الفصل الرابع

السببية الاجتماعية

عند ابن رشد

 

اولاً - معنى السببية - تحديد عام .

ثانيا - موقع دراسة السببية عند ابن رشد وصلتها بالاجتماع

ثالثا - السببية الاجتماعية وعلاقتها بالقيم الخلقية

 (1) اخلاق فاضلة ------ اجتماع فاضل .

 (2) اخلاق ناقصة ----- اجتماع ناقص .

 ( أ ) اجتماع المجد والشرف

 ( ب ) اجتماع المال والغنى .

 ( جـ ) الاجتماع الجماعي ( الحرية اللامنضبطة )

 ( د ) الاجتماع الاستبدادي ( اخلاق القهر والاستلاب ).

 

اولا : معنى السببية ( تحديد عام )

 

 

تحتل مقولة السببية ( Causality) ، اهمية خاصة في تاريخ الفلسفة عموماً ، اذ قد اهتم بها الفلاسفة منذ القدم وحتى زمان ابن رشد وما بعده ، وسيبقى مفهوم السببية محوراً مركزيا في البنيان الفلسفي لاي فيلسوف يريد انشاء النظام الفلسفي الخاص به سواء أقبله أم رآه على شاكلة أخرى . كما سنشير الى ذلك عند مناقشة هذا الموضوع عند الفيلسوف ابن رشد موضوع بحثنا .

وقبل ذلك لا بد من ايراد معنى السببية كما جاءت في المعاجم الفلسفية من اجل تبين الصورة كاملة عن هذا المفهوم .

السببية ، تعني العلاقة بين السبب والمسبب ، ومبدأ السببية هو أحد مبادي العقل ، ويعبر الفلاسفة عن ذلك بقولهم ، ان لكل ظاهرة سبباً أو علة ، فما من شيء إلا كان لوجوده سبب ، أي مبدأ يفسر وجوده (1).

ومبدأ السببية يعني ان لكل ظاهرة ، مهما كانت طبيعتها ، اجتماعية ام سياسية ام فيزيائية أم غير ذلك ، سبباً يحدثها ، وبهذا المعنى فقد اقترب مفهوم السببية من فكرة القانون التي أضحت غاية العلوم الاجتماعية الانسانية . ويرادف معنى السببية معنى العلية أو العلة (Cause ) ، اذ آثر الفلاسفة المسلمون ومنهم ابن رشد لفظ العلة بدلاً من لفظ السببية ، ومعناه هو ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجاً ومؤثراً فيه (2).

ومن هنا يتضح ان معنى السببية أو العلية هو ما يدخل تحت باب العلاقة بين شيئين أحدهما يؤثر في الآخر فينتج عنه شيء آخر . وبالتالي فانه يمكن تطبيق هذه العلاقة على كل مجال من مجالات النشاط الفكري والاجتماعي والسياسي للأنسان .

ومن هنا يمكن ان نستلخص معنى للسببية الاجتماعية بقولنا ، ان الحادثة أي كانت سبباً في وقوع حادثة آخرى وبالتالي فان الحادثة الاولى ولنرمز لها ( أ). هي اسبق زمنياً من وقوع الحادثة (ب) . وذلك لان وقوع الحادثة ( ب) يعتمد على وقوع الحادثة ( أ) . لان هناك اتصالاً وترابطاً جدلياً ومنطقياً بين الحادثتين ولهذا فان التفسيرات أو التعليلات السببية ليست هي دائما مجرد تعميمات مشتقة من طبيعة العلاقة بين الحادثة المستقلة والحادثة المعتمدة ، انما هي تعميم وقانون قد يكون مستخرجاً من حادثة معتمدة ليس لها سبب وأسباب واضحة أدت لوقوعها . في حين ان التفسيرات السببية في الفكر الاجتماعي والعلوم الاجتماعية تلعب دوراً يختلف عن الدور الذي تلعبه هذه التفسيرات في العلوم الاخرى كالفيزياء مثلاً ، بسبب عدم وجود قانون ثابت يحكم السببيه الاجتماعية لتعلقها بالاحتمالية لأن موضوعها يتعلق بالانسان والارادة والحرية (1).

 

ثانيا : موقع السببية عند ابن رشد

 

 

واذا ما جئنا الى ابن رشد موضوع البحث ، نجد انه لم يترك لنا في مجال السببية الاجتماعية مبحثاً خاصاً يرجع إليه . بل نجد انه قد اهتم بموضوع السببية في مجالها الطبيعي الفيزيائي ومجالها الميتافيزيقي .

اذ قد كرس للبحث في هذا الموضوع ، أحد المسائل المهمة في كتابه الموسوم تهافت التهافت الذي وضعه أصلاً للرد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي ( ت 505 هـ / 111 م ) . اذ قال الغزالي بانكار العلاقة السببية في الطبيعة وخصص لذلك المسألة السابعة عشرة من كتابه اعلاه وملخص قول الغزالي هنا انه يرفض وجود علة فاعلة للأسباب في الاشياء والموجودات الطبيعية ويحولها الى مجرد اقتران في الحدوث فيما بينها ، فالاسباب ظواهر تقارن المسببات وليس بعلة لها ، اي ان الغزالي ينكر هنا وجود علل محددة تنتج عنها الظواهر الطبيعية ، اي انه يحول العلاقة السببية بين الأشياء الى مجرد » عادة « اعتدنا عليها . ولهذا يقول الغزالي في ذلك ان » الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا ..

وليس من ضرورة وجود احدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الآخر «(1).

وهكذا يحول الغزالي كل الظواهر في مختلف المجالات ومستويات الواقع المادية والاجتماعية الى مجرد اقتران ، أي انه ينكر علاقة السببية والضرورة وطبيعة الاشياء ومبدأ الهوية ، كما انه ينكر بشدة وجود الاشياء الموضوعي والعلاقات الناشئة عنها وفيما بينها اياً كانت هذه العلاقات ، ويرجع هذه العلاقة السببية الى قوى اخرى خارج العالم ( الله ) .

أما إبن رشد فكما قلنا يخالف الغزالي في هذه المسألة ، وبما ان موضوعنا هو السببية الاجتماعية وعلاقتها بالقيم الخلقية والقيم السياسية وما ينتج من علاقات فيما بين الاطراف في المجتمع ( قادة ، شعب ) قيم خلقية فاضلة - فرد فاضل والعكس ، فانا نجد ان ابن رشد قد أكد العلاقة السببية تأكيداً لا مجال لانكار ذلك ، واعتبر ان انكار العلاقة السببية انكار للحكمة والعقل وان منكرها هو اما مغالط أو سوفسطائي (1).

ولهذا يقول ابن رشد ان لكل فعل لا بد له من فاعل ، وان انكار ذلك يناقض المنطق واوليات التجربة الحسية والمنهج الاستقرائي العلمي الذي يقضي بان ننطلق من الاسباب المعلومة حتى نصل الى الاسباب المجهولة . وكل قول عكس ذلك هو مغالطة.

ويتعرض ابن رشد بعد ذلك الى اصل المشكلة عندما يؤكد العلاقة السببية من انها ليست علاقة منطقية صورية مثلما اعتقد الغزالي ، لان العلاقة هذه هي علاقة بين اشياء طبيعية ملموسة محسوسة . فالعلة لا تكون مجردة ولا كذلك المعلول . اما اذا اعترضت بعض الظروف مهما كانت هذه الظروف طبيعية أو اجتماعية سبيل العلة فمنعتها من ان تنتج معلولها الخاص بها ، ففي ذلك ينبغي علينا ان نأخذ هذه الظروف بعين الاعتبار . وهذه التفاته ذكيه من ابن رشد ، بان جعل مجال العلة بعلاقتها بالمعلول علاقة تأخذ بنظر الاعتبار كل الاحتمالات . ويضرب لذلك ابن رشد مثلا(2). النار تحرق القش اليابس وهو قول لاشك فيه من الناحية المبدئية، ولكننا اذا اضفنا الى القش الماء لما فعلت النار فعلها . وان كان هذا لا يعني ان النار ليس لها صفة الاحراق بل العكس يبقى للنار صفة الاحراق . فالعلاقة السببية عند ابن رشد بين الاشياء علاقة ضرورية لا مجرد اقتران أو عادة كما يقول الغزالي .

وعليه يمكن ان نخلص الى نتيجة عن موضوع السببية وصلتها بالاجتماع عند ابن رشد وكيف يمكن ان ننقلها من مجالها الطبيعي الى مجالها الاجتماعي ، هو اننا لا نستطيع مثلا ان نفهم كيف كان باستطاعة المجتمع ان يتقدم الى الامام لو كنا نجهل الاسباب التي قادت الى الاخطاء التي يُعاني منها ، كما لا يمكن ان نتصور ان تقدم العلم يكون لو اننا انكرنا حقيقة الاسباب . ولهذا فان مفهوم السببية عند ابن رشد اقرب الى روح الحضارة والمجتمع والحكمة والسياسة والعلم بوجه عام (1). من وجهة نظر الغزالي المثالية التي عطلت هذه العلاقة وربطتها باسباب خارجية .

وبدورنا نفصل ابعاد هذه العلاقة السببية عند ابن رشد ونحاول ان نبني الصلة بينها وبين السببية الاجتماعية عنده . اي إنا نحاول تكييف فكرة ابن رشد في هذا الجانب قدر المستطاع .

يقول ابن رشد في تحديد معنى الفلسفة ، انها ليست شيئاً اكثر من النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع . اعني من جهة ماهي مصنوعات ، فانما الموجودات تدل على الصانع بمعرفة صنعتها ، وانه كلما كانت المعرفة بصفتها اتم كانت المعرفة بالصانع اتم (2) ويستند الى قوله تعالى " فاعتبروا يا اولى الابصار "(3) ويعتقد ابن رشد ان هذا نص على النظر في جميع الموجودات باستعمال القياس العقلي أو الفعلي والشرعي ، وايضا قال تعالي " او لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ." (4) وايضا قال تعالى " أفلا ينظرون الى الأبل كيف خلقت والى السماءَ كيف رُفعت " (5).ويعتقد ابن رشد ان هذا النوع من النظر هو اتم انواع النظر بأتم انواع القياس الذي يسمى برهاناً .فمن لا يعرف الصنعة لا يصرف المصنوع ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع (6).

ويرى ابن رشد فضلاً عن ذلك كله ان الانسان نفسه نتاج تداخل علاقات سببية معقده بحكم انفعاله وتصرفاته وسلوكاته ، دون ان يعني ذلك نفياً للحرية ، فالانسان جزء من الطبيعة ، محكوم بقوانينها ، خاضع لنظامها . لكنه قادر على التحرر من خلال ادراك اسبابها ، وكلما زاد الانسان علماً اقترب من الحكمه النظرية و من معرفة الاسباب .

ولم يتصور ابن رشد ان الله المحرك الأول للعالم كما يصوره ارسطو من قبل ، بل يرى هناك عملية خلق بالغة الابداع تؤكد معقولية العالم من حيث انتظامه الكامل (1). فهذا الانتظام يعني ارتباط مختلف الاشياء والوقائع بشبكة من العلل والمعلولات يمكن للعقل ان يكتشفها ، فلا حاجة لنظرية الفيض الفارابيه السينويه ليعقل العقل معقوليته من مصادر أعلى ولا حاجة لنفي السببية خوفا من الانتقاص من الاراده الالهية .

كما فعل المتكلمون من الاشاعره والغزالي من قبل لأن الله خلق العالم منظماً ، ولا نظام بدون ترابط بين دقائق وقائعه ، لذلك قال ابن رشد الاسباب الغائية كأفضل سبيل لمعرفة الذات الألهية (2). بعد ان ربطها بالاسباب المادية والصورية والفاعلية .

ويبين من جهة اخرى ، ان الشريعة الخاصة بالحكماء ( الفلاسفة ) هي الفحص عن جميع الموجودات اذ ان الخالق لا يُعبد بعباده اشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي الى معرفة ذاته سبحانه وتعالى على الحقيقة ويقول " انكار الاسباب يؤدي بنا الى انكار العقل الذي يدلنا على اسباب الموجودات " فالعقل اذاً هو شيء اكثر من ادراكه الموجودات باسبابها وبه يفترق عن سائر القوى المدركة فمن رفع الاسباب فقد رفع العقل (3).

ان الانطلاق من مبدأ السببيه هو الذي يقودنا الى بناء القول الفلسفي على البرهان . يقول ابن رشد " اعني بالحكمة النظر في الاشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان (4) ويصبح العقل هو ادراك الأسباب والفرق بين العقل الالهي والعقل الانساني كالفرق بين من يتلقى الشيء ومن يعطيه . اي ان الترتيب الذي في العقل الانساني تابع لما يدركه من ترتيب الموجودات ونظامها ولذلك كان ناقصاً جداً . لأن كثيراً من النظام والترتيب الذي فينا لا يدركه العقل الذي فينا .

اما العقل الالهي فيدرك جميع الموجودات وهو ليس شيئاً اكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات (5) لذلك كلما توسع الانسان بمعرفة النظام والترتيب الذي في العالم اقترب من العقل الالهي وذلك بمعرفة العلم الطبيعي الذي يدرس الاسباب الطبيعية (1).

ويعتقد ابن رشد ان نظام العقل الانساني تابع لما يدركه من نظام الموجودات الطبيعية ونظام هذه الموجودات تمظهرات لنظام العقل الالهي ولمعرفة السبب الأول ينبغي الانطلاق من معرفة نظام العالم الطبيعي . وذلك بالاعتماد على الطريقة البرهانية ، وانكار السببية عند ابن رشد انكار لنظام الموجود في العالم والتشكيك بالعقل (2).

ولهذا اشار ابن رشد الى ان إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات قول سفسطائي والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه وإما منقاد لشبهة سفسطائية عُرضت له في ذلك (3) ومن ينفي ذلك فليس بمقدوره ان يعترف ان كل فعل لا بد له من فاعل ولوكان الغزالي منطقياً ومتحرراً بعض الشيء لاستدل من السببيه على وجود الصانع (4).

وتساءل ابن رشد ما المقصود بكلمة عاده عند الغزالي فيجيب ان هناك ثلاثة افتراضات هي أما عادة الفاعل الذي هو الله وأما عاده للموجودات والحوادث واما عادة لعقلنا في الحكم على الموجود (5).

الافتراض الأول محال لا يمكن ان يكون لله عادة . فالعادة ملكه تكتسبها وتوجب تكرار الفعل على الأكثر والله عز وجل يقول " ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ويقول : " ولن تجد لسنة الله تحويلاً " .

الافتراض الثاني غير ممكن ، لأن الموجودات ليست ذوات نفوس عاقلة بل هي موجودات طبيعية والعادة عند من لا نفس له هي طبيعية وقانون .

اما الافتراض الثالث فالعقل ليس شيئاً سوى قوة ادراك الموجودات باسبابها ، فحكمه بالسببية مستمد من طبيعة الموجودات وبذلك تكون السببيه التي في العقل هي سببية الموجودات ورفعها اذاً رفع العقل (6).

لا ينبغي ان يشك ان هذه الموجودات قد تعقل بعضها بعضاً ومع بعض وانها ليست مكتفية بأنفسها في العقل بل بفاعل من خارج فعله شرط في فعلها بل في وجودها فضلاً عن فعلها (1).

اما جوهر هذا الفاعل ، ففيه اختلاف بين الفلاسفه فمن وجه قالوا ان الفاعل الأول برئ عن المادة ، وان هذا الفاعل فعله شرط في وجود الموجودات وفي وجود افعالها وان هذا الفاعل يتناول فعله هذه الموجودات بوساطة معقولة له هو غير هذه الموجودات فبعضهم جعله الفلك فقط وبعضهم جعل مع الفلك موجوداً آخر بريئاً من الهيولى وهو الذي يسمونه واهب الصوره (2). وهذا هو رأى الفارابي وابن سينا من الفيضيين .

يقول ابن رشد ان الموجودات الحادثة قسمان : جواهر وأعراض فأما الجواهر فلا قبل باختراعها الا الله مثال ذلك الزارع يفلح الأرض ويصلحها ليلقي البذار اما خالق السنبلة فهو الله، الأسباب الطبيعية تولد الأعراض والله منفرد بالعقل الحقيقي الذي هو اختراع الجواهر .

من المعروف ان من الاسباب مالا تعرف طبيعة الموجود الا بمعرفتها يقول ابن رشد : " هناك اشياء ذاتية لايفهم الموجود الا بفهمها (3) فانه من المعروف بنفسه ان للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصةبموجود موجود وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء واسماؤها وحدودها ، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه ولو لم يكن طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولاحد ، وكانت الأشياء كلها شيئاً واحداً ولا شيئاً واحداً لأن ذلك الواحد يُسأل عنه : هل له فعل واحد يخصه او ليس له ذلك ، إن كان له فعل فهنا افعال خاصة صادره عن طبائع خاصة وان لم يكن له فعل يخصه واحد قالوا هوليس بواحد وان ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود واذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم "(4).

والموجودات المحدثة برأي ابن رشد لها اربعة اسباب ، فاعل ، مادة ، صورة غاية ، فذلك شيء معروف بنفسه ، وكذلك كونها ضرورية في وجود المسببات وبخاصة تلك التي هي جزء من الشيء المسبب اعني التي سماها قوم مادة وقوم صوره وقوم صدفه نفسيه المتكلمون يعترفون انها شروطاً هي ضرورية ويعترفون بأن للأشياء حقائق وحدوداً وانها ضرورية في وجود الموجود (1).

ويربط ابن رشد بين انكار السببية وبين انكار أو جحود الصانع الحكيم ، الله ، فيقول : » فكما ان من الممكن وجود المسببات مرتبه على الاسباب في الامور الصناعية او لم يدركها فهمه فليس عنده علم بالصناعة ولا الصانع كذلك من جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالم فقد جحد الصانع الحكيم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً «.

فنحن نستدل على حكمة الله وتدبيره من النظر في الخواص اللازمة لها التي تدل على علم الصانع وحكمته ، فإذا أنكرنا تسلسل الأسباب الضروري رفعنا هذه الخواص اللازمة التي تلحق بالموجود من جراء الطبيعة الخاصة به او العوامل المؤثرة فيه فليس في اثبات السببية اخلال بقدرة الله المطلقة كما يزعم الأشاعره الذين جردوا الفاعل الطبيعي والأنسان من القدرة حرصاً على تعظيم شأن الخالق فوقعوا في تناقض خطير اذ جردوا الخالق من خواص الحكمه والتدبير .

فالله الذي يحيط علمه وقدرته بكل شيء قد قدّر الانسان على افعاله الخاصة ، وسن للموجودات سنة تجري عليها ، فكل ما يحدث يحدث بمقتضى الحكمة دون ان يخرج عن نطاق اراده الخالق او تقديره (2).

ويعتقد ابن رشد ان هذا النظام والترتيب الذي نلاحظه في العالم تابع للنظام والترتيب الذي في العقل الالهي . اذا عرف الانسان الأسباب الحقيقية كأن حكمه ضروريا واذا لم يبن حكمه على الأسباب الحقيقية كان حكمه ظنِّيا ، وقد تتوهم النفس ان الحكم الظني حكم ضروري.

فالسببيه عند ان رشد لا تلغي حريه الارادة لأن الاراده شوق تبعثه فينا المؤثرات الخارجية ولما كان العالم الخارجي بما فيه بدن الانسان محكوماً بالعلاقات السببيه فإن ذلك الشوق اي الاراده تتحقق عند مواتاه الأسباب الداخلية ( داخل بدن الانسان ) والخارجيه ( في الطبيعة ) وزوال الموانع (1) .

يرى ابن رشد ان الانسان كائن عاقل وان العقل هو ادراك الاسباب فإذا ادرك الانسان مواتاة الأسباب لشوقه اصبح قادراً على تحقيق ارادته ، ومن هنا حريته فكلما زاد علم الانسان زادت حريته وتحققت ارادته .

اما في الشريعة فيقول ابن رشد " لما كانت كل صناعة لها مبادىء وواجب على الناظر في تلك الصناعة ان يسلم مبادئها ولا يعرض لها بنفي ولا بابطال .. لأن المشي على الفضائل الشرعية هو ضروري عندهم ليس في وجود الانسان بما هو انسان بل بما هو انسان عالم ، لذلك يجب على كل انسان ان يسلم بمبادئ الشريعة ... ان مبادئها أمور آلهية تفوق العقول الأنسانية، فلا بدّ ان يعترف بها من جهل اسبابها ..(2) لأنها مبادئ تثبيت الشرائع والشرائع مبادئ الفضائل ، فاذا نشأ الفرد على الفضائل الشرعية كان فاضلاً باطلاق(3) فإن تمادى به الزمان والسعادة الى ان يكون من العلماء الراسخين في العلم فعرض له في مبدأ من مبادئها ففرضته ان لا يصرِّح بذلك التأويل .. فمعقولية الدين تكمن في كونه يصدر عن سبب اساسي هو الفضيلة .(4)

وهكذا يتبين لنا معنى السببية كما ارادها ابن رشد

 

ثالثا : السببية الاجتماعية وعلاقتها بالقيم الخلقية

 

 

 (1) اخلاق فاضلة ـــــ اجتماع فاضل

يقول ابن رشد ان العلم السياسي مبدؤه الاراده والاختيار وغايته العمل والفعل ، لذلك هو يبحث عن الشيم والعادات المكتسبه اولاً وعن كيفية غرسها ثانيا(1) القسم الأول اي الشيم والعادات تم بحثها في كتاب الاخلاق ، والقسم الثاني تم بحثه في كتاب السياسة .

وقد صرح ابن رشد ان الفرد جزء اساسي في الاجتماع (2) ، كما بينا من قبل وهذا الفرد برأيه ذو اراده حره واختيار حر ، لكن هذه الحرية ليست مطلقة بل مقيده بالاسباب الكونية كلها التي قد تخبرنا في بعض الأحيان على افعال معينة(3) فالفرد حر في نفسه في حياته الخاصة لكنه مجبر في ارتباطه بالمؤسسات الاجتماعية الدينية والأسرية والقانونية والنظام السائد في مجتمعه ) .

ولهذه المؤسسات قيم اجتماعية يربى الأفراد وفق تلك القيم كما تحدد مواقفهم وتوقعات ادوارهم وفقها(4) لذلك بحث ابن رشد عن الشيم والعادات المكتسبة مثل البر والشجاعة والعدالة والمرؤءة والعفة وكبر النفس والحلم والسخاء ، والحكمة وغيرها .

فيقول ان الشجاعة يكون المرء بها فعّالاً للأفعال الصالحة النافعة في الجهاد على حسب ما تأمربه السنة حتى يكون بفعله هذا خادماً للسنة واما الجبن فضد هذا (5).

ويقول عن السخاء بأنه فضيله الفعل الجميل المشهور في المال والدناءه ضد هذا (1) ومن العادات المكتسبة الفاضلة التي تكلم عنها كبرالهمة التي يكون بها المرء حسن الأفعال العظيمه(2) وصغر النفس والنذالة ضدها .

ومنها الخجل عند ذكر القبائح ومنها اللب الذي هو فضيلة العقل وبه يكون حسن المشوره والرويه ويقول انه من الشرف ان يكون الانسان مكتفياً بنفسه ولا يحتاج الى الآخرين .

فالأخلاق والشيم والعادات المكتسبة التي تكلم عنها ابن رشد كثيرة منها اخلاق تخص الفرد والأسرة ، من الأخلاق التي تحدث عنها الصدق والأمانة في المعاملات التجارية والزكاة وأهميته ووجوب فرضه والصوم والصلاة وغيرها من العبادات التي تهذب النفس وتصقلها وتسمو بها لأنه بسمو الفرد بسمو المجتمع والدولة .

فبوجود اخلاق فاضلة يكون مجتمع فاضل اي ان هناك علاقة سببيه بينهما يقول ابن رشد " ان الوجود لايفهم الا من قبل اسبابه الذاتية وبدون هذه الأسباب لا تستطيع تمييز موجود عن موجود " وهذا ما اغفله الفكر الاجتماعي الوظيفي المعاصر .

اذاً لكي يكتسب الفرد اخلاقياته ومهاراته وليؤدي وظيفته في هذا المجتمع على اكمل ما يكون علينا ان نغرس الفضائل في نفسه . لأن ابن رشد يؤمن بالتربية كما يؤمن باكتساب الأخلاق الحسنة(3) ويكون ذلك باستعمال الطرق الخطابية والشعرية ، كما يؤمن بوحدة التربية لجميع فئات المجتمع ، نعلمهم العلوم ، ونبعد عنهم الخرافات (4) وندعوهم للأعتدال(5) في المأكل والمشرب واللذائذ ويكون ذلك بالرياضة والموسيقى لكن باعتدال ايضا . يرى ابن رشد ان الفضائل الخلقية نكتسبها بالتأدب والفضائل النظرية بالتعليم (6). ولاكتساب الخصال الخلقية يُوجهون الى الضروري فيشرعون بدراسة علم الحساب والأعداد لأن هذا العلم يمتزج بكل علم وبعده الهندسة ، والفلك ثم الفروسية وبعد سن العشرين يبدأون بتعلم الفلسفة حتى الثلاثين (1).

ولا يستثنى ابن رشد النساء من التربية لأنهن برأيه كالرجال لكنهن يختلفن عنهم بالدرجة ، ويرى ابن رشد ان الناس اذا تربوا هذه التربية الصالحة المتمسكة باهداب الفضيلة والمبتعدة عن الماديات كانت نفوسهم في توافق وانسجام وعدالة اي كانت قوتهم العقلية الناطقة هي المتحكمة بقوى النفس الأخرى ( الغضبية والشهويه ) من الطبيعي ان افراداً لهؤلاء هم مواطنون فاضلون كل يقوم بعمله باخلاص وجداره فلا يتعدى على عمل غيره وكل يتمتع بالفضائل الحسنة ويبتعد عن الرذائل ويتمسك بالقيم الأخلاقية والشرعية ان يفرزوا حكاماً فلاسفة بعيدين عن حب المال والتملك ، غايتهم سعادة الناس وبذلك تكون مدينتهم فاضلة ، يحكمها دستور وفق الشريعة الاسلامية وشعب متدين يطيع الحاكم ويعمل ما يأمره به اذا ً مجتمع فاضل واخلاق فاضلة يقود فرداً فاضلاً ، وبالتالي تكون المدينة فاضلة لأن الفضيلة موجودة في كل فرد من أفرادها واذا ارتكب الظلم في مدن أخرى فذلك مرده الى عدم العدالة في الفرد وسببه ان كل واحد انما ينشأ على اكثر من حرفه واحدة وينتقل من حرفة لأخرى فالظلم والتعدي في نفس الفرد هما الظلم والتعدي في المدينة الجاهلة وهذا يشبه الجسد في صحته ومرضه فالصحة في توافق الأمزجة والتوافق مع الطبيعة ، بينما المرض هو اختلاط الأمزجة وعدم التوافق مع الطبيعة .

وصحة النفس بالتوافق مع القوة العاقلة والمرض يكون بالارتباط مع القوى الاخرى التي تحكمها .

 

 (2) اخلاق ناقصة - اجتماع ناقص

بعد ان بينا كيف ترتبط الاخلاق الفاضلة بالمجتمع الفاضل ، والفرد فيه وكيف تتبادل الادوار فيما بينها ، لا بد ان نبين أيضا كيف ترتبط الاجتماعات الناقصة أو الساقطة بقيم معينة تظهر معها . وبما ان هذه الاجتماعات متعددة كما اوضحنا في الفصل السابق ، فان الاخلاق هي الاخرى سوف تلازم هذه الاجتماعات وتتغذى منها ، كل حسب طبيعته الخاصة . اي ان فكرة الوسط (3) الخلقي هي المعؤل عليه هنا للحكم على هذه الاجتماعات .

وبدورنا سوف تتحدث عن كل اجتماع من هذه الاجتماعات وما يرتبط به من قيم خلقية تنعكس عنه . وهذه الاجتماعات هي :

 

 ( أ ) اجتماع المجد والشرف - حب السمعة والشرف .

يقول ابن رشد ان الرجل يكون كارها للمال في شبابه لكنه يتحول فيما بعد وينحاز لحب الثروة . كيف تتبدل اخلاقه الفاضلة التي تربى عليها الى القول بأن كل من يسكت عن حقه جبان وأحمق وذليل ؟ ذلك لأنه رأى ان نتيجة الزهد في المناصب والكبرياء وعزة النفس والكرامة هو ضيق ذات اليد ، فهذا الشاب تتنازع لديه النفس العاقلة مع الطبيعة الشهوية والغضبيه(1) بالاضافة لرفقاء السوء الذين يغذونه بغرس الرذائل فينجم عن ذلك تحوله الى الوسط بين حب الفضيله وحب الرغبات اي حب الشرف والمجد ، وهكذا نراه يتهافت للحصول على السمعة الحسنة والأعمال الصالحة فيتعاون للحصول على الشرف أو على الفائدة (2) وقد يكون من محبي اليسار وبلوغ اكثر الضروري ومن محبي ان يكونوا مخدومين مكتفين بكل ما يحتاجونه ومن أن يكونوا مشهورين بكثرة الأصدقاء وبالاستهانة بالموت(3) لذلك ترى الحكام من هؤلاء قد اتخذوا الثمين من الملابس مثل العباءات الحريرية (4) الموشاة بالذهب ويجلسون على آرائك من ذهب وهم يظنون انها علامات الكمال والعلم (5).

عن هذا الاجتماع ، تنبثق الأخلاق الخاصة بها كما اوضحنا ، وان كان هذا الاجتماع الأكثر تميزاً بين الاجتماعات غير الفاضلة ، لانه يبغي ما نظنه فضائل ودستورها قائم على المجد والشرف اي غايتها الشرف بينما المدينة الفاضلة غايتها الفضيلة ويسمى الفارابي هذا الاجتماع باجتماع اهل الكرامة (6).

 ( ب ) اجتماع المال - اخلاق حب المال والثروة

بعد ان يكون هم الحكام الشرف والمجد تراهم يركضون وراء المال وجمعه اي يسعون الى ما ينقص وجودهم مثل المأكول والملبوس والمسكون وكل ما له صله بهذه الأشياء (1). ويهتمون بجمع الدنانير وما شابهها قيحصلون عليها من الفلاحة والرعاية والصيد واللصوصية والمعاملات الادارية مثل التجارة والاجاره (2) وغير ذلك (3)، فتصبح المدينة مدينتين واحده للفقراء وأخرى للأغنياء . فالحكام هنا هم القلة و الشعب هو الأكثرية الفقيرة ،المُستَغَلة من الحكام الذين سلبوهم اموالهم وعقاراتهم ففئة الحكام هذه لا تشبع ولا تكتفي فتمتص دم هذا الشعب المغلوب على أمره ، وهذا مما يدفع بالشعب الى الثورة وتسلم الحكم .

يحدث هذا في زمن يصبح المال هو الغاية وهو المطلوب لذاته ، ولا ترى فائدة الا للدينار والدرهم ، وترى الناس يفضلون كل ذي نفع على ما هو جميل وحق ، ويفرون من الفضيلة الى كل طور مقترن بالرذيلة ، ينظرون الى الغني نظرة تبجيل واحترام كمن يسلم قيادة السفينة للأكثر غنى وليس للأكفأ (4).

انه اجتماع النذالة واجتماع السقوط ، الذي بيناه ، عند حدوث اي طارئ من الداخل او الخارج، لا تمنعهم اخلاقهم من تغيير الدستور لما فيه فائدتهم ولهذا يقول ابن الرشد مغذياً فكرته عن هذا الاجتماع وعن اخلاق أهله وقيمهم مستنداً الى التاريخ السياسي المعاش في زمانه بقوله » يشبه هذا في زماننا المملكة المعروفة بالمرابطين حيث كان دستورهم في اول عهدهم قائماً على الشرع لكن فيما بعد في عهد الابن تبدل الدستور الى دستور قائم على المجد والشرف وقد مازجته الرغبة في المال وحدث مع مجئ الحفيد ان تحولوا الى دستور قائم على اللذه وما يتعلق بها من الأشياء اللّذيه والترف فتفسخ حكمهم وهلكوا وبعد امر هلاك ملكهم الى قيام دستور معارض لهم في زمانهم وهو دستور قائم على الشرع «(5) ويعتقد ابن رشد بذلك دولة الموحدين التي قامت على انقاض دولة المرابطين .

 ( جـ ) الاجتماع الجماعي - اخلاق الحرية غير المنضبطة

رأينا سابقاً كيف تحول رحل الفضيلة الى رجل محب للشرف ثم الى حب المال وجمعه وهذا بدوره سيتحول الى رجل الحرية المطلقة ان هذا الفرد حر من اي قيد ، يفعل اي شيء ترغب به نفسه وتقوده اليه لا فضل هناك لأحد على أحد ، والحكم هنا بالاتفاق لا عن استئهال،

هنا اناس يرغبون بالمجد وأناس يرغبون بالمال وغيرهم بالتسلط والاستبداد ولربما نجد من يمتلك سائر الفضائل(1) هنا نجد كل الصناعات والحرف ، وكل شخص بامكانه ان يحصل على ما يرغب فيه ويحافظ عليه ، وهنا يصبح الفرد عبداً لرغباته ، يشرب الخمر حتى الثمالة ، وفي وقت آخر يلعب الرياضة ، تراه يجمع المتناقضات من حكمة وقوة تحمل الى اهمال وتقاعس ، مفرط في طلب الحرية الجميع احرار ، ساده وعبيد ، نساء وخدم كلهم متساوون ، يطلبون الحرية بلا حد مثل الجسم العليل الذي يضطرب بسبب البلغم والصفراء (2).

ولا يمكن ان نجد في هذا الاجتماع اخلاقا محددة ، بل تجد فيه كل القيم الخلقية الساقطة وغير الساقطة لان اهله لايحدهم وازع أو سلطان كما اشرنا .

 

 ( د ) الاجتماع الاستبدادي - اخلاق القهر والاستلاب

لاشك ان نهاية الحرية المطلقة في المدينة الجماعية هي الاستبداد فغاية المستبد هو الحصول على مآربه الخاصة سواء بالرغبة في الغلبة فقط او الرغبة في الشرف او المال او اللذه أوكلها جميعا فالمستبد يستخدم الجميع لتنفيذ ارادته . وهم أشبه بالعبيد بين يديه .

من اخلاق اعتماده العيش مع الأشرار ، يطلب منهم حمايته ، فيجزل لهم العطاء مقابل ذلك ، انه يسطو على اموال الشعب ولم يتورع من قتل من يقف في تنفيذ شهوته في الاستيلاء على كل ما ليس من حقه حتى لو كان أعز الناس عنده ، حتى لو كانا والديه ، انه كالسيل الجارف، يجرف كل ما أمامه دون وازع او رادع ، ان قواه الغضبيه الشهوانيه قد انفلتت من عقالها ولا راد لها .

انه انسان امتلأت نفسه بحب الشهوات والرغبات فاندفع اندفاعاً أعمى لأشباع هذه الرغبات التي استعبدته وأعمت بصيرته . المستبد رجل شرير سيطرت قواه الغضبيه على قواه العقلية فأصبح كالأعمى لا يرى امامه وكالأطرش لا يسمع نصيحة من أحد .

المستبد انسان تملكه الجشع للأستحواذ على كل شيء ويظن انه مادام يسرق ما يملكون فليسوا بقادرين على زعزعته لأنهم منشغلون بتدبير قوتهم اليومي ، واذا شعر المستبد بالخوف من أناس يملكون الأشياء المادية والسلطة فإنه يعمل ببراعة على قتلهم ، ويكره كل نظير له ، وكل من هو في مقامه ، فهو مكروه من الجميع (1). حيث يتحينون الفرص لاخراجه من المجتمع وابعاده عنه (2). ، وخير من يمثل ذلك في التاريخ الاسلامي عند ابن رشد هو يحيى بن غانية (3) .

ان هذا الاجتماع هو على الطرف النقيض من الاجتماع الفاضل الذي غايته اسعاد الناس في حين المستبد ، غايته تحقيق مآربه الخاصة والتي هي سريعة الزوال .

ونحن نختم كتابنا هذا ، لا بد ان نشير الى جملة من النتائج التي توصلنا إليها خلال سير البحث ، وهي .

(1) ان ابن رشد يؤكد ان الاجتماع ضروري للأنسان وللجماعة الانسانية كلها ، لان به تمام تحقيق الكمال والسعادة والفضيلة لهم ، ويدونه اي لا يكون ذلك ، وان العزلة شر ونقص يجب على الانسان ان لا يسلكه مهما كانت الأسباب . وان هذا الاجتماع يبدأ من تحقيق الضروريات للأنسان كالطعام والشراب والسكن واللباس والزواج وهو أصل لكل اجتماع يليه فيما بعد اجتماع الاسرة والمدينة .

(2) ان ابن رشد ، يريد تأكيد النظام والتوحيد للمجتمع بفئاته الثلاث ويريد كذلك ان يكون هذا المجتمع قوياً روحاً وجسداً ، من خلال التآلف بين فئاته الثلاث بقيادة رئيس للمدينة يتمتع بصفات وخصال عديدة منها الشجاعة والقوة والحكمة والعلم والفطنة وغيرها . اي انه ضد الفوضى والانقسام والتحلل للمجتمع . وذلك كله جاء من كونه قاضياً وفقيها وفيلسوفاً محكماً .

(3) ان ما عرضه ابن رشد من صفات للمجتمع الكامل الفاضل السعيد انما اراد به تكون سعي الانسان والمجتمع نحو بلوغ هذه الغاية الفاضلة . وبعكسه لن يتحقق ذلك الكمال للمجتمع، وتقوم به اجتماعات غير كاملة وفضائلها ناقصه ولا تتمتع بالخير والفضيلة .

(4) كذلك توصل البحث الى ان ابن رشد ربط ربطا محكماً بين صفات المجتمع واخلاقه ، فالمجتمع الفاضل ينتج اخلاقاً فاضلة ، والمجتمع غير الفاضل ترتبط به اخلاقيات متعددة بحسب نمط هذه الاجتماعات وتعددها وذلك عن ربط مايسمى بالسببية الاجتماعية التي اجاد ابن رشد بتحليلها وعرضها وربطها ربطاً علمياً موضوعياً عقليا محكماً .

(5) ومن ميزات عرض ابن رشد لفكره الاجتماعي ، انه لم يحصره في مجال النظرية فقط ، بل نقله الى مجال التطبيق والاستفادة من تجارب التاريخ العربي الاسلامي الى زمانه ، ووجد مقاربات لكل انواع الاجتماعات التي تحدث عنها ، وهذه ميزة تسجل لابن رشد في نظرته الواقعية للأجتماع الانساني وعلاقته بحركية التاريخ الاسلامي .

(6) وفضلاً عن ذلك ، فان ابن رشد ، قد امن ان تحقيق العدالة في المجتمع انما يكون عن طريق التخصيص ( التخصص ) في العمل ، وان الانسان يجب ان لا يعمل باكثر من مهنة أو حرفه ، حتى يجيد فيها ويتقنها وبالتالي فان هذا سيعود بالنفع على الدولة والمجتمع اقتصاديا وسياسياً واجتماعياً وبعكسه اي عدم التخصص والعمل باكثر من حرفة سيجر على المجتمع الخراب والوبال والرذيله ، وهو بذلك انما يناصر الكفاءة التقنية العلمية ... ضد الفوضى في العمل والانتاج .

(7) وايضا نجد ، ان ابن رشد في بحثه لطبيعة الاجتماع الانساني يهتم كثيراً بموضوع التربية للمجتمع ، ويعّدها الدعامة الاساسية التي تنطلق منها القيم الخلقية كلها ، وهذه التربية انما تقوم عنده على قواعد راسخة ومقننه بشكل دقيق نأخذ بالحسبان حاجات الانسان الاساسية وتطورات نفسه وعقله ومراحل هذا التطور . ولهذا نجده كثيراَ ما يؤكد المراحل العمرية للأنسان ونوع التربية الموائمة لذلك العمر .

(8) ومما يسترعي الانتباه أيضا ، ان ابن رشد قد نظر الى المجتمع نظرة مساواة بين العنصرين الأساسيين فيه الرجل والمرأة ، فمساوى بين المرأة والرجل في الكفاءات بحسب القدرات العقلية والنفسية لكليهما باعتبارهما من نوع واحد هو الانسان ، وبذلك فقد اعطى للمرأة حقها ودورها في تمكين المجتمع من تحقيق الفضائل الخلقية والكمالات الانسانية بمشاركتها للرجل في الاجتماع . وعزا سبب تخلف المجتمع الى اسقاط دور المرأة فيه عن المشاركة .

ان هذه النظرة المتقدمة لابن رشد عن المرأة يمكن ان تعد مهمازاً لكل الافكار والسياسيات التي تطالب بتأكيد حقوقها ودورها في المجتمع . وان عزا ابن رشد ذلك كله للتربية الخلقية والكفاءة العقلية والمقدرة الجسدية للمرأة .

(9) ان افكار ابن رشد هذه حول الاجتماع ، قد وجدت لها صدى عند مفكرين وفلاسفة آخرين من بعده ، عربا مسلمين كانوا أم من أمم اخرى . واقصد هنا ابن خلدون من العرب واوغست كونت ومونتسيكو وجان جاك روسو ودور كهايم وآدم سمث وغيرهم من الاجانب . وبالتالي فلابد من عمل أبحاث مستقبلية تبين أثر ابن رشد الاجتماعي في هؤلاء . المفكرين في قابل الأيام .

 

 

 

الخاتمـــــــــة

 

الهوامش

 (1) راجع ميشيل دنكن ، معجم علم الاجتماع ، ترجمة د . احسان الحسن ، ط 2 ، بيروت 6891 ، ص 34 وما بعدهما .

 (1) راجع ، جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ، بيروت ( د . ت ) . مادة سبب ج 1 ، ص 946 .

 (2) انظر : الجرجاني ، التعريفات ، بغداد 6891 ، ص 88 ( مادة علة ).

 (1) انظر : تهافت التهافت ، ص 915

 (2) المصدر نفسه ، ص 25 .

 .

(1) انظر ، تهافت الفلاسفة تحقيق سليمان دنيا ، ط3 ، القاهرة 8591 المسألة السابعة عشرة ، ص 732.

(1)راجع ، التليلي ، ابن رشد الفيلسوف العالم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، نونس 8991 ، ص 231.

 (2) فصل المقال ، ص 24

 (3) تهافت التهافت ص 815.

 (4) المصدر نفسه ، ص 024

 (5) المصدر نفسه ، ص 681 .

(1) راجع مقال هاني مندس ، مفهوم العلية عند ابن رشد ، مجلة دراسات عربية ، السنة السابعة العدد (7) ، 1791 و ص 25 وما بعدها .

 (2) فصل المقال ص 22

 (3) الحشر الآية 95.

 (4) الاعراف الآية 7

 (5) الغاشية الآية 88

 (6) فصل المقال ، ص 62.(1) تهافت التهافت ، ص 425.

 (2) المصدر نفسه ، ص 425

 (3) المصدر نفسه ،ص 525

 (4) المصدر نفسه ، 625.

 (1) د، حسن العبيدي العلوم الطبيعية في فلسفة ابن رشد دار الطليعة بيروت 5991 ص 72-35

 (2) تهافت التهافت ص 225 .

 (3) المصدر نفسه ص 915

 (4) المصدر نفسه ، ص 025.

 (5) المصر نفسه ، ص 325.

(6) خليل شرف الدين ( ابن رشد الشعاع الأخير في سبيل موسوعة فلسفية منشورات دار مكتبة الهلال 3891 ص 27 .(1) را جع ، محمد عابد ( الجابري ) المدرسة الفلسفية في المغرب والاندلس ، ضمن اعمال ندوة ابن رشد في الغرب الاسلامي ، ص811 .

 (2) تهافت التهافت ، ص 725.

 (3) المصدر نفسه ، ص 825.

 (4) المصدر نفسه ، ص 725 .

 (1) المصدر نفسه ، 725.

 (2) راجع ابن رشد فيلسوف قرطبة ، ص 24 ، الكشف عن مناهج الأدله ص 68

(1) المصدر نفسه ، ص 1 ، 9 ، 01 " واما السخاء ففضيله تفعل الجميل في المال وأما الدناءه فخلاف ذلك .

 (2) المصدر نفسه ، ص 9- 01 " وأما كبر الهمة ففضيلة يكون بها حسن الأفعال العظيمة تلخيص الخطابة ، ص 48.

 (3) تلخيص السياسة ، ص 47 .

 (4) المصدر نفسه ، ص 58.

 (5) المصدر نفسه ، ص 79 .

 (6) اوضحها من قبل الفارابي في تحصيل السعادة ص 87 .

(1) تلخيص السياسة ، ص 56

 (2) المصدر نفسه ، ص 611.

 (3) الكشف عن مناهج الأدله ص 121.

 (4) راجع معن خليل عمر ، ضمن اعمال ندوة ابن رشد في المغرب الاسلامي ص 65-85 ، السببية الاجتماعية عند ابن رشد .

 (5) حاشية ضمن كتاب ارسطو ، الاخلاق ص 1 ، 8 ، 9 وأما الشجاعة ففضيلة يكون بها المرء فاعلاً للأفعال الصالحة النافعة في الجهاد وعلى ما نأمر به السنة ويكون خادماً للسنة ..

 (1) تلخيص السياسة ، ص 791

 (2) المصدر نفسه ، ص 971.

 (3) المصدر نفسه ، ص 081.

 (4) المصدر نفسه ، ص 281.

(5) يقول افلاطون يتحول الرجل الفاضل الى رجل يحب الشرف بانه يفضل الرياضة ويحب الصيد ويكره الموسيقى ويؤثر الغلبة والاستبداد ولا يطلب الحكم لنفسه لفضيله ما بل لقوته وبسالته في الحرب . راجع الجمهورية . ك 6.

 (6) راجع ، كتاب آراء اهل المدينة الفاضلة ، ص 011 - 111 .

 (1) تلخيص السياسة ، ص 111.

 (2) المصدر نفسه ، ص 111 وما بعدها

(3) فكرة الوسط الخلقي ، فكرة فلسفية مؤداها ان الوسط دائماً خير وفضيلة وما بين الطرفين هد الرذيلة . فالفضيلة هي وسط بين رذيلتين . والشجاعة وسط بين رذيلتين هما الجبن والتهور ، راجع في ذلك ، ارسطو ، كتاب الاخلاق حيث يهتم كثيراً بهذا الموضوع وابن رشد ههنا يتبنى هذه الفكرة .

 (1) تلخيص السياسة ، ص 012.

 (2) المصدر نفسه ، 802

(1) تلخيص السياسة ص 381.

 (2) المصدر نفسه ، ص 481

 (3) المصدر نفسه ، ص 481.

 (4) المصر نفسه ، ص 991.

 (5) المصدر نفسه ، ص 302

(1) تلخيص السياسة ، ص 412.

(2) المصدر نفسه ، ص 881- الفارابي السياسة المدينة 66- 76 يسميهم الفارابي بالقاهرين ، ومدينة الغلبة والقهر = ( الاستبداد ) ويقول : ربما كان القاهر واحداً فقط وله قوم وهم له آلات في قهر الناس ... وكذلك سائر اهل المدينة سواهم عبيداً يخدمون ذلك الواحد في كل ما فيه هوى ذلك الواحد ، اذلاء خاضعين لا يملكون لأنفسهم شيئاً أصلاً فبعضهم يحرثون له وبعضهم بتجرون له ويكون قصده في ذلك ليس شيئاً اكثر من ان يرى قوماً مهورين مقلوبين اذلاء له فقط . وان لم ينله نفع آخر من جهنهم ولا لذه سوى الذل "

 (3) حول يحيى بن غانية هذا ، ودوره الاستبدادي في الاندلس زمن المرابطين ، راجع الحاشية الطويلة التي كتبها د، حسن العبيدي ، ضمن كتاب تلخيص السياسة ،ص 312 .