مقابلة الشرع مع "الأخبار" اللبنانية / قراءة في النص والخلفية


محمود جديد


- كثرت الأقاويل والإشاعات ، والتكهّنات في الأشهر السابقة حول موقف السيّد فاروق الشرع ، وخياراته ومصيره والدور الذي يمكن أن يلعبه في المرحلة الانتقالية ، وقد ساعد غيابه عن الساحة سياسيّاً وإعلاميّاً على خلق تلك الأجواء. وعندما استطاع إبراهيم الأمين ( الأخبار اللبنانية ) إنجاز هذا السبق الصحفي ( سواء بمبادرة منه أم بإيحاء من جهة سورية رسميّة أو لبنانية ) حظيت هذه المقابلة باهتمام واسع على مختلف الأصعدة ، لآنٍّ الشرع تعرّض لمسائل حسّاسة كان من الصعب تصوّر الخوض فيها في السابق ، وبالصراحة والوضوح التي اتّسمت بها ، وسواء جاءت برغبة ذاتية منه ، أم بقرار وتكليف من جهة أخرى. لقد وجدت من المفيد تقديم قراءة سياسيّة موضوعية لما ورد فيها وفق تسلسل عرضها ، والخروج بالملاحظات والاستنتاجات التالية :
١ - بدّدت هذه المقابلة كافّة الإشاعات والأقاويل السابقة حول مصير الشرع ، وظروف إقامته ، وموقفه السياسي الراهن ...وأنا لعلى ثقة بأنّ الأفكار التي عبّر عنها تنسجم مع شخصيته وتكوينه السياسي ، بغضّ النظر عن الظروف والملابسات التي أحاطت بها ، وبأنّه نأى بنفسه عن أيّة أفكار تتناقض مع قناعته الحقيقية ، وهدفه الذاتي الأساسي هو التعبير عن رؤاه السياسية التي يؤمن بها . اقول ذلك لكي أزيل أ يّ التباس قد يحصل عند تسجيل ملاحظاتي الخاصة اللاحقة .
٢ - إنّ المقابلة لم تُجرَ خلسة ، أو صدفة ، وإجراؤها في ظلّ الظروف الراهنة يحتاج أوّلاً رغبة الشرع بذلك ، سواء بإحدى وسائط الاتصال ، أم عن طريق وسيط ثالث ، وهذا لن يتمّ من الناحية الإجرائية دون موافقة الأجهزة الأمنية لتأمين وصول / الأمين / إلى مكان إقامته . وفي الوقت نفسه ، فإنّ هذه الأجهزة تحتاج إلى موافقة من القصر الجمهوري . ومن جهة أخرى فإنّ الشرع نفسه لن يجريها في ظل المعطيات القائمة دون موافقة رئيس الجمهورية ، وخاصّة ، أنّها جاءت قبيل زيارة الإبراهيمي المنتظرة لدمشق ...واهتمامي بالشكل هذا يوصلني إلى القول : إنّها جاءت ضمن سياق أمني وسياسي يهدف التعبير عن أفكار سياسية جديدة وواضحة من شخصية سياسية بارزة كالشرع تعطي مؤشّراً بوجود انعطاف سياسي جديد لدى النظام السوري يمهّد الطريق للشعب السوري نفسيّاً وسياسيّاً وإعلاميّاً للتكيّف والتلاؤم مع المشروع الأوّلي الذي يحمله الإبراهيمي ، ومن ثمّ القول : إنّ النظام السوري طرح هذه الأفكار قبل قدومه ، وليس إملاءً من أحد ، أو تحت الضغط والعصر ...وهذا نهج موروث من عهد الأسد الأب ، وقد خبره الشرع جيّداً من خلال مواكبته الطويلة لهذا النظام ..
٣ - أراد الشرع الإشارة إلى ثبات موقفه السياسي تجاه المقاومة اللبنانية ، وحلفاء سورية الإقليميين والدوليين ، حتى يقطع الطريق على أيّة جهة يمكن أنْ تصنّفه مع أمريكا وحلفائها ، وأتباعها، وخاصة تلك التي تستخدم هذه التهمة من ردّاحي النظام الغارقة في التعصّب الذي يعميها عن رؤية الحقيقة كما هي... ، كما أكّد على أنّه لا يطمح بمكسب أو منصب ، ولا يحتاج إلى المزيد ممّا حقّقه في مشواره السياسي ، وإنّ موقفه تعبير صادق عن انحيازه لمصلحة الوطن ، وللوطن فقط ، وعن التزامه الوظيفي والأخلاقي بعمله دون تجاوز أحد ، أو التفكير أنْ يكون بديلاً عن أحد ...
٤ - عرض صورة ما جرى ويجري بشكل موضوعي ، وأقرّ بأنّ الأمور تسير من سيّئ إلى أسوأ ، وأصبحت المهمة الأساسيّة هي الدفاع عن وجود سورية ، ولذلك يرغب بالإسراع في إيجاد حلول قبل فوات الأوان " لأنّ الأمور تتحرّك على الأرض بتسارع وعنف " ... وهذا يعني ترحيبه بشكل غير مباشر بالمبادرة السياسية القادمة واستعجالاً لها ، وهو إذ يتكلّم باسمه الشخصي إنّما يعبّر في الجوهر عن توجّه جديد في النظام طفا على السطح تحت ضغط الأحداث وتطوّراتها ، وآفاقها المسدودة ، وأفضل منْ يعبّر عنه هو نائب الرئيس...
٥ - أراد الشرع إبراز نأيه بنفسه عن تحمل مسؤوليّة ما جرى ويجري وحصرها في شخص بشّار الأسد ، " إنّه يملك في يديه كلّ مقاليد الأمور في البلد " . وألقى الضوء على موقفه " ورغبته بحسم الأمور عسكريّاً حتى تحقيق النصر النهائي وعندها يصبح الحوار السياسي ممكناً على أرض الواقع " وهو توصيف صحيح للواقع القائم ، وإشارة إلى أنّ بشّار الأسد ليس ضد الحوار بالمطلق .. ولا أعتقد أنّ الشرع المنضبط حزبيّاً وسياسيّاً يمكن أنْ يبرز هذه الصورة الحقيقية بدون ضوء أخضر من بشار الأسد نفسه بهدف الإشارة إلى وجود خيارات أخرى إذا لم يتبلور حلّ سياسي مقبول من قبله ، وبوجوده ...ولو كانت نواياه غير ذلك لقدّم استقالته وجلس في منزله ، وتحمّل نتائج هذا الموقف ، لأنّه ليس من الصنف الذي يرتمي بأحضان أمراء النفط .
٦ - يقول الشرع : " كثيرون في الحزب والجبهة والقوّات المسلّحة يعتقدون منذ بداية الأزمة وحتّى الآن أن لا بديل عن الحلّ السياسي ، ولا عودة إلى الوراء " . وهذا دليل أكيد على وجود تيّارين داخل النظام : الأوّل متشدّد ، وهو المسؤول عن القرارات الأمنية التي طُبّقَت خلال الفترة السابقة ، وتيّار آخر مؤمن بالحل السياسي ، والشرع بالطبع من ضمن هذا التيّار ، وما أورده ما كان قادراً على ذكره في الماضي لولا رجحان كفّة التيّار الثاني ، أو على الأقلّ لأنّ التيّار الأول أصبح ضعيفاً بعد فشله في تحقيق الأهداف التي ابتغاها من خياراته الخاطئة . وهذا الوضع المستجدّ قد يُترجَم لاحقاً بإجراء تغييرات داخل النظام تعبّر عن هذا الواقع ، وقد تظهر ملامح خطوة من هذا القبيل بعد زيارة الإبراهيمي المرتقبة ، وذلك من أجل التلاؤم مع الظروف الداخلية والخارجية الجديدة ...
٧ - يرى الشرع : " أنّ الحلّ لا يكون واقعيّاً إلّا إذا بدأمن أعلى المستويات " نظراً للصلاحيات الواسعة التي يتمتع بهاالرئيس ، وبالتأكيد لا يقصد إزاحته ، وإنّما لإبراز أهمية دوره في تنفيذ الحلّ ، ولهيمنته على الأجهزة العسكرية و الإدارية والتنفيذية والقضائية لضمان تنفيذ ما يُطلَب منها في الوقت المناسب ، وعدم عرقلته .
٨ - يعترف الشرع بعدم وجود طرف واحد يدّعي تمثيل الشعب لوحده " وبعجز حزب البعث الحاكم عن إحداث التغيير والتطوّر من دون شركاء جدد " ، وبأنّ فقدان الثقة بين النظام والمعارضة تجعل استحالة إجراء حوار مباشر ... وحسب تقديري : إنّ هذا الاعتراف هو إقرار ضمني بقبول التدخّل الدولي(روسيا - أمريكا)لجمع الطرفين ، ووضع الحلول المعقولة بعد أنْ كان النظام يرفض مثل هذا المنطق مرتكزاً على مبدأ احترام السيادة الوطنية ، وهذا من جهة أخرى ، تبرير لإشراك المعارضة الداخلية والخارجية بالحوار الوطني وتقاسم السلطة معها ، والتخلّي عن مقولة " شرعية النظام " التي أفرزتها الانتخابات التشريعية والرئاسية ، هذه الشعارات التي كانت أبواق النظام تردّدها في الماضي لتبرير تعنّت النظام وطغيانه ...
٩ - حاول إثبات براءته من مسؤولية فشل الحوار الذي كُلّف بإدارته في تموز ٢٠١١ ، وبأنّه كان جادّا بذلك ، ويلقي باللوم على طرف من النظام أوحى للقيادة بعدم لزومه ممّا جعلها تتنصّل منه ... كما حاول إبراز "مكانة ووحدة الجيش السوري والتي لا غنى عنهما في أيّة حلول وحوارات سياسية مطروحة ." وهذا ردّ على المطالبين بتسريح الجيش وبناء جيش جديد عماده ( الجيش السوري الحرّ) ، أو على المراهنين على تفكّك الجيش والمشكّكين بدوره وأهميته كحام ي وضامن داخلي للحلّ ...
١٠ - يحدّد الشرع رؤيته للحل بقوله :" الحلّ يجب أنْ يكون سوريّاً ولكن من خلال تسوية تاريخية تشمل الدول الإقليمية الأساسية ، ودول أعضاء مجلس الأمن . هذه التسوية لا بدّ أن تتضمّن : أوّلاً - وقف إطلاق النار بشكل متزامن وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة .وهذا يجب أنْ يترافق مع معالجة الملفّات العالقة المتصلة بحياة الناس ومطالبهم المحقّة ". إنّ هذه الرؤية السياسية للحلّ صحيحة وأكثر تقدّماً ووضوحاً من أيّة رؤية صدرت من مسؤول سوري ، وهي تتقاطع مع خطة عنان واتفاق جنيف ، وما رشح عن الإبراهيمي من تصريحات ، وهي ستزعج الموالين المتحجّرين الذين لا زالوا يعيشون في عالم ما قبل الانتفاضة ، كما ستزعج وتربك المتطرّفين من المعارضة في الداخل ، وفرسان الأنترنيت والشاشات الفضائية المزاودين والمتعطشين للكرسي ، والشجعان في خوض المعارك عن بعد ... ولكنّ هذه الرؤية ناقصة لأنّها لم تشر إلى مرحلة انتقالية تُتوّج بانتخابات تشريعية ورئاسية ، وإعادة النظر بالدستور وقانوني : الأحزاب والانتخابات . وربّما تقصّد الشرع من عدم ذكرها ليتجنّب التأويلات والاتهامات ، والتفسيرات الخاطئة ، وفضّل ترك هذه المسألة لتأتي في سياقها الطبيعي ضمن اتفاق جنيف ، وخطة الإبراهيمي المنتظرة ... هذا ولم يغفل الأسباب الموجبة للتسوية التاريخية التي ختم المقابلة بها والمنطلقة من إيمانه بأنّ " المشكلة تكبر وتتعمّق عندما يعتقد البعض أنّ الحسم أو الكسر ممكن . ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ بإمكان كلّ هذه المعارضات أنْ تحسم المعركة على أساس إسقاط النظام .... ولا أرى أنّ ما تقوم به قوّات الأمن ووحدات الجيش سيحقّق حسماً ، سيّما أنّنا ندرك من دون أيّة أوهام خطورة العمل الجاري الذي يستهدف تدمير سورية : تاريخاً وحضارة وشعباً ." وينهي المقابلة بتزكية مهمّة الإبراهيمي ومبادرة جنيف واعتبرهما أساساً صالحاً للتسوية ، وهذه التزكية ليست مطلقة لأنّ كلّ الأطراف تنتظر معرفة تفصيلات وجزئيات الحلّ الذي تعتمده ....-
وأخيراً ، أستطيع القول : لقد تضمّنت المقابلة أفكاراً هامّة ، وطرحاً سياسيّاً جريئاً يحتوي في بعض جوانبه شكلاً من أشكال النقد الذاتي الضروري في هذه اللحظة التاريخية من أجل تعزيز الثقة به كشخص لكونه لم يغرق بالفساد ولم تتلوّث يديه بالدم ، وبروزه كأفضل شخصيات النظام المؤهّلة للعب دور بارز في عملية التغيير الديمقراطي السلمي خلال فترة انتقالية محتملة قادمة ....
في : ٢٠ / ١٢ / ٢٠١٢