الانعكاسات العربية ، والإقليمية ، والدولية المحتملة عند تنفيذ الحظر الجوّي :

( تتمة تقدير الموقف )
 


محمود جديد / معارض سوري /
إنّ تقدير الموقف من أهم مراحل صناعة القرار مهما كانت طبيعته ، ولذلك تشترك في إنضاجه كافّة الأطراف المشاركة في تنفيذه كلّ حسب اختصاصه ، وتُقدَّم خلاصته إلى الجهة العليا لتحويله إلى صيغة قرار واجب التنفيذ ، ولذلك تبرز علاقة جدلية بين تقدير الموقف الصحيح ، والقرار الصحيح الذي هو بدوره من العناصر الأساسية لتحقيق النجاح في تنفيذ أيّة خطة كانت ... وكلامنا هنا يأتي في سياق الحالة الافتراضية التي تحدّثنا عنها في المقال السابق عن الحظر الجوّي ، والتي سنتحدّث في هذا المقال عن أهمّ الانعكاسات المحتملة عند فرضه :

١ - لن يصمت " حزب الله " ويقف متفرّجاً على ما سيجري في سورية في ظلّ الحظر الجوّي لأنّ ساحتها هي الرئة الأساسيّة التي يتنفّس منها بحكم موقعها الجيوسياسي ، وسيعتبر سقوط النظام فيها مقدّمة لخنقه داخليّاً ، وإقليميّاً ، وخلق فرصة سانحة للكيان الإسرائيلي للانفراد به ، وتصفية الحساب معه لاحقاً ، ولهذا ، فإنّ ردّ فعله سيكون باتجاه فلسطين المحتلة بهدف خلط الأوراق لتخفيف الضغط عن النظام السوري ، ودعمه في مواجهة مخاطرالحظرالجوّي ، ومن أجل كسب الوقت على أمل حصول تسويات دولية تنقذ ما يمكن إنقاذه ... ولكنّ هذا التوجّه ليس حتميّاً ، لأنّ صنّاع القرار لدى حزب الله سيدرسون إيجابياته وسلبياته وانعكاساته على وضع المقاومة الإسلامية في لبنان محليّاً وعربيّاً ودوليّاً بكلّ دقّة وتبصّر ، لأنّ الظروف الداخلية الراهنة صعبة ومعقدّة ، فبعض الأطراف اللبنانية الذين تواطؤوا سرّا مع العدوان الإسرائيلي عام ٢٠٠٦ سيكون موقفهم في هذه الحالة علنيّاً ومترجماً على أرض الواقع بسبب وجود الغطاء العربي والدولي المناسب ، ولهذا سيكون ظهر المقاومة الإسلامية مكشوفاً الى حدّ ما ، وقد ينجم عن ذلك نشوب جولة جديدة من الحرب الأهلية في لبنان ومن هنا نستطيع القول : إنّ قرار حزب الله بالتدخّل المباشر في الصراع لن يكون فوريّاً وحتميّاً ، ولكنّه مرجّحاً .....
٢ - ستكون تركيّا جزءاً من سيناريو الحظر ، باعتبارها عضواً في الناتو ، ودولة مجاورة لسورية ، وطرفاً في الصراع ، وخاصّة أنّ قواعد أمريكية هامّة موجودة فوق أراضيها ، ولذلك ستكون منطلقاً لمهاجمة الأهداف السورية ، ولا نستبعد دخول قوات بريّة تركية كبيرة إلى الأراضي السوريّة ، واحتلال أجزاء منها ، وفي الوقت نفسه تأمين الغطاء العسكري لدفع كلّ المسلّحين المتواجدين فيها الى داخل سوريّة ، وقد تبالغ في استخدام قوتها العسكرية البريّة لتعويض مالحق بسمعتها نتيجة الحسابات الخاطئة ، ومقامرتها بعلاقات متميّزة كانت قائمة مع جوارها ، ليصبح موقفها خلال المرحلة السابقة للحظر متّسماً بالديماغوجية ممّا أفقد الحكومة التركية مصداقيتها ، وأساء إلى علاقاتها مع جيرانها ، وأزّم وضعها الداخلي ... وقد يرافق انخراطها في تنفيذ الحظر تسخين الصراع التركي - الكردي على طول حدود الدول المجاورة ، كما يمكن أنْ تتصاعد الاحتجاجات والتحرّكات الدخلية التركية ، وعلى كلّ حال ، لنْ تذهب الحكومة التركية بعيداً بمفردها ، وستبقى حركتها وقراراتها الاستراتيجية محصورة في إطار مظلّة الناتو وقراراته العسكرية ، ومنسجمة مع إيقاع خطواته ...
٣ - تدرك القيادة الإيرانية جيّداً أنّها موضوعة في دائرة استهداف التحالف الأمريكي - الإسرائيلي - الأوربي، وأنّ معركة سوريّة / وحزب الله / مع هذا التحالف تشكّل مقدّمة لمعركتها اللاحقة معه ،لا بل هي في صلب معركتها مع أعدائها ، وقد أشار الكثيرون إلى هذا الارتباط ، ومن هنا لا أستبعد تدخّلها في معركة سورية تنفيذاً لاتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين ، وتوجيه ضربات صاروخية للقواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي ، ولأسطولها المتواجد في مياهه ، ولقواعدها في تركيّا ، وقد تغلق مضيق هرمز ممّا سيعرقل حركة ناقلات النفط في الخليج العربي ، ولكنّ هذا ليس حتميّاً وتلقائيّاً ، وسيكون مرتبطاً إلى حدّ كبير بمجريات الحظر الجوّي ، ومدى قدرة النظام السوري على تحمّله ، وبموقف كلّ من روسيا والصين ... فالنظام الإيراني لديه خبرة سياسية كبيرة ، وعلى درجة متقدّمة من البراغماتية ( أكثر بكثير ممّا يتصوّره البعض ) ، والحسابات الدقيقة ، ولن يكون متسرّعاً في اتخاذ قراراته العسكريّة ، ولذلك نستطيع القول إنّ احتمال تدّخله لا تتجاوز نسبة خمسين بالمائة ، وفي حال عدم التدخّل ستتقوقع إيران على ذاتها داخل حدودها ، وستفقد الكثير من مصداقيتها .
٤ - تشير دلائل كثيرة على حزم وصلابة موقف روسيا باعتبار معركة السيطرة على سورية تمسّ الأمن القومي الروسي إلى حدّ كبير ، والطموحات الروسية باسترجاع دورها السابق ، وقد عبّر مسؤولوها أكثر من مرّة على مايشير إلى ذلك ، وخاصّة أنّ روسيا لديها القدرات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تؤهّلها على اتخاذ موقف قوي داخل مجلس الأمن وخارجه ، والتحرّر من الضغوط الغربية والإسرائيلية بشأن تزويد سورية وإيران بأسلحة حديثة ، وخاصّة الصواريخ المضادّة للطائرات من نوع (
s 300 ) والطائرات المتقدمة ، وقد تصل الأمور في حال تصاعد الأزمة إلى إرسال أسراب من طيرانها الى القواعد الجوية السورية مسبقاً بهدف عرقلة الحظر ، وحسب تقديرنا ، هذا هو السقف الأعلى للموقف الروسي ، ولا يُعقَل أنْ يتّخذ بوتين قراراً بخوض حرب عالمية ثالثة مع دول الناتو من أجل سورية ...مع العلم أنّه سبق أنْ أوصل رسائله الحازمة الى قادة الغرب حول ما يجري في سوريّة وفقاً لمعلومات صحفية ، حيثأبلغ المسؤولين المعنيين بالأزمة السورية بمن فيهم الرئيسين الاميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند، و رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان( كما نشره موقع دنيا الوطن -غزّة - ) :" أنّ روسيا لا تناور في ما يتعلق بمصالحها الاستراتيجية والحيوية لا في سوريا ولا في منطقة الشرق الاوسط عموماً ،وبالتالي فإنّه على الجميع الانطلاق من هذه المعادلة من دون الاستخفاف بردّة الفعل الروسية التي قد تصل إلى أبعد ما يتصوره البعض، وما استخدامها لحق النقض لثلاث مرات متتالية في مجلس الأمن الدولي سوى رسالة واضحة على الجميع تفهّمها، فضلاً عن أنّ تعزيز الاسطول الروسي الرابض في القاعدة الروسية في طرطوس ليس من باب التهويل أو المزاح، بل تأكيداً على عزم موسكو إرساء المعادلة التي أطلقها وزير الخارجية سيرغي لافروف وخلاصتها أنّ النظام العالمي الجديد يبدأ من سوريا " .
٥ - الموقف الإسرائيلي : إنّ تدمير البنية العسكرية والاقتصادية لسوريّة وتمزيق نسيجها الوطني ، وتقسيمها هدف ثابت ومرغوب بالنسبة إلى المسؤولين الإسرائليين في كلّ وقت وحين ، بغضّ النظر عن طبيعة أيّ نظام حاكم في دمشق ، ولكنّها في الوقت نفسه ، ستحسب ألف حساب للانعكاسات السلبية والمخاطر التي تهدّد أمنها نتيجة فرض حظر جوّي على سورية ، وما يمكن أنْ ينجم عنه من فوضى قد تسبّب سقوط عشرات الآلاف من الصواريخ السورية ، ومن ترسانة / حزب الله / التي تقدّرها بسبعين ألفاً ، ولذلك فإنّ خيارها المفضّل هو ما أشرت إليه في مقالٍ سابق الذي حدّدت فيه الموقف الأمريكي - الإسرائيلي المضمر حول سورية ، ولهذا من المحتمل أنْ لا تشجّع الحكومة الإسرائيلية دول الناتو على تنفيذ هذا الحظر ، وقد تحثّها على متابعة سياسة إحراق سوريّة وتدميرها بأيدي أبنائها ببطء ، وصبّ الزيت على نيرانها إلى أمد بعيد .... أمّا في حال تنفيذ الحظر فحسب تقديرنا يوجد احتمالان :
الأوّل : أنْ تبقى ( إسرائيل ) في مأمن من أيّة انعكاسات سلبية ناجمة عن فرض الحظر الجوي ، وفي هذه الحالة ستبقى مكتفية "بالجلوس والانتظار " مع متابعة ورصد مايجري ، والاستعداد القتالي الدائم لأيّ طارئ ،والفرح يغمرها وهي تشاهد تدمير سورية بنيران الناتو دون أنْ يكلّفها ذلك طلقة واحدة ولا جنديّاً واحداً .
الثاني : أنْ تتلقّى ضربات صاروخية سورية ،أو من حزب الله ، وفي هذه الحالة ستشتعل المنطقة ، وقد يصل الأمر إلى شنّ الجيش الإسرائيلي حرباً برية لاحتلال جنوب لبنان بهدف تدمير شبكة صواريخ حزب الله وبنيته العسكرية والتحتية فيه ...وبالمقابل ، لا يُستبعَد تنفيذ تهديد نصر الله بإرسال آلاف المقاتلين لتحرير الجليل ....
٦ - لنْ أستعرض الموقف العربي ، وخاصّة الخليجي منه والذي هو الأكثر انغماساً في الساحة السورية ، لأنّنا تعوّدنا على رؤيته موقفاً تابعاً ذليلاً ينحصر دوره في إيجاد الغطاء السياسي والمالي لأيّ عدوان ، وسيسجّل له صفحة سوداء جديدة في التاريخ العربي على غرار ماسطّره سابقاً ... ولكنّ دول الخليج لن تكون في مأمن من مخاطر انعكاسات أيّة مجابهة أمريكية - إيرانية على أراضيها ، وخاصة إذا تمّ استهداف المنشآت النووية ، أو المركّبات النفطية والكهربائية في إيران ....
خلاصة واستنتاجات :
-----------------------
١ - لا فرض حظر جوّي على سورية بقرار من جلس الأمن .
٢ - إنّ فرض أيّ حظر خارج إطار الشرعية الدولية ، سيلحق الأذى بالنظام العالمي الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية ، ولن يحصل على تأييد شعبي في بلدان الناتو ، والعالم ، وعمليات سبر الآراء حول التدخّل العسكري في سورية والتي جرَت في العديد من بلدان الناتو تؤكّد ذلك ...
٣ - الانعكاسات السلبية على الكيان الإسرائيلي نتيجة فرض الحظر محتملة إلى حدّ كبير .
٤ - لا حظر جوّي ولا مغامرات عسكرية قبل الانتخابات الأمريكية التي ستُجرَى في ٦ تشرين الثاني / نوڤمبر / القادم ، ويُضاف إلى هذا التاريخ توقيت أداء الرئيس الأمريكي المنتخب في ١٣ كانون الثاني / يناير / من العام الجديد ، ومن ثمّ تشكيل الحكومة الأمريكية الجديدة بعده ، وهذا سيستغرق وقتاً حتى الربيع القادم ، أي إلى الذكرى الثانية للانتفاضة ...
٥ - الأزمة الاقتصادية في أمريكا ، والاتحاد الأوربي ، وعدم توفّر مغريات اقتصادية في سورية كلّها عوامل تصب لصالح عدم فرض الحظر .
٦ - الاستعصاء الراهن في سورية ، وتشتت ( الجيش السوري الحر ) ، وتعدّد المجموعات المسلّحة وتطرّفها ، وتبعثر المعارضة السورية ... ، وبقاء النظام السوري المستبدّ متماسكاً إلى درجة تكفيه لدرء سقوطه بالمنظور القريب ... وبداية مهمة السيّد : الأخضر الإبراهيمي كلًّها معطيات تؤخذ بعين الاعتبار لقادة الناتو عند اتخاذ قراراتهم وتجعلهم أميل إلى استبعاد فرض الحظر في المرحلة المقبلة القريبة .
٧ - موقف روسيا والصين وإيران ثابت ولا أملاً في تغييره وفقاً للمعطيات الراهنة ...
٨ - الكثير من الدلائل والقرائن والتقديرات تشير إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية لا تحبّذ فرض الحظر في الوقت الراهن ، وإنٌما خيارها المفضّل هو ترك الأوضاع في سورية تتعفّن إلى أطول مدى ممكن ، وهذا سيؤدّي الى تدمير سورية بأيدي أبنائها دون عناء من أيّ طرف خارجي ...
وهكذا نستطيع القول : لا حظراً جوّياً على سورية في الأشهر القادمة ، وعلى الذين استهووا هذا الحلّ من المعارضة المدنية والمسلّحة فليتوقّفوا عن أوهامهم ، وأحلامهم غير المشروعة ، وليلتفتوا نحو رصّ الصفوف وتوحيدها على أسس وطنية ، ومساعدة الإبراهيمي في مساعيه السلمية للدخول في مرحلة انتقالية بضمانات دولية تعطي الوقت والظروف الملائمة لإجراء التغيير الديمقراطي الجذري المنشود بأقلّ الخسائر ، والذي لا بدّ من تحقيقه مهما كابر النظام المستبدّ الفاسد ، وطغا وماطل ...
١٥ / ٩ / ٢٠١٢