المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

ان من الواجب قوله هنا ونحن نقدم لكتابنا هذا ، ان الدراسات الجامعية بكل مستوياتها فضلاً عن البحوث والمؤلفات التي كتبت عن ابن رشد والمؤتمرات التي عقدت حول فلسفته وفكره ، قد درست جوانب عديدة من فلسفته المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية والنفسية، فضلا عن علاقة الفلسفة بالدين وكيف عالجها . بحيث ان الكتابة في هذه الموضوعات أصبحت من التكرار الممل وان الباحث لا يجد مناصاً من ان يقول شيئاً غير مكرر فيه .

ولهذا فان فلسفة ابن رشد قد درست منذ مدة ليست بالقريبة ، بل اهتم بها المستشرقون فضلاً عن الدارسين العرب المحدثين ، فنجد مثلا ان اطروحة المستشرق أرنست رينان الدكتوراه كانت عن ابن رشد والرشدية والتي كتبت سنة 2581 م . وبهذا أصبح الباب مفتوحا على مصارعه لدرس ابن رشد بعد هذه الالتفاته ، فظهر مع مطلع هذا القرن أول اهتمام بفلسفته عن طريق سجال فكري علمي فلسفي بين الشيخ محمد عبده ( ت 5091 م) وبين فرح انطون ( ت 8491م) نجم عنه ظهور مؤلف بهذا العنوان وُسِم بابن رشد وفلسفته .

انحاز فيه الشيخ محمد عبده الى تفسير فلسفة ابن رشد تفسيراً دينياً لاهوتياً ، في حين انحاز فرح انطون الى تفسير فلسفته تفسيراً علمانيا علميا موضوعياً ، وكان مرجع انطون هذا هو ما كتبه ارنست رينان من قبل .

وبعد ذلك انثالت الابحاث والدراسات عن ابن رشد ، وكتبت في ذلك عدة بحوث ودراسات اكاديمية كما قلنا ، وقد كفانا الباحث الفاضل صبيح صادق باحصاء ما كتب عن ابن رشد في المراجع العربية الحديثة الى سنة 8791 . حيث أحصى هذا الباحث ما مقداره ثمانون دراسة متنوعة عن فلسفة ابن رشد (1).

وبعد هذا التاريخ استمرت الدراسات حوله، وبالامكان العودة الى كتاب الدكتور حسن مجيد العبيدي الموسوم العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد ، حيث أحصى فيها الدراسات وتنوعها ومناهجها عن ابن رشد ووصل بها الى سنة ( 2991)(2) .

 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، من التنوع في البحث والدرس لفلسفة ابن رشد اجمالاً ، بل نجد ان الباحث أسعد جمعة قد نشر في مجلة دراسات اندلسية ما كتب عن ابن رشد باللغة العربية واللغات الاوربية كالفرنسية والانكليزية وغيرها ، وذلك في العدد التاسع عشر والعشرين منها (1).

فضلاً عن المؤتمرات العديدة التي عقدت عن فلسفته وفكره ورؤياه وما مدى الاستفادة من ذلك معاصراً لنا نحن العرب . فعقد في الوطن وحده اكثر من مؤتمر علمي عن ابن رشد وكان أخرها ما عقد في سنة ( 8991) . السنة التي اعتبرت سنة ابن رشد عالميا(2) .

وبالتالي فان مجال الاهتمام بهذا الفيلسوف ما زال يعد بارزاً وملموساً نتيجة لما طرحه من فلسفات وافكار ومناهج وما قدمه من حلول لمشكلات عصره السياسية والاجتماعية والاخلاقية والدينية وغيرها .

فوجدنا من جانبنا وبعد استقراء هذه الدراسات السابقة لنا من التي أشرنا اليها . ان الجانب الاجتماعي في فكره ما زال ميداناً مفتوحا للبحث والدرس بمؤلف علمي ، يجلي الصورة التي ما زالت غير واضحة عن منهج هذا الفيلسوف حول المجتمع والانسان والدولة والاخلاق والقيم، بسبب فقدان الاصول الفلسفية لهذا الفيلسوف في هذا الجانب الاجتماعي السياسي . وبعد ان ظهرت مؤخراً احد أهم مؤلفاته في هذا الاتجاه واقصد كتابه الموسوم ( تلخيص السياسة) (3) . الذي ضمنه فكره الاجتماعي كاملاً ، فضلاً عن منهجة ورؤياه الاجتماعية في اسباب قيام المجتمع وتنوع مؤسساته وفئاته .

كل هذا حفزنا وشدنا الى درس وبحث منطويات فكره الاجتماعي بالتفصيل كما ظهر في بنيان هذا الكتاب . وان كنا قد عولنا على مؤلفاته الاخرى فضلاً عن تلخيص السياسة . فعدنا الى المصادر الرشدية التي قد ذكر فيها شذرات وفقرات عن فكره الاجتماعي وربطناها بسياقها العام في الرسالة ، لتظهر متكاملة وفق منهج علمي موضوعي تحليلي مقارن . وذلك لما يتصف به ابن رشد من عقلانية بارزة في كل فلسفته ورؤياه الفكرية ، حتى انه قد قيل عنه ان (الدرايه) اغلب عليه من الرواية بحيث ان ذلك قد انعكس كله على فكره الاجتماعي ، فيرى ان المجتمع الانساني في حركة دائمة وتغير مستمر ، ويرى هناك انساقاً انظمة ذلك المجتمع ، فالنظام الديني مرتبط بالسياسي والاقتصادي والاسري والخلقي والتربوي والحضاري . وان لكل نسق أونظام في هذه وظيفة مكملة لوظائف النظم الاخرى . ومجموعة هذه الوظائف يكوِّن وظيفة البناء الاجتماعي للمجتمع الانساني .

فضلاً عن الأجتماع الانساني عنده الذي يقوم على اساس التكامل الاجتماعي في العلاقات والتكامل الاقتصادي في التخصص وتقسيم العمل ، فمدينته قائمة على أسس علمية اجتماعية اقتصادية واخلاقية .

كما أكد ابن رشد في فكره الاجتماعي ، على الربط بين الشرع والعقل ، وراى ضرورة إقامة الشرائع على العقل قصد حمايتها من الأساليب الجدلية الكلامية ، وما تمسكه بالاسباب والمسببات سوى دليل على ذلك اذ انتهى من ذلك الى ان الفلسفة ( الحكمة ) والشريعة ، أختان ترضعان من ثدي واحد ، وتتعاونان في اسعاد البشرية .

ومما يلفت النظر في ابن رشد انه رأى ان الانسان أشرف الموجودات وانه خص به الكمال الانساني وهو النظام بين الموجودات المحسوسة الناقصة وبين الموجودات الشريفة ، ووجب ان يكون كل مافي العالم من اجل الانسان وخادم له . فالانسان هو الصلة الواصلة التي تصل الموجود المحسوس بالموجود المعقول .

كما تتجلى نزعته الاجتماعية المنفتحة أخلاقياً من خلال تأكيده قيم الانسان الخلقية التي تتمثل في السعادة والمساواة بين الرجل والمرأة وعلو منزلة العلم بين الناس .

 وقد قام هذا الكتاب على مقدمة واربعة فصول وخاتمة

اما الفصل الاول : فقد درست حياة ابن رشد ومؤلفاته بالتفصيل وعرجت على مؤلفاته ذات الاهتمام بالفكر الاجتماعي . وقسمته الى عدة نقاط رئيسة .

 

وأما الفصل الثاني : فيتكلم عن الاجتماع الكامل اي الفاضل عند ابن رشد ( بناء النظم السياسية والدولة ) . بدأت بتعريف الاجتماع وبان الانسان عندابن رشد كائن اجتماعي بالطبع . ثم تكلمت عن عناصر الاجتماع الفاضل وعن التراتب الطبقي والعلاقات الاجتماعية . وعن التربية في الاجتماع الكامل وصلتها بالاخلاق . وعن خصال رئيس الاجتماع الكامل . كما اخذت بعين الاعتبار موقف ابن رشد من المرأة وكيف انه سبق عصره بمناصرتها والوقوف لجانبها وتكلمت في هذا الفصل عن حركية الاجتماع الكامل وموقف ابن رشد منه .

اما في الفصل الثالث : فتحدثت عن الاجتماعات الناقصة عند ابن رشد وعن كيفية تحول الاجتماع الفاضل الى اجتماع ناقص ، وهو اجتماع قائم على المجد والشرف والوجاهة ، ثم الى اجتماع قائم على المال والنخبة والسلطة ، ثم اجتماع قائم على الحكم الديمقراطي واخيراً الى حكم الاستبداد والدكتاتورية والتسلط ، وكيف هي التربية في هذه الاجتماعات الناقصة ، وكيف هي العلائق والأخلاق وما هو موقف ابن رشد من هذه الاجتماعات المليئة بالظلم والفساد والانحراف .

اما الفصل الرابع : فقد كان عن السببية بشكل عام ثم السببيه في العلم الطبيعي وكيف يمكن ان تكيف الى السببيه الاجتماعية ، اخلاق فاضلة تساوي اجتماعاِ فاضلاً واخلاق ناقصة تساوي اجتماعاً ناقصاً .

 

 

 


 

الهوامش

 (1) راجع مجلة المورد البغدادية ، العدد (2) المجلد السابع السنة 8791.

 (2) راجع ، ذلك في كتابه ، ط 1 ، بيروت 5991 ، المقدمة

 

 (1) مجلة دراسات اندلسية ، العدد التاسع عشر ، ك 2 ، 8991 العدد عشرون ، حزيران 8991 ، تونس ، بمناسبة مرور ثمنمائة عام على وفاة ابن رشد فيلسوف قرطبة .

 (2) من هذه المؤتمرات ، مؤتمر الجزائر سنة 8791 ، ومؤتمر جامعة محمد الخامس سنة 9791 . ومؤتمر تونس 8991 . ومؤتمر المغرب نهاية سنة 8991 ومؤتمر اسبانيا سنة 8991 .

(3) ظهر هذا الكتاب مترجماً الى العربية بعد ان فقد اصله العربي وبقي منه اصل عبري - انكليزي . قام بنقله الى العربية الدكتور حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي ، ط1 ، دار الطليعة ، بيروت 8991.