" استنساخ الحظر الجويّ على ليبيا في سوريّة "
تدخّل عسكري سافر وجريمة لا تُغتَفر


محمود جديد

علّق الكثير من المعارضين السوريين آمالاً عريضة على إمكانيّة فرض حظر جويّ غربي في الأجواء السورية على غرار ما جرى في ليبيا من أجل الإسراع في الحسم مع النظام السوري المستبدّ متجاهلين أو جاهلين اختلاف خصوصيّة الساحة السوريّة ، وتعقيداتها وتفاعلاتها ، وانعكاساتها وتداخلاتها عربيّاً ، وإقليميّاً ،ودوليّاً، وحجم الخسائر البشرية والماديّة التي يمكن أن تنجم عن هذا الحظر ، وحتى نستطيع توضيح الصورة، وإعطاء حكمنا على ذلك كلّه من المفيد العودة إلى السيناريو الليبي ومقارنته بالحالة السورية وإجراء تقدير موقف مختصر :

- تمّ الحظر الجويّ على ليبيا بموافقة مجلس الأمن ( القرار ١٩٧٣ ) ، وقد قدّم هذا القرار غطاءً دوليّاً لتنفيذه ، بغض النظر عن التعسّف في استخدامه ، وتجاوزه بشكلٍ فاضحٍ ... أمّا في الحالة السوريّة فلن يتوفّر ذلك الغطاء بسبب موقف روسيا والصين اللتين لن تسمحا بلدغهما من جحر مرتين ...وبذلك فإنّ الڤيتو المزدوج المحتمل سيعقّد اتخاذ القرار السياسي بين أوساط دول الناتو ، ويعرقله ....
- معطيات هامّة ستؤخذ بعين الاعتبار عند تقدير الموقف لاتخاذ قرار الحظر الجويّ : ( مقارنة بالحالة الليبية)

* تبلغ مساحة ليبيا تسع مرّات ونصف مساحة سوريّة ، بينما عدد سكّان سوريّة حوالي أربع مرّات عدد سكّان ليبيا ، وطول الشاطئ الليبي يساوي عشر مرّات طول الشاطئ السوري ...
* عدد القوات العسكريّة السوريّة النظامية أربعة أضعاف ماكان موجوداً في ليبيا ، وتمتلك خمسة أضعاف من الدبّابات ، وحوالي ومرتان ونصف من العربات المدرّعة .
* تمتلك القوات الجوية السورية والدفاع الجويّ عشر مرّات من المضادّات الأرضيّة أكثر ممّا كان موجوداً في ليبيا، كما تمتلك ٥٥٥ طائرة مقاتلة مقابل ٣٩٤ في ليبيا( قسم مهمّ منها بدون طيّارين ، كان أقلّ من ٦٠ طائرة مقاتلة جاهزة للقتال ) ، و ٤٧٠٧ صاروخ أرض جوّ مقابل ٢١٦ فقط في ليبيا ، كما تتوفّر لدى سورية صواريخ بحريّة حديثة ومتطوّرة ، هذا بالإضافة إلى أنّ مستوى التدريب والكفاءة والاستعداد القتالي ، والتحصينات الدفاعية للطائرات والأسلحة والأفراد في سورية أفضل بكثير ممّا كان متوفّراً في ليبيا ....
* عمق مسرح العمليات في الساحة السورية أكبر من عمقه في ليبيا بسبب انتشار مراكز تمركز الجيش الليبي على امتداد الساحل الليبيي الطويل بشكل رئيسي ، وللطبيعة الصحراوية في العمق الليبي .
* بلغت الخسائر البشرية نتيجة تدخّل الناتو حوالي ثلاثين ألف ضحيّة بالحدّ الأدنى . ( الخسائر البشرية الأخرى غير مشمولة بهذا الرقم )
- ونتيجة لما تقدّم عرضه فإنّنا نستنتج مايلي :
١- إنّ كثافة النيران في فضاء سوريّة ستكون أكبرممّا كانت في ليبيا، وأكثر فعاليّة وتأثيراًعلى طيران الناتو
وهذا ما سيجبره على القصف من ارتفاعات عالية ، ويربك ويخيف أطقم طائراته ، وهذا كلّه ، سيؤثّر سلباً على دقّة الإصابة ، ويزيد من حجم الخسائر بين صفوف المدنيين ، وخاصة بسبب قرب الكثير من الأهداف العسكرية من التجمّعات السكانية ...
٢ - إنّ صغر مساحة سورية بالمقارنة مع مساحة ليبيا ، وضيق الشاطئ السوري سينعكس سلباً على تنسيق التعاون والسيطرة من قبل قيادة الناتو وشعبة عملياته ، وقد تنجم أخطاء عن ذلك أثناء التنفيذ الميداني ، وما يستتبع عنها من خسائر إضافية نتيجة النيران الصديقة غير المتوقّعة ...
٣ - إنّ وجود صواريخ بحرية متطوّرة قادرة على إصابة أهدافها على مسافات بعيدة سيجبر السفن الحربية التابعة للناتو ( وخاصّة حاملات الطائرات ) في المرحلة الأولى على التواجد في أعماق المتوسط بعيداً عن الشواطئ السورية ، ممّا سيؤدّي إلى إنقاص المدى العملياتي للطائرات المنطلقة منها ، وهذا بدوره يُنقِص من وقت الطيران فوق الأراضي السورية ، ويؤثّر سلباً على مناورة الطيارين في الاشتباكات الجويّة .
ووفقاً لما تمّ عرضه ، فإنّه من المحتمل أنْ تعتمد خطة الناتو على توجيه الضربة الأولى بواسطة الصواريخ المنطلقة من البحر ، ومن قواعد عسكرية أخرى في المنطقة على الأهداف الهامّة في شبكة الدفاع الجوّي ، ويمكن استخدام القاذفات الثقيلة المنطلقة من المطارات الأمريكية والأوربية والقادرة على استخدام صواريخها من خارج مدى الصواريخ السورية المضادة للطائرات للمشاركة في هذه المهمة ، ولاحقاً يتم زج طيران الناتو بشكل مكثّف لقصف الأهداف المتبقيّة ...
٤ - إنّ وجود قاعدة بحرية روسيّة في طرطوس ، وتواجد الأسطول الروسي في البحر المتوسط سيؤخذ بعين الاعتبار خوفاً من حدوث أخطاء من الجانبين ، وحدوث مفاجآت لها تبعات وخيمة ...
٥ - إنّ الخسائر البشرية ستتضاعف عشر مرّات على الأقلّ عن الخسائر في ليبيا نتيجة العوامل المختلفة التي أشرت إليها سابقاً.
الأهداف المحتملة لطيران وصواريخ الناتو في سورية عند فرض الحظر الجوّيّ :

١ - مقر قيادة وعمليات القوّات المسلّحة ، وتشكيلات سلاح الجو والدفاع الجوّي ، بهدف زعزعة السيطرة على القوّات التابعة لها في الميدان ، وشلّ فعاليتها ...
٢ - جميع المطارات العسكرية السوريّة ، ( وربّما المطارات المدنية أيضاً ) ، ومن ضمنها تدمير الطائرات العسكرية وملاجئها ، ومدارج المطارات ، ومستودعات الذخيرة ،وشبكة الدفاع الجوّي التي تحميها.
٣ - تدمير الموانئ البحرية ، ومن ضمنها الأسطول السوري ، وشبكة الدفاع الجوّي والبحري المكلّفة بحمايته .
٤ - تدمير محطات وشبكات الرادار المنتشرة فوق الأرض السورية .
٥ - مهاجمة وتدمير مختلف التشكيلات الصاروخية ، ووحدات وقطعات قوّات الدفاع الجوّي الأخرى في أماكن تمركزها وانتشارها ...
٦ - تدمير الجسور الهامّة على الطرق الرئيسية في سوريّة لمنع المناورة بالقوّات ، وشلّ عملية الإمداد والتموين المختلفة ..
تدمير مستودعات الجيش من الأسلحة والذخائر ، ومصانع الأسلحة والصواريخ .
٧- تدمير مصافي النفط .
٨ - تدمير محطات البث التلفزيوني والإذاعي ...
٩ - وقياساً على ما جرى في ليبيا سيتمّ الانتقال بعد ذلك لتدمير سلاح المدرعات والمدفعية في سورية ...
وبتعبير آخر تدمير البنية العسكرية السورية ، وجانب مهم من البنية الاقتصادية ، ومايرافق ويستتبع ذلك من خسائر بشرية بين صفوف العسكريين والمدنيين ، وما يمكن أنْ ينجم عنها من إزهاق عشرات الآلاف من الضحايا والشهداء ... وهذا يتطلّب من الناتو تنفيذ مهام كثيرة تشمل عدداً هائلاً من الطلعات الجوّية ، وعدداً كبيراً من القنابل والصواريخ ، ووقتاً طويلاً لتحقيق ذلك ، وتمويلاً هائلاً ....مع احتمال تكبيد قوات الناتو خسائر معتبرة في طيرانه وسفنه وعسكرييه ، وخلق مضاعفات و انعكاسات عربية ، وإقليمية ، ودولية هامّة وخطيرة قد تهدّد السلم والأمن الدوليين ...
بينما الصورة كانت مغايرة عند تنفيذ السيناريو الليبي ، لأنّ تدخّل الناتو كانت بمثابة مناورة ( مشروع تدريبي) لأسلحة الجو وأساطيل الناتو بالذخيرة الحيّة ، وعلى أهداف حقيقيّة ، ودون خسائر تُذكر ، وهذا الشكل من التدريب يُعتَبَر بالمفهوم العسكري أرقى أنواع التدريب ، ووسيلة لا مثيل لها لاختبار الأسلحة والذخائر الجديدة ، واختبار تنسيق التعاون الميداني بين قواته وغرف عملياته المشتركة ، وفي الوقت نفسه فهو حظر جوّي مدفوع الأجر بأموال ليبية ، ومدفوعة سلفاً وموجودة في بنوك تلك الدول ( الودائع والاستثمارات الليبية الهائلة في بلدان الناتو ) ، وهذا كلّه شكّل فرصة ذهبية للناتو لم نرَ مثيلاً لها في التاريخ ، وقد لا تتكرّر في المستقبل ...
هذا بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية والسياسية الكبيرة المجنيّة راهناً ومستقبلاً في مجال استغلال ونهب خيرات ليبيا النفطية والغازية ، وفرض الهيمنة الغربية عليها ...
أمّا في السيناريو السوري المفترض فليس في سورية الكثير من المغريات لدول الناتو على غرار الساحة الليبية ، ولكنْ بالمقابل فإنّ الوضع الجيوسياسي لسورية في المنطقة ، وانعكاساته اسرائيليّاً وإقليميّاً ، ودوليّاً قد يجذب بعض الأطراف الغربية للمجازفة ، وخاصّة إذا ضمنوا تمويلاً خليجيّاً لتكاليف الحظر الجوي ، وهذا الاحتمال وارد ، لأنّ معظم حكّام الخليج لهم سوابق في هذا المجال ( الساحة العراقية شاهد على ذلك ) .( ملحق لتكاليف بعض مفردات الحظر الجوّي ) .
الحظر الجويّ بين الشعار والتطبيق :
تعتبرالمعارضة في الخارج وخاصة بين أوساط ومناصري "المجلس الوطني السوري " ، ولدى شرائح واسعة من الفصائل المسلّحة بكافّة أشكالها ومنذ الأشهر الأولى للانتفاضة بأنّ الحظر الجوي هو مفتاح الحل ، والمظلّة الرئيسية لتعويض الخلل في موازين القوى بين المسلّحين ، والقوّات السوريّة ، وشرط لا غنى عنه لإقامة مناطق آمنة صالحة لتشكيل قاعدة إنطلاق لحشد وتنظيم المعارضة المسلّحة ، وثمّ الانتقال للهجوم تحت حماية ودعم طيران الناتو لإسقاط النظام على غرار ما جرى في ليبيا ... ولكنّ شعار الحظر الجوّي لم يلقَ حتى الآن آذاناً صاغية بين دول الناتو تنقله الى حيّز التطبيق ، فالولايات المتحدة الأمريكية التي هي حجر الزاوية الأساسي في تنفيذ الحظر يعلن رئيس أركان هيئة الأركان المشتركة لجيشها أثناء زيارته الى تركيّا الشهر الماضي بأنه يعارض فرض الحظر الجوّي بسبب انعكاساته السلبية على القواعد الأمريكية في منطقة الخليج ... كما أنّ الرئيس أوباما نفسه ليس مستعدّاً - حسب تقديرنا - للتورّط في مغامرة عسكرية جديدة خارج إطار الشرعية الدولية ، وخاصّة قبل الانتخابات الأمريكية القادمة ، وهذا هو أيضاً المناخ السائد في أوساط قيادة الناتو ...يُضَاف إلى ذلك الحرص الغربي على أمن الكيان الإسرائيلي عند تنفيذ الحظر الجوّي والفوضى الأمنية التي يمكن أن تنجم عنه . ( سأفصّل الانعكاسات العربية والإقليمية والدولية للحظر في مقال لاحق ) .
وفي فرنسا قال قائد سلاح الجوّ : " عندما حاول الأتراك اختبار الدفاعات الجوّية السورية أُسقِطَت طائرتهم على الفور ، ولتدمير طائرات بشّار الأسد نحتاج إلى آلة الحرب الأمريكية كلّها ، واستخدام القواعد العسكرية في قبرص واليونان ، وحتّى الشرق الأوسط " ثمّ يضيف : " في مواجهة سوريّة لن يكون بوسعنا أنْ نكون أكثر من قوّة رديفة موضوعة تحت الأوامر الأمريكية ، ولن يكون ذلك مدعاة فخر ." وهنا نلحظ تضخيماً في القدرات السورية ، واعترافاً صريحاً بالعجز الأوربّي عن القيام بمهمّة فرض الحظر الجوّي بشكلً منفرد ، وإلقاء الكرة في الملعب الأمريكي بهدف النأي بالنفس عن هذا التوجّه ..
وخلاصة لما تقدّم عرضه ، نستنتج ما يلي :
١ - إنّ الحظر الجوّي مستبعد في المستقبل المنظور ، دون أنْ ننفي إمكانيّة حدوثه مستقبلاً ....
٢ - إنّ الحظر الجوّي هو تدخّل عسكري سافر مهما حاول البعض التذاكي ، واللفّ والدوران لإخفاء موقفهم الحقيقي من التدخّل العسكري حين يرفضونه من جهة ، ويطالبون بتنفيذ الحظر الجوّي من جهة ثانية ...
٣ - إنّ الحظر الجوّي سيزيد من حجم الدمار والخراب في سوريّة ، فإذا كانت ليبيا تحتاج لإعادة إعمارها إلى ٤٨٠ مليار دولار ، وتحتاج إلى ٢٠ سنة لإنجازه ، وفقاً لما صرّح به السيّد محمود جبريل ( الشخص الأوّل في ليبيا الآن ) ، فإنّ حجم الدمار في البنية العسكرية والاقتصادية والتعليمية والطبيّة والعلميّة ..الخ في سوريّة سيحتاج إلى سبعة أضعاف حاجة ليبيا على الأقلّ ، أي إلى حوالي ٣٠٠٠مليار دولار ، وستحتاج إعادة الإعمار معظم سنوات القرن الحالي .
٤ - نظراً لحجم الخسائر المادية والعسكرية والبشرية التي يمكن أن تنجم عن الحظر الجوّي وما يرافق تنفيذه ، ويليه ، فإنّ فرضه يُعتبَر جريمة لا تُغتَفَر بحق القطر السوري ، وخاصّة أنّ النظام السوري المستبدّ والفاسد لا مستقبل له بعد كلّ ما جرى ويجري ، ولا مناص من تغييره ديمقراطيّاً وبشكل جذري وشامل ، بما فيه إسقاط كلّ رموزه المستبدة والفاسدة .
في : ٧ / ٩ / ٢٠١٢
------------------------------------------------------------------------------------------------------
ملحق خاص بتكاليف بعض مفردات الحظر الجوّي :
*******************************************
- قذيفة مضادّة للدبابات = ٣٠ ألف دولار .
- قنبلة موجّهة بالليزر. = ١٠٠ ألف دولار .
- قنبلة من طائرة. = ١١٣ ألف دولار .
- تكلفة حاملة طائرات. = ١٥٠ - ٢٠٠ ألف دولار يوميّاً دون احتساب طلعات الطائرات والذخيرة المستخدمة
طلعة طائرة واحدة = ١٥ ألف دولار دون احتساب الذخيرة المستخدمة .
طائرة الشبح الأمريكية المنطلقة من الولايات المتحدة الأمريكية تكلّف ٧٠٠٠ دولار لكل ساعة طيران ، وهي تحتاج في مهمتها الىى٢٤ ساعة طيران دون احتساب الذخيرة التي ستستخدمها .
- صاروخ توما هوك = ١-١،٥ مليون دولار .