الذهاب بعيداً في حلول لاتضمن هذه الحقوق ، كما يشكّل مرجعية وطنية تصون المسيرة الفلسطينية من الشطط والانحراف ، ويُعتبر مبرّرا وغطاء لفصائل الانتفاضة المكافحة لقبولها مبدأ التهدئة ، أو الوصول إلى اتفاقات أخرى لاحقة ...
- واستناداً إلى ما جاء في الفقرة السابقة جاءت موافقة مؤتمر الحوار على تمديد التهدئة لنهاية عام 2005 كما ورد في الوثيقة " مقابل التزام (إسرائيلي ) متبادل ، والتوقف عن كلّ أشكال العدوان على أرضنا وشعبنا الفلسطيني أينما وُجِد ، وكذلك الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين " . وهنا نلحظ ثمار صمود وتضحيات الانتفاضة التي جنّبت المؤتمرين من تقديم تنازلات مجانية للكيان الإسرائيلي كما حاول فعله الملك الأردني في مبادرته إلى مؤتمر القمة العربية الأخير ، وفي الوقت نفسه ستكشف النوايا والمخططات الإسرائيلية على ضوء ممارساتها العدوانية التي أدمنت عليها في الساحة الفلسطينية ، وستجعل عودة الصراع المسلّح محتملاً في كل حين مستقبلاً ...
- وأشارت الوثيقة إلى تأكيد المجتمعين على " أنّ استمرار الاستيطان ، وبناء الجدار، وتهويد القدس الشرقية هي عوامل تفجير " .. وهنا نلمس الصيغة التوفيقية بين خطي (التسوية) والكفاح في المؤتمر ، لأنّه حسب تصوّري أنّ فصائل المقاومة كانت تريد أن تكون هذه المواضيع جزءاً من الشروط السابقة ، ولكنّ الرئيس الفلسطيني ، والجانب المصري ، وربّما أطراف فلسطينية أخرى حاولت تخفيض سقف الشروط ، واللجوء إلى صياغة عامّة غير ملزمة (لإسرائيل) حتى تضمن حدّاً أدنى من الرضا الأمريكي والإسرائيلي على مقررات المؤتمر ...
- أمّا القسم الثاني من الوثيقة فقد عالجت الشؤون الداخلية الفلسطينية في الضفة والقطاع ، وتمّ الاتفاق على:" ضرورة استكمال الإصلاحات الشاملة في كافة المجالات ، ودعم الديمقراطية بجوانبها المختلفة ،وعقد الانتخابات المحلية والتشريعية في توقيتاتها المحدّدة وفقاً لنظام انتخابي يتمّ التوافق عليه ، كما يوصي المؤتمر المجلس التشريعي باتخاذ الإجراءات لتعديل قانون الانتخابات التشريعية باعتماد المناصصة في النظام المختلط بتعديل قانون الانتخابات للمجالس المحلية باعتماد التمثيل النسبي ." وهنا نلاحظ ربط مسيرة الإصلاح بالانتخابات المحلية والتشريعية وفق الرزنامة المحدّدة لها ، هذه الانتخابات التي مهّد لها انتخاب الرئيس الفلسطيني ، والانتخابات البلدية في الضفة وشمال قطاع غزّة ، وتبلور رغبة شعبية أكيدة في حجب قطاعات هامّة من الجماهير الفلسطينية ثقتها التقليدية المعروفة لحركة فتح باعتبارها الفصيل الأساسي الذي قاد النضال الفلسطيني منذ بداية عام 1965 ،وذلك بسبب الفساد الذي استشرى في بعض هياكلها العليا وأجهزتها الأمنية والإدارية ، ولذلك فإنّ الإشارة إلى التقيّد بتوقيتاتها رغبة من بعض الفصائل ،وخاصة حركة حماس بقطع الطريق على السلطة الفلسطينية التملّص من استحقاقاتها المستقبلية المحتملة المؤلمة لحركة فتح عن طريق تأجيلها ،أو إلغائها ، لأنّ نتائج الانتخابات البلدية أحدثت صدمة عميقة الأثر في نفوس مناضلي فتح من خلال حرصهم على استمرار ريادة وقيادة النضال الفلسطيني،ممّا أدّى إلى صراعات داخل صفوفها نتمنّى أن تُُحَل بطريقة ديمقراطية رفاقية ، لأنّ أيّ خلل تتعرّض له فتح ينعكس سلباً على مجمل المسيرة الفلسطينية ، ودروس وعبر الانشقاقات السابقة لاتزال ماثلة في الأذهان ، كما أنّ القبول بإجراء إصلاحات في النظام الانتخابي هو تعبير إيجابي عن إرادة السلطة الفلسطينية في تجاوز كل العقبات التي تعترض المسيرة الديمقراطية الفلسطينية في المستقبل ...
- إنّ مركزية ووحدة القرار الفلسطيني خطوة لاغنى عنها لتجسيد وحدة فلسطينية قادرة على رسم وتحديد الأهداف الفلسطينية التي يسعى الشعب الفلسطيني وقواه الحية إلى تحقيقها ، واختيار الأشكال والأساليب المناسبة لذلك ، وتعتبر منظمة التحرير الفلسطينية المؤسسة الفلسطينية العليا القادرة على رسم إستراتيجية الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه ، وقيادته داخل فلسطين، وفي الشتات ، غير أنّ وفاة عدد من أعضائها ،وشيخوختها ، وتغييب دورها في المنعطفات الهامة ، جعل إعادة ترميمها ، وتوسيعها وتفعيلها مطلباً وطنياً ملحّاً لابدّ منه ، ولكن يُلاحَظ أنّ المؤتمر اكتفى بتعيين أسس اللجنة المكلّفة بمتابعة هذا الملف ، وترك دعوتها للعمل بيد رئيس م.ت.ف دون تحديد أيّة توقيتات لذلك ، وهذا يعني أنّ هذا الموضوع لم يُتَح له الوقت الكافي للمتابعة ، ولم يُولَ بالأهمية المطلوبة بالرغم من ضرورته ، كما لم تتم الإشارة إلى التسريع بعقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني ، ويبدو أنّ هذه الخطوة ستتم بعد الانتهاء من عمل اللجنة المقترحة لتطوير م.ت.ف ، وتوسيع المشاركة في مؤسساتها ، وبعد إجراء الانتخابات التشريعية .
- أجمع المشاركون على :" أنّ الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين كافة القوى دعماً للوحدة الوطنية ، ووحدة الصف الوطني على تحريم الاحتكام للسلاح في الخلافات الداخلية ، واحترام حقوق المواطن الفلسطيني وعدم المساس بها ،وأنّ استكمال الحوار في المرحلة المقبلة يُعَدّ ضرورة أساسية نحو جمع الكلمة وصيانة الحقوق الفلسطينية ." وهنا نلاحظ الرغبة الجامحة والواعية من قبل الجميع لحماية وصيانة الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتماد الحوار ، والتعامل بشكل حضاري بين مختلف تنظيمات ومكوّنات الشعب الفلسطيني ،ممّا يقطع الطريق على الكيان الصهيوني لزرع بذور الفتنة بين صفوف الشعب الفلسطيني ، وإهدار طاقاته النضالية الخلاّقة في مسارب جانبية مهلكة ...
- وعلى كلّ حال ، فإنّ "وثيقة إعلان القاهرة " المنبثقة عن مؤتمر الحوار الفلسطيني شكّلت ميثاقاً مصغراً نأمل أن يضمن ضبط وترشيد المسيرة الفلسطينية ، ولم يكن ممكناً الحصول على سقف أعلى ، أو أفضل ممّا تحقق ، إذا أخذنا بعين الاعتبار مجمل الظروف الذاتية والموضوعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني ، أو تحيط به ، والأمل يبقى معقوداً على الالتزام بما تمّ الاتفاق عليه ، وتنفيذه ، وعلى عدم التفريط بسلاح المقاومة مهما تعاظمت الضغوط والابتزازات الإسرائيلية والدولية لأنّه الأداة الوحيدة المضمونة لاسترجاع الحقوق والدفاع عنها .....
كاتب سوري*