ذكريات وحقائق عن سيرة فارس ترجّل

" وداعاً الرفيق الغالي الدكتور إبراهيم ماخوس "

                                                                                محمود جديد

     شاء القدر أن يجمعني بالرفيق العزيز إبراهيم ماخوس  فوق ربوع الجزائر العزيزة في عام ١٩٨٢ بعد عشر سنوات من التخفّي الإيجابي داخل سوريّة وكنّت خلالها على تواصل وتفاعل معه من أجل الاستمرار معاً في حمل راية النضال ، وتحمّل مسؤولية الأمانة التي تركتها قيادة الحزب المعتقلة بدون محاكمة في سجن المزّة في أعناق الرفاق جميعاً بعد أنّ ارتدّ حافظ الأسد ونفّذ انقلابه التشريني الذي نقطف علقمه في هذه الأيّام .. وبناءً على طلب الرفاق في الجزائر وتحت ضغط حملة أمنيّة شرسة واعتقالات واسعة تعرّض لها الرفاق من مدنيّين وعسكريّين في ربيع عام ١٩٨٢ لم يكن لي خيار سوى مغادرة القطر سرّاً وبظروف غاية في الصعوبة ، والالتحاق بالجزائر والإقامة فيها بشكل دائم .. 

منذ ذلك الوقت ونحن نعمل معاً نتقاسم همومنا الخاصّة والعامّة فكان الرفيق الأعزّ ، والأخ الأكبر ، والصديق الحميم ، والصدر الحنون الذي نلجأ  إليه جميعاً  لحلّ متاعبنا الصحية والاجتماعية ، والمرجع السياسي والحزبي الذي لايُضاهى مرتكزاً على ذاكرة تستحضر الماضي بأدقّ تفاصيله ، وخبرة واسعة ، وطلاقة في الحديث ، وعمقاً في التشخيص ، وجرأة في قول الحقيقة والحق ، رافضاً المساومة في سبيل ذلك حتى ولو سبّب له  بعض المتاعب أحياناً  ..

 .  

كان يحمل على كتفيه وبكلّ جوارحه هموم الرفاق المعتقلين ، والقضايا الوطنية والقومية ، وخاصّة القضيّة الفلسطينيّة فرفع صوته عالياً لنصرتها وحمايتها من التفريط وكتب من أجلها الكثير ، فحظي باحترام قادة الفصائل الفلسطينية وكوادرها ، وكان منزله في فترة من الفترات مقصداً للكثيرين منهم عند زيارتهم إلى الجزائر  .. وعندما تعرّض العراق لشقيق للاستهداف والعدوان والاحتلال انبرى بحماسته المعهودة للدفاع عنه ، ووظّف كل صداقاته وعلاقاته في الساحة الجزائرية لحشد وتجميع الطاقات لنصرته ..     

 . كان الرفيق الكبير الراحل أبيّ النفس عزيزها ، شهماً ، كريماً ، نظيف اليد ، قاسياً على نفر من البشر الذين لا يرعون حرمة وطن أو صداقة أو واجب أسريّ ، وأكثر الذين بقوا راسخين في ذهنه أولئك الذين ارتدّوا عن أحزابهم من اليساريين ،أو الذين فرّطوا بالقضيّة الفلسطينية أو تقاعسوا عن واجبهم الوطني والقومي تجاهها ..ويتذكّرهم دائماً في جلساته وأحاديثه وينالهم منه مايستحقّون ، وعندما تقدّم به المرض في السنوات الأخيرة ، وشاخت قواه الذهنية ، بقيت ذاكرته تختزن أسماء أصدقاء فتوّته وشبابه ، ورفاق نضاله ، وجزئيات مشاركته في الثورة الجزائرية وأحاديث مجاهديها البسطاء الطيّبين وحسّهم الوطني وخاصة القومي وتعليق أحدهم على حديث للراحل الكبير عندما أراد أن يخفّف عنهم ويزرع الصبر والأمل في نفوسهم بقوله: " غداً سيأتي اليوم وتحرّرون فيها الجزائر وتستريحون " ، فقال له أحدهم بشيء من العصبيّة : " لا ، لن نرتاح سنتوجّه بعد ذلك إلى فلسطين ، هناك يُكتمل التحرير " هذه المقولة كانت تتردّد كثيراً على لسان المرحوم في جلساته وأشعر أنّها كانت تشحنه بمزيد من العزيمة والإعجاب بصدق وعفوية ونقاء وطنيّة أبناء هذا الشعب .. وبعد أن أنهكه المرض حصل الفراق باستثناء ذكريات قريته وغابتها ، وكم من مرّة تخيّل نفسه موجوداً فيها ...

  كان فقيدنا الغالي شغوفاً بخدمة الناس وخاصّة فقرائهم ، فهناك مئات القصص تُروى عنه عندما كان طبيباً في مدينة اللاذقية أو مستشفى المجتهد في دمشق ، أو طبيباً جرّاحاً في مستشفى مصطفى الجامعي ، أو بعد تقاعده ، ولا يكتفي بالقيام بواجبه الطبّي تجاه مَنْ يقصده ، وإنّما يجعله همّاً شخصيّاً له فيتابع أمره عند أطبّاء آخرين من ذوي الاختصاصات المعنيّة بمرض الشخص ...

وإلى جانب هذا كلّه ، كان أبو أحمد رجلاً وسيماً ، أنيقاً ، يتقن اختيار ألبسته وأحذيته وأقلامه ودفاتره ويحافظ عليها سنوات طويلة ويستخدم ذوقه الفنّي في الاختيار ، لأنّه كان يعشق الجمال أينما وُجِد ، وفي الوقت نفسه امتلك موهبة ملحوظة في الرسم ، وكثيراً ما تراه حتى في جلسات العمل يرسم شيئاً ما على ورقة مسوّدة دون أن يلهيه ذلك عن متابعة كلّ شاردة وواردة ، وتسجيل معظمها في محضر الجلسة ...

-  شارك الرفيق الفقيد في النشاطات واللقاءات الجبهوية في الخارج في أواخر السبعينيات ، وساهم بفعاليّة في نشاطات سياسية قومية مع قوى وعناصر من  ( فلسطين - لبنان - العراق - مصر - الجزائر - المغرب - اليمن – السودان...) وكانت إضاءاته على تاريخ الحياة السياسية في سورية ودور حزب البعث بإيجابياته وسلبياته ، وتحديد المهام المطلوبة من حركة التحرّر العربية على الصعيد السوري والفلسطيني على وجه الخصوص تحظى بكلّ احترام وتقدير لأنّه بحقّ كان الراحل الكبير موسوعة سياسيّة وتاريخيّة .. 

- كان يعشعش في أعماقه هاجس ثقل الأمانة الحزبية التي أناطها به خطيّاً الرفيقان  : الدكتور نور الدين الأتاسي ، واللواء صلاح جديد ، وقضيّة الرفاق المعتقلين .. والتوق للحظة التي يستطيع فيها عقد مؤتمر قومي جديد للحزب ، ولمّ شمل الرفاق ليستطيع الحزب من النهوض بمهامه التنظيمية والسياسيّة والفكرية المطلوبة ،والمساهمة مع أطراف التجمّع الوطني الديمقراطي في تأسيس جبهة وطنية عريضة تضمّ كافة القوى والأحزاب السورية  لتكون قادرة على إجراء التغيير الوطني  الديمقراطي الجذري الشامل وإنقاذ سورية من  حكم الاستبداد والفساد .. كما أنّ فكرة قيام جبهة على المستوى القومي وأهميّتها وضرورتها كانت راسخة في ذهنه وتكرّرت في كتاباته ..  

- تعرّض رفيقنا الراحل لحملة شخصيّة ظالمة من داخل الحزب وخارجه ، وكان هدف البعض من ذلك خلق الذريعة لترك العمل الحزبي ومتاعبه ووعورة خطّه السياسي وتبعاته ، أو مدخلاً للارتداد والنكوص عنه ،  والالتحاق بقوى وتيّارات أخرى لأسباب ودوافع ذاتيّة  ، وكان يكرّر إلى مسمعي مئات المرّات :" اعرف يا أبا نضال كلّ رفيق يخرج عن النطاق السياسي في خلافه مع رفاقه إلى النطاق الشخصي بأنّه سيترك الحزب ، وهذا مالمسته مرارا من خلال تجربتي الذاتية وخاصّة من الذين لم يلمسوا منّي على المستوى الشخصي إلّا كل رعاية واهتمام  ." وفي الوقت نفسه ، كان يشعر بنوع من العتب  والأسى من بعض الشخصيات العربية التي قدّم لها ولأحزابهم رفاقنا  في فترة حكم الحزب كلّ اهتمام ورعاية ، وعندما صارخارجه أصبحوا يتمسّحون بالأنظمة الحاكمة المعادية له ، ويتعرّضون لحزبنا بالنقد والتجريح ظلماً وبدون مبرّر واضح ... وقد ترك لنا تراثاً مكتوباً في الردّ على بعضهم سننشره مستقبلاً عندما يتيسّر لنا ذلك ..

   

- لم يمتلك أبو أحمد منزلاً في سوريّة وهو الطبيب الجرّاح ، ووزير الصحّة ، وثمّ وزير الخارجية ، والعضو البارز في قيادات الحزب ، وحتّى المنزل الذي كان يستأجره تعرّض للاغتصاب بعد الانقلاب التشريني من قبل عبد الحليم خدّام وشجعه المادّي المعروف ، علماً أنّ أجرته كانت تُدفع بانتظام من قبل المرحوم والد الأخت أم أحمد ، وعندما أخبره بانّ الخدّام يلحّ عليه بتسليمه مفاتيح المنزل قال له أبو أحمد هاتفيّاً لا تسلّمه إيّاه ، ولكن أسرع في نقل أرشيفي الخاص إلى عندك ولكنّ ذراع الاغتصاب سبقه، وبذلك حُرِم فقيدنا الحبيب من كنزمن المعلومات والتقارير المدوّنة بعد كل لقاءاته واتصالاته ، وخاصّة الخارجية منها ، وبقي يتذكّر حجم خسارته هذه ويرويها مئات المرّات لما تركته في نفسه من مرارة وأسى ..  وفي المرّة التي اتصل به عمّه من دمشق ليخبره بحادثة السطو نال خدّام السارق والمغتصب ما يستحقّه من شتائم أبي أحمد ، وعقب انتهاء المكالمة عاد عامل المقسم في دمشق واتصل بالمرحوم وقال له بارك الله فيك يادكتور ماقصّرت فيه لأنّه يستأهل ذلك وأكثر .

 -  وصلت  الرفيق الراحل توصية من الرفاق في السجن موجّهة إلى قيادة الحزب القومية  في الجزائر تتضمّن مايلي : " يرجى دراسة اقتراح إصدار كتاب عن حركة ٢٣ شباط ( أسبابها - مبرّراتها - إنجازاتها - سياساتها المختلفة ..الخ  والانقلاب الذي جرى عليها : أهدافه - أبعاده ..الخ) لقد أصبح هذا الموضوع ملحّاً إلى أبعد الحدود ، إذ شُوّهت وجهة نظرنا من جهات متعدّدة معروفة لكم ، واُتِّهِمنا بأسوأ الاتهامات الباطلة والظالمة ... ويضطر الكتّاب والمؤرّخون والدارسون الأخذ بها لخلوّ المكتبات من أيّ مصدر آخر ، وهكذا تتربّى الأجيال المتعاقبة على حمل أسوأ الانطباعات عن فترة حكم الحزب بعد ٢٣ شباط ، وكذلك عن أشخاصها ، وكاقتراح يمكن أن يكون هذا الكتاب على شكل مذكّرات ، وأنسب رفيق لهذه المهمّة هو الرفيق إبراهيم ماخوس باعتباره كان وزيراً للخارجية وكشخص معروف على كلّ صعيد ممٰا يساعد على رواج الكتاب وتوزيعه على نطاق واسع ، ونعتقد أنّ الظرف الحالي مناسب جدّاً أكثر من آيّ وقت مضى . يرجى الاهتمام بهذا الاقتراح مهما كانت مشاغلكم ..   ( رفاقكم ) ." 

   

وبعد فترة غير قصيرة من المنغّصات الحزبيّة الداخلية ابتدأ الرفيق الراحل في كتابة مذكّراته بما يستجيب لهذه الغاية النبيلة  ، وتوسّع في جزئياتها ومواضيعها ،  وأنجزها بحجم ضخم ، ولم يجد مطبعة موثوقة تمتلك الجرأة على طباعتها خوفاً  من انتقام الأجهزة الأمنيّة السورية ،  وآخرين من جهة ، ولحسابات سياسيّة من البعض  ، وسوء حالتنا  المادية من جهة أخرى  ، ولكن دائرة الحصار تمّ خرقها وإنجاز المرحلة الأساسية من المهمّة بفضل الطيّبين  ، وكان هاجس فقيدنا العزيز وحلمه إتمام طباعتها وتوزيعها وقراءتها وتقليب صفحاتها بيديه ، وإهدائها لمن يحبّ  .. ولكن - مع كلّ الأسف والمرارة - بقي نصف حلمه يحوم حول روحه الطاهرة في عليائه .. ولهذا نعاهدك أبا أحمد الحبيب بأنّنا سننشرها بأيّة طريقة متاحة في المستقبل غير البعيد ، وفاءً لك ولوصيّة الرفاق الذين سبقوك إلى دار الخلود ، ولكلّ مَنْ بقي ينتظر وما بدّل تبديلاً ، ونظراً للحاجة  الماسة لتلك المذكّرات وفائدتها للحزب والأمّة ...   

- كان الرفيق الكبير  يستشعر الآثار السلبية لضعف التواصل مع الأجيال الجديدة بسبب شراسة القمع ضدّنا وموجات الاعتقال المتلاحقة ، ( ولعوامل ذاتية أخرى لن أتعرّض إليها هنا الآن ) ، ويتحسّر على ذلك ، ولكنّه كان يعزّي نفسه ورفاقه بالقول : ولكن سنكون بمثابة شرطة مرور متطوعين ترشد هؤلاء الشباب إلى الطريق ، ولهم بعد ذلك حريّة الاختيار ، وبالتالي نكون قد قمنا بنذر قليل في سبيلهم بما يخدم قضايانا شعبنا وأمّتنا  .. 

وأخيراً ، نعاهدك أيّها الرفيق الغالي  إنّ الأمل والرجاء والحلم والمسؤولية التي أسندتها إلينا جميعاً والتي سمعناها وربّما تركتها لنا  وصيّة مكتوبة  ستبقى أمانة في أعناقنا ، وواجباً حزبيّاً وإنسانيّاً يستنهض  فينا الهمم ، ويفجّر فينا الطاقات لصنع المستحيل لإبقاء راية الحزب والرفاق خفّاقة  في سماء سوريّة والوطن العربيّ كلّه ، وكلّنا ثقة وإيمان بأنّ الخط النضالي الصحيح الذي رسمتموه سيبقى رغم النكسات والعثرات والمصاعب خالداً ، و سيجد جنوده وبسرعة اكبر ممّا يتصوّره البعض وذلك بفضل الالتزام الصادق بقضايا الأمّة والتفاني في سبيل تحقيقها ، والأفكار والمنطلقات الثورية التي رسّختموها في نفوسنا ، والسمعة العطرة لأخلاقكم وسلوككم التي عُرِفتم بها ،  والبذور الطيّبة التي نثرتموها فوق تربة الوطن والتي ستنبت وتزهر وتثمر عندما تتوفّر الشروط الديمقراطية داخل سوريّة الحبيبة ، وهي قادمة لا محالة مهما ادلهمّت الخطوب لأن الاستبداد والفساد ، والوجه الآخر لهما من حملة السلاح المتطرفين والتكفيريين  ليست كلّها قدراً دائماً لشعبنا ، وإنّما حقبة سوداء عابرة ستزول ... 

وداعاً أيّها الرفيق والأب  والأخ والصديق ، ونم في مثواك الأخير قرير العين ، فرفاقك على العهد باقون ، وعلى الطريق ماضون ، نستلهم من مضاء عزيمتك وإخلاصك وحماسك ،و صواب رؤيتك زاداً لاينضب على درب النضال حتى التغيير والتحرير والتوحيد ..             رفيقكم أبو نضال محمود       

في :    17 / 9 / 2013