لحظة منطق 


عناية جابر / القدس العربي / ٢٢ - ٨ - ٢٠١٣ /

قدّم الربيع العربي نفسه أو جرى تقديمه لنا بالأحرى كانتفاضات شعبية داخلية ضد انظمة استبدادية متقادمة وعاجزة عن مواكبة العصر ومفاهيمه الجديدة. قبل الجميع الفكرة بهذه الدرجة أم تلك. وتراوحت المواقف بين مؤيد بدون تحفظ وبين مؤيد يبدي بعض الشكوك لجهة غياب قيادة واعية لأهداف التغيير. لكن الجميع كان متفقا على ضرورة التغيير وعلى اعتبار الحركة عفوية يقوم بها جيل الشباب الغاضب.
لم يبد أحد في البداية اي شك في منابع واسباب الانتفاضات. كل شيء كان يوحي بعفوية التحرك النابع من وصول الأوضاع الى مأزق بدا معه ان الإصلاح من داخل هذه الأنظمة ليس فقط لم يعد ممكناً بل مستحيلا. وبالرغم من عفوية التحرك والسلبية التي ميّزت شعاراته كان واضحاً منذ اللحظات الأولى ان الهدف غير المعلن ربما لهذه الانتفاضات انصب على اسقاط الاستبداد واقامة أنظمة تعتمد الديمقراطية منهجاً لتداول السلطة والانتخابات وسيلتها الاساسية. تقديم المعركة على هذه الأسس كان يخفي بالحقيقة تشخيصا محددا وواضحا للمأزق المطروح. وبقدر ما كانت التحركات شبابية وعفوية وحضارية وغامضة بقدر ما كانت طبيعة المعركة محددة بدقة وواضحة للجميع. الاستبداد علتنا الأساس والديمقراطية هي الحل. القوى السياسية التي تدعم الانظمة المستبدة هي العدو و’الشعب’ بشيبه وشبابه هو الحاضنة التاريخية للتحول الديمقراطي. بالطبع بقي الغموض مسيطرا لناحية البرامج الملموسة والخطط العملية لبلوغ اهداف هكذا معركة.مع ذلك تفاءل الجميع خيراً معتمدين على حس الشعب السليم وعلى قدرة هذا الشعب على فرز قيادة مناسبة للتحرك وعلى بلورة برامج قابلة للتطبيق وفق روزنامة معقولة. الشعب تمكن في فترة قصيرة نسبيا من قلب نظامين كبيرين في المنطقة هماتونس ومصر. ثم كرت السبحة فسقطت انظمة اخرى جزئيا. وحدها ليبيا وبسبب من التدخل الأجنبي في دعم حقوق الشعب الليبي بالحرية ضد نظامه المستبد شكلت بداية الشكوك في صحة طبيعة المعركة سرعان ما تناساها العقل العربي بحجة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. مع سوريا تعقد الوضع اكثر فاكثر وبدا الصراع الداخلي وبوضوح جزءا من صراع أوسع يضم دول الإقليم من جهة والدول العظمى بمعسكريها الجديدين من جهة أخرى. غذّى الصراع في سوريا الشكوك حول صحة نظرية الثورة الداخلية ضد انظمة مستبدة. لكن تقدم العملية الديمقراطية على الأقل في مصر وتونس قاد الى التغطية على الاسئلة التي بدأت تلوح في الأفق.اللوحة التي انتهى اليها الوضع حتى الساعة تشير الى أن عملية التحول الديمقراطي وبالرغم من إجراء الانتخابات والإحتكام الى الصندوق قد قادت الى حالة من الاهتراء لم تقتصر فقط على المستوى السياسي بل راحت تصيب هياكل الدول المعنية ونسيجها الاجتماعي. وفي هذا السياق برز نوعان من الظواهر لا يشيران البتة بالضرورة الى صحة الفرضية الأساس التي فسرت طبيعة الربيع العربي. فلا الجمهور رضي بنتائج الديمقراطية وقبل بما نتج عنها من انظمة حكم جديدة ولا الداخل بقي محتكرا الأولوية.هناك اليوم من يحاول اقناعنا أن الديمقراطية تعطلت بسبب نجاح التيارات الإسلامية في استخدام الصندوق لكي تسيطر على السلطة وتحتكرها. وهناك من يقول العكس بان الجيوش هي التي تحاول استعادة الماضي الاستبدادي عبر منع هذه التيارات من ممارسة الحكم وفق ما ييمنحها اياه الدستور والتداول الديمقراطي. وبين هذا وذاك اتضح ان الديمقراطية هي نفسها المشكلة لا الحل. طبعا لا الديمقراطية بالمطلق. وانما الديمقراطية في لحظة تاريخية محددة من تطورنا.فكيف يمكن شعب ان يطرح على نفسه مهمة تاريخية لم يستعد لها بعد؟كبف يمكن التسليم بعفوية التحرك الشعبي ثم التشكيك بنتائج هذه العفوية. كيف يكون الشعب غير واع والثورة واعية ؟ الا ترون معي أن في هذه الثورات الكثير من التناقضات الداخلية؟ تناقضات لا تفسر لاول وهلة الا اذا وضعنا هذه الثورات في الاطار الاوسع سياسيا وجغرافيا, اقليميا ودولياً لكي نعود لنفك طلاسمها. إذ ما هو المنطق في ان يقف الجيش المصري اليوم ضد الإخوان المسلمين فقط في مصر ولا يقف ضدهم مثلا في سوريا ؟ وما هو المنطق في ان تدعم السعودية الجيش في مصر خلافا لقواعد واصول الديمقراطية التي اتت بالإخوان الى السلطة؟ وما هو المنطق في دعم السعودية للديمقراطية في سوريا والوقوف ضدها بمصر مثلا ؟ أو ما هو المنطق في دعم السعودية للديمقراطية كلها من الاصل وهي غير مقبولة شرعاً في السعودية نفسها ؟ ما هو المنطق في دعم الولايات المتحدة الاميركية للديمقراطية في الشرق الاوسط ؟ هي التي تتحالف اليوم مع اكثر الدول استبداداً في المنطقة بعد ان تحالفت بالأمس مع اكثر الدول استبداداً في دول الربيع العربي. عدد كبير من الاسئلة تقفز الى الذهن اليوم بعدما اتضح أن الديمقراطية كانت شعار نخب لا شعار شعوب. الشعوب, هي وجماعاتها, وبطونها وأفخاذها, وبكل المعاني, لا تريد بعدُ هذه الديمقراطية على فرض انها شعار الثورات الفعلي. ما جرى من دعم للديمقراطية في ليبيا من قبل كل دول الاستعمار القديم والنهب الجديد يوحي لكم بمعركة شعب ليبي ثار من اجل الحرية وارساء قواعد التداول الديمقراطي العصري ؟ أم ما يجري اليوم هو من الصنف الذي يؤسس لديمقراطية ما بعد حداثية تقوم القبائل فيها بدور الحاضنة التاريخية ؟ بالامس ابتكرت قبائل لبنان الديمقراطية التوافقية التي تقود الى حرب اهلية كل عشر سنوات تقريبا وتودي بحياة مئة الف بني آدم . اليوم صارت هذه الديمقراطية التوافقية حلم الجماهير العربية من شرقها الى غربها