إدارة بوش المستبدّة تقمع الديمقراطية!
نصر شمالي
عندما كشفت الحكومة الأميركية عن عزمها تعديل القانون الوطني الأساسي لتوسيع سلطاتها وسلطات المخابرات ومكتب التحقيقات الفيدرالي، قالت صحيفة (الهيرالد تريبيون) (23/9/2003) أن إدارة بوش تعمل على إصدار قانون فيدرالي أساسي جديد يمنحها سلطات كبيرة جداً، تتجاوز السلطات التي يمنحها لها قانون مكافحة الإرهاب، فهو يعطيها الحق بالتدخل إلى درجة العدوان على الحياة الخاصة للأميركيين، ويكتم أصوات العقلاء التي ارتفعت بعد أحداث نيويورك معترضة على السلطات الهائلة التي أصبحت في أيدي الحكومة!
وكان الرئيس بوش قد أعلن مشروعاً جديداً يتضمن منح السلطات الحكومية حق تفتيش الأماكن والمنازل، وحق الاستيلاء على الأوراق والوثائق والمستندات، وحق انتزاع الشهادات والاعترافات من الأشخاص، كل ذلك دون العودة الى السلطة القضائية، ودون حضور محامين! كذلك تضمن مشروع بوش التوسع في تطبيق عقوبة الإعدام، والتضييق على السجناء بحرمانهم من حقوقهم مثل الإفراج عنهم بكفالة! وبالطبع طلب المشروع زيادة الاعتمادات المالية للمخابرات، وإنشاء وزارة للأمن الداخلي!
لقد انطلقت الأجهزة الأميركية، دون رادع جدّي فعّال، تتنصت على المكالمات الهاتفية، وتراقب الرسائل البريدية والإلكترونية، وتجند على أوسع نطاق سائقي السيارات العمومية والعاملين في شركات التنظيف وفي المطاعم، لصالح المخابرات ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وصار معروفاً أن الكاميرات الخفية مزروعة في كل الأماكن العامة، بل في كثير من الممتلكات الخاصة! ولم تتردد بعض الصحف الأميركية في القول أن هذه السلطات، التي انتزعتها إدارة بوش عنوة، تشكّل تهديداً وانتهاكاً للحريات المدنية الأميركية، وأنها ليست ضرورية لمحاربة الإرهاب كما تدّعي الحكومة!
وكانت إدارة بوش قد ادعت أنها لا تملك الصلاحيات القانونية الكافية لمحاربة الإرهاب، لكن بعض الأميركيين أكدوا أن ما لديها من صلاحيات في الأصل يزيد عن حاجتها، وأنه لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة أن أمسكت حكومة بالمواطن الأميركي وضيقت عليه الخناق كما يحدث في عهد حكومة بوش! بل إن صحيفة (واشنطن بوست) ذهبت أبعد من ذلك (11/9/2003) قائلة أن الرئيس يستغل أحداث نيويورك لتبرير ما تفعله القوات الأميركية في العراق، ولتبرير مساعيه للاستيلاء على نفط العراق، ونفط بحر قزوين، ونفط القطب الشمالي، وذلك لصالح أسرته وشركاته!
حكومة مستبدة وكونغرس عاجز!
من جهة أخرى، كانت حكومة بوش تعمل بفظاظة على كتم أصوات المعترضين ضد سياساتها المالية، مثل تخفيض الضرائب لصالح الأغنياء، وعلى سياساتها الاقتصادية التي فاقمت البطالة، وعلى زيادة العجز في الميزانية المتعاظمة باستمرار، كذلك استغلت حكومة بوش أحداث أيلول/سبتمبر لكتم أصوات المحتجين على تزايد الإنفاق العسكري بصورة هائلة، خاصة في الحرب ضد العراق!
لقد أصبح واضحاً للأميركيين، كما كتب بول كروغمان، أن حكومة بوش تستغل تلك الأحداث لتحقيق المكاسب المالية والسياسية، وليس لمحاربة الإرهاب، وأنه لم يعد ممكناً استمرارها بالخداع أكثر من ذلك، ولم يعد ممكناً استمرار حملاتها ضد كل من ينتقد سياساتها، موجهة إليه تهمة انعدام الروح الوطنية، في الوقت الذي يصعب فيه القول أن تصرفات حكومة بوش تنطلق من دوافع وطنية خالصة!
منذ خريف عام 2003، أي بعد تعثّر قوات الحكومة الأميركية وارتباك مخططاتها في العراق، بدأت حكومة بوش التحول الى حكومة شبه سرية، فلا أحد يملك الحق في محاسبتها سوى الرئيس وحده! أما الكونغرس فلم يعد قادراً على إيقاف الرئيس عند حدّه ومنعه من ممارسة عمليات التفتيش والمراقبة والاعتقال على أوسع نطاق، وذلك نتيجة الخوف الذي بثته حكومة بوش في نفوس الأميركيين من الإرهاب، الأمر الذي جعلهم عاجزين عن الاعتراض بفعالية!
لقد تحولت القوانين والمواثيق والتقاليد الأميركية التي تحمي الحريات الى مجرد كلام مدوّن على ورق!وبسرعة مدهشة تعطّل ميثاق الحقوق المدنية الذي يفرض حماية قانونية للأجانب وليس للأميركيين فحسب، حتى أن منظمة العفو الدولية أرسلت مذكرة من عشرات الصفحات الى النائب العام الأميركي، عبّرت فيها عن قلقها بخصوص معاملة السجناء، حيث يحرمون من الأدوية الضرورية، بل من الطعام، ويكبلون بالأصفاد طوال الوقت تقريباً، ويتعرضون للضرب المبرح والمميت أحياناً! وعلّق كين مارتن، وهو مدير منظمة للدفاع عن الحريات المدنية، أن استخدام قانون الأدلة السرية لا يعمل به لأسباب تتعلق بمصلحة التحقيق، بل لأسباب تتعلق بالتستر على ما يجري، ولإخفاء الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان في المعتقلات!
وقد حدث مرة أن طالبت اللجنة التشريعية في مجلس الشيوخ ببيان أسباب الاعتقالات وأسباب المعاملة الفظيعة التي يتعرض لها المعتقلون، فأجاب وزير العدل آشكروفت أمام اللجنة أن اللجنة ليس لها سلطة الرقابة على سلطات العدالة التي تمثلها وزارته، وأنه لن يجيب إلا عن الأسئلة التي يرغب في الإجابة عنها!
غير أن الكونغرس استجاب لإجراءات الحكومة التي اغتصبت سلطاته، وذلك عندما أصدر ميثاقاً آخر يمنح الحكومة المزيد من الصلاحيات! ويقول تشارلز ليفيندوسكي: "من الواضح أن الكونغرس تخلّى عن دوره في الرقابة على الحكومة، وبذلك فقدت الولايات المتحدة التوازن بين السلطات، ولم تعد فيها سوى سلطة واحدة هي سلطة الرئيس"!
إدارة بوش معادية للديمقراطية!
في محاضرة نشرت الصحف البريطانية والأميركية مقتطفات منها، وألقيت في خريف عام 2003، قال قاضي المحكمة العليا في بريطانيا جون أوستن أن القوانين الجديدة في الولايات المتحدة تفضي بالتأكيد الى ضياع الحريات، وأن ما يحدث في سياق الحرب على الإرهاب يمثل مشهداً كئيباً للاعتداء على حقوق الإنسان! وقد سرد القاضي البريطاني تلك القوانين والإجراءات الحكومية الأميركية الجديدة، المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وقال: "لقد ترعرعت على الإعجاب بالمثل الديمقراطية والعدالة في الولايات المتحدة، أما الآن فأجد نفسي مضطراً للإعلان عن فشل العدالة الأميركية، وإنه ليتوجب على الحكومة البريطانية الإعلان صراحة أنها تدين غياب القانون وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة"!
كذلك كتب مفوض الاتحاد الأوروبي للعلاقات الخارجية كريس باتن يقول: "إن على الجناح اليميني المتشدد، الحاكم في واشنطن، أن يراجع تصوراته غير الصحيحة عن التناقض بين العالم الإسلامي والديمقراطية، فالواقع يشهد أن ثلاثة أرباع العالم الإسلامي يعيش في ظل ديمقراطيات بأشكال ودرجات مختلفة، وهذا ما يجب أن يفهمه صقور البنتاغون والبيت الأبيض، وأن يفهموا أيضاً أن الديمقراطية لا يمكن إدخالها في يوم وليلة، بينما واشنطن تريد أن تفرض على الدول العربية والإسلامية التحول إلى الاقتصاد الحر، وإطلاق حرية رؤوس الأموال، وتفكيك سلطة الدولة، وقيام الحكم على القانون والشفافية! غير أن ذلك كله لا يمكن أن يتحقق دون إقامة نظم برلمانية وانتخابات حرة، ودون ترسيخ مبدأ التعددية وحرية الرأي وحقوق الإنسان، وهذه المقومات لا تتحقق إلا إذا نشأت نشأة طبيعية من داخل المجتمع وبإرادة شعوبها ومن دون ضغوط خارجية، بل إن الضغوط الخارجية يمكن أن تؤدي الى عكس المطلوب، وقد قدمت الولايات المتحدة مثالاً سيئاً بما فعلته في أفغانستان والعراق، لأن الديمقراطية لا تتحقق بتدمير الدول والمدن، وبقتل عشرات الآلاف، وبنشر الدبابات والطائرات في كل مكان!