الفصل الثالث

 المبحث الثالث

 عهد الانفصال

 أيلول 1961- 8 آذار 1963 28

 

تنفيذ الانقلاب وتطوراته

في صبيحة يوم الخميس 28 أيلول 1961 أذيع بلاغ عسكري من إذاعة دمشق باسم "القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة"، وأعلن فيه قيام الجيش بحركة انقلابية ومبرراً ذلك بالعبارة الآتية "إننا قد طرقنا كل باب للإصلاح قبل أن تنفجر الأمور فلم نجد إلا القوة سبيلاً للتحرر من المستغلين واتباع طريق الحرية، ولم نجد إلا القوة سبيلاً لكي تعاد للشعب حريته وللجيش كرامته".

بعد ذلك توالت البيانات والبلاغات العسكرية فأذيع البلاغ الثاني مبيناً الهدف من الانقلاب وأسباب القيام به، والبلاغ الثالث الذي نص على الحفاظ على أرواح المصريين الموجودين في سورية، أما البلاغ الرابع فقد أعلن إغلاق المطارات والموانئ وغلق الحدود.

في حين أكد البلاغ الخامس نجاح الحركة. كما منعت البلاغات السادس والسابع والثامن التظاهر بكل أشكاله بقصد تفويت الفرصة على القوى المعادية من استغلال الحركة وكذلك منع التجمعات.

كان المقدم عبد الكريم النحلاوي على رأس الضباط الذين شاركوا في الحركة الانقلابية من بين 35 ضابطاً آخر هم كل من الذين شاركوا في انقلاب 28 أيلول 1961.

لقد قام المقدم عبد الكريم النحلاوي وجماعته بإحكام الخطة التي وضعت وحددت القطعات التي رشحت للقيام بالحركة، بعدما نجح النحلاوي بنقل كثير من الضباط المؤيدين لحركته والموالين له إلى تلك القطعات. وكانت الخطة تقضي باحتلال الإذاعة والتلفزيون والهاتف ومنزل المشير عبد الحكيم عامر في دمشق. كذلك احتلال القيادة العامة للقوات المسلحة ثم الدخول إلى مبنى رئاسة الأركان العامة وفرض شروط تصحيح الأوضاع كما أطلق عليها إذ كلف بالتنفيذ كل من اللواء الأول مشاة آلي الذي كان أمره العقيد جاسم علوان والمتمركز في قطنا التي تبعد 20كم عن دمشق والذي كان يقوده المقدم مهيب الهندي وكذلك قوات البادية المتركزة في ضواحي دمشق (الضمير) وتبعد عنها بحدود 40 كم وقد تولى قيادتها المقدم حيدر الكزبري فضلاً عن مفارز الدبابات الموجودة في مدرسة المدرعات بالقرب من دمشق ويقودها الرائد عادل الحاج علي (وإنصافاً للحقيقة وبغض النظر عن الخلاف في وجهات النظر السياسي أشهد بأن المقدم نحلاوي الذي سبق له الخدمة تحت قيادتي يتمتع بالكفاءة العسكرية والخلق الرفيع والإيمان بالله والتهذيب الجم).

نفذت الخطة كما هو مرسوم لها وكالآتي:

-   تحرك اللواء الأول (مشاة آلي) الذي يقوده  المقدم مهيب الهندي رئيس أركان اللواء لمعسكرات قطنا وكانت مهمته الإحاطة برئاسة الأركان واحتلال الإذاعة والتلفزيون والهاتف الآلي مما مكن من تأمين مدخل دمشق لمنع دخول أي قوة معادية للانقلابيين.

-   تحركت قوات البادية التي كان على رأسها المقدم حيدر الكزبري من منطقة الضمير في ضواحي دمشق وكان واجبها محاصرة المشير عبد الحكيم عامر في داره في شارع أبو رمانه في منطقة المهاجرين.

-   قامت القوى الجوية بقيادة العميد موفق عصاصه بتقييد حركة الطيران السوري والسيطرة على القوى الجوية.

-   بقية القطعات في دمشق كان هناك اتفاق مع عناصر من الضباط من جماعة النحلاوي والموالين له بالسيطرة على تلك القطعات وضمان تحييدها. فضلاً عن أن النحلاوي قد أصدر تعليماته إلى هؤلاء الضباط للقبض على الضباط المصريين العاملين في وحدات الجيش الأول للحيلولة دون قيامهم بأية مقاومة.

علمت شعبة الاستخبارات السورية التي كان يرأسها آنذاك ا لعقيد السوري محمد الإستنبولي بالحركة الانقلابية إذ أبلغ المشير عبد الحكيم عامر الذي اتصل على الفور بقائد الجيش الأول الفريق جمال فيصل وبرؤساء شعب الأركان والوزراء التنفيذيين والعسكريين فقط. وطلب منهم التوجه فوراً إلى رئاسة الأركان حيث وصل الجميع عند مطلع الفجر وعقدوا اجتماعاً ترأسه المشير عبد الحكيم عامر واتخذ فيه قرارين بإحباط الحركة الانقلابية كان الأول يقضي بمتابعة إرسال دوريات من الشرطة العسكرية إلى المحاور التي تتحرك عليها الأرتال المتقدمة إلى دمشق بقصد إعاقتها إلا أن هذه الدوريات كانت تعتقلها تلك القوات دون مقاومة تذكر وكان القصد من هذا العمل إعاقة تقدم القطعات وتأخير وصولها إلى دمشق والقرار الثاني الذي اتخذه الاجتماع والذي عهد فيه إلى قائد الجيش الفريق جمال فيصل بتنفيذه على الفور وهو الاتصال بالوحدات الفعالة كافة باستثناء المشتركة بالحركة في كل من قطنا والقابون والجبهة وإزرع وحمص طالبهم فيها بالتوجه إلى دمشق بأقصى سرعة لإفشال الحركة إلا أن هذه القطعات لم تستجب باستثناء لواء المدفعية الذي يبعد عن دمشق 40 كم والذي يضم في صفوفه 18 ضابطاً مصرياً وعدداً قليل من الضباط السوريين فضلاً عن أن آمر اللواء لم يكن موجوداً آنذاك إلا أن الاتصال السريع الذي أجراه الضباط السوريون بآمر اللواء دفعه إلى الإسراع للالتحاق بلوائه إذ التقاه في الطريق وهو يتقدم إلى دمشق بحسب أوامر قائد الجيش الأول فأوعز بعودة اللواء إلى ثكناته وعلى الأثر حصلت محاولة تمرد من الضباط المصريين واستمرت المماطلة إلى أن وصل الضباط السوريون ونفذوا أوامر قائد اللواء بإعادة الرتل إلى مقره. وكان النحلاوي قد اتصل بقائد اللواء وطلب إليه اعتقال الضباط المصريين وانتظار الأوامر من عناصر القيادة الجديدة، كما طلب منه الاستماع إلى البلاغات التي كانت إذاعة دمشق قد باشرت ببثها.

أما القطعات المكلفة بواجبات الانقلاب فقد استمرت بالتقدم بحسب الخطة المرسومة لها نحو دمشق وقامت باحتلال أهدافها المحددة وأحاطت برئاسة الأركان دون مقاومة تذكر وهي القوات التي يقودها المقدم حيدر الكزبري والقوات التي يقودها المقدم مهيب الهندي والتي جاءت من قطنا وآنذاك بدأت مرحلة المفاوضات.

فقد خرج الفريق جمال فيصل إلى شرفة القيادة واستدعى ضباط الحركة للمفاوضة غير أن هؤلاء أجابوا أنهم لن يدخلوا القيادة قبل تسليمهم بعض الضباط رهائن. وقد طلب المشير عبد الحكيم عامر بالمقابل من أجل إثبات حسن النية تراجع الدبابات لمسافة قصيرة وقد مثل الإنقلابيين في التفاوض كل من العميد موفق عصاصة والعميد زهير عقيل والمقدم عبد الكريم النحلاوي في حين مثل الطرف الآخر المشير عبد الحكيم عامر والفريق جمال فيصل ومجموعة الوزراء العسكريين.

طالب الانقلابيون ببعض الإصلاحات كما دافع النحلاوي عن حركته مدعياً أنها لا تهدف  إلى الانفصال وكان من بين المطالب الحد من تزايد عدد الضباط المصريين في القطعات السورية ونقل البعض الآخر منهم من مناصبهم إلى رئاسة أركان الجيش الثاني في الإقليم المصري وتشكيل قيادة الجيش الأول  من الضباط السوريين فقط كما طالبوا بإبعاد الوزراء العسكريين الذين كانوا يحضرون ذلك الاجتماع إلى الإقليم الجنوبي وبالفعل قد تم تنفيذ مطالبهم بإحضار طائرة ورحل جميع هؤلاء بعد ذلك أذيع البيان رقم 9 ا لذي كان على شكل بيان مشترك أعلن فيه نهاية حالة العصيان وأكد أن الضباط الذين شاركوا بعملية الانقلاب لا يشكلون خطراً على مكتسبات القومية العربية وقد حصل الاتفاق مع المشير عبد الحكيم عامر لاتخاذ الإجراءات المناسبة من أجل المحافظة على وحدة القوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة وأدى تأخر المشير عامر إلى الالتزام بما ورد في البلاغ رقم 9 ونشوب خلافات بين قيادات الانقلاب حول تأثير هذا البلاغ إلى ترحيل المشير وقائد الجيش الفريق جمال فيصل إلى الإقليم الجنوبي والإعلان رسمياً عن خروج سوريا من الجمهورية العربية المتحدة وصدر البلاغ رقم 10 ملغياً البلاغ رقم 9 مبرراً ذلك بنقض المشير للوعود وعدم التوصل إلى حل.

ثم توالت البلاغات بالصدور حتى البلاغ السادس عشر الذي أعلن تشكيل أول قيادة عسكرية للجيش السوري بعد الانفصال بقيادة اللواء عبد الكريم زهر الدين بعد أن رفض عدد من الضباط الكبار المحترمين منصب قيادة الجيش وفضلوا الإحالة على التقاعد.

من هو عبد الكريم زهر الدين

العميد مطيع السمان ضابط قديم وجيد خريج الدورات الأولى بعد الجلاء وتحديداً عام 1948 وشغل عدداً من المناصب الهامة آخرها قائد المنطقة الوسطى عند وقوع الانفصال ولم تكن له أي مشاركة بالانقلاب وقد تولى منصب قائد قوى الأمن الداخلي من أوائل نيسان 1962 حتى 8 آذار 1963 .

وقد صدر له عام 1965 عن دار النشر اللبنانية (بيسان) مذكراته بعنوان: وطن وعسكر، أقتبس بعض ما ورد فيه حرصاً على الموضوعية والمصداقية وشكراً للعميد السمان.

تعيين زهر الدين قائدا للجيش :

((حدثني صديقي وابن دورتي العميد سمير جبور بانه عند مجيئه إلى مقر قيادة الجيش بدمشق يوم 28/9/1961 وجد اللواء عبد الكريم زهر الدين واقفاً تحت تهديد السلاح وبوضع غير لائق وأن أحد جنود العشائر المكلفين بمحاصرة وحراسة هذا المقر منعه من الدخول وقد أشهر عليه السلاح لتطاوله وتلفظه بما لا يليق.

تدخل العميد سمير وأنقذ زهر الدين مما هو فيه وأخذه بصحبته إلى حيث كان مع ضباط الحركة وكانوا قلقين حيارى لأن الأمور تطورت أكثر مما كانوا يريدون وأضحت البلاد بلا حكومة ولا قيادة عندما تقرر تسفير المشير وهم لا يدرون ما سيعملون.

وفي هذا الجلسة وفي هذا الموقف القلق شديد الوطأة والمسؤولية اقترح العميد دهمان تشكيل قيادة تتحمل المسؤولية فطرح المقدم نحلاوي تشكيلها دون اعتراض من أحد على النحو التالي:

اللواء عبد الكريم زهر الدين قائداً للجيش لأنه كان حاضراً وبالمصادفة.

اللواء نامق كمال رئيساً للأركان العامة لكفاءته وكان في موسكو.

العميد فيصل سري الحسيني رئيساً لشعبة العمليات وهو أحد ضباط الحركة وكان حاضراً.

المقدم برهان بولص رئيساً لشعبة الاستخبارات كان في مصر وهو من جماعة النحلاوي.

المقدم عبد الكريم النحلاوي رئيساً لإدارة شؤون الضباط وكان معاوناً لرئيسها المصري.

كما اقترح المقدم النحلاوي استدعاء الضباط المبتعثين إلى روسيا وكلهم من كبار الرتب العسكرية وعددهم اثنا عشر ضابطاً من بينهم اللواء نامق كمال واللواء وديع مقعبري والعميد مسلم صباغ وغيرهم وذلك لملء المراكز التي شغرت بتسفير الضباط المصريين ومن هم بركابهم من السوريين.

كتب العميد سمير كتاباً باللغة الفرنسية التي يتقنها و بعد طبعه وقعه اللواء زهر الدين و جرى إرساله إلى السفارة الروسية بدمشق و من ثم قدم هؤلاء الضباط.

تابع العميد سمير قوله: بأنه لا يجزم يومها فيما إذا كان تعيين اللواء زهر الدين من قبل المقدم نحلاوي كان لقطع الطريق على غيره من كبار ضباط الحركة رغم زهدهم الملموس في المناصب والرتب، أم ليقينه بأن تسييره والسيطرة عليه أسهل من الآخرين، لنقاط الضعف التي يعرفها فيه،وأن الأيام اللاحقة، رجحت الرأي الثاني بما لا يقبل الشك..

وقد أيد العميد سمير رأيي بأن هذا التعيين كان المسمار الأول في نعش ذاك ا لعهد وأن تستر النحلاوي باسم زهر الدين واستخدام مركزه عملياً دون اعتراض مكنه من القضاء على جميع رفاقه بالحركة وارتكاب كثير من الحماقات القاتلة للوطن وله.

ويذكرني تعيين اللواء زهر الدين في منصب قائد للجيش بتعيين العميد شوكت شقير قائد المنطقة العسكرية الوسطى الأسبق في هذا المنصب مع الاعتراف بثقافة شقير وكفاءته وذلك من قبل العميد شيشكلي عندما استلم رئاسة الجمهورية وقد تجاوز بهذا التعيين ثلاثة ضباط أقدم منه وهم العمداء توفيق البرهامي ورسمي القدسي وعمر خان تمر، ورابعهم معاونه العميد أمير شلاش ولما سئل الشيشكلي عن أسباب هذا التجاوز قال: "بأن شقير بلا ماضي ولا مستقبل ولا أحد يسير خلفه لأنه درزي ولبناني أصلاً" وقد حصل على الجنسية السورية يوم انقلاب حسني الزعيم على المرحوم شكري القوتلي فعلق وقتها أحد العارفين الأذكياء على هذا الكلام بقوله:

"إن من يستولي على البلاد و العباد بانقلاب يخشى من الانقلاب عليه، وإن قائد جيش هزيلا هو أكثر اطمئناناً له من آخر تتوفر فيه الاستقامة والكفاءة والشخصية والشجاعة".

وبالفعل يوم أمر الشيشكلي بضرب جبل الدروز عسكرياً كان العميد شقير قائداً للجيش ومنفذاً لأوامره بدون قدرة على رفض أو اعتراض على ضرب أبناء عمومته وهو في أعلى المناصب العسكرية.

في هذه المناسبة تحضرني حادثة تتعلق بالطائفة الدرزية المحترمة ذكرها عبد الكريم زهر الدين في الصفحة رقم (43) من مذكراته وهي أنهم أي ضباط حركة الانفصال وزهر الدين:

"عثروا في جملة ما عثروا في مكتب المشير عامر وأعوانه على دراسات لتصفية الجيش السوري تشير إلى وجوب التفتيش عن قائد جديد للجيش الأول بعد أن اتضح للقيادة العامة بأن الفريق جمال فيصل قد استهلك استهلاكاً كاملاً، واقتراح العقيد جاد وعز الدين لهذا المنصب، ولكن هناك عقبات عديدة أهمها كونه من الطائفة الدرزية أي من الأقليات ولا يجوز أن يستلم قيادة الجيش درزي".

وهذا ما ذكره زهر الدين بالذات، ومع ذلك أقدمت "شلة الشوام" (حسب قوله) التي عثرت على هذه الدراسة، على تعيينه قائداً للجيش رغم درزيته، وكان هذا خطاً أحمر، لا يجوز تجاوزه أثناء الوحدة، لأن الشوام يرون عدم التفريق بين المواطن والطوائف عند التعيين في المراكز الوظيفية ويأتي زهر الدين فيما بعد، بكل سخف يتجنى عليهم بأقوال رعناء.

أرجو من الأعماق بغية الوصول إلى الحقيقة، من الذين يودون كتابة أحداث سورية في هذه الحقبة بأسماء أصحابها أن يسألوا قبل تدوينها، القريبين والرؤساء والمرؤوسين عما تركه عبد الكريم زهر الدين من أعمال وممارسات يوم كان مديراً لمصلحة المهمات (ملابس الجنود) لسنوات كثيرة ورئيساً لهيئة الإمداد والتموين لفترة قصيرة وأخيراً قائداً لجيش الانفصال، الوظيفة التي عينه فيها الذين كان بيدهم هذا التعيين (شلة الشوام حسب تعبيره) لتكون كتاباتهم مستندة على واقع، وأن يسألوا عن أعمال وممارسات أحد أفراد شلة الشوام كاتب هذه السطور، في جميع الوظائف التي شغلها وآخرها قائد لقوى الأمن الداخلي في سورية، أيام الانفصال أيضاً، وكذلك عمن شاءوا من الشوام الذين شغلوا قيادات عسكرية كبرى في عهود متعددة، وما أكثرهم، طالما كان الاعتراض عليهم بسبب شاميتهم من البعض حسب مذكرات زهر الدين، غير الصادقة، ليقارنوا بين مخلفات زهر الدين، غير الشامي وبين مخلفات شلة الشوام، مع الاعتراف بنبل وكفاءة وميزات كثير من القادة غير الدمشقيين الذين عرفناهم وتعرفنا عليهم بمناسبات كثيرة في حياتنا العسكرية، ولم يكن عبد الكريم زهر الدين منهم، بكل أسف.

رأي أحد السياسيين بتعيين زهر الدين

أصبحنا في اليوم الثالث من الانفصال السبت 30/9/61 على استنكار في حمص وقطعاتها من جراء تعيين اللواء زهر الدين قائداً للجيش، وقد ظننته في البدء لأن سلفه الفريق جمال فيصل هو من أبناء هذه المدينة، إلى أن أتاني رئيس مخابرات المنطقة الرائد بسام عبد النور ببعض العبارات التي كتبت على جدران المدينة، وكلها ليست في صالح قائد الجيش الجديد، ولا بد أن العقيد رسلان شطا مدير الشرطة المدنية في حمص، يتذكر الأوامر التي أعطيتها له، لتزويد الحراس الليليين بفراشي وأوعية فيها مادة سوداء لطمس تلك العبارات التي كانت على الجدران، واعتبرت كل تهاون أو عدم القبض على الفاعلين عند مشاهدتهم أو ترك أي أثر بعد كل صباح يعرض المسؤول عنه إلى عقوبة صارمة.

كما حمل إلى الضابط، الملازم زعيم، مصنف الرقابة الهاتفية يومها، وفيه تسجيل خطي لاتصال هاتفي جرى من حمص، بين النائب والوزير السابق هاني السباعي وبين دمشق مع النائب والوزير السابق رشاد جبري، والاثنان من حزب واحد يقول فيه الأول للثاني:

"بلغ ضابط الحركة بلساني بأنهم يرتكبون جريمة بحق وطنهم وبحق أنفسهم إن أبقوا على تعيين زهر الدين في منصب قيادة الجيش لأنه….) وقد اطلع على تسجيل هذه المخابرة كل من فيصل سري الحسيني وموفق عصاصة وزهير عقيل ومحمد منصور ونور الله حج إبراهيم وحيدر الكزبري وعبد الكريم النحلاوي ولا بد أنهم تبلغوا رسالة هاني السباعي إليهم بلسان رشاد جبري.

زهير الدين يفتح محفظتي بغيابي

بعد أيام حضرت إلى دمشق لمعالجة بعض أمور قيادتي، دخلت على اللواء زهر الدين في مكتبته وكان يغص بضباط الحركة دخولاً وخروجاً، وبعد تبادل بعض الأحاديث، فتحت محفظة يدي  وعرضت على القائد الجديد، بحضور ضباطاً الحركة، ما قدمت من أجله، وكان بين وثائقي تسجيل مخابرة "سباعي - جبري" الهاتفية، ولكونها تمس زهر الدين، فإنني لم أكشف أمرها ووضعتها جانباً، فسألني عنها العميد فيصل حسيني، فقلت له ورقة خاصة وناولته إياها، فاطلع عليها وابتسم، ثم ناولها إلى المقدم نحلاوي، وهذا ناولها إلى العميد عقيل، فأعادها إلي هذا الأخير وأعدتها إلى محفظتي.

وبعد أحاديث شتى غادرنا هذا المكتب إلى مكتب النحلاوي، تاركاً محفظتي دون قصد مني في مكتب اللواء زهر الدين، وبعد فترة تذكرتها وعدت وجلبتها، ولما تفقدت محتوياتها وجدت تسجيل المخابرة قد فقد، لذا قلت لقد لطشها زهر الدين وهممت بالعودة إلى مكتبه لطلبها منه، فحال دون ذلك مع الرجاء النحلاوي واعداً إياي  بأنه سيأتيني بها.

وفي هذه الجلسة أبلغت الحاضرين، وهم الحسيني ودهمان وعصاصة وعقيل وحج إبراهيم ومنصور والنحلاوي والكزبري، خطأ وسوء إسناد منصب قيادة الجيش إلى زهر الدين، لأنه ليس على مستوى هذه المسؤولية، وأن كثرة النجوم التي على كتفيه لا تصنع منه قائداً مؤهلاً، وغداً ستكون من النادمين يوم لا ينفع الندم. أجاب فيصل سري الحسيني: لا شك بأنها كانت خطيئة ثم قال:

1- لقد اتفقنا على عدم تحقيق أي مكسب شخصي لأحدنا.

4- إن التنظيم المصري للجيش السوري أيام الوحدة لم يبق أمراً عسكرياً هاماً وفعالاً بيد قائد الجيش، وجعل منه شخصاً للمناسبات والمراسم فقط. وقد حصر جميع الأمور العسكرية المهمة في قبضة يد رئيس أركان الجيش، كما أن زهر الدين لا يقدم على عمل قبل عرضه علينا وأخذ موافقتنا.

7- وبالفعل فإن رئاسة أركان الجيش الأول في عهد الوحدة كانت بيد المصريين، فأولهم العميد عبد المحسن أبو النور وخلفه اللواء أنور القاضي، الذي حصل الانفصال بزمانه.

زهر الدين قائداً للجيش:

قلت لم يكن لإعلان خبر تعيين اللواء عبد الكريم زهر الدين قائداً للجيش ممن هم دونه رتبة - شلة الشوام- وفي غياب السلطات الدستورية، الوقع الحسن في نفوس جميع عارفيه، وكان لثماني سنوات متصلة مضت مديراً لمصلحة التجهيز، المصلحة المختصة بملابس الجند ووسائل نومهم، وهو برتبة مقدم وعقيد وعميد.

نشأته:

بدأ عبد الكريم زهر الدين حياته العسكرية كجندي عادي في سرية خدمات الكلية العسكرية في حمص، بعد تركه بيت شاهين مدير مالية السويداء ومن ثم بيت مدام بيكان الفرنسية في السويداء أيضاً، التي زارته عندما مرت بحمص وتكلمت من أجله مع مدير الكلية العسكرية الكومندان "بران" وأفهمته ما لوالده، الذي كان قد توفي، من خدمات لصالحهم وخاصة مع الكابتين "كاربيه" فوعدها بمساعدته وقبوله في عداد الطلاب الضباط في أول دورة مقبلة، وقد قبله دون أن تتوافر لديه شروط الفحص والانتساب وخاصة الشهادة الثانوية أسوة بجميع أقرانه من الطلاب.

تزوج عبد الكريم من عائلة حمصية مسيحية من بيت حنون وتكلل عليها بالكنيسة، كما عمد ولديه فيها وهذا معروف من الجميع والذي اضطرني لذكر هذه الواقعة الشرر الذي يتطاير من مذكراته والفتنة التي استهدفها ثم عباراته التي دونها في الصفحتين رقم 60 و 61 من مذكراته والتي نشرتها مجلة النهضة الكويتية في العدد رقم 133 لعام 1970، عندما ادعى بدون أدنى حرج وصدق، بأن قيادة الجيش أسندت إليه لأن الضباط الذين قاموا بالانفصال- "شلة الشوام حسب تعبيره"- لم يقبلوا تعيين أحد ضابطين مسيحيين لها بسبب طائفتهما الدينية، رغم أرجحية قدمهما عليه، مما اضطرني مرغماً للرد عليه وتسفيه أقواله السخيفة في العدد رقم 143 تاريخ 23/أيار/1970 من مجلة النهضة الكويتية نفسها والتي كانت تنشر مقتطفات من مذكراته.

وهذا بعض ما نشرته وقتئذ على الصفحات 40 و 41 و 65 من العدد رداً على أقواله: سيادة الأستاذ الكريم صاحب ورئيس تحرير مجلة النهضة الكويتية الغراء المحترم.

قرأت في العدد رقم 133 لعام 1970 من مجلتكم الراقية الحلقة التاسعة من مذكرات اللواء عبد الكريم زهر ا لدين، وبدافع إطفاء الفتنة الطائفية التي تندلع من عبارات هذه الحلقة، عندما تحدث صاحبها مشوهاً لفترة بكل دقائقها، وأنا أشغل منصباً عسكرياً كبيراً، رأيت لزاماً أن أنشر الحقيقة التي أعرفها تفشيلاً لمخططه الضار بوطني.

أحب أن أعترف بكل صراحة بأن الذي لفتني إلى ما أنا بصدده، صديق يقرأ بانتظام أعداد مجلة النهضة، عرفته طبيباً بارعاً واسع الثقافة صادق الوطنية مرهف الحس من الطائفة المسيحية، زرته منذ أيام في عيادته، لمرض أصاب أحد أولادي، فإذا به يبادرني، بلهجة تفيض بالألم والعتب قائلاً:

"أهكذا ترفضون في عهد الانفصال تعيين أحد ضابطين ممتازين لهما الرجحان من حيث القدم والكفاءة في منصب قائد جيش، لمجرد كونهما يدينان بالمسيحية؟ وهل أصبحت الديانة المسيحية في وطننا كافياً لإقصاء أبنائها عن المراكز التي يستحقونها؟

قلت لصديقي في دهشة واستغراب: ومن هذا الذي افترى على الحقيقة التي أعرفها بهذه الفرية؟ أجاب اقرأ ما نشرته مجلة النهضة وناولني إياها. أجبته مهدئاً: لو عرفت زهر الدين على حقيقته لما انفعلت لكلامه هذا الانفعال.

انتهى الطبيب من فحص ابني وسارعت إلى شراء مجلة النهضة برغبة لا تقل عن شراء الدواء لولدي، وقد صعقت لاحقاً من الأقاويل التي سطرها زهر الدين في مجلة النهضة الكويتية في العدد رقم 133 لعام 1970، وقلت في نفسي: هذا أول أغراضه على صفحات المجلات أيضاً إثارة النعرات الطائفية في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جمع الصفوف.

وشعرت بأن من أقدس واجباتي وأنا المطلع العارف، ضرورة وضع النقاط على الحروف، بما يتعلق بهذه الحلقة من مذكراته إحباطاً لمخططه منها وأغراضه من ورائها، عندما ادعى بأن ضباط حركة الانفصال عرضوا عليه منصب قيادة الجيش بقولهم له:

"لقد أصبح الجيش بلا قائد وليس من تتوافر فيه الشروط لقيادته سواك، لأن درجتك من حيث الرتبة والأقٌدمية هي الرابعة، بعد الفريق جمال فيصل، إذ إن صاحب الدرجة الأولى هو اللواء باصيل صوايا وهو مسيحي ولا يمكن إسناد القيادة إليه (هكذا) وصاحب الدرجة الثانية هو اللواء فؤاد قربه، وهو ضابط صفوف وإداري وليس من خريجي الكلية الحربية، وضعيف الشخصية والإدارة والإمكانات، ولا يمكن إسناد هذا المركز الحساس إليه (هكذا). أما صاحب الدرجة الثالثة، اللواء فيليب صوايا فهو مسيحي أيضاً ولا يمكن تقليده هذا المنصب (هكذا).

هذا ما ذكره زهر الدين في الصفحة رقم 60 من مذكراته- ثم يتابع بأنهم قالوا:

"فالقيادة إذن مهيأة لك لكونك خريج الكلية الحربية ومؤهلاً وإدارياً بدورات عالية اتبعتها في الداخل والخارج، ونحن واثقون من أن القيادات التي سبق وزاولتها، أي عندما كنت أستاذاً لمدة أربع سنوات تقريباً في الكلية الحربية، وعندما كنت رئيساً لأركان أحد ألوية المشاة وأنت برتبة صغيرة- رئيس- قد أعطت جميعها البرهان تلو البرهان على الإمكانات القوية المتوافرة فيك، هذا بالإضافة لكونك من الضباط المحبوبين من كافة المرؤوسين، بالنظر لسلوكك وحيادك المطلق، فلا نرى والحالة هذه من هو أصلح من زهر الدين لاستلام دفة السفينة بعد تخلي الفريق جمال فيصل عنها: لذلك فالخيار يقع عليكم حتماً". (هكذا)

يقول زهر الدين أيضاً:

"وطلبت من ضباط الحركة مهلة للتفكير وخرجت من القاعة حيث التف حولي بعض الضباط الذين يكرهون الضباط الدمشقيين (هكذا) وألحوا علي ضرورة استلام قيادة الجيش وإلا حسب قولهم فإن الدماء ستسيل، إذ لا يمكن أن يسمحوا لأحد من ضباط الحركة الذين أطلقوا عليهم شلة الضباط الشوام أن يستلم مركز القيادة، وذلك في سبيل المصلحة العامة وليس في سبيل مصلحتي، خاصة وأن القطعات المحاربة تعج بعناصر النجلاوي".

"سألت عن العناصر المؤيدة للحركة فقدموا برقيات تؤيد وقوف 95 بالمئة على الأقل من عناصر الجيش إلى جانب الحركة، كما قدموا لي برقيات تأييد مدني تزيد عن هذه النسبة. سألت عن المراحل القادمة فقالوا لي…….".

انتهى كلام زهر الدين المدون على الصفحتين 60 و 61 من مذكراته.

عندما تتغلب الأوهام وتتدفق التفاهات يستكثر الصغير عندها من الأمجاد والادعاءات والاختلافات لأنها بالمجان، لذا فإني أسأل هذا الدعي إلى حد الهوس وهل هذا كلام يقال؟ وإذا قيلهل ينقل؟ وإذا نقل بدون إدراكهل يسجل على صفحات كتاب بيد عاقل؟ وهل انحط بعض ضباط الجيش إلى هذا الدرك، بمجرد ظهور زهر الدين على السطح؟ كما أسأل من هو المستفيد من هذا الدس الرخيص، والكلام الأرخص المختلق؟ هذه أمثولة من أعمال وأقوال الذي أجلسوه على كرسي قيادة الجيش في ساعة…… والكل يعرف بأني كنت أول المستنكرين لهذا التعيين حرصاً على جيشي ووطني.

أنا لا أقصد هنا الإطراء غير المتزن والبعيد عن الحقيقة الذي نسبه زهر الدين إلى ضباط الحركة ونسج منه ثوباً لشخصه ليظهر به أمام الناس بصفات انتحلها وهو المحروم منها، وإنما أقصد إسفين الفرقة والهدم ونار الفتنة الشنعاء والنعرة الطائفية البغيضة التي استهدفها في هذا الوقت بالذات، لغايات غير نبيلة عندما ادعى بدون حق بأن ضباط الحركة وضعوه على كرسي قيادة الجيش لأنهم لم  يقبلوا لهذا المركز والمنصب بضابط مسيحي.

زهر الدينو "كامل أمين ثابت"

هل ضحالة التفكير أم الحظ الخارق هو الذي أتى باللواء زهر الدين إلى منصب قائد الجيش في اليوم الأول من الانفصال؟ أم أن هناك أيدياً قادرة وعقولاً رهيبة مخططة كانت وراء هذا التعيين مع تجاوز آخرين أقدم وأكفأ وأرجح؟ بعد ما ظهر من محاكمات إلياهو شاؤول كوهين (كامل أمين ثابت) الجاسوس الإسرائيلي الشهير الذي زرع في سورية، بأن له صديقاً اسمه الملازم الأول معزى زهر الدين ابن حسيبة شقيقة اللواء قائد الجيش الجديد. كما تبين من مجريات المحاكمة التي انتهت عام 1965 بأن كوهين كان يسرح ويمرح في سورية منذ الأيام الأخيرة للوحدة وأثناء عهد الانفصال ولفترة بعده إلى أن اكتشفت أمره شعبة مخابرات الجيش بحكم اختصاصها ومسؤولياتها وقبضت عليه وعلى شركائه وأحالتهم إلى القضاء العادل النزيه الذي أصدر بحقهم أحكاماً أصبحت مقضية بعد ثبوت الاتصال بالعدو، وأعدم كوهين شنقاً بساحة المرجة بدمشق كما حكم على الآخرين ومنهم معزى زهر الدين بالسجن الطويل وقد نفذ عقوبته.

من اللافت أن اللواء زهر الدين لم يأت على ذكر هذه القضية، لا تصريحاً ولا تلميحاً، في مذكراته التي أصدرها عام 1968 رغم أهميتها وعلاقتها بأيام العز والبأس وبالملازم أحد ضباطه، ابن شقيقته العزيز، الذي كان كوهبن يركن إليه في أحاديثه وطلباته العسكرية ويزور معه الخطوط الأمامية من الجبهة السورية الفلسطينية، بتراخيص وأذونات عسكرية تصدر لهما إكراماً لابن الأخت الذي لا يرد له طلب ولا يغلق في وجهه باب، والذي كان يمضي بكل سهولة الساعات الطويلة في بيت الخال وفي المكتب أيام الأحداث ليطمئن على أحوال الوطن المفدى من صاحبها وموجهها.

لقد ظهر اللواء زهر الدين في مذكراته بأنه كان مدرسة في الوطنية والتضحية والنزاهة والتوجيه، كما نصب نفسه وصياً على شؤون الدولة،. كلها وجميع رجالاتها وموجهاً لهم ومراقباً عليهم لكي يبعدهم عن العيوب ويضبط خطواتهم من الانزلاق، وكان يلقي عليهم الدروس والمواعظ بالاستقامة وحسن أداء الواجب، دون أن يستثني أحداً منهم من رئيس الجمهورية الدكتور ناظم القدسي ورؤساء الوزارات الكزبري والدواليبي والعظم وجميع الوزراء وكبار موظفي الدولة وقادة الجيش وأبسطهم قائد قوى الأمن الداخلي مطيع السمان. كما كان يضع للدولة وحكوماتها خططاً وبرامج بالاقتصاد والمالية والوطنية والوحدة والاشتراكية والتأميم ويعممها على القطعات العسكرية باسمه وتوقيعه.

أليس كان من الأجدر به، وبشعبة مخابراته وجميع رؤسائها الذين تعاقبوا زمن ا لانفصال، القيام بواجباتهم والانصراف إلى مهامهم بدلاً من ادعاءات مختلفة، والانشغال والتلهي بما لا يعنيهم ولا يخصهم وظيفياً، لكي يجنبوا أنفسهم هذا التقصير الفاضح.

مما لا شك فيه أن شعبة مخابرات الجيش من أهم شعب القيادة، وخاصة زمن الانفصال لنوعية قلاقله وأحداثه العسكرية، وكان يجب أن تعطى الأهمية بدلاً من شلها، قصداً أو غباءً، بتعيين رئيس جديد لها كل شهرين من عمر الانفصال، كما كنا نسمع يومياً عن نقل ضباط منها وإليها.

هل كان هذا مصادقة أم تخطيطاً لإلغاء دورها في أداء واجبها الأول وهو مكافحة التجسس والتجسس المضاد؟ وقد أجد العذر لرؤساء شعبة المخابرات في تلك الحقبة بسبب عدم استقرارهم، ولكني لم أجده ولم أعثر عليه لقائد الجيش ورئيس أركانه ولكل من ساهم في هذه الأعمال، وأعني هنا عدم استقرار رئيس لشعبة مخابرات الجيش صاحبة المسؤولية الأولى عن أمن الجيش ومكافحة التجسس عليه.

إني أجزم وأنا المطلع بأن أقوال زهر الدين، التي أوردها في مذكراته، في أسباب تعيينه قائداً للجيش، مختلفة كأكثر رواياته، لينفث السموم بقوله "بأن بعض الذين يكرهون الضباط الدمشقيين قد ا لتفوا حوله لكي لا يسمحوا لأحد من ضباط الحركة من شلة الشوام أن يستلم قيادة ا لجيش وإلا فإن الدماء ستسيل".

هذا كلام لا يصدر عن عاقل أو مخلص، لأنه يثير العداوات بين أبناء الوطن الواحد، ويفرز الجيش إلى شلل، شلة شامية وشلة حموية وأخرى حلبية ورابعة حمصية وووإلى شلل قروية ومسيحية وإسلامية ودرزية إلى ما لا نهاية.

فماذا يبقى عندئذ من وحدة لهذا الجيش؟ كلام لا يصدر عن مخلص، إنه يدعو إلى الأسف لأني لم أسمعه ولم أقرأه في حياتي عن جيش من الجيوش أو أمة من الأمم. تباً لمفرق صف الأمة، وجيشها على هذا الشكل، هذه هي عقلية وأخلاق ووطنية قائد جيش الانفصال..‍‍‍‍‍

هل سكان دمشق الشام، هم سكانها منذ الأزل، وقطنوا بها منذ بدء الخليقة دون قادمين أو طارئين؟ وهل دمشق الشام ملك لفئة من العرب السوريين دون سواهم؟ دمشق الشام للجميع، كما أن كل ذرة من ذرات هذا الوطن هي للجميع، ولا يستطيع أحد احتكارها أو حجبها عن الآخرين من أبناء الوطن الواحد. إلا أن شعور الضعة ومركب النقص حمله على هذا الشعور وعلى هذه التقولات حقداً وصغاراً. إن لم يكن خلفها أهداف أخرى.

غفر الله لزهر الدين و أمثاله على أعماله وأقواله، لقد فتح أبواباً لا يفتحها عاقل وكان يجب أن لا تفتح وتبقى مغلقة مع الماضي السحيق، وأنا أسأل زهر الدين أين يسكن هو اليوم وزوجه وأولاده وأحفاده؟

لو كان أعمق تفكيراً لاستنصح أحد العقلاء قبل تسطير ادعائه بحجب قيادة الجيش عن المسيحيين لإسنادها إليه، وقبل فرز أبناء الجيش والوطن إلى شلل، لكان قد جنب نفسه الذم والملامة. ودليل عقل المرء في أقواله ودليل أصله أفعاله.

مرة دخلت على زهر الدين في مكتبه عندما استشرت الطائفية والإقليمية في زمانه الميمون، وكان هو وبعضهم من ورائها وقلت له:

"ألا يوجد مخلصون وأصحاب كفاءات من غير الشوام"؟ قال لي: "طبعاً" فأجبته: "إذن وسعوا مجلس قيادتكم الثوري الشوري الذي تدعون، بآخرين من مختلف المحافظات والفئات و….. والطوائف وأعلنوا ذلك بدلاً من الإبقاء على ما أنتم عليه، فسجل ملاحظتي على مفكرة كانت أمامه على الطاولة، ولم يفعل شيئاً فيما بعد، لعدم قدرة أم لعدم رغبة؟ والعلم عند علام الغيوب.

لقد وقفت في وجه من أثار النعرات البغيضة، سواء كانت إقليمية أو طائفية، وحملت تبعة ذلك أبعاداً وابتعاداً، كما مددت يدي، بحدود قدرتي، إلى الجميع دون تفريق وأنا مرتاح الضمير، حباً بوطني وبالكل، لا معاداة لفرد ولا محاباة لطائفة، لأن الله هو الخالق لهذا التنويع وليس لنا فيه مساهمة.

من أسس الإصلاح الوطني معالجة الطائفية والإقليمية والقضاء على مساوئهما ورافعي لوائهما في السر والعلن، ليكون الوطن واحداً لا أوطاناً متعددة، والشعب شعباً واحداً لا شعوباً.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن الخير والشر موجودان في كل مكان وزمان، وفي كل فئة وتخصيص إحداها بأحدهما خطأ فادح وعداوة معلنة أو ادعاء لا يؤيده واقع.

إن اللواء عبد الكريم زهر الدين لم يعين، ممن هم دونه رتبة عسكرية في منصب قيادة الجيش للكفاءات والمميزات التي أسهب في تعدادها على النحو الذي أراد   كما أن قيادة الجيش لم تحجب عن ضابط بسبب ديانته المسيحية، وأقولها بحق لو أن صفات زهر الدين الحقيقية توفرت بأحد الضباط الثلاثة الذين أتى على ذكرهم، وهم اللواء باصيل صوايا واللواء فؤاد قربه واللواء فيليب صوايا، لكان أحدهم قائداً للجيش، في تلك الحقبة دون ريب، بصرف النظر عن طائفته الدينية، كما أني على يقين بأنه لن يكونكما كان زهر الدين من 28/أيلول/61 لغاية 8/آذار/1963.

إن كلام زهر الدين عن استبعاد آخرين عن منصب قيادة الجيش بسبب ديانتهم ومعتقداتهم السماوية غير صحيح والعاقل من يميز الخير عن الشر بكلامه.

رغبة زهر الدين بزيارة حمص:

اتصل بي هاتفياً اللواء عبد الكريم زهر الدين بعد أيام من استلامه قيادة الجيش مبديا رغبته بزيارة المنطقة الوسطى، مع بعض الضباط، واستقبالهم شعبياً، طالباً التهيئة والتحضير، فأجبته بلباقة عدم إمكانية ذلك في حمص، مدينة زوجته، دون الإفصاح عن الأسباب، وإمكانية ذلك في مدينة حماة.

استقبلته في ثكنة خالد بن الوليد في حمص، مع جمهرة من ضباط المنطقة الوسطى ومفارز رمزية من قطعاتها واللواء المدرع الخامس بكامله، وألقيت من شرفة الثكنة كلمة ترحيبية به وبصحبه تعريفاً به، منوهاً بسعادتي واعتزازي بجميع عسكريي المنطقة ضباطاً وضباط صف وأفراداً لسلامة انضباطهم ووعيهم وخاصة في الأحداث التي مررنا بها من أيام قريبة وفخرنا بأن منطقتنا هي المنطقة الوحيدة في كل سورية والتي لم يقع فيها جريح واحد أو حادث ذو بال يوم 28/أيلول/ 61 والأيام اللاحقة.

كما ألقى سيادة اللواء كلمة مناسبة في هذا الجمع منوهاً بكفاءاتي وقدرتي بالسيطرة على وحداتي في الأوقات الدقيقة والحرجة، مادحاً إياي بما يخجلني تكراره بقلمي.

حديث من أجل الانتخابات:

ظهر يوم خميس من تشرين الثاني 1961 كنت في طريقي من حمص إلى دمشق، وعلى مسافة تقدر بثلاثين كيلومتراً منها، رأيت سيارة قادمة باتجاهنا تعطي لنا إشارة التمهل والوقوف، طلبت إلى سائق سيارتي الامتثال لها.

ترجل منها العميدان موفق عصاصة وزهير عقل، بعد أداء تحياتهما قال لي موفق، بأنهما عرفا سيارتي من العلم الذي كان يرفرف في مقدمتها (كانت السيارات العسكرية الرسمية لقادة المناطق والأسلحة ولمن هم برتبة لواء فما فوق تحمل علماً خاصاً في مقدمتها داخل مناطقهم). ثم أردف قائلاً "بأنهما قدما إلي وإلى قائد المنطقة الشمالية، بتكليف من اللواء زهر الدين، من أجل الاتفاق على الانتخابات التي تقرر إجراؤها، وما دمت ذاهباً إلى دمشق فقد أغنيتنا عن الحديث، اتصل من أجلها مع قائد الجيش"، والطقس بارد لا يسمح بالإطالة، وأننا سنتكلم مع العقيد تيسير طباع، أجبتهما: بأن وكيلي عند غيابي هو العميد وهيب الرفاعي وليس العقيد طباع، وطلبت إليهما عدم بحث أي أمر يتعلق بقيادتي مع غير وكيلي.

افترقنا بعد هذا الحديث العاجل، ولدى وصولي إلى قرية حسية، ا لتي تبعد حوالي أربعين كيلومتراً عن حمص، اتصلت هاتفياً من مكتب مدير شرطتها بالرفاعي وطلبت إليه الاجتماع بهما وسماع ما جاءا من أجله مفصلاً.

قابلت اللواء زهر الدين مساءً مستوضحاً، فقال لي لقد قرر الإخوان إجراء انتخابات نيابية، فباركت الفكرة، ثم قال: كما تم الاتفاق على إخراج نواب جيدين، وذلك بتسهيل نجاح النظيفين والحيلولة دون نجاح القذرين، فقلت وكيف السبيل؟ قال: "سيتقدم كل قائد منطقة بأسماء ثلاثة أضعاف عدد نواب منطقته، وسنتفق معه على الذين سنعمل على إنجاحهم، وذلك بتزويد كل محافظة بعدد مضاعف من صناديق الانتخابات، نصفها ليضع الناخبون أوراقهم فيها، والنصف الثاني فيها أسماء الذين نرى إنجاحهم، والأمر متروك لكم في طريقة تبديل الصناديق وسنلبي كل طلباتكم لنجاح هذه الخطة".

غرقت في بحر من التفكير ولم أعط جواباً، لأني بالفعل كنت مفاجأ بهذا الحديث الذي لم أكن أتوقعه، وفي البلاد حكومة مدنية برئاسة مأمون الكزبري، الذي سبق أن أعلن ووعد بإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة.

زارني يوم الجمعة صديقان، هما هيثم الكيلاني وسالم أتاسي، وبعد تردد فتحت موضوع الانتخابات وما جرى من حديث مع اللواء من أجلها، اتفقنا بأن الابتعاد عن هذا العمل أفضل، وعندنا في الجيش سابق تجربة في عهود مختلفة انعكست على أربابها بالقبض أو بالألم الدائم وبتبكيت الضمير لأنهم كانوا مطية في التزوير وفي إيصال أشخاص إلى المجلس النيابي دون مستوى تمثيل الشعب، وقد استعرضنا بعض أسمائهم وما أصاب البلاد بسببهم.

تعززت قناعتي وقوي تصميمي على الابتعاد عن هذا المسار الذي لا يتمشى مع سلوكي ومفهومي وقناعتي.

صباح اليوم الثاني قابلت اللواء نامق كمال رئيس الأركان العامة، وهو أستاذي في الكلية العسكرية ورجوته استدعاء العميد فيصل سري الحسيني وهذا أقدم مني عسكرياً بسنة واحدة، ورجوتهما أن يكونا معي في مقابلة اللواء زهر الدين من أجل موضوع خطير وهام.

دخلنا على قائد الجيش، وخاطبتهم بقول: "أنتم الثلاثة أقدم مني عسكرياً وقد حدثني أول من أمس اللواء عبد الكريم بشأن الانتخابات النيابية، وعزمكم عن إخراج نواب  جيدين، وذلك بإبدال صناديق الاقتراع بصناديق مملوءة بمعرفتكم. وبعد تفكير طويل قررت عدم المساهمة بهذا العمل لما فيه من سيئات ستنعكس علينا جميعاً بما لا تحمد عقباه.

حاول زهر الدين إقناعي دون نتيجة ثم قال لي: "نحن لسنا قادرين على الحكم". أجبته أني أعرف ذلك، لذا أرى تركها حرة، أو لكي لا نرتكب أخطاءً فادحة يصعب تداركها فإني أقترح عودة المجلس النيابي الذي حل عند قيام الوحدة، وعودة الرئيس شكري القوتلي إلى الرئاسة الأولى في البلاد، وقد أرسل إليكم برقية من سويسرا بتأييدكم، حسب الإذاعة السورية، ورجال السياسة أدرى منا بالمعالجة، ولكم في ذلك تجربة سابقة وأسوة حسنة، يوم أخرج أو خرج الشيشكلي من البلاد وقرر قادتها عودة الرئيس هاشم الأتاسي إلى الرئاسة الأولى ٌتمام مدة رئاسته، والحؤول دون تنصيب الدكتور مأمون الكزبري نفسه رئيساً للجمهورية، وفق منطوق دستور الشيشكلي، وإلغاء مجلسه النيابي وعودة المجلس الذي سبقه.

تراءى لي بأني تمكنت من إقناعهم، طلب إلي زهر الدين الانتظار لدقائق في مكتب اللواء ألبير عرنوق المقابل لمكتبه.

بعد أقل من نصف ساعة كانت أطول من ساعات بالنسبة لي، هتف إلي زهر الدين ودخلت عليه وحوله اللواء نامق والضباط الحسيني وعصاصة وعقيل ودهمان وحج إبراهيم والنحلاوي والكزبري حيدر، وكرسي شاغر لجلوسي.

طلب إلي زهر الدين إعادة أقوالي بصدد الانتخابات على مسامع الحاضرين فأعدتها كلها بإسهاب ووضوح بأني أرى ترك الانتخابات حرة أفضل بكثير من تزويرها لأننا لسنا ملائكة ولأن عيوب التزوير أكثر بلاء علينا وعلى البلاد من حرية الانتخاب، أو أرى عودة رجال الحكم السابق للوحدة بمجلسهم النيابي ورئاسة القوتلي لاستئناف مسؤولياتهم بعد فشل هذه الوحدة.

وهنا خبط حيدر الكزبري بيده على الطاولة كأن ثعباناً قد لدغه، صائحاً برعونة وبأعلى صوته: "هذا جبن نحنا حطينا دمنا على أكفنا من أجل عودة القوتلي؟ ثم وقف محاولاً إشهار مسدسه، ولكوني أعزل أخذت صحن السيكارة الذي كان أمامي ورميته به وقلت له عبارة ليس من الأدب تكرارها احتراماً للقارئ، وأتبعتها بعبارة هذا جبن منك…. من الذي وضعكم أوصياء على هذه الأمة؟

هاج الجميع وماجوا فتدخل زهر الدين بقوله لي: "متى ستسافر"؟ قلت: الآن، اعتقاداً مني بسفري إلى مقر قيادتي في حمص. فقال لي: "لقد تقرر إيفادك بمهمة إلى براغ لمتابعة اتفاقيات وعقود التسليح مع الحكومة التشيكية" - (وكان هذا متفقاً عليه من قبل دخولي عليهم عند إصراري على موقفي)-.

كما كان سبب رد فعل حيدر الكزبري على كلامي السابق، وعلى النحو الذي أسلفت، أنه كان وبعض من يسير في ركابه يخططون وسائرين لإيصال الدكتور مأمون الكزبري إلى الرئاسة الأولى في البلاد.

غادرت هذا الاجتماع وعدت في اليوم التالي لمتابعة أمور سفري وقد استجاب اللواء زهر الدين لكل طلباتي ما عدا عودتي إلى حمص لإحضار بعض ملابسي ولوازم سفري، وأعلمني باستلام العميد شرف وظيفي بالوكالة ونقل بعض ضباطها وتعيين آخرين بدلاً عنهم.

بعد خروجي من مكتب قائد الجيش قابلت مصادفة في ممشى المكاتب المقدم حيدر الكزبري، فهرع إلى تحيتي وتقبيلي مع قوله: "لقد تخليت عنا بأحرج الساعات فأجبته "أنتم سائرون بطريق خاطئ وغداً ستندم يا حيدر".

ولم يمض سوى أيام قلائل على هذه الحادثة حتى كان حيدر ضيفاً على سجن المزة.

مذكرات زهر الدين:

كنت أنتظر من اللواء عبد الكريم زهر الدين عندما دون مذكراته وتعرض فيها للانتخابات النيابية وغيرها، أن يدون بصدق ما له وما لغيره. وما عليه وما على سواه بأمانة موضوعية بدلاً من تشويه الحقائق التي ما زال شهودها أحياء يرزقون.

لقد أخطأ كثيراً عندما رفع من شأنه كتابة وتجاوزاً لشعوره بالنقص، وقلل من شأن الآخرين حقداً وحسداً.

عرفت زهر الدين عندما كنت مديراً لمصلحة العقود في قيادة الجيش، المكلفة بالتعاقد لتوفير كافة لوازم أسلحته الثلاثة في البرية والبحرية والجوية، وكان هو رئيساً لمحاسبة الكلية العسكرية، ومدرساً لهذه المادة لطلابها، وقد نقل إلى مديرية مصلحة التجهيز كمدير لها، ولم أسمع باسمه أو يحصل لي شرف التعرف عليه من قبل، ثم عينت مديراً عاماً لمؤسسة معامل الدفاع وبقي هو في مكانه وكان بيننا بعض الاتصال بحكم العمل الوظيفي، وكذلك حسن الاستقبال والوداع ولطف الحديث، وكان بسيطاً طيب القلب خفيف الظل والحقيقة أني كنت آنس لحديثه.

كان يحب الإطراء لشعوره بالظلم لأنه ذو مرتبة عالية ويشغل وظائف دونها على الدوام، وكان يعزو ذلك إلى طائفته وعدم إنصافه من أصحاب الشأن، وكنت أسمع له وأبدد من أوهامه وأقوال له لا بد أن هناك أسباباً أخرى لأن بعضاً من جماعته يشغلون مناصب محترمة وقاموا بأدوار هامة كشوكت شقير وحمد الأطرش وأمين أبو عساف وجادوعز الدين وسلمان الشعراني وغيرهم كثيرون.

وكان يرتاح لحديثي ويطلب إلي ذكره بالخير عند رفاقي أصحاب الشأن كعبد الحميد السراج وأحمد عبد الكريم وأكرم ديري وأحمد حنيدي ومصطفى حمدون وعبد الغني قنوت وغيرهم، إلى أن هبطت عليه السعادة من السماء في أواخر أيام الوحدة، وكانت طليعتها تعيينه مديراً لهيئة الإمداد والتموين، ثم كانت اسمياً وبدون قمة فعلية عندما عينه صغار الضباط قائداً لجيش الانفصال.

لذلك لم أستغرب ما رأيت وقرأت في مذكراته من أنه قائد عظيم كيوسف العظمة ص 181 وبأنه رئيس الدولة السورية ورئيس وزرائها المرتجى ص 192 باقتراح من ابن جلدته فريد زين الدين واعتذر عنهما لأنه متواضع لا يريدهما، وثالثة بأنه حامي العروش ص 396 ورابعة بأنه منقذ الرقاب من الإعدام، وخامسة بأنه يستدعي زعماء البلاد ورجال السياسة فيهرعون إليه منصاعين لاستدعاءاته لأنهم يخشون سلاحه وجنده وسادسةوسابعةإلخ ذلك من ترهات كثيرة، ينطبق عليه قول الشاعر:

يهدد بالسلاح ويدعيه              وما ملك الجنود ولا السلاحا.

استكان إلى الذين عينوه من الضباط، وهم ليسوا على مستوى سياسي وقيادة أمة, كالأكثرية الساحقة من العسكر، ما عدا الذين خصهم بالخوارق وجميع أولئك ليسوا منهم، كما أنهم لم يتركوا العمل لأربابه من أهل الخبرة والحنكة والتجربة، الذين تمرسوا بالرئاسات والوزارات والقيادات. وكانوا بتدخلاتهم يضعون العصي بعجلات الحكم.

لذا كانت البلوى والتصرفات الخرقاء على صعيد الوطن كله، تتساقط يومياً على الجميع حتى أضحى الانفصال ينفرد بهذه الأهوال من بين غيره من العهود.

الجيش دوماً بقائده، فإن صلح القائد، صلحت القيادة والجيش، وإن فسد، فسد  الجيش وأركانه وضباطه والدولة كلها. وهذا الذي حصل في عهد الانفصال.

إن شرف الرجال منوط بحسن الأعمال، وقيمة العاقل بأفكاره، وأفكار الجاهل سبب بلائه وانهياره، فهل من مستغرب لانهيار الانفصال وبلاياه؟))

(انتهت هذه المقتطفات من كتاب العميد مطيع السمان والتي أرخت لأحداث مر عليها زهاء 40 عاماً).


 

تشكيل وزارة الدكتور مأمون الكزبري:

أذاع راديو دمشق في 29/9/1961 البلاغ رقم -17- وهذا نصه:

"تعلن القيادة الثورية العليا للقوات المسلحة أنها وفاء منها بالعهد الذي قطعته على نفسها للشعب بأن توكل أمور السياسة والإدارة إلى أبناء الشعب المختصين، قامت بتكليف الدكتور مأمون الكزبري بتشكيل وزارة يسند إليها أمر إدارة شؤون البلاد وتوطئة لإعادة الأوضاع الدستورية فيها. وقد قبل الدكتور الكزبري هذا التكليف وباشر فوراً باتصاله وسيعلن أسماء الوزراء بعد قليل".

ثم صدر البلاغان رقم 18 و 19 بتخويله سلطة تسمية الوزراء وسلطة إصدار المراسيم الاشتراعية فأصدر المرسوم رقم -1- التالي:

إن رئيس مجلس الوزراء استناداً إلى البلاغات ذات الأرقام 17 و 18و 19 الصادرة عن مجلس قيادة الثورة العربية العليا للقوات المسلحة برسم ما يلي:-

مادة أولى: تشكل الوزارة الانتقالية على الوجه التالي:

الدكتور مأمون الكزبري رئيساً للوزراء ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع- الدكتور ليون زمريا للمالية ووزيراً للتموين- الدكتور فرحان الجندلي وزيراً للصحة والإسعاف العام- الدكتور عدنان القوتلي وزيراً لداخلية - الدكتور عزت النص وزيراً للتربية والتعليم والإرشاد القومي - الدكتور عوض بركات وزيراً للاقتصاد ووزيراً للصناعة - الدكتور نعمان الأزهري وزيراً للتخطيط ووزيراً لشؤون البلدية والقروية - المهندس أمين ناصيف وزيراً للزراعة ووزيراً للإصلاح الزراعي - المهندس عبد الرحمن حورية وزيراً للأشغال العامة ووزيراً للمواصلات - المحامي الأستاذ أحمد سلطان وزيراً للعدل ووزيراً للأوقاف - الأستاذ فؤاد عادل وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل.

 

 

مادة ثانية: ينشر هذا المرسوم ويعمل به فور صدوره.

رئيس مجلس الوزراء

الدكتور مأمون الكزبري

حصل النظام الجديد على اعتراف القوتين العظيمتين وتوالت الاعترافات بحيث لم يمض أقل من شهر حتى وصل عدد الدول التي أبلغت سورية اعترافها، ستين دولة وفي 13 تشرين الأول 1961 تم قبول عضويتها في هيئة الأمم المتحدة، كما قبلت عضويتها في الجامعة العربية في 18 تشرين الثاني 1961.

لقد جاءت البلاغات العسكرية الأخيرة للانقلابيين تحمل في طياتها علائم استقرار الوضع، وكان آخر هذه البلاغات البلاغ العسكري رقم 25 الذي أعلن فيه عن عودة القوات وجميع الضباط المشاركين بالحركة الانقلابية إلى ثكناتهم، وتم رفع حظر التجول وفتح المطارات والحدود والسماح للصحفيين وغيرهم بدخول الأراضي السورية، وأكدت الوزارة الجديدة في الوقت نفسه، أنها انتقالية ووعدت بعودة الحياة إلى البلاد وإجراء انتخابات خلال أربعة أشهر، تحاول خلالها أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الوحدة.

مجلس الأمن القومي

على الرغم من انسحاب الجيش السوري إلى ثكناته وإعلانه عن ترك الأمور إلى السياسيين في إدارة دفة الحكم، ووضع الصلاحيات الدستورية والسياسية بيد الحكومة المدنية إلا أن قادة الجيش الذين وجدوا أنفسهم خارج نطاق السلطة والحكم، ابتكروا وسيلة جديدة من أجل التدخل في القرار السياسي واضفاء صفة الشرعية على هذا التدخل عن طريق استحداث مؤسسة جديدة سميت (مجلس الأمن القومي) الذي حددت مهمته بصياغة الخطوط العريضة لسياسة الدولة.

وكان هذا المجلس يتكون من ممثلي القيادة العسكرية ورئيس الوزراء وخمسة من الوزراءوتنحصر مهمته في مراقبة نشاط ا لحكومة، كما أعطي الحق لرئيس المجلس باستدعاء الشخصيات السياسية المشاركة في السلطة، عندما يرى حضورها ضرورياً حسب موضوعات الجلسات. وحددت مهمة هذا المجلس بدراسة كلّ الأمور التي تؤثر على سلامة أمن الدولة في الداخل أو الخارج.

إن نسبة العسكريين الموجودة في تشكيلة مجلس الأمن القومي وطبيعة مهمّاته، تؤكد على سيطرة العسكريين على عملية صنع القرار السياسي في سورية، برغم ادعائهم في البلاغ العسكري رقم 52 عودتهم إلى معسكراتهم وثكناتهم، وترك الأمور للسياسيين لإدارة الحكم.

الانتخابات النيابية

قرر مجلس الأمن القومي تشكيل مجلس نيابي جديد، وانتخاب رئيس له، ثم انتخاب رئيس للجمهورية، لتعود سورية كما كانت قبل الوحدة دولة ديمقراطية نيابية،(وفق وجهة نظر قيادة الانفصال) تضمن الميثاق الذي وافق عليه عدد من النواب السابقين والسياسيين السوريين الدعوة إلى إقامة حكم ديمقراطي، والتحضير للانتخابات الجديدة. ولأجل التمهيد لهذه الانتخابات شكلت لجنة مؤلفة من عدد من الضباط، وحددت مهمّات هذه اللجنة بإجراء الدراسات ومعرفة وجهات النظر في الانتخابات المزمع إجراؤها، وعرض نتائجها على مجلس الأمن القومي، وقد عملت هذه اللجنة بدأب على إجراء اتصالات متعددة مع ممثلي الكتل والأحزاب السياسية، للوقوف على آرائهم وتقريب وجهات نظرهم ومحاولة تجاوز ا لخلافات السياسية والحزبية من أجل ضمان الاستقرار وحرصاً على المصلحة الوطنية، وقد توجت هذه التحركات باجتماع عام في نادي الضباط لحامية دمشق، حضره ممثلون لمختلف القوى والأحزاب السياسية السورية، وممثلون عن المنظمات الجماهيرية، كاتحاد الطلبة، ونقابات العمال، وذلك لدراسة الموقف العام في سورية، ودراسة قانون الانتخابات الجديد وتحديد موعد للاقتراع.

صدرت التعليمات بشأن الانتخابات حيث أعلنت حكومة مأمون الكزبري موعد الانتخابات التشريعية في اليوم الأول من كانون الأول 1961، كما حدد اليوم نفسه موعداً للاستفتاء على الدستور المؤقت الجديد.

قدم رئيس الوزراء مأمون الكزبري استقالته من أجل الترشيح للانتخابات، وعلى أثرها اجتمع مجلس الأمن القومي وأصدر مرسوماً تشريعياً بإحداث منصب رئيس مجلس الوزراء، ونص المرسوم على قيامه بمهمّات الرئيس عند غيابه، وسمي الدكتور عزت النص لهذا المنصب الجديد،، وكلف بتشكيل الوزارة التي ستتولى عملية الانتخابات ونقل السلطة.

جرت الانتخابات في موعدها المحدد في الأول من كانون الأول عام 1961، وأظهرت نتائج الاستفتاء على الدستور موافقة 97.6% من المصوتين عليه، أما نتائج الانتخابات النيابية فقد أظهرت الفوز الساحق لرئيس الوزراء السابق مأمون الكزبري، إذ حصل على التسلسل الثاني بعد خالد العظم من ناحية عدد الأصوات، كما أسفرت عن فوز 58 نائباً من النواب القدامى الذين سبق لهم الفوز في المجالس النيابية قبل عام الوحدة  1958. وشكل المستقلون أغلبية بحصولهم على 62 مقعداً، وحصل حزب الشعب على 33 مقعداً، في حين حصل حزب البعث على 15 مقعداً، وحصل الإخوان المسلمون على عشرة مقاعد، أما مقاعد العشائر السبعة فقد توزعت بين عشائر البادية السورية، اثنان منها لشمر واثنان للجبور والثلاثة الباقية توزعت على بقية العشائر الأخرى، في الوقت الذي لم تفز أي امرأة سورية

الجيش والانتخابات

إن موقف الجيش من الانتخابات التي جرت في الأول من كانون الأول 1961، وهو القوة الأولى التي تحرك الوضع السياسي عن طريق ما سمي بمجلس الأمن القومي، كان موقف الحياد التام خلال عملية الانتخابات وكما أكدت قيادة الجيش ذلك في بيانها الصادر بهذا الخصوص، إلا أن البيان اختتم بالعبارة الآتية "إن القيادة مهما ادعت من عدم الانحياز، إلا أنها لن تتساهل أمام الأشخاص غير المرغوب فيهم من قبلها".

إن ذلك اعتراف واضح وصريح بالتدخل وبالفعل حدث ذلك عندما أوقف سامي كبارة من الوزراء السابقين وآخرون، ولم يطلق سراحهم إلا بعد سحبهم لترشيحهم، كما كانت هناك إشارات أخرى على تدخل الجيش، منها موقف مجموعة من ضباط المدفعية والمدرعات في ضواحي دمشق التي وقفت إلى جانب بعض المرشحين، ومجموعة أخرى وقفت إلى جانب البعض الآخر. وكان اعتراف قائد الجيش عبد الكريم زهر الدين بالقول "كنت أعتقد بأن تلك الانتخابات كانت مثالية من حيث النزاهة، غير أنني بعد مضي وقت على قيام المجلس النيابي علمت بأن تدخلاً سرياً من الجيش ومن خارجه قد لعب دوراً مهماً بالموضوع. وأنني لم أتمكن من كشف التدخل".

من هذا يتبين أن هناك تدخلاً قد حدث من قبل العسكريين في الانتخابات، وإن كان محدوداً، وهو أمر غير مستبعد في نظام يمتلك فيه العسكريون مفاتيح السلطة.

بعد الانتخابات وقبل أن يعقد المجلس النيابي اجتماعه الأول في 12 كانون الأول 1961، كانت هناك مشاورات وتحركات تجري على مختلف الأصعدة بشأن اختيار الشخصيات التي تتولى المناصب الرئاسية الثلاثة، رئاسة المجلس والجمهورية والوزارة الجديدة، فبالنسبة للجيش كان مجلس الأمن القومي يواصل اجتماعاته لاستعرض آراء العسكر على اختيار السيد سعيد الغزي لرئاسة المجلس، والسيد رشدي الكيخيا لرئاسة الجمهورية وفي حالة اعتذاره يحل محله الدكتور ناظم القدسي، في حين لم تحدد شخصية معينة لرئاسة الوزارة، وفي الوقت الذي رفض العسكريون أن يتولى الوزارة كل من السادة صبري العسلي ومعروف الدواليبي ومأمون الكزبري وخالد العظم، وكان ذلك بسبب تأثير التقارير التي كانت شعبة المخابرات ترفعها إلى مجلس الأمن القومي، وتوجه فيها مختلف الاتهامات إلى هؤلاء.

جرت عملية الاقتراع في المجلس النيابي لانتخاب رئيس المجلس الذي رشح له كل من السادة سعيد الغزي ومأمون الكزبري، وجلال السيد، وعند فرز الأصوات، أعلن عن فوز الدكتور مأمون الكزبري بـ 117 صوتاً ليحتل منصب رئاسة المجلس، في حين حصل السيد سعيد الغزي مرشح الجيش على 18 صوتاً فقط، أما جلال السيد فقد حصل على 47 صوتاً.

لقد كانت النتيجة على غير ما كان الجيش يرغب فيه، فانسحب الضباط من الجلسة، دون تقديم التهاني إلى الرئيس المنتخب، وحملوا ناظم القدسي مسؤولية هذا الفوز، وعدوا ذلك طعنة وجهها القدسي لهم، فدافع عن نفسه وقال: إنه عمل المستحيل ليفوز مرشح الجيش، إلا أنه لم يستطع إقناع النواب بذلك.

تلك النتائج كانت سبباً لتذمر الجيش، لعدم سير الانتخابات على وفق ما يرغب ويريد، وفي الوقت نفسه فتحت باباً أمام المزيد من الصراع بين القوى السياسية العاملة على الساحة السورية.

وبعد عودة الحياة البرلمانية وانتخاب رئيس المجلس النيابي،  عقدت جلسة ثانية يوم 14 من كانون الأول 1961 لانتخاب رئيس الجمهورية، ففاز الدكتور ناظم القدسي المرشح الوحيد بعد تنازل السيد خالد العظم له عن أصواته. وكانت مهمة الرئيس المنتخب الأولى تشكيل وزارة دستورية، بعد استقالة وزارة السيد عزت النص الانتقالية.

عهد إلى الدكتور معروف الدواليبي بتأليف الوزارة في 20 كانون الأول 1961 فشكلها وأعلنت برنامجها في 8 كانون الثاني 1962، والذي اشتمل على عدة وعود منها، السعي لإطلاق الحريات الديمقراطية، وإلغاء القوانين التي تحد من الحريات العامة، وبالذات حرية الصحافة والنشر، كما وعدت بتحسين الحالة الاقتصادية والنظر في قوانين التأميم، باستثناء قانون الإصلاح الزراعي، إذ أكدت الحفاظ عليه وتدعيم مكتسبات العمال والفلاحين مع احترام الملكية الخاصة والمبادرات الذاتية، أما على صعيد السياسة الخارجية فقد وعدت بالتمسك بسياسة الحياد الإيجابي، والعمل من أجل تحقيق الوحدة العربية. وفي المجال الاقتصادي شكلت الحكومة لجنة اقتصادية خاصة لدراسة مجمل الأوضاع الاقتصادية والمالية ووضع الخطط الكفيلة بتطوير هذا الجانب. ومن الجدير بالذكر أن لقاء قد حدث في مدينة الوطن العراقية الحدودية بين الدكتور ناظم القدسي رئيس الجمهورية والسيد عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق في 15 آذار 1962.