الإرهاب ومسؤولية الأنظمة السياسية


 

السفير

 

لم يهبط الإرهاب فجأة من الفضاء الخارجي، ولم ينشأ وينم ويفعل فعله من دون أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية، وإنما كان نتيجة شبه حتمية لما مارسته الأنظمة السياسية العربية خلال العقود الخمسة الماضية. فإذا استعرضنا تاريخ هذه البلدان المعاصر، والممارسات الفجة لأنظمتها السياسية، نلمس من دون عناء أسباب نشوء الإرهاب والمنظمات الإرهابية في مجتمعات هذه الدول وانتشارها، ووصولها إلى ما وصلت إليه من عنف وهمجية، وانعدام المحاكمة العقلية والمنطق في سلوكها، وتبريرها لنفسها ما لا يقبله عقل ولا قيم أو تقاليد دينية أو اجتماعية أو أخلاقية، حتى غدت ممارسات هذه المنظمات مجنونة لا مرجعية لها سوى غرائز قادتها ومصالحهم اليومية، فضلاً عن الامتيازات التي يطمحون لتحقيقها عن طريق هذه المنظمات. وعلى العموم، يمكن جمع أسباب الإرهاب في حزمتين: أولاهما سياسية ومعيشية بكل تفرعاتها، وثانيتهما دينية وفقهية.
يعود أول أسباب نشوء الإرهاب ونموه وانتشاره إلى طبيعة الأنظمة السياسية التي قامت في معظم المجتمعات العربية وممارساتها السلطوية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية المتعسفة، واستبعادها كلياً أو جزئياً العمل بمعايير الدولة الحديثة، إذ لم تعر هذه الأنظمة انتباهاً أو قبولاً للحرية ولا لكرامة المواطن أو للديموقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة، وأقامت دولاً ليس لهيكليتها أو وظائفها علاقة أو مماثلة بهيكلية أو وظائف الدولة الحديثة والمعاصرة، ولم تقم في البلاد مؤسسات فاعلة مستقلة تمارس مهماتها بحرية، فكان للحاكم الحق أن يغيّر بنود الموازنة ويجري تنقلات بين هذه البنود، ويمنع ويمنح من دون قانون أو احترام للأولويات، ويتصرف بالمال العام كأنه مال خاص. من جهة أخرى، أعطت معظم الأنظمة العربية أجهزة الأمن صلاحية كاملة كي تعتدي على المواطن وتبتزه وتعتقله بسبب ومن دون سبب لسنوات طويلة، وتهدد من ينبس ببنت شفة بالاعتقال والتعذيب، فهيمنت هذه الأجهزة على مؤسسات الدولة، التي لم تعد تتجرأ على الحركة من دون إذن، وكان أن أدخلت رغبات الأجهزة الأمنية تغييراً في الالتحاق بوظائف الدولة وتعيين المدراء وكبار المسؤولين وأصحاب المناصب الإدارية والسياسية في ضوء ولائهم، وليس لكفاءاتهم أو لمقتضيات حاجات المؤسسات وأولويات التنمية. كما ساهمت بنشر الفساد والاستبداد، فلم يعد المواطن يستطيع اجتياز مسابقة أو شغل وظيفة أو حتى السفر للخارج من دون موافقة هذه الأجهزة التي تدخلت أيضاً بالعطاءات للمتعهدين والمناقصات لرجال أعمال بعينهم، بعد الحصول على نسب مئوية لقادتها من دون رقيب أو حسيب.
كانت خلاصة هذه الممارسات جميعها أن تحولت الدول إلى دول أمنية، وأهين المواطن، وتم الاعتداء على كرامته وحقوقه، وعاش في خوف ورعب، وارتفعت نسب البطالة فتجاوزت 25 في المئة في معظم البلدان العربية، كما قاربت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر نصف عدد السكان، وتفشت المحسوبية، وأُهمل تكافؤ الفرص، وتقلصت الطبقة الوسطى، وتردت القيم الإنسانية القديمة والحديثة، ولم يعد المواطن يرى ضوءاً في نهاية النفق ولا مستقبلاً أفضل له ولأبنائه وذويه، وهكذا توسعت الفجوة بين الأنظمة السياسية والشعوب، وبين الحاكمين والمحكومين، وبلغ الاستخفاف بالناس وحقوقهم وتأمين معاشهم مداه، حتى كاد المواطن يعتقد أن الدولة ليست دولته ولا علاقة له بحكومتها، وصنّف الحكومات والمسؤولين والقابضين على السلطة وأنصارهم كأعداء له مسببين فقره وبطالته وجوعه وعري أطفاله، ولم ير باباً مفتوحاً سوى باب الالتحاق بالمنظمات الإرهابية، وهذا ما فعله.
أما ثاني أسباب الإرهاب فيعود إلى تراكم تفسير الدين الذي بدأ بعيد انتهاء العصر الراشدي واستمر حتى الآن. وكان كل عصر سياسي أو مرحلة سياسية - اجتماعية تضيف إلى هذا التراكم تراكماً جديداً، وتثقل الدين بتفسيرات عديدة همها إرضاء أهل السلطة من جهة وخدمة مصالح الفقهاء وتأمين امتيازاتهم من جهة أخرى، حتى صار الإسلام أقوال فقهاء لا آيات قرآنية، وغرق بالشروح وشرح الشروح والتفسير والـتأويل والمماحكة بين الفقهاء الذين تغولوا على الدين مع أن «لا كهنوتية في الإسلام». وفي المحصلة، أصبح المؤمنون أمام دين آخر جديد كلياً، مثقلاً برغبات المتسلطين سواء كانوا سياسيين أم رجال دين. وتناول هذا الدين (أي دين الفقهاء) أركان الإسلام وأهدافه الرئيسة وتعليماته، ليس فقط ذات العلاقة بالدين والإيمان ومقتضياتهما، وإنما أيضاً ذات العلاقة بحياة الناس في حاضرهم ومستقبلهم، كعلاقتهم الأسرية (شؤون الأحوال الشخصية) والاجتماعية (شؤون العلاقة بين المجتمعات الإنسانية وداخل المجتمع نفسه) والاقتصادية (شؤون العمل والأجر والزكاة والربح والخسارة والثروة والفائدة على المال وما شابه ذلك)، وهيكلية الدولة (من الذي يحكم وما هي الشروط الواجب توفرها في الحاكم وصلاحياته وأسلوب الحكم)، قبل ذلك السؤال عما إذا الحكم لله وحده قدّر شكله منذ الأزل، أم تركه خياراً للشعب. ومعروفة الصراعات بين المعتزلة والفرق الأخرى ليس فقط إزاء هذا الأمر بل أيضاً إزاء اعتبار المؤمن مسيراً أو مخيراً (والأمر على أي حال أعمق وأشمل مما بظنون). هكذا رسم الفقهاء وأهل السلطة والمتنفذون ملامح دين جديد أوقعوا الناس في حبائله ونحّوا جانباً صحيح الإسلام، ومارسوا ما طاب لهم من الممارسات أسلوباً ومضموناً وما زالوا يمارسون، ومعظم ممارساتهم هذه بدائية، إن صحت لعصر مضى، فإنها لا تصلح لعصرنا، لا من قريب ولا من بعيد. ومن ذلك مفهومهم الجديد للجهاد ولدار الحرب والكفر، إضافة إلى العقوبات المفروضة في الدين والتي كانت واضحة الدلالة وواردة نصاً في القرآن كحد الزنى أو السرقة أو الموقف من الكتابيين، فتجاهلوها ووضعوا حدوداً جديدة وقصوا بأحكام جديدة، منها مثلاً ما قضى به بعض الفقهاء وحرّم طعام أهل الكتاب، برغم ما ورد في القرآن (وطعامهم حلّ لكم) بشكل صريح وقاطع بل حرّم هذا البعض إلقاء التحية عليهم والرد على تحيتهم. وقد قرر مفهومهم الجديد للجهاد قتل الآخر حتى وإن كان مسلماً والأفضل أن يقتل ذبحاً كالشاة، وغير ذلك من الاجتهادات مع الحرص على الأساليب الهمجية في تطبيقها، كما اعتبروا أن الممارسات تلك تقودهم للجنة فور موتهم، ليبدأوا بعد لحظات من انتقالهم للعالم الآخر بالتنعم بخيراتها.
وقد حقق الالتحاق بالمنظمات الإرهابية للمتطوع أهدافاً ثلاثة: الانتقام من السلطة الجائرة التي أوصلته لحالة البؤس الذي يعيش فيه، والامتثال لمتطلبات الدين كما وصلت إليه من فقهاء السلطة، والحصول على دخل يكفي الحد الأدنى من متطلبات عيش أطفاله وأهله الذي تقدمه له هذه المنظمات وممولوها. فكان الانتساب الكثيف لهذه المنظمات استجابة لواحد أو أكثر من هذه الأسباب وتأثراً بها جميعاً.
لا تقتصر مسؤولية الأنظمة السياسية على إيجاد الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية المناسبة لنشوء الإرهاب والمنظمات الإرهابية، بل تقع عليها أيضاً مسؤولية نفاقها لرجال الدين، بترك الحبل على الغارب لهم في محاولة لكسب تأييدهم وإسكات الناس، وتشجيع التراكم الفقهي ليأخذ مداه، من دون أن تسمح بنقده وإعادة دراسته وتنقيته مما علق فيه من تزوير وتشويه. ولم يخطر في بال أهل السلطة أن سلوكهم وفسادهم واستبدادهم وتعاملهم المتعسف مع شعوبهم ونفاقهم للفقهاء سيكون فيها مقتلهم في يوم من الأيام، وعلى نفسها جنت براقش، كما جنت على الشعوب أيضاً.