من تاريخ الحزب

حركة 23 شباط 1966

                     

  مروان حبش

 

   الدواعي والأسباب:

 

المقدمة:

 

     بدأ الحزب فكرة لخصت السياق التاريخي للتجربة العربية المعاصرة في شعارات (الوحدة والحرية والاشتراكية )وطرحت هذه الفكرة نفسها على أنها الخط المعبر عن (الإيديولوجية العربية الثورية )التي تشكل دليلا للعمل العربي ،وأساسا لتغيير صورة الواقع العربي المجزأ،المستعبد ،المستغل والمتخلف ،ولقد ولدت حركة البعث من هذه الفكرة ،أي من السياق التاريخي للثورة العربية المعاصرة ،وفي اليوم السابع من نيسان (أبريل )1947 ،تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي .

     لقد ولد الحزب وسيطرت العفوية والتأثر الانفعالي على أفكاره وتنظيمه ،كما حاول قادته ربط الأعضاء بهم شخصيا بدل ارتباطهم بمنظمات ومؤسسات الحزب ،ودون إدراك بأن يكون المرء متعصبا لشخص ما ،يعني تكريس شكل من أشكال الاغتراب الذاتي ،وحتى لو استطاع المرء أن يستبدل هذا الشكل الوجودي بشكل آخر أكثر وعيا ،فسيبقى يحمل في أعماقه بعض البقايا الثقيلة من ذكرى ذلك الشخص الذي كان ((معبودا ))في يوم مضى من الأيام ،وأدى هذا الأمر إلى أزمة ثقة مزمنة في الحزب ،عرفت بأزمة ((القيادة التاريخية )).

     إذا كانت بدايات حركة البعث من 1940-1941  حتى المؤتمر ا لتأسيسي ،أساتذة وتلامذة ،أو زعماء وأنصارا ،فإن الأساتذة والزعماء لم يقروا بأن هذا الأمر يجب أن يكون قد انتهى بدءا من السابع من نيسان 1947،وأن التلامذة والأنصار قد تحرروا من هذه العلاقة في العمل الحزبي ،لأن المؤتمر التأسيسي أقر دستورا  للحزب يوضح مبادئه وأهدافه ، كما وضع لائحة تنظيمية تحدد السلطة المسؤولة عن كل تطور فكري ونضالي ،لا الأفراد مهما كان مستوى وعيهم ،أو موقعهم ،أو دورهم في نشأة الحزب وتأسيسه ،وهذا يجب أن يقود إلى الإقرار بأن المؤسس الحقيقي للحزب هو الأجيال الثورية المتعاقبة التي حملت المبادئ في ضمائرها وأصبحت هذه المبادئ محور كل فعالياتها ونشاطاتها لنشر أهداف البعث ووضعها موضع التطبيق ،تلك الأجيال البعثية  التي تمرست بالنضال ونهلت من الثقافة واستوحت من واقع الشعب ،وحفزها إخلاصها العميق إلى التضحية والعطاء ،ولكن العلاقات فيما بين القيادة وأعضاء الحزب بقيت علاقات شخصية غير موضوعية وعلى أساس تلك العلاقات ، كانت قيادات الحزب تنشئ قيادات الأقطار والفروع والشعب ،لتظل ضامنة لنفسها السيطرة على القيادة والزعامة ،وحتى مؤتمرات الحزب ،فقد كانت مؤتمرات قليلة ومعطلة الفعالية وغير قادرة على السير بالحزب إلى الأمام ،لأنها كانت كيفية وغير قائمة على مبدأ انتخابي ، وإذا قامت على شيء من ذلك ،فإن أسس الانتخابات ،إنما ،توضع قبيل انعقاد المؤتمرات بأيام معدودات ليصار آلى تهيئة الأشخاص المناسبين لعضوية تلك المؤتمرات ،كما كانت قيادة الحزب (التاريخية ) تحل قيادة حزبية في هذا القطر أو ذاك ،وتقيم مقامها قيادة أخرى بحجة ضرورات العمل السري ،أو بدون حجة ،وظلت تسهل الطريق أمام من تنحيهم عن القيادات للخروج من الحزب والإنتفاض عليه وتشكيل جماعات وتكتلات مناوئة له ،وبهذا الأسلوب ،بدا ،وكأن القيادة (التاريخية )تعمل على وأد الحزب ،بدل أن تكرس قيادة من له تجربة نضالية في الحياة داخل الحزب ،كما أن ذلك خلق نزيفا دائما للطاقات النضالية التي هدرت ودفعت إلى الضياع ،لكي يبقى الحزب في حجم معين وتحت سقف محدود وغير قادر على أن يأخذ دوره ويضع بين أيدي الجماهير ،أهدافه بوضوح ،وأن ينظم تلك الجماهير في معركة للوصول إلى ما تبغيه ،وأن يقودها بوعي وكفاءة ،بسبب عدم وجود دليل نظري واضح ومتنام مع الأيام ،مما نجم عنه بقاء القيادات الحزبية ،قيادات لاهثة ،إلى حد ما ،وراء الأحداث ،وبقاء الحزب غير قادر على أن يحل محل كل التكتلات السياسية الاقليمية(الثورية منها والوطنية) التي كانت منتشرة في الأقطار العربية ، وأن الذين انتسبوا إلى حزب البعث ،في أيام نضاله السلبي ،كان واضحا قي أذهانهم ،أنه ستقع على هذا الحزب مسؤولية قيادة الشعب وتفجير الثورة العربية .

     بدأ نشاط الحزب بين عامي 1940-1941 على هدي مبادئه الموجزة التي تضمنت كل مابني عليه دستوره فيما بعد ،وخاصة أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية ،وكان هذا النشاط يتركز في القطر السوري لعدم وجود منظمات حزبية في بقية الأقطار ،باستثناء أفراد في قطري الأردن ولبنان ،إضافة إلى الطلبة الذين كانوا يدرسون في الجامعة السورية ،من العراق والأردن ولبنان ،وكان لهؤلاء دورهم في تأسيس منظمات للحزب في أقطارهم ،لاحقا ،وبقيت قواعد الحزب ،حتى عام 1954،تناضل وتقاد من قبل قيادة منظمة الحزب في سورية التي كانت قيادة للحزب كله ،وكانت منظمات الحزب في أقطار الأردن ولبنان والعراق ،التي تأسست بين 1947-1950،بمثابة (  الفروع )التابعة للقيادة الحزبية السورية ،حيث مركز ثقل التنظيم الحزبي،رغم حضور بعض القياديين الحزبيين من تلك الأقطار مجالس الحزب في القطر السوري للتشاور في القضايا المطروحة ،السياسية والتنظيمية ،ولتلمس ما يجب عمله في المستقبل ،ولكن ذلك لم يتخذ شكلا تنظيميا وعلاقات موضوعية ،بل كان يتم بشكل (أبوي) ،كما أن تلك المجالس أو اللقاءات كانت شكلية وعديمة الجدوى وتستخدم من قبل القيادة (التاريخية )لاستمرار سيطرتها على الحزب

     لاشك أن تنظيم حزب البعث ،كان منذ بدايته تنظيميا قوميا ،رغم عدم وجود قيادة قومية ،ولقد نشأت فكرة وجود قيادة قومية منفصلة عن مؤسسة قيادة قطر سورية ،في عام 1953،في بيروت ،أثناء لجوء قادة الحزب إلى لبنان ،وأن الإجتماع الحزبي الذي انعقد في حمص في تشرين الأول 1953بحضور مندوبين عن منظمات الحزب في سورية والعراق ولبنان والأردن ،قرر الدعوة إلى عقد مؤتمر قومي كبير ،في شهر حزيران 1954،اعتبره الحزب مؤتمره القومي الثاني ،وتم فيه الاتفاق بالتراضي على تسمية قيادة قومية ،من سبعة أعضاء ،بقيت على رأس عملها في قيادة الحزب إلى أن تم ولأول مرة ،انتخاب قيادة قومية في المؤتمر القومي الثالث 1959.

     في قطر سورية وبعد سقوط حكم الشيشكلي في 25شباط 1954 ،وبعد المؤتمر القومي الثاني ،تم انتخاب مجلس للحزب (مؤتمر )،وتشكلت قيادة قطرية من سبعة أعضاء ، خمسة منهم منتخبون واثنان منهم  معينون ، وفي تموز 1957 انتخب مجلس للحزب في سورية قيادة جديدة من تسعة أعضاء ، ولم يرشح أحد من الأساتذة الثلاثة لعضويتها ،وكان مفروضا أن يتجدد انتخاب أعضاء هذا المجلس كل عامين وكذلك انتخاب قيادة وأعضاء للمؤتمر القومي ،غير أن القيادة (التاريخية )قد ألغته من الوجود ،ولم تدعه إلا مرة واحدة عقب انتخابه ،كما ،أنها لم تحدد الدعوة لانتخابات جديدة حتى قامت الوحدة بين مصر وسورية ،وعندما كان المجلس الحزبي في سورية معلق الوجود كانت القيادة القومية  تقيم أنواعا مختلفة من المجالس المصغرة الكيفية ومن القيادات الموسعة الكيفية ،أيضا ،كلما طرأ لها طارئ واحتاجت إلى موافقة على ماعملته أو على  ماتنوي القيام به ،وبقيت تلك القيادة القومية تمارس دورها كقيادة لقطر سورية ،رغم انتخاب قيادة قطرية ،كما أنها في الفترة ،مابين انتخاب هذا المجلس وقيام الوحدة ،جرت محاولات وعقدت عدة اجتماعات لهذه القواعد في دمشق وحلب واللاذقية ،وعبثا كانت كل تلك المحاولات واستمرت القيادة في سيطرتها على الحزب ،دونما رجوع إلى أحد فيه ،غير من تنتقيهم لتبرير أعمالها .كما أن مجلس الحزب في سورية ،كان قد تقدم بمشروع نظام داخلي ،تم عرضه على المؤتمر القومي الثاني ،وأوصى هذا المؤتمر ،قيادة الحزب ،بإعادة النظر فيه ،وبما يضمن وحدة الحزب ،ويؤسس لعلاقات موضوعية بين مؤسساته وأعضائه ،على أن يعاد عرضه عليه في دورة استثنائية تخصص لذلك ،غير أن القيادة أهملت مااقترحه المؤتمر المذكور ،وظلت تعمل باللوائح والتعليمات التنظيمية حتى المؤتمر القومي الثالث .

     عندما كان مجلس الحزب في قطر سورية معلق الوجود وقررت القيادة (التاريخية )حل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة ،وبسبب هذا الحل فقد أعضاء القيادة القومية السوريون < صلاح البيطار – أكرم الحوراني > صفتهما الحزبية ،   كما فقد كل من  (عبد الله الريماوي وفؤاد الركابي ) عضويتهما في القيادة القومية وفصلا من الحزب لمواقفهما المتباينة عن سياسة الحزب ، ونتيجة ذلك ،فقد النصاب في القيادة القومية ،وانفرد الأمين العام (ميشيل عفلق )بتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر قومي للحزب ،وهو المؤتمر القومي الثالث (1) الذي انعقد في بيروت في أواخر شهر آب 1959.

     كان قد تقرر في المؤتمر القومي الثاني .إنشاء مكتب للأمانة العامة للقيادة القومية ،ولجنة للإشراف على التوجيه الثقافي والانتاج الفكري ،مركزها في دمشق ،إضافة إلى اعداد مشروع النظام الداخلي ،كما مر ذكره ،أقره المؤتمر القومي الثالث ،وبقي معمولا به حتى تم تعديله في المؤتمرين القوميين السادس 1963 والثامن 1965،وبما يتلاءم مع التطورات الفكرية والتنظيمية للحزب التي استوجبتها تسلمه السلطة في قطري العراق وسورية .

     منذ المؤتمر القومي الثالث ،طرحت أزمة الحزب نفسها ،وبدأ الشعور يتضح بضرورة ارتفاع الحزب إلى المستوى النضالي الذي بدأ يتطلبه الوضع العربي ،وكان الحزب يعاني نقصا في نموه الفكري وخططه النضالية ،كما كان يعاني نقصا خطرا في تنظيمه الداخلي ،وفي ضعف قيادته القومية( 2)

وتحددت معالم أزمة الحزب على المستويات الثلاثة :

1-المستوى العقائدي ،والحاجة إلى توسيع المفاهيم التي ينطلق منها الحزب ،وإلى تفصيل الفكرة وتحديد المفاهيم .

2-المستوى التنظيمي ،والحاجة إلى معالجة الوضع المتردي للتنظيم الحزبي.

3-المستوى السياسي ،ويتمثل في عدم تحديد استراتيجية للنضال السياسي واستراتيجية للنضال الشعبي .

     ولقد أكد المؤتمر القومي الرابع (آب 1960) ،على أن أزمة الحزب تكمن في ضعف استراتيجية العمل وغموض الأسلوب في العمل الحزبي والنضال السياسي.

     استمرت الأزمة الحزبية التي كانت تفرض نفسها على المؤتمرات القومية اللاحقة،وغياب الاستراتيجية ترك الحزب عرضة للمبادهات ولردود الفعل العفوية والارتجال والاستمرار في تجربة المحاولة والخطأ ،مما كان له انعكاساته على بنية الحزب التي يجب أن تكون تجسيدا لفكرته ،وعلى العلاقة بين فكرته وبين موااقفه من جهة ،وعلى مردود العمل الحزبي من جهة أخرى ،وكان من أخطر النتائج السلبية لهذا الغياب للاستراتيجية هو إفساح المجال أمام لعب الأدوار الشخصية داخل قيادة الحزب ،فكان الأستاذ ميشيل عفلق يرى أن مفهوم القيادة السياسية للحزب التي يمثلها الأستاذ أكرم الحوراني ثم الأستاذ صلاح البيطار ،فيما بعد ،يتعارض مع المفهوم الثوري العميق للحزب ،وكانا يعتمدان على الأساليب ذات المظهر الثوري والمضمون البعيد عن الثورة ،أي ما كان يسميه (عقلية النجاح السريع )،وكان الأستاذ ميشيل يردد ،دوما ،أن عقلية الحوراني عقلية محلية لا ترقى إلى مستوى استيعاب القطر وعاجزة عن تمثيل المنطق القومي للحزب ،كما أن أساليبه عشائرية قائمة على فكرة الزعامة الفردية والمراوغة السياسية والتطلع النهم السريع إلى السلطة والسلوك الانتهازي الذي لا يتقيد بالمقاييس الثورية وبالقيم الخلقية الثابتة ،وأصبح الأستاذ عفلق ،يرى أن دمج الحزبين البعث العربي ،والاشتراكي العربي ، (والذي تم بمنأى عن استفتاء قواعد الحزب )أضاف إلى حزب البعث نقاط ضعف وانحرافات لم يكن يعرفها من قبل ،وهذا الأمر أضاف إلى أزمة الحزب أزمة في الثقة بقيادته التي أقرت الدمج رغم علمها بأن الأستاذ أكرم الحوراني كان يؤمن بالزعامة الفردية وينظر إلى الشعب مادة للعمل السياسي وقاعدة لنشوء زعامات جديدة تقضي على الزعامات التقليدية لتحل محلها ،بدلا من إيمان حزب البعث بطليعة تملك الوعي والكفاءة والقدرة على العمل الشعبي المنظم  ،وأن للشعب ، في عصر الجماهير ، دورا تاريخيا ، ،ويجب النظر إليه من مفهوم ثوري ،وهو مفهوم الشعب المنظم ،لا من خلال مفهوم العدد التائه والقطيع التابع والكم المهمل ، ولهذا فإن الدمج ساهم في تعطيل النمو الطبيعي لحزب البعث وفجر في داخله أزمات جديدة وأدخله في متاهات لم يخرج منها إلا بعد أن كاد يفقد ملامحه ،كما أن الدمج عمق أزمة الحزب في خلق التناقض بين حقيقة البعث وبين واقعه ،من هذا العرض ،يمكن تلخيص عوامل أزمة الحزب ،قبل استلامه السلطة في:

     أولا :الخلاف حول (مفهوم الحزب ،ومفهوم الاشتراكية )،الذي ظهر في المؤتمر التأسيسي الذي أقر دسنور الحزب ،وكانت هناك وجهتا نظر متباعدتين لهذين المفهومين .

    ثانيا :عدم وجود مستوى تنظيمي يوازي فكرة الحزب الثورية .

    ثالثا :غياب المنهج التحليلي لفكرة الحزب الذي يحدد العلاقة الجدلية بين الإطار القومي والمحتوى الاجتماعي ،ويحقق الربط العضوي بين أهداف الحزب الثلاثة (الوحدة ،الحرية ،الاشتراكية )ويساعد على ترجمة هذه الأهداف إلى استراتيجية ترسم المراحل العملية لتحقيق تلك الأهداف .

     رابعا :محاولة واضعي فكرة البعث "تقديس أنفسهم "وطمس الأخطاء التي يرتكبونها ،أو تبريرها رغم خطورتها ،بدلا من اعتبارها نقاط ضعف لا تخلو منها الطبيعة البشرية ،وأن سببها قد يكون مرده إلى عدم وجود من يعوض هذا الضعف إلى جانبهم ،ونجم عن ذلك ،نظرتهم إلى كل نقد ،بأنه افتراء وتجن وتشهير بحقهم وضياع بهيبتهم ،وهذا قادهم إلى اعتبار أن (النقد قد أصبح داء مزمنا يعمل فتكا وإضعافا في جسم الحزب ،بدلا من الإخلاص للقادة وعدم توجيه أي نقد إلى ذواتهم"القدسية ".)

الحزب في السلطة

     إن المحك الأساسي بالنسبة لأية حركة سياسية هو الحكم ،وباستلام الحزب للسلطة في قطري العراق وسورية بعد انقلابي الثامن من شباط والثامن من آذار 1963 وضع الحزب أمام هذا المحك الخطير لأول مرة ،وغدت قيادات الحزب وقواعده في مواقع المسؤولية ،وأصبحت الضرورة ملحة لرسم ملامح المستقبل الذي يجب على الحزب بناء تجربته الخاصة وفقها ،وطرحت معالم الطريق في تقرير عقائدي وآخر تنظيمي ،على المؤتمر القومي السادس تشرين الأول 1963،ومع طرح هذا التقرير الذي كانت قد أعدته لجنة حزبية باشراف القيادة القومية ،ظهرت الأزمة مجددا وبكل حدتها ،وهي الأزمة القديمة التي حملت معها بذور التناقضات الجديدة ،بدءا من المؤتمر التأسيسي إلى المجلس (المؤتمر القومي الثاني )إلى المؤتمر القومي الثالث ،إلى المؤتمر القومي الرابع ،مرورا بالمؤتمر القومي الخامس فالمؤتمر القومي السادس ،واستمرت فيما بعد إلى المؤتمر القومي السابع شباط 1964،ومن ثم المؤتمر القومي الثامن نيسان 1965.

     لقد وضع المؤتمر القومي السادس ،الصيغ العقائدية(بعض المنطلقات النظرية)والتنظيمية (تعديل النظام الداخلي )بحيث وجوب تجسيد فكرة الحزب الثورية في بنيته التنظيمية ،ولقد مثلت مقررات المؤتمر القومي السادس خطوات أساسية في تطوير فكر الحزب وكانت قفزة في طريق الثورية والعلمية والاشتراكية وفي طرح قضايا النضال العربي طرحا طبقيا ، كما بين هذا المؤتمر الأخطار التي تنجم عن التداخل والتماهي بين الحزب والسلطة ، والى محاذير انغماس قيادات الحزب وقواعده في أعمال الحكم اليومية ومخاطر الابتعاد عن جماهير الشعب ،كما أكدت تلك المقررات على ضرورة ارتقاء التنظيم الحزبي ليصبح قادرا على قيادة الأغلبية الساحقة للجماهير ،وعلى ممارسة الديمقراطية –المركزية في منظماته ،وأوصى هذا المؤتمر القيادة القومية التي ستنتخب منه ،  الطلب إلى القيادة القطرية في كل من سورية والعراق ،للمباشرة الفورية ببناء الجيش على أساس عقائدي، وهذا يعني تحويل الجيش إلى أداة ثورية .

     فقد الأستاذ ميشيل عفلق ومؤيدو وجهة نظره ،في هذا المؤتمر زمام المبادرة ،وكثيرا هي المرات التي غادر فيها قاعة الاجتماع كوسيلة احتجاج على توجهات المناقشة فيه .كما أنه بذل ضغوطا كبيرة للحيلولة دون اقرار التقرير العقائدي ،ولكن تلك الضغوط لم تلق تأييدا إلا عند عدد قليل جدا من المؤتمرين ،وفي الوقت ذاته ،أصيب الأستاذ صلاح البيطار بفشل كبير لعدم انتخابه في عضوية القيادة القومية .

     إن المؤتمر القومي السادس كان مؤتمرا نوعيا ومتميزا للحزب ،لسببين ،أولهما ،أن التقارير المطروحة على المؤتمر مثلث دليلا للنهج الذي سينشئ حكم الحزب تجربته وفقها ،وثانيهما ،أن جل أعضائه ،وخاصة مندوبي سورية والعراق ولبنان ،كانوا منتخبين من القواعد الحزبية في أقطارهم ،بعد أن كانت الممارسة الحقيقية للديمقراطية في الحزب ، معدومة في كل المستويات  ،كان التنظيم خلالها رهن إرادة مؤسسية ،يتكيفون به حسب مشيئتهم .

     إن ماعرف ب(القيادة التاريخية ) كانت تقف بشكل دائم في وجه الإرادة الحزبية التي تتمثل في الأغلبية الكبيرة من القواعد الحزبية ،تلك الإرادة التي تخلص لمنطق التطور التاريخي وتتمسك بمقررات مؤتمرات الحزب ،كما أن محاولات القيادة التاريخية - التي كانت تتكرر- لإحداث ردة على مقررات مؤتمرات الحزب ومواقفه العقائدية كلما كانت لا تتوافق مع أفكارها ،وتجلى ذلك بشكل واضح في الموقف من مقررات المؤتمر القومي السادس ،وخاصة موقف الأمين العام الأستاذ ميشيل عفلق من التقرير العقائدي (الذي كان يرى أن ما ورد فيه هو تضحية بالمستقبل من أجل تبرير الحاضر ) لذلك لم يكن قادرا لا فكريا ولا نفسيا على تبنية أو اعتناقه ولذلك كان مصيره الإهمال ،وتمييع أمر توزيعه على منظمات الحزب بذريعة عدم انجاز كتابة مقدمة ذلك التقرير التي كلف الأمين العم بكتابتها ، كما أن القيادة  لتي استمرت طويلا في السيطرة على الحزب لم تكن قادرة ثقافيا ،على الانسجام مع الطرح الطبقي للقضايا النضالية العربية ، الذي أقره التقرير .

     إن المؤتمر القومي السادس ،قد تعرض إلى نقد بعض الأفكار والآراء التي خلفها قصور الحزب الفكري ،وأتاح بالتالي ،تطوير عقيدة الحزب الفكرية ووضوحه الايديولوجي وتماسكه التنظيمي ،وكفل مواجهة علمية ثورية لقضايا النضال العربي،كل ذلك ضمن إطار قومي أتاح تطويرا عميقا يستشرف المستقبل بوضوح دون انقطاع عن ماضي الحزب وتراثه ،ولتأكيد ذلك قرر المؤتمر حذف مقدمة التقرير العقائدي وترك أمر صياغتها من جديد  للرفيق الأمين العام على أن توافق عليها القيادة القومية ،ولم تنجز كتابتها إلا بعد تأكيد المؤتمر القومي السابع شباط 1964 على ضرورة صياغتها واقرارها ،واصدار التقرير العقائدي وتعميمه على المنظمات الحزبية .

     إن الخلافات التقليدية في الحزب ،أصبحت بعد هذا المؤتمر ،تطرح طرحا مبدئيا ،يتناول الفكر ،والتطبيق ،والتنظيم ،بعد أن كان الطرح في الماضي منصبا على النواحي التنظيمية ،كما أن هذا المؤتمر قد حدد علاقة الحزب بالحكم ،كما حدد صلاحيات المؤسسات الحزبية ،كالتالي :

ـ المؤتمر القومي ،كأعلى سلطة في الحزب ،يضع الأسس العامة للبرنامج المرحلي الذي تحوله القيادة القومية الى برامج مرحلية عملية تشمل جميع الأقطار ،ولها الرأي الأول على مستوى التخطيط العام وعلى مستوى التشريع والسياسة العليا ،أما في الأمور الأخرى فلا يجوز ذلك ،حتى لا تصبح القيادة القومية هي قيادة القطر

   -القيادة القطرية ،طالما الحزب حاكم في قطر من الأقطار ،هي التي تضع الخطط التفصيلية لتنفيذ البرامج التي تقرها القيادة القومية على مستوى قطرها ،وتكون هي مراقبة لتصرفات الحكم ،أي أن الحكم مسؤول أمامها .

     وفي (توصيات سياسية متفرقة )،أقر المؤتمر مايلي ،

    (أن تقبل قواعد الوحدويين الاشتراكيين والقطريين الذين كانوا حزبيين سابقين ولم يسيئوا للحزب ،على أن يبقوا تحت التجربة والمراقبة لفترة ستة على الأقل وبصورة إفرادية ،أما بالنسبة للوحدويين الاشتراكيين والقطريين كتنظيم فيجب محاربتهم بشدة ،لأنهم يعادون الحزب بشراسة ).

18 تشرين الثاني 1963

وسقوط حكم الحزب في العراق

كانت بعض قواعد الحزب وقياداته تتهم الأمين العام بالعمل الحثيث للتخلص من الاتجاه اليساري الذي ظهرت ملامحه في المؤتمر القومي السادس ،وأن الأحداث التي جرت في العراق ما بين 11 – 18 تشرين الثاني 1963 كانت انفجارا حتميا للتناقضات الموجودة في الحزب وفي الحكم ، وأن < بعض المنطلقات النظرية > التي أقرها المؤتمر القومي السادس كانت الخطوة الأولى نحو تجاوز وتصفية ما سموه ب < العفلقية > ، ولقد دعت القيادة القطرية العراقية مؤتمرها القطري الخامس للانعقاد في 11 تشرين الثاني 1963 لانتخاب الأعضاء الاحتياطيين في قيادة القطر وفقا للتعديلات التي طرأت على النظام الداخلي ، وبعد مضي نصف ساعة من انعقاد المؤتمر فوجئ المؤتمرون بدخول عدد من  <اليمينيين >العسكريين قاعة المؤتمر ليفرضوا أنفسهم أعضاء في المؤتمر ، متذرعين بعدم تمثيل التنظيم العسكري تمثيلا سليما ، واعترضوا على من يمثلهم ، كما طعنوا في انتخابات التنظيم المدني ، وتكلم أحدهم وهو العقيد محمد حسين المهداوي < عين ملحقا عسكريا في سورية بعد 8 شباط ثم عاد الى العراق بعد المؤتمر القومي السادس > قائلا : ان الرفيق ميشيل عفلق فيلسوف الحزب ، قد أخبرني بأن هناك عصابة متسلطة على رأس الحزب في العراق ، وهناك عصابة مماثلة لها في سورية ، وقد التقت هاتان العصابتان وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس ، لذا يجب ازالتهما ، وان ما يحدث هنا سيحدث مثيله قريبا في سورية ... ثم طالب باعتبار جميع الحاضرين أعضاء في المؤتمر ، وتم انتخاب قيادة قطرية جديدة ، قامت على الفور بنفي < حمدي عبد المجيد ، علي صالح السعدي ، محسن الشيخ راضي ، هاني الفكيكي ، أبو طالب الهاشمي > الى مدريد ، ولم يزودوا بجوازات سفر حتى لا يستطيعون مغادرتها .

   وصل الأمين العام يوم 13/ 11 الى بغداد ، على رأس وفد من أعضاء القيادة القومية ضم في عضويته الفريق أمين الحافظ ، اللواء صلاح جديد ، والوزير يوسف زعين وآخرون ،  وبعد الاطلاع على مجريات الأمور ، صدر يوم 13 / 11  بيان باسم القيادة القومية ، ومما ورد فيه : < ان ما وقع في المؤتمر القطري العراقي المنعقد بتاريخ 11/11/1963 من استغلال لطيبة رفاقنا الضباط الذين لم يفسح لهم المجال في السابق لابداء آرائهم بأسلوب صحيح ومن ممارسة لطرق غير حزبية في المؤتمر تجعل القيادة القطرية التي انتخبت لا تعبر عن ارادة الحزب .> واتخذ الحاضرون من أعضاء القيادة القومية مقررات ، منها :

1-                      اعتبار المؤتمر القطري المنعقد في بغداد بتاريخ 11/11 مؤتمرا غير شرعي ، وحل القيادة القطرية المنبثقة عنه .

2- حل القيادة القطرية التي كانت تمارس مهامها عند انعقاد المؤتمر المذكور .

3-                      تولي القيادة القومية مسؤولية القيادة القطرية في العراق .

  ونتيجة ذلك تولى الأمين العام ، مع عضوي القيادة القومية أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش ، وأعضاء القيادة القومية الذين كانوا في عضوية الوفد ، توجيه دفة الأمور ، وحسب وجهة نظر المنفيين وجناحهم في الحزب ، أن دور الأمين العام والبكر وعماش   كان يهدف الى تثبيط عزيمة الحزبيين وتمييع المواقف، وعدم الأخذ أو الاستماع للرأي الآخر في الحزب ، كما رفضوا ادانة ما حدث يوم 11 /11 ، ورفضوا عودة القيادة الشرعية للحزب ، ورفضوا ، أيضا ، طلب الحزبيين باخراج عبد السلام عارف من العراق ، رغم وضعهم أمام هؤلاء الأعضاء جميع المعلومات المتوفرة عن تحركاته واجتماعاته ، وتأكيدهم للأمين العام بأن عبد السلام عارف يعد لانقلاب بالاشتراك مع العناصر التي دخلت عنوة الى المؤتمر ، ورغم كل ذلك أقدم الأمين العام بعد تحرك الحرس القومي لحماية الثورة يوم 13 /11 ، على تشكيل مكتب عسكري للتنظيم الحزبي في الجيش ضم في عضويته < طاهر يحيى ، حردان التكريتي ، رشيد مصلح ، سعيد صليبي ، صلاح الطبقجلي > ، وأصدر هذا المكتب ، بموافقة الأمين العام ، تعليمات طلب فيها من الحزبيين العسكريين اعتبار تعليمات طاهر يحيى وأوامره تعليمات من الحزب ، وقد استخدم طاهر يحيى هذه الصلاحيات لينفذ ، بالتعاون مع عارف ،  انقلاب 18 تشرين الثاني بمنتهى السهولة ،وخاصة ، بعد أن أصدرت اللجنة التي يتراسها الأمين العام الأوامر للحرس القومي بالانسحاب من مراكزه الاستراتيجية في مدينة بغداد ، على أساس أن المشكلة قد تم تسويتها .

        خان طاهر يحيى ، الذي تسلم رئاسة الوزارة ، الأمانة ، وقام باعتقال مئات البعثيين ، وحين بادرت الاذاعة السورية الى مهاجمة الانقلاب فور حصوله ، هاتف حازم جواد  < عضو في القيادة القطرية الجديدة، التي تم حلها  ، وتقرر ابعاده، أيضا، الى لبنان>، من بيروت اللواء محمد عمران نائب رئيس مجلس الوزراء ،  وطلب الكف عن مهاجمة عبد السلام عارف ، بل وتأييده ، لأن الضباط الذين قاموا بالانقلاب هم ضباط بعثيون ، وأن هذا الانقلاب قد تم بالاتفاق مع الاستاذ صلاح البيطار وبعلم الأمين العام  الاستاذ ميشيل عفلق(3).

     اذن ، وحسب وجهة نظر بعض القواعد الحزبية في منظمات الحزب ، أن الأمين العام قد هيأ الشروط الضرورية لتنفيذ الانقلاب على حكم الحزب في العراق ، حتى أن البعض يذهب في الاتهام ، بأن الأمين العام قد اشترك في الاعداد له.

بعد سقوط حكم الحزب في العراق

        طلبت القيادة القومية ،من قيادة قطر سورية ،دعوة المؤتمر القطري الأول لدورة استثنائية له،عقدت مابين 1-5 شباط 1964 و ناقش المؤتمر  ما حدث في العراق ، وحاول بعض المؤتمرين تحميل الأمين العام مسؤولية سقوط حكم الحزب هناك ، ،وفي الجلسة الختامية ،سحب المؤتمر ثقته من القيادة القطرية التي كانت كانت قد انتخبت في أيلول  1963وتضم كل من ( حمود الشوفي – نور الدين الأتاسي – خالد الحكيم – محمود نوفل – أحمد أبو صالح – المقدم حمد عبيد – الرائد حافظ الأسد – النقيب محمد رباح الطويل ) وانتخب قيادة جديدة بعد اتخاذ قرار بأن يكون عدد أعضائها 15 عضوا بدلا من ثمانية  ، وهم (  أمين الحافظ ـ محمد عمران ـ صلاح جديد ـ عبد الكريم الجندي ـ حمد عبيد ـ حافظ الأسد ـ محمد رباح الطويل ـ نور الدين الأتاسي ـ سامي الجندي ـ الوليد طالب -يوسف زعين ـ محمد الزعبي ـ جميل شيا ـ سليمان العلي ـ فهمي العاشوري ) .

   بعد ذلك ،  دعا الأمين العام بدون قرار من القيادة القومية ،بذريعة عدم وجود نصاب لاجتماع القيادة ، إلى عقد مؤتمر قومي موسع ،  يحضره كل أعضاء  المؤتمرات القطرية في الأقطار التي يكون التنظيم فيها على هذا المستوى ، وجميع أعضاء قيادات المنظمات التي هي  دون مستوى الأقطار- أي التي هي بمستوى فرع أو شعبة أو فرقة – وهذه الصيغة التي قررها الأمين العام ،غير متوافقة مع أحكام تشكيل المؤتمرات المحددة في النظام الداخلي ، مما دفع ببعض الاعضاء ،ومنهم أعضاء في القيادة القومية إلى الاعتراض على تلك الصيغة وطالبوا أن يعقد المؤتمر القومي السادس دورة ا ستثنائية له لأنه صاحب الاختصاص ولم تنته ولايته بعد  ،ورفض الأمين العام هذا الطلب ،وأصر على الصيغة التي قررها - وليست هي المرة الأولى التي يدعى فيها مؤتمر قومي من قبل الامين العام ، ففي عام 1959 دعا إلى المؤتمر القومي الثالث في بيروت بمفرده بذريعة أن القيادة القومية في ذلك الحين غير موجودة عمليا واحتج عبد الله الريماوي ومجموعته، في ذلك الحين ،على عدم شرعية الدعوة - .

    ان الصيغة التي دعا الأمين العام بموجبها الى عقد المؤتمر الذي عرف باسم المؤتمر القومي السابع  دفعت ببعض المندوبين إلى مقاطعة جلسات المؤتمر ومن التبريرات التي تذرع بها الذين قاطعوا المؤتمر :

1ـ أنه جاء بناء على دعوة من الأمين العام للحزب بينما ينص النظام الداخلي أن الدعوة للمؤتمرات القومية هي من صلاحية القيادة القومية .

2ـ أن تكوين المؤتمر مخالف للنظام الداخلي الذي لم يأت على ذكر المؤتمرات الموسعة .

وفعلا فإن الأمين العام استبعد من عضوية القيادة القومية ثلاثة من أعضائها ،هم ،حمدي عبد المجيد ،محسن الشيخ راضي ،على صالح السعدي ،بحجة أن حضورهم اجتماع القيادة القومية ،سيضفي الشرعية على اتصالاتهم الجانبية المخالفة للشرعية ولأحكام النظام الداخلي ، فهم يحاولون تسيير الحزب في سورية بنفس الأسلوب ويعملون على جره لارتكاب نفس الأخظاء التي سببت النكسة في العراق ،سواء في إيجاد وتعميق التناقضات داخل الحزب بين ما يسمونه اليمين واليسار ،أو توسيع التناقضات بين الحزب والحكم الذي هو حكم الحزب أو بين الحزب والجيش الذي هو جيش الحزب والبلاد ،ومن وجهة نظر الأمين العام أن التحجج بأن العسكريين يسيطرون على المؤتمر القطري السوري هو منطق خطير يخفي خلفه سياسة تخريبية ،لأن التنظيم العسكري في الحزب ليس حزبا ضمن الحزب ولا كتلة مستقلة ضمن التنظيم ،وأن ظروف العسكريين تفرض شكلا معينا من التنظيم  يتسم بالدقة والسرية ،وأن هذا الشكل الذي تفرضه الظروف الموضوعية لا يعطي الرفاق العسكريين أي امتياز أو أي حقوق خاصة،  فحقوق الرفيق العسكري هي نفسها حقوق الرفيق المدني وواجباته هي نفس واجبات الرفيق المدني ،وكل تفريق بين القطاعين العسكري والمدني هو في الحقيقة تخريب للحزب وبالتالي للثورة ،والقول بتسلط العسكريين بالاضافة إلى كونه تخريبا لا مسؤول ،هو أيضا قريب إلى الخيال أكثر منه إلى الواقع .

      عقد المؤتمر جلساته من 12 الى 18 شباط، وبعد أن قاطعه عدد من المندوبين ، وجلهم من القطر العراقي ، بذريعة عدم شرعيته ، ، صوت الباقون ، وهم الأكثرية المطلقة ، على أن المؤتمر شرعي ، كما أن المؤتمر ، رغم عدم رضى الأمين العام ، اتخذ قرارا بعدم السماح للباقين من مندوبي العراق حضور المؤتمر ، حرصا على حضور الجميع ليكون المؤتمر على بينة بوجهات النظر المختلفة .

      لقد ركز الأستاذ ميشيل عفلق في هذا لمؤتمر على انتزاع قرارات تدين ما عرف بمجموعة (السعدي )وتحميلهم مسؤولية نكسة الحزب في العراق ،وفشلت جهوده تلك ،واتخذ المؤتمر قرارات منها:

ـ تكليف القيادة القومية الجديدة بوضع تقييم لنكسة الحزب في العراق وعرضه على مؤتمر قومي لاحق .

ـ بذل الجهود لإعادة البعثيين القدامى إلى صفوف الحزب ،تنفيذا لمقررات المؤتمر القومي السادس بهذا الخصوص .

-        انتخاب قيادة قومية جديدة .

وأصدرت القيادة القومية بتاريخ 22/4/1964 نشرة داخلية عن أعمال المؤتمر ، ومما جاء فيها < لا الحزب يستطيع أن يحمي ثورته بدون مساعدة العسكريين الثوريين ، ولا الجيش يستطيع أن يحكم بلدا لأن الدكتاتورية حلقة مفرغة يصفي فيها الضباط بعضهم البعض على حساب الثورة وعلى حساب تطور البلاد وتنميتها > .

     أما بالنسبة لقرار < اعادة البعثيين القدامى > فقد تم تكليف الفريق أمين الحافظ بمحاروة الاشتراكيين العرب ،واللواء محمد عمران بمحاورة الوحدويين الاشتراكيين ،واللواء صلاح جديد بمحاورة القطريين ، ولم يصل المحاوران الأولان الى نتيجة مع محاوريهم في الوقت الذي نجح فيه المحاور الثالث وتقدم أغلب أعضاء التنظيم القطري ، بشكل افرادي ، بطلبات عودة إلى الحزب ،ووافقت القيادة على إعادتهم.

                            أزمات ما بعد المؤتمر القومي السابع

     لم تلق تلك القرارات والنوصيات ،رضى وقبولا من الأمين العام  ، متهما مندوبي القطر السوري بأنهم وراءها ،ِِوبدلا من أن يضع امكانياته إلى جانب القيادة القطرية السورية التي واجهت ظروفا قاسية من< أحداث حماة إلى اضراب التجار في دمشق وحمص ...الخ >،وبدلا من أن يعمل بشكل حثيث لتقوية الحزب وتمتين تنظيمه >عمد إلى مغادرة القطر في حزيران 1964 ،ولبضعة أشهر ،قضاها في بون بألمانيا ،متوهما أن مغادرته تلك ستشكل ضغطا على الحزب وستحمل أعضاءه على التساؤل عن أسباب المغادرة ،وفي نهاية شهر تشرين الثاني 1964رجع إلى سورية ،حيث أمكن إقناعه بالعودة في محاولة لحل بعض المشاكل ، وعقدت القيادة القومية جلسات عديدة ،رافقها اتهامات للقيادة القطرية السورية بأنها تضلل أعضاء الحزب وتحجب الحقائق عنهم .وانتهت تلك الدورة في 14 كانون الأول 1964،وأصدرت القيادة مقرراتها في النشرة رقم 15 ومما ورد فيها :

    أولا ـ إدانة القيادة القطرية لتجاوزها صلاحياتها ،وادانة أسلوبها في فرض عقوبة ليست من صلاحياتها ،وغير مألوفة في الحزب وهي عقوبة نفي عضو قيادة قطرية وقيادة قومية إلى خارج البلاد مخالفة بذلك كل الأسس الحزبية . ( كانت اللجنة العسكرية < المسؤولة عن التنظيم الحزبي في الجيش > قد قررت ابعاد اللواء محمد عمران – عضو القيادتين القطرية السورية والقومية - عن البلاد وتعيينه سفيرا في اسبانيا بعد أن اتهمته بتمييع الحكم وتخريب الحزب ،وذلك على أثر تقرير تقدم به لمعالجة الوضع الحزبي في سورية، كما بين فيه الأساليب التي تتبعها اللجنة العسكرية من خلف الكواليس ،< ورغم اعتراض أحد أعضاء القيادة القومية على التقرير بحجة أنه يجب أن يكون بموافقة القيادة القطرية فرفض هذا الاحتجاج > .

   ثانيا ـ تجميد نشاط تلك القيادة . للأسباب التالية:

أـ أن القيادة القطرية السورية لم تتخذ موقفا حازما تجاه ماسمي ب(السعديين)،وتغاضت عن نشاط من بقي منهم داخل التنظيم الحزبي ،وأهملت تنبيهات القيادة القومية بهذا الخصوص .

ب ـ أن القيادة القطرية لم تزود القيادة القومية بدراسة عن الأوضاع الاقتصادية والانجازات التي حققتها الثورة ، ،رغم الطلب المتكرر للقيادة القومية بهذا الشأن .

ج ـ أن القيادة القطرية لجأت إلى ما يشبه التجميع في الحزب ،وذلك من خلال قرارها رقم 101 تاريخ 10/10/1964 الذي ينص على :اعتبار جميع الحزبيين القدامى الذين كانوا أعضاء عاملين قبل 1958 أعضاء عاملين حين قبول طلب انتسابهم للحزب .ومن ترى قيادات الفروع عدم كفاءته للعضوية العاملة فعليها أن ترفع اسمه إلى القيادة القطرية مع تقرير مفصل يبين الأسباب الموجبة لذلك .

د ـ انغماس أعضاء القيادة القطرية في الحكم ،ولقد كان (11 ) عضوا من أصل (15)يتولون مسؤوليات حكومية وعسكرية .

ه ـ خصائص التنظيم الحزبي في الجيش المغلق على قيادات الحزب القومية والقطرية ولا تعرف بشؤونه سوى اللجنة العسكرية .

و ـ التكتلات داخل الحزب ،التي تضع مصالحها فوق مصلحة الحزب .

     ثالثا- تعيين لجنة مشرفة تدير شؤون الحزب قي القطر السوري .

     وفي جلسات تلك الدورة ، كان الفريق أمين الحافظ الأمين القطري السوري وعضو القيادة القومية ينصح بالتروي والاعتدال ، بينما قاطع اللواء صلاح جديد عضو القيادة القطرية السورية وعضو القيادة القومية الجلسات التي اتخذت فيها القرارات وأبدى معارضته لها .

     بعد أن تبلغت القيادة القطرية بتلك القرارات التي عممت على فروع الحزب  تقدمت – القيادة – للمحكمة الحزبية القومية بطلب الغاء قرار التجميد ، لأنه لم يرد في أحكام النظام الداخلي أمر تجميد قيادة ، وفي نفس الوقت  دعت قيادات الفروع التي فوجئت بالقرارات  ، الى عقد اجتماع لها ووافقت القيادة القومية ٍعلى حضوره بتاريخ 16/12/ 1964، واستمع المؤتمرون الى حديث مطول للأمين العام ،تطرق فيه الى أسباب الاجرءات الي اتخذت ، كما تطرق أيضا الى الدافع لمغادرته القطر إلى ألمانيا وذلك ( لحمل الأعضاء على الاهتمام بحقيقة الأزمة وتقدير خطورتها ، بعد أن أعياه التحذير والتنبيه ومل النصح والتوحيه ) ، وفي حديثه هذا تطرق الى ( المحاولات الهادفة للتخلص منه وتغيير معالم الحزب ، وأن هذه المحاولات أخذت أشكالا متعددة ، سلبية وايجابية ، مثل : التخلص من عقلية الوصاية -التخلص من الجمود العقائدي – التخلص من العقلية التقليدية – الحاجة الى تطوير فكر الحزب وتجديده – واعتبر الأستاذ ميشيل أن ذلك فقدانا لأصالة حركة البعث وطغيانا للألفاظ والشعارات التقليدية ) .

 ناقش المجتمعون ما ورد في حديث الأمين العام ورأوا أن قرارات القيادة القومية تمثل انقلابا على القيادة القطرية ،وعلى الحكومة ،بوقت واحد ،لأن القيادة القطرية ،هي المسؤولة عن إدارة الحكم ،وفق ما قرره المؤتمر القومي السادس ،كما أن أعضاء القيادة القطرية هددوا بالاستقالة من مناصبهم في الحزب والحكم والجيش وأبدت أكثرية المجتمعين عدم اقتناعها بالمبررات التي عرضها الأمين العام وبما اتخذته القيادة القومية من مقررات ، كما أخذ بعض المؤتمرين على الأمين العام ، انه هو الذي يقول< أن الحزب حركة تنطلق وتتجدد وتخلق والحياة لا تعرف التوقف > واذا طرح غيره هذه المقولات يعتبر تزويرا للحزب وتغييرا لبنيته وتخطيطا لانقلاب على شخصه .

     ولحفظ ماء الوجه ،فقد توصل المؤتمرون إلى نوع من التسوية  وهي أن تعلق القيادة القومية قراراتها،وأن تجرى انتخابات حزبية، وتعقد مؤتمرات قطرية تمهيدا لعقد مؤتمر قومي ،على ان يتم ذلك في أقرب وقت ممكن ،وهذا أكد بأن الأمين العام لم يستطع أن يحول بين قواعد الحزب ،والتماس الطرق الصحيحة المؤدية إلى وضوح رؤيتها في أسلوب حل المشكلات ، ووفقا للتسوية التي تمت في ذلك الاجتماع ،جرت انتخابات حزبية بدءا من مستوى الفرقة ،وتم انتخاب القيادات الحزبية على كل المستويات ،وانتخبت الفروع مندوبيها إلى المؤتمر القطري المزمع عقده وفق أحكام النظام الداخلي للحزب .

    وخلال فترة الانتخابات الحزبية تلك ،أطلقت شائعات مفادها أن القيادة القومية ستميز الحزب عن الحكم ـ أي ستعلن ان لا علاقة للحزب بالحكم ـ هادفة الضغط على قواعد الحزب للقبول بما تريده ،وأن نيتها في التميز كانت قديمة ،ومنذ الأشهر الأولى بعد الثامن من آذار وبررت القيادة القومية ،أنها لم تقدم على تلك الخطوة ،لأن منطق الرفقة الحزبية جعل من غير المناسب التنصل من مسؤولية الحكم في الظروف التي واجهتها الثورة من مؤامرة 18 تموز المسلحة إلى أحداث حماة إلى اضراب التجار وغيرها، .وأنها -القيادة القومية – وبعد التأميم ،سينظر إليها ،فيما إذا أعلنت تميزها عن الحكم ،بأنها ضد التحولات الاشتراكية ،رغم قناعتها بأن تلك التأميمات تقررت كأسلوب مزايدة واحراج لها حتى لا تقدم على الخطوات التي تنوي اتخاذها . فضلا عن أنه كان ثمة شئ من بطء البث والتنفيذ مع بقية من أمل في حل هذه الأمور عن طريق الحزب ومن خلال مؤتمراته .

     في هذه الاجواء ،عقد المؤتمر القطري السوري الثاني ،دورته العادية مابين 17 آذار – 5 نيسان 1965 وخلال هذه الفترة الطويلة التي استغرقنها جلسات المؤتمر ،أجرى المؤتمرون مناقشات مستفيضة للظواهر السلبية في مجالس الحزب والحكم ،كما تم مناقشة للأسس الكفيلة بترسيخ الخطوات الاشتراكية ،بعد المراسيم التي صدرت في الثاني والخامس من شهر كانون الثاني 1965 ،والتي بموجبها تم تأميم بعض المرافق الاقتصادية ،واتخذ المؤتمر قرارات في مجال التنظيم الحزبي والسلطة .وأعاد توزيع الصلاحيات بين مختلف المؤسسات الحزبية والسلطوية ،كما اتخذ  قرارات يصبح التنظيم العسكري .وفقها خاضعا لسلطة وتوجيه القيادة القطرية مباشرة ،وبشأن الأزمة السابقة ،أوصى المؤتمر بما يلي :

ـ على القيادات احترام مقررات المؤتمرات وتطبيقها ،وليس من حق أي قيادة أن تحجب أو تلغي مقررات أي مؤتمر إذا كان مخالفا لآرائها عن القاعدة ،وإنما عليها أن تحضر الدراسة النقدية لمؤتمر آخر مماثل يجيء فيه التعديل الصحيح .والمقصود (هو بعض المنطلقات ).

ـ برى المؤتمر القطري أن القيادة القطرية قادت البلاد والحزب خلال الأزمات السابقة والفترات العصيبة بنجاح وحكمة ،وجنبت الثورة كارثة محتمة ،فهو إذ يسجل لها هذا الموقف يقدر ،أيضا ، استجابة القيادة القومية لاجتماع مؤتمر قيادات الفروع ،ويوصي المؤتمر القومي القادم أن يأخذ جميع هذه الظرف بعين الاعتبار إذا ما رأى موجبا لبحث الأزمة السابقة بين القيادتين .

     كما ناقش المؤتمر ،أيضا ، المذكرة التي تقدم بها عدد من الحزبيين الذين كانوا قد فصلوا من الحزب بعد أن قاطعوا المؤتمر القومي السابع ، وأعلنوا في المذكرة عن انسحابهم من التنظيم الذي عرف باسم حزب البعث العربي الاشتراكي اليساري ورغبتهم في العودة الى التنظيم الحزبي ، ووافق المؤتمر  علىعودتهم ،بعد أن يتقدم كل منهم بشكل إفرادي ،بطلب عودة للحزب .وذلك وفق الصيغة التي حددتها القيادة القومية .

   واختتم المؤتمر أعماله بانتخاب قيادة قطرية جديدة من : أمين الحافظ ، صلاح جديد ، عبد الكريم الجندي ، حمد عبيد ، حافظ الأسد ، محمد رباح الطويل ، نور الدين الأتاسي ،يوسف زعين ، محمد الزعبي ، جميل شيا ، الوليد طالب ، ابراهيم ماخوس ، مصطفى رستم ، حبيب حداد ، عدنان شومان .

المؤتمر القومي الثامن

     ٍ تحملت القيادة القطرية المنتخبة مسؤولية عبء المرحلة الجديدة ، كماحاولت مع القيادة القومية وضع الصيغ التي قررها المؤتمر في التنفيذ ،ولكنها واجهت بنفس الوقت ردود الفعل المختلفة ،وأبرزها عدم رضى الأمين العام عن القيادة القطرية وعن قرار إعادة الحزبيين ،واعتبر ذلك مساسا بموقعه وبشخصه ،وبأن هناك مخططا للتآمر عليه ،يقوده (جماعة السعدي ) و(اللجنة العسكرية) ، ورغم استقلالهما عن بعضهما فقد كانا يتفقان في هدف التخلص منه وتغيير معالم الحزب ، كما ذكر قبلا .

     في هذه الظروف السلبية التي مهدت لها القيادة القومية ،انعقد المؤتمر القومي الثامن في أوائل مايس 1965 ، ضمن تقديرات بأن الجو قد أصبح مهيئا لها ،للإنقضاض على مقررات المؤتمر القومي السادس ،بعد انحسار المد اليساري في الحزب وفصل ما عرف باسم (مجموعة السعدي )في القطر العراقي خاصة ، هذه المجموعة التي اتخذت من مزايا التنظيم الحزبي قبل ثورة شباط 1963 ذريعة للتسلط على الحزب القومي كله ،وأنه بالإمكان الآن الاجهاز - ومن خلال المؤتمر- على (اللجنة العسكرية وأنصارها )في التنظيم الحزبي السوري ،والتخلص من محاولة سعي اللجنة لتسلط على الحزب بقطاعيه العسكري والمدني ،ومن سعيها ، أيضا ، تحريض الصف الثاني من القياديين على الصف الأول ، كما كان الأمين يتهم رؤوس اللجنة العسكرية والمخططين فيها والمقصود < الفريق أمين الحافظ واللواء صلاح جديد والعقيد عبد الكريم الجندي ) بأنهم تعاونوا مع القطريين لأن هؤلاء أقرب إليهم في المنطلقات الفكرية والسياسية ،وأكثر استجابة وتسليما لمنطلقهم ومخططاتهم.

   ناقش المؤتمرون التقارير التي تقدمت بها القيادة القومية ،والتي تشمل الأمور العقائدية والسياسية والتنظيمية وتقريرا حول نكسة الحزب قي العراق ومن خلال التقديرات الخاطئة، تقدم الدكتور منيف الرزاز ،بتقرير عقائدي جديد ينسف كل الأسس التي بنيت عليها (بعض المنطلقات النظرية )،رفضه المؤتمر بأكثرية كبيرة ،وقرر استمرار السير في المنهج الثوري الطبقي ،كما قرر المؤتمر ،وتلافيا لما حصل في 14 كانون الأول 1964 ،تعديل بعض أحكام النظام الداخلي ،وخاصة المادة 3 الفقرة 8 من باب الأمور التنظيمية المتعلقة بصلاحيات القيادة القومية ، وأصبحت :

     (تحقيق الوحدة القومية للحزب وتأمين الفعالية له في عقيدته وتنظيمه ونضاله وجميع نواحي نشاطه وبالتالي حق دعوة أي مؤتمر قطري لاتنخاب قيادة قطرية جديدة ،إذا رأت حل القيادة القائمة بسبب خروجها على مبادئ الحزب أو سياساته العامة أو اتجاهاته التي أقرها المؤتمر القومي ،أما في القطر الذي يقود فيه الحزب ثورة ،فعليها أن تدعو لمؤتمر قطري تعلن فيه الحل والأاسباب التي دعت لذلك ،وفي حال انتخاب القيادة نفسها ورفض الأسباب التي قدمتها القيادة القومية ،تدعو لمؤتمر قومي فورا لبحث الأزمة حتى ل اتكرس انقساما خطرا في الحزب ،وقرار هذا المؤتمر يعتبر نهائيا يلزم الجميع بتنفيذه ،ومن يخالف قراراته يعتبر خارجا على الحزب(4 ).

     وأقر هذا المؤتمر صيغة مرحلية لعلاقة الحزب بالحكم ،تضمنت أن الحكم في القطر العربي السوري هو حكم الحزب ويتمثل الحزب عمليا في أي قطر يحكمه بتنظيم جماهيري وبجيش عقائدي وبسلطة الحكم ،والحزب هو الأساس الذي تنبع منه هذه المؤسسات ،وهو الذي يجمع بينها ويحدد علاقاتها ،وقرر أن وظيفة التنظيم الحزبي في الجيش هي تغذيته بالروح العقائدية وتوجيهه توجيها يتلاءم مع اتجاهات الحزب وخططه ،ويقود الحزب ممثلا بقيادته القطرية السلطة التنفيذية بالقطر مسترشدا بقرارات المؤتمر القومي ، ويسمي الحزب باجتماع مشترك للقيادتين القومية والقطرية السورية  ،( أعضاء مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء ورئيس الأركان العامة ) ، والأمين القطري هو رئيس مجلس الرئاسة ،كما تقرر أن يحل مكتب عسكري محل اللجنة العسكرية الحالية( 5) في كل ما يتعلق بالقضايا الحزبية والتنظيم الحزبي داخل الجيش ،ويكون صلة الوصل بين القيادة القطرية ،وبين التنظيم الحزبي في الجيش ،وتستمر اللجنة العسكرية الحالية في ممارسة أعمالها فيما يتعلق بالأمور العسكرية غير الحزبية أو السياسية حسب القوانين العسكرية ،وسجل المؤتمر ،أيضا مخالفة القيادة القطرية السورية لمقررات المؤتمر القومي السادس الخاصة بقبول قواعد الوحدويين الاشتراكييين والقطريين ووضعهم تحت التجربة لمدة سنة على الأقل ،وتسجل عليها تأخرها وتباطؤها في معالجة المنشقين الموجودين داخل الجهاز.          

      وفي ختام أعماله ،انتخب المؤتمر قيادة قومية جديدة ،ومن الملفت للنظر ، أن المؤتمر القومي الثامن بأكثرية أعضائه المطلقة ،لم يوافق على أطروحات الأستاذ ميشيل عفلق والدكتور منيف الرزاز ،ومن المدهش أن الرفيق الرزاز رشح نفسه لعضوية القيادة القومية ،رغم رفض تقريره ،كما أن الأستاذ ميشيل عفلق اعتبر أن انتخابه الى عضوية القيادة بأصوات قليلة مؤامرة حاكها مندوبو سورية ، والعسكريون منهم بشكل خاص .

    اجتمعت القيادة القومية ،وأصر الأستاذ ميشيل على ترشيح الدكتور منيف الرزاز إلى منصب الأمين العام ،بذريعة عدم وجود أي تصادم أو خلاف سابق بينه وبين العسكريين ،ولكن الحقيقة أنه لم يكن راضيا عن مقررات المؤتمر القومي رغم أن تلك المقررات كانت توفيقية ومعبرة عن حلول وسطية .وقررت القيادة القومية اطلاق لقب "القائد المؤسس " على الأستاذ ميشيل عفلق . وبعد فترة وجيزة غادر الأستاذ ميشيل القطر ، ثانية ، الى ألمانيا ، وبقي فيها حوالي  ستة أشهر.

      أما القيادة القطرية فقد جهدت لنفيذ ما قرره مؤتمرها ، وكان أهم ما أنجزته ن هو دعوة المؤتمر القطري الثاني الى دورة استثنائية في حزيران 1965 أقر فيها المنهاج المرحلي للحكم ، كما دعت مؤتمرا حزبيا عسكريا انتخب مكتبا عسكريا من سبعة أعضاء ، مهمته الاتصال بالتنظيم الحزبي في الجيش تحت اشراف القيادة القطرية .

                         

خلاف على مفهوم ودور الحزب والسلطة

 

     من خلال ما تقدم نتلمس رؤية الأستاذ ميشيل الى مفهوم الحزب ، وفي مثل هذه الرؤية ،من حيث الفكر والتنظيم ،يبقي الحزب ،أسيرا لرؤية أحادية ظلت مصدرا لكثير من العثرات التي اعترضت المسيرة النضالية ،ويبقى غير قادر على التطور ليكون حزبا سياسيا قادرا على الفعل وعلى تحمل مسؤولياته في قيادة أية سلطة وكان االأستاذ ميشيل عفلق يرى (أن حزبنا رسالة لا سياسة ) ويقول :( المأساة التي يعيشها حزبنا في السنوات الأخيرة متمثلة بالمأساة الشخصية التي أعيشها أنا ) ،ويقول أيضا (أن أقسى عذاب يمكن أن يتعرض له ،هو عندما يرى التشويه الفظيع لأفكاره ولمبادئه حتى يكاد أن ينكر أن هذا الحزب هو حزبه وأن الحركة حركته ) ويضيف ،(ولكننا نعلم أيها الرفاق بأن هناك سلاحا أصبح مفلولا لا بل سقيما هو سلاح الشرعية والنظام الداخلي )  ،ثم يردف قائلا (لم أصمم على العودة من برلين إلا بعد أن كتب لي الرفاق ،ثم ذهب الرفيق شبلي ليؤكد لي بأن القيادة القومية أقتنعت بوجهة نظري ) .أما االأستاذ صلاح البيطار يكتب : (فحزبنا يمكن أن نسميه دعوة أكثر من أن نسميه حزبا ،دعوة قائمة على التوحيد القومي وعلى محاربة كل ما يعرقله ) ،وفي إحدى مقالاته يورد : (الذين جعلوا من النظام صنمية ومن الشرعية كهنوتية ) .

     إن فهما كهذا للحزب لا يمكن إلا أن يولد الأزمات المستمرة ،ولقد كانت هذه الأزمات أكثر وضوحا وحدة في القطر السوري نظرا لوجود القيادة القومية فيه واحتكاكها اليومي والمباشر مع المؤسسات الحزبية كما أن هذه الأزمات كانت تنتهي بانشقاقات في التنظيم ، بسبب عدم القدرة على احتواء الآراء والأفكار الأخرى (المخالفة ) لرأي القادة التاريخيين من جهة ،وبسبب اللجوء إلى الحلول الفوقية من جهة ثانية ،وفي هذا المجال يقول االدكتور منيف الرزاز في التجربة المرة :( إن الحلول الفوقية المبنية على إصدار القرارات العاجلة لا تحل المشاكل بل تضاعفها … بحيث لم ينعقد مؤتمر قومي في السنوات الأخيرة إلا انتهى ببتر جزء من أجزاء الحزب ) .وهذا ، فعلا، ما حصل في المؤتمر القومي الثالث 1959 ،والمؤتمر القومي الرابع أواخر آب 1960 ,والمؤتمر القومي الخامس أواسط مايس 1962 ،والمؤتمر القومي السابعٍ أواسط شباط 1964 ،وحتى البعض كان يحلو لهم ،تسمية المؤتمرات القومية بمؤتمرات الإتشقاق ،كما أن المتمعن في تاريخ المؤتمرات يصل إلى حقيقة بأنه ملحمة بين عقلية القادة التاريخيين ،وبين قواعد الحزب المتطلعة نحو حزب ثوري عقائدي متطور ،وكلما كانت القاعدة الحزبية تحقق نصرا تنظيميا أو فكريا نحو حزب ثوري عقائدي متطور ،وكلما كانت القاعدة الحزبية تحقق نصرا تنظيميا أوفكريا على عقلية القادة التاريخيين ،كانت القيادة القومية أو أمينها العام ,بالتحديد ،يبادر إلى تجميد هذا الانتصار.

     إن الأستاذ ميشيل عفلق ،الأمين العام للحزب .(ومن ثم ،القائد المؤسس ،كما أطلقت عليه القيادة القومية ،بعد المؤتمر القومي الثامن )،كان يعتبر كل القيادات القطرية ،التي انتخبت من المؤتمرات المختصة في القطر السوري ،بدءا من المؤتمر القطري الذي انعقد في أواسط حزيران 1963،  قيادات خارجة على الحزب ،وبالتحديد ،خارجة على إرادته الشخصية ،لأنها لم تنل رضاه ،وكان يرى أن الأسلوب الوحيد لمعالجة الأمر هو المجابهة .

     قامت القيادة القطرية المنتخبة من المؤتمر بتحمل مسؤولياتها  ، وحاولت – كما أسلفت -مع القيادة القومية تنفيذ الصيغ الجديدة ,ولكنها واجهت بنفس الوقت ردود فعل مختلفة ووقعت  ، جراء ذلك ،في دوامة كان أبرزها وجهتي نظر كل من الرفيقين أمين الحافظ ،وصلاح جديد ,حول شكل السلطة وادارتها ،واستحال إيجاد المخرج المناسب ، مما اضطرها إلى تقديم استقالتها إلى القيادة القومية ،ودعوة المؤتمر القطري الثاني إلى دورة استثنائية، للاطلاع على الأزمة وانتخاب قيادة قطرية جديدة .

   إن استفحال الخلاف بين وجهتي النظر التي يمثلهما كل من الفريق أمين الحافظ واللواء صلاح جديد ، كان حسب تصور القيادة القومية ، فرصة تاريخية لأن تستعيد دورها وترشح الرفاق الموالين لها لعضوية القيادة القطريةالتي ستنتخب  ،وعقد المؤتمر دورته الاستثنائية من8-14 آب 1965،وطرح كل من (الحافظ ، جديد ) وجهة نظره ،وجرت مناقشات موسعة ومستفيضة ،كما جرت محاولات جادة وصادقة للخروج من المؤتمر بوحدة حقيقية للحزب ،وبانتخاب قيادة ترضي كل أطراف الأزمة ،ولكن المحاولات فشلت بسبب

1ـ تعنت مجموعة من الرفاق المؤتمرين تلتزم شخصيا بالأستاذين(عفلق والبيطار)، وبتوجيه من الأستاذ صلاح  أصروا على أن يكون لهم في القيادة (9 ) أعضاء وأن يكون الأستاذ صلاح البيطار أحدهم ،وأن يضمن المؤتمرون ،لهم النجاح في الانتخابات ، علما أن الأستاذ صلاح لم يكن عضوا في المؤتمر ، لذا لا يمكن ترشيحه لعضوية القيادة .

2ـ عدم موافقة أكثر المؤتمرين على تسوية تفرض عليهم ،لأنها سابقة مرفوضة ولا تتفق مع القيم النضالية للحزب .

 انتخب المؤتمر قيادة جديدة من 16 عضوا ،هم : ( أمين الحافظ ، صلاح جديد ، نور الدين الأتاسي، عبد الكريم الجندي، حمد عبيد ، يوسف زعين ،مصطفى رستم ، محمد الزعبي ،مروان حبش ، جميل شيا محمد رباح الطويل ،سليم حاطوم ، مصطفى طلاس ، محمد عيد عشاوي ، فايز الجاسم ، حسام حيزة ) وانتخبت القيادة القطرية الفريق أمين الحافظ ،أمينا لها ،واللواء صلاح جديد ،أمينا قطريا مساعدا و -تفرغ للعمل الحزبي بعد تركه رئاسة الأركان-وقيل ،خطأ ،أن القيادة الجديدة موزعة الولاء بالتساوي بين الرفيقين (الحافظ ، جديد ) بينما الحقيقة أن أعضاء القيادة كانوا يعتبرون أنفسهم بعثيين ،ومنتخبين ، بأكثريتهم ، من قواعد الحزب ، وأن موالاتهم ، فقط ، للحزب ،بمؤسساته ومقرراته .

    أ دركت القيادة القطرية الجديدة مسؤوليتها في قيادة الحزب والسلطة ،ورأت أن لا سبيل إلى القيام بمهامها إلا إذا انطلقت من منطلق أساسي هو وحدة القيادة وتوحيد وجهة نظرها قي مختلف القضايا على الصعيدين الحزبي والسياسي .

    إن وجهتي نظر كل من الرفيقين (الحافظ ،جديد ) اللتين طرحتا في المؤتمر القطري :تتلخصان في :

     أن االفريق أمين الحافظ كان بتهم اللواء صلاح جديد بالتكتل الطائفي ، و كان الفريق في اجتماع للتنظيم الحزبي العسكري في منطقة دمشق ، عقد في مطار المزة ، قد قال : ( لن نسمح لأقلية بالسيطرة على البلد ، وسنغير ذلك بالقوة )  وعارضه الأمين العام الدكتور الرزاز- الذي حضر الاجتماع-  محتجا على مثل هذا الطرح .

   أما اللواء صلاح جديد فكان يرى أن االفريق أمين الحافظ (رئيس مجلس الرئاسة وقائد الجيش )بدأ  ينهج الفردية في قيادة الحكم ،ويدير الدولة بشكل عشائري وبأسلوب كيفي ،واقترح في المؤتمر :

1_تخلي رئيس الدولة عن منصب قائد الجيش

2 _ إصلاح الوضع الاقتصادي

 3_إلغاء مجلس الرئاسة والاستعاضة عنه بمنصب رئيس للجمهورية .

4_تولي المكتب السياسي الذي أقره المؤتمر القومي الثامن صلاحيات مجلس الرئاسة

وكان المؤتمر قد وافق على الفقربين 1ـ2 .

     أما الفريق أمين الحافظ الذي كان يعمل على تعزيز سلطاته وصلاحياته ،بدافع من حساسيته بأنه لم يكن من بين أعضاء اللجنة العسكرية التي خططت وقادت ثورة 8 آذار 1963 ،وبدافع أيضا من بعض الرفاق العسكريين الطامحين إلى مناصب عليا ،فإنه أخذ يفكر في استبعاد الرفاق العسكريين الأساسيين تحت شعار (استبعاد الضباط الذين عملوا في السياسة عن الجيش )،كما اقترح أن يكون هو  واللواء صلاح جديد         (رئيس الأركان ) ،قدوة لغيرهما ،فيتخلى هو عن منصب قائد الجيش ،وااللواء صلاح عن منصب رئيس الأركان .

       ان المؤتمر القطري المذكور ،انتخب قيادة قطرية أبقى فيها الرفيقين أمين الحافظ وصلاح جديد ،كما ورد سابقا ، وكان من أولى مهام القيادة الجديدة تعديل قانون الجيش ، وتم بتاريخ 22/8/1965 الغاء منصبي القائد العام ونائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة ، وأصبح رئيس مجلس الرئاسة القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ، واخذ القانون الجديد الصيغة العمول بها في الدول الاشتراكية ،وبموجبه  يكون وزير الدفاع عسكريا ويمارس صلاحيات واختصاصات القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة  . كما قررت القيادة انشاء مجلس وطني للثورة ، وبموجب هذا القرار صدر القانون رقم 1تاريخ 23/8/1965 تضمن تحديد عدد أعضاء هذا المجلس ب95 عضوا ، كما تضمن الفئات الشعبية التي يمثلونها. 

 

     عينت القيادة ،من بين أعضائها، وزيرا للدفاع هو االعقيد حمد عبيد ،كما عينت العقيد محمد شنيوي رئيسا للأركان والعقيد فهد الشاعر نائبا لرئيس الأركان ،بعد أن تمت ترقيتهم إلى رتبة لواء بتاريخ 15 أيلول 1965 .ولقد تم تعيين القيادة الجديدة للجيش في جو ساده الكثير من الضغوط من الرفاق العسكريين الذين كانوا يطمحون للوصول الى هذه المراكز (6)، بينما رأى الدكتور الرزاز ،وهو رأي فيه سذاجة، أنه كان ضربة ذكية من اللواء صلاح جديد ، لأن الذين عينوا كانوا من أتباع الفريق أمين ، ولكنهم سيدينون بهذا التعيين للواء صلاح (7).

      بقي االفريق أمين الحافظ متوجسا من نشاط اللواء صلاح جديد ، الأمين القطري المساعد ،وظهرت نغمة جديدة بأن ،صلاح جديد ،يسحب معه السلطة ،إلى حيث يكون .وطلب الفريق أمين الحافظ بتخصيص مكتب له في مبنى القيادة القطرية وبمحاذاة مكتب الأمين القطري المساعد ،وكانت غايته غير المعلنة ،والتي كان يصرح بها لبعض الخاصة ،هي مراقبة زوار اللواء صلاح جديد ومعرفتهم ،واستمر هذا الهاجس و ذلك التوجس يسيطران عليه .

شرخ في القيادة القطرية وبين القيادتين

    كانت لمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء في يوم الاثنين 2 أيلول 1965 ومشاركة الأمين العام منيف الرزاز فيه بشكل غير مباشر< سافر مع الوفد السوري ولكنه لم يحضر جلسات الموتمر >  ،وما صدر عنه من مقررات ، وما رافق تلك المقررات من قلق وتساؤل وتشويش متزايد ، ، وبسبب عدم إعلان القيادة القومية عن موقف الحزب من قراراته، فور انتهائه ، كل ذلك أدى إلى نقاش بين الحزبيين وساعد على تبادل الاتهامات  ،وخاصة أن الوفد السوري ،وبموافقة الأمين العام ،قد وقع على (ميثاق التضامن العربي ) ،والذي يعني سكوت الحزب وحكمه عن مواقف الانحراف التي تقفها بعض الدول العربية من القضية الفلسطينية ،كما أن هذا الميثاق سيساعد هذه الدول على تصفية القوى والحركات التقدمية والثورية في بلدانها دون أن يكون للحزب وحكمه ،أي حق في توضيح ما يحدث ،وإذا حصل ذلك فمعناه ( تدخل في الشؤون الداخلية )،لأن ميثاق التضامن المذكور يمنع التدخل في الشؤون الداخلية ،كل ذلك أدى إلى توسيع شقة الخلاف بين القيادة القطرية وأمينها من جهة ، وبينها وبين القيادة القومية ، من جهة ثانية .

      بدأ الرفيق الأمين القطري ،أمين الحافظ يرسم لنفسه اتجاها مغايرا لاتجاه لقيادة القطرية ،وأخذ يعمل ضدها بالتحالف مع القيادة القومية ،وبالأحرى ،اللجوء إليها ،وهو عضو فيها .

وكانت القيادة  القومية ،حسب رأيها ،تريد مجابهة القيادة القطرية والعمل على تهديمها ، لأنها مسيرة من قبل اللواء صلاح جديد ،من جهة ،ولأن أكثريتها من ( القطريين ) من جهة ثانية ،<ومن المفيد أن نوضح ،بأن اثنين، فقط ، من أعضاء القيادة القطرية المنتخبة ،كانا ينتميان إلى التنظيم الذي سمي " قطريا" ،وهما ،فايز الجاسم ،وحسام حيزة >.

     أما الأمين العام منيف الرزاز ، فكانت له مخططاته ،حسب قوله ،لإعادة بناء السلطة الحقيقية للقيادة القومية ،ومن أجل ذلك كان عليه مجابهة طرفين ،الطرف الأول هو القيادة القطرية ،والطرف الثاني يشمل مؤسسي الحزب الأستاذين (عفلق والبيطار )اللذين يضغطان عليه وعلى آخرين في القيادة القومية من أجل طرد" المنحرفين" (أي القيادة القطرية ومن يشاركها في المواقف التي أقرتها المؤتمرات الحزبية ) .

    عاشت الثورة خلال سنواتها الثلاث الفائتة ،أزمات معقدة عرقلت مسيرتها ،ومنعت انطلاقها ،ولقد توالت المؤتمرات العادية والاستثنائية ،القومية والقطرية ،وتتابعت التقارير والمذكرات الوصفية والتحليلية ،وكلها تشير إلى وجود أزمة مستحكمة تتفاقم يوما بعد يوم ،حتى باتت تنذر بوقوع كارثة قومية محتمة ، وإن التناقض والنزوع إلى السلطة ،وصل حدا بالغ الخطورة ،وكانت الأبعاد الأساسية لمعالم الأزمة ، تكمن في الحزب ومنه تمتد إلى الحكم والجيش ،ولقد أورد التقرير التنظيمي الذي أقره المؤتمر القطري الثاني في قطر سورية ،المنعقد مابين 17 آذار – 5 نيسان 1965 ,والذي صوت المؤتمر على عدم اطلاع القواعد الحزبية على مضمونه آنذاك بسبب ولوجه صميم الأزمة استجابة لإصرار أعضاء القيادة القومية الذين حضروا المؤتمر ومنهم الدكتور منيف الرزاز ،أقر المؤتمر مايلي :

ـ عدم تعميم التقرير التنظيمي المقدم إلى هذا المؤتمر على القواعد الحزبية ،خاصة وأن المؤتمر اتخذ قرارا بعدم إخراج التقارير خارج قاعة الاجتماعات بقصد السرية .

     ومما جاء في التقرير المذكور :

     (إن الثورة التي قادها حزبنا في هذا القطر ،لم تكن حصيلة تطور شامل لف الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية وحركها نحو الهدف ،وانما كانت وليدة سمعة الحزب ومكانته المعنوية في نفوس الجماهير ،إضافة إلى صمود رفاقنا العسكريين البطولي ،بمعنى أنها لم تكن وليدة قوى الحزب المنظمة المباشرة الذي جعلنا نواجه مهاما جسيمة وشاقة في بناء الحزب والحفاظ على الثورة .

 إن حزبنا أيها الرفاق على مفترق  الطرق ،فهو إما أن يقف وقفة الحزب الثوري بكل ما في كلمة الثورية من معان ،وإما أن يتحول إلى حزب كلاسيكي عقيم ،تماما كتلك الأحزاب التي طوت الجماهير صحائفها ،وباتت في صفائح المهملات ،ولذلك لابد أن نجابه أنفسنا بكل الحقائق ومهما كانت مرة قاسية ،وندخل تجديدا كاملا وعميقا وجديا على وضع حزبنا التنظيمي ،نرفع به من المستويات النضالية والفكرية للأعضاء والمنظمات ،وبالتالي نصل إلى خلق علاقات حية عضوية بين الحزب كتنظيم والجماهير اللاحزبية  ،بغية قيادتها قيادة أمينة وواعية إلى تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية ).

     ومما ورد فيه :

     (إن عدم وجود دليل نظري واحد علمي ومحدد للحزب ،فسح المجال أمام بعض القياديين لكي ينصبوا أنفسهم أوصياء على الحزب ،ويجعلوا من كتاباتهم الخاصة دليلا نظريا حتى أصبحوا بنظر أنفسهم هم الحزب ,وأصبح الولاء لهم مقياس الولاء للحزب ,هكذا تحول تاريخ الحزب ،إلى تاريخ هؤلاء الأشخاص ،فانسجام الحزب يعني انسجامهم ، وانشقاقه يعني اختلافهم وانقسامهم).

 (إن مشكلة منطق الوصاية على الحزب ،قد أفسد كل المفاهيم و القيم الحزبية في تنظيمها وغدت توزع الألقاب على الحزبيين بسخاء ،هذه مجموعة زيد ،وتلك مجموعة عمرو ،هذا قطري وذاك قومي ،والآخر سعدي إلى ما هنالك ،من هو القطري ومن هو السعدي ومن هو القومي).

     ويستمر التقرير موضحا :

    ( أن الإخلاص للحقيقة والأخلاق ،ولقضية الجماهير ،ولبناء الحزب بناء ثوريا صحيحا يوجب على من جعلوا من أنفسهم المقياس الذي لا يخطئ للحزب ،أن يفطنوا وأن يقبلوا أنفسهم مجرد أعضاء في هذا الحزب لهم منظمتهم التي تتسع لكل آرائهم وآراء غيرهم ، وأن يحترموا مواقف وآراء الآخرين وأن يسمحوا للعلاقات الموضوعية أن تسود وللديمقراطية أن تقرر، وألا يجعلوا من المنظمات القومية ،التي لا يعرف عددها ولا طبيعتها غيرهم ،مجنا يختبئون خلقه كلما تزعزعت مواقفهم في منظماتهم القطرية ،لأن هذه الإنقسامات التي كان مسرحها الحزب في هذا القطر ،سوف تنتقل ،وقد بدأت ،إلى باقي الأقطار ولن تكون نتيجة أي انقسام في صالح الحزب مهما كانت أسباب ودوافع هذا الإنقسام …

     ويقول التقرير :

   ( …لقد مر على تاريخ حزبنا أيها الرفاق حدثان بل نكبتان ،كانتا كفيلتين بأن تهزا ضمير أي حزبي حتى الأعماق وتدفعا به إلى التفتيش الجدي عن مكان الضعف في حزبه ،التي سمحت لمثل هاتين النكبتين أن تقعا ، وإلى تحديد المسؤولية بجرأة وحزم ورجولة ،وايقاع المحاسبة الحزبية العاجلة بحق كل المسؤولين عن تشويه تاريخ حزبنا النضالي ،هاتان النكبتان هما 28 أيلول 1961 و18 تشرين الأول 1963 ،باعتبار أن قبول حل الحزب كان هو البداية المنتظرة لمثل تلك النهاية المؤلمة ،لتلك الوحدة ….،و18 تشرين على اعتبارها طعنا صحيحا لا لنضال الحزب طوال ربع قرن فحسب ،وإنما طعنا لأماني الأمة العربية بأسرها في ثورة رائدة أصيلة ،كانت ستغير ميزان القوى في كل المنطقة العربية وتخلق منها مناخا قوميا تفيء إلى ظلاله كل القوى الشعبية التقدمية في الوطن العربي المؤمنة بالوحدة والحرية والاشتراكية)

    وفي المؤتمر القطري الثاني بدورته الاستثنائية في آب 1965 ، طرحت معظم جوانب الأزمة ،بشكل قريب من الصراحة والوضوح ،ولكن كما تبين من قبل، بقي االقادة التاريخيون ،يصعدون  ويوترون الأجواء ،بغية الوصول إلى ما خططوه ،حتى جاء موعد انعقاد المجلس الاستشاري القومي للحزب بتاريخ 25 تشرين الأول 1965 ،إذ تقدمت القيادة القطرية في القطر السوري بمذكرة أشارت فيها بشكل واضح وصريح إلى( ارهاصات المرحلة القادمة ،والتي بدأت تتجسد ببروز ظواهر وتصرفات وأجواء مشبوهة ومشحونة ـ تحاكي نفس الظواهر والتصرفات والأجواء التي رافقت الردة التشرينية في القطر العراقي -كما أن من الظواهر المرضية التي بدأ يعاني منها الحزب ،إعلان التبرم والسخط على الحزب وعلى الحكم والتنصل من مسؤولية قيادة الحزب والحكم ،ومحاولة الكتل العسكرية استخدام الحزب كوسيلة للغلبة على بعضها ،كما أن الأزمات التي مرت بالتنظيم الحزبي على النطاق القومي ،والإنشقاقات التي كانت تؤدي دوما إلى فصل مستمر لكوادر قيادية في الحزب وتشتت الفكر الحزبي ،وضعف الارتباط ،وعدم قناعة بعض الحزبيين القياديين بمقررات المؤتمرات ،كل ذلك أدى إلى تفاقم التناقض وإذكائه في جناحي التنظيم الحزبي المدني والعسكري ).

كما أشارت المذكرة إلى أن القيادة القطرية (تواجه محاربة عنيدة من  الكتل الحزبية في القطاعين المدني والعسكري ومن الطامعين وممن قدر لهم الفشل في الانتخابات الحزبية ،وأن القيادة ترى أن لا سبيل إلى القيام بمهمتها إلا بعد الإنطلاق من منطلق أساسي ورئيسي وهو وحدة القيادة وتوحيد وجهة نظرها في مختلف القضايا المطروحة).

     واقترحت القيادة القطرية في آخر المذكرة ،عددا من الحلول ،منها :

   ـ توضيح العلاقة بين مختلف المنظمات الحزبية بشكل لا يترك مجالا للاجتهاد والتداخل .

   ـ إعطاء صلاحيات كاملة للقيادة القطرية في قيادة القطر سياسيا وتنظيميا لتبقى مسؤولة مسؤولية مباشرة ،ولحذف كل محاولات التخطي واستغلال تبني القيادات أو ما يخفي وراء ذلك من نوازع وأمزجة .

  ـ دعم القيادة القومية للقيادة القطرية قولا وفعلا وفي مختلف المناسبات .

 ـ تحقيق الإنسجام والتفاعل الكامل بين القيادة القومية والقيادة القطرية لتوحيد وجهات النظر والمواقف.

     ولقد أيد المجلس الاستشاري القومي الأطروحات الواردة في مذكرة القيادة القطرية للقطر السوري ،ولكن بعض الرفاق ،وعلى رأسهم الأستاذ صلاح البيطار ،استمر في استقوائه على الحزب بالمنظمات السياسية الأخرى ،وفتح معها قنوات إتصال دون الرجوع إلى القيادات الحزبية المسؤولة ،واستغلت القوى المعادية ،كذلك ،هذه الأجواء ،وبدأت نشاطا محموما ،ونشرت شائعات مضخمة ومختلقة عن الخلافات القائمة ضمن الحزب .

    تبين النصوص المقتبسة من مقررات وتوصيات المؤتمرات الحزبية ،أن الأزمة مزمنة ،بين قواعد الحزب وقادته التاريخيين ،فالقواعد الحزبية ترى أن قومية الحزب منبثقة من إيمان جميع مناضليه بهذه الحقيقة التاريخية ،وليست مرتبطة بأشخاص معينين ،وأن حقيقة الحزب القومية تاريخية ولا يمكن لأحد الادعاء بأنه شعار هذه الحقيقة .كما أن شرعية الحزب ،لا تؤخذ من موقف شخص بعينه ،بل الشرعية تكمن في مدى التمسك بمقررات مؤتمرات الحزب وبنظامه الداخلي ،حتى لا يكون الحزب تحت وصاية أشخاص ،كما كان الأمر حتى 1954 حيث وضع أول نظام داخلي ،كما أنه لا يجوز لأي شخص أن يضع نفسه في كفة مقابلة لكفة الحزب ،ويقرن مصير الحزب بمصيره ،لا العكس ،ولهذا فإن المؤتمر القومي الثامن أقر : (أن الحلول لأية قضية في الحزب يجب أن تأتي دوما من خلال الحزب ومن خلال مؤتمراته القومية ).

     وكذلك الحال في الديمقراطية الحزبية الحقيقية ،فإنها تكون في الابتعاد وفي نفي اعتبار الحزبية ملكية شخصية تدار من خلال منطق الوصاية والولاء الشخصي .هذا المنطق الذي مورس في سلوك التنظيم لمرحلة طويلة من حياة الحزب ،ولا يستثنى من ذلك أيضا الإدعاء بأن أهداف الحزب وشعاراته هي من إبداع القادة التاريخيين شخصيا ،بينما هي إملاء من واقع النضال العربي في احتكاكه مع معطيات العصر الحديث ،وأن هذه الشعارات هي المضمون التقدمي للقومية العربية.

     إن نظرة القادة التاريخيين ،هذه انعكست على سلوكهم وعلى العلاقات التي يمارسونها فيما بينهم كأشخاص أو فيما بينهم وبين القاعدة الحزبية التي يشعرون إزاءها بواجبات الأبوة وحقوقها .وما تستلزمه من رعاية وتوجيه وانتقاص واستهانة بقدرتها على التصرف المعقول ،كما نظروا الى الحزب كملكيات خاصة لهم ،وليس إلى الحزب ككائن اجتماعي خاضع في نشوئه وتطوره لعملية نمو طبيعي يتسارع بالمعارك التي يخوضها وبالتحديات التي  يواجهها ،وإذا لم يواكب الحزب ذلك فإنه سينحرف حتى عن مبرر وجوده كحزب مؤهل للبقاء في مواقع القدرة على قيادة الجماهير .

     كان القادة التاريخيون يعمدون إلى قسر الحزب ليكون مفصلا على تكوينهم ويدأبون ليوقفوا الحزب في المواقع التي يريدونها وتمكنهم من استمرار قيادتهم ،ويستخدمون الولاءات الشخصية والاستعانة بتنظيم الحزب في قطر ضد التنظيم في قطر آخر ،وكذلك كانوا لا يعترفون بفكر ليس من نتاجهم ولا بانجاز إلا إذا كان من ابداعهم ،وهكذا كان الصراع يتأزم بسبب هذا الإصرار ،الإصرار على إبقاء التنظيم عند حد إرادتهم ومفاهيمهم الخاصة .

     لقد ورد مفهوم هؤلاء في كراس صدر عن تنظيم الأستاذ ميشيل عفلق بعنوان ( تقييم أزمة الحزب ) ، وكانوا يرون أن ( بداية " التصحيح " هي ايجاد بيت تحتمي فيه فكرة الحزب أو جسد لهذه الفكرة توفر الحد الأدنى من القوة الرادعة للمغامرين والطامعين والمخربين ، أي ايجاد بنيان ثوري للحزب وبداية البداية هي ايجاد رأس لجسد الفكرة أي قيادة لها قائد ، وهذه هي القيادة الجماعية بالمعنى الصحيح...) ، ويرون ان (قيادة لها قائد لا تعني أن القيادة تتكون من قائد وزلم أو صنائع ، وانما قيادة من قادة يعترفون لواحد منهم أنه جدير بقيادتهم وبالمركز الأول والكفاءة الأولى ) ، والمقصود بذلك القائد الأستاذ ميشيل عفلق  . ووجهة النظر هذه ما كان ليقرها الأستاذ صلاح الذي تعرض لنقد دائم من  الأستاذ ميشيل ومؤيديه- وكان العديد من قواعد الحزب يحملون الأستاذ ميشيل مسؤولية التخبطات الكثيرة التي أضعفت الحزب بدءا من رسالته الى حسني الزعيم مرورا بقرار الموافقة على حل الحزب تنفيذا لاصرار عبد الناصر، الى دوره في انقلاب 18 تشرين في العراق ،ويرون أنه أمام هذه التخبطات كان عليه  أن يعتزل العمل السياسي – حسب وجهة نظر بعضهم – ولكنه بدل ذلك ، كان يصر على اعتبار نفسه بأنه يمثل " الصحيح " في الحزب ، ويقول :( أن الحزب عجز عن الانقلاب على أمراضه وتباطأ في اجراء هذا الانقلاب ، فانقلبت أمراضه عليه وتغلبت على بقايا الصحة فيه ،) وبدل أن ينقد سلوكه بعد حركة 23 شباط ، عاد وألقى اللوم على الحزب ، وقال : ( ان حركة 23 شباط هي عقاب أخير للحزب على تأخره في اعادة النظر في تجربته وفي الارتفاع الى مستوى رسالته ) . 

     إذن ،قد نصب بعض القياديين من أنفسهم أوصياء على الحزب وجعلوا من كتاباتهم دليلا نظريا له حتى أصبحوا بنظر أنفسهم هم الحزب ،وغدا الولاء لهم قياسا للولاء للحزب ،وهكذا تحول تاريخ الحزب إلى تاريخ أشخاص وانسجام الحزب يعني انسحابهم وانشقاقه يعني اختلافهم وانقسامهم ،وأضحى السعي لإقامة هيكل تنظيمي للحزب تعطى فيه المؤسسة دورها المفروض ،عملا موجها ضد أشخاصهم ،حتى أن الحزب الذي تأسس رسميا عام1947 ،بقي دون نظام داخلي لمدة سبع سنوات ،كما أسلفنا ،وهذا النظام لم يطبق إلا في السنوات الأخيرة وبصورة مجزأة شكلا ومضمونا .

     ان الأزمة ، كما يتبين ، قديمة في الحزب الذي شهد انشطارات كثيرة نتيجة ذلك ،إضافة إلى الغموض في الفكر النظري الذي طرحه وقصور في الأداة والأسلوب ،مما سبب للحزب أثناء مسيرته أزمة تزداد حدة مع نمو بذور التطور ،ومع متطلبات المرحلة التي يمر بها الواقع العربي ،وقد تجلت هذه الأزمة بمظاهر واضحة رافقت الحزب فكرا وتنظيما وأسلوبا ،وما تزال هذه الأزمة ،نظرا لتقلص أبعادها على السطح وامتدادها في العمق ،تتطلب منا فهما واستيعابا شاملين لأسبابها ومظاهرها ،وتتطلب ،أيضا ،حلولا جذرية تخلص الحزب منها ليتحقق له الانسجام الكامل بين نظريته وتنظيمه وأسلوبه النضالي .

     أخذ الفريق أمين الحافظ يستقوي بالقيادة القومية ،والتقى موقفه مصلحيا مع موقف الأستاذ ميشيل عفلق الذي يريد إعادة الحزب إلى (بيت الطاعة الشخصية ) ،بينما كان الرفيق الحافظ وتكتله العسكري يطمحون إلى إخضاع السلطة إلى (بيت الطاعة الفردية )(8) ،وكانت القيادة القطرية ترى أن من واجب أمينها القطري الالتزام برأي الأكثرية في القيادة، وذلك تمتينا للقيادة الجماعية ودعما لها ولصلاحياتها ،لا  أن يتفرد ويؤلب عليها القيادة القومية ، ،كما أن الفريق أمين الحافظ كان يجري مفاوضات سرية مع الأستاذ صلاح البيطار ،الذي كان بدوره ،قد أجرى مفاوضات في صيف هذا العام1965 وبمعرفة الأستاذ ميشيل عفلق مع اللواء محمد عمران ،الذي كان قد أوحى إلى فئة من الضباط من أنصاره بأن يزينوا للأستاذ البيطار بأن الجيش كله مع القيادة القومية .

    أما الأمين العام منيف الرزاز ،فقد تحول تحت الضغوط التي مارسها عليه كل من الأستاذين ميشيل وصلاح ،من مادح للقيادة القطرية ولنشاطاتها ،ومن معجب بما فيها من حيوية ،وبما حققته خلال فترة قصيرة ،تحول إلى ذام وقادح (9)،وأصبح أعضاء القيادة االقطرية، في نظره ، منحرفين .

     إن الأمين العام ، الذي كان يتهمه الأستاذ ميشيل بأنه (يحب السلطة والظهور والمراوغة والتهرب ) ، قد أعطى لنفسه دورا أكبر من حقيقتة بكثير ،كما أنه تصور نفسه منقذا ،وأنه بعصى سحرية سيتغلب على العقبات ،ولكن الأأزمة أثبتت سرعة تقلبه ،وعدم ثبات مواقفه ،وانغمس في السياسة الرامية إلى تصعيد الخلاف والتأزم ،تلك السياسة التي كان يحرض عليها الأستاذ صلاح ،رغم تأكيدات االدكتور الرزاز بأن قواعد الحزب لا تريد هذا التأزم ولا تؤيده ،لا داخل القطر السوري ولا خارجه ،ويقول : (وطلب الأستاذان من القيادة القومية أن تعلن وقف النظام الداخلي ،وأن تعين قيادة قطرية جديدة على مسؤوليتها ،فيها الأستاذ صلاح ،ولكننا رفضنا تحمل هذه المسؤولية ،مسؤولية مخالفة صريحة واضحة لتقاليد النظام . ) ويعود إلى القول : (وهكذا بعد أن كنا نضع آمالا كبارا على تحقيق هذه الخطوة في سبيل التصحيح ،انقلبت هذه الخطوة علينا ،وإذ بنا ننتكس من جديد ،بسبب الموقف المتعنت الذي وقفه الأستاذ صلاح ولم أخف رأيي هذا عن الأستاذين في ذلك الوقت ولا بعده ،وحملتهما مسؤولية هذه النكسة .)

بعد عودة القائد المؤسس ميشيل عفلق ،من رحلة الحرد الثانية الى برلين ،قال : (لم أصمم على العودة من برلين إلا بعد أن كتب لي الرفاق ثم ذهب الرفيق شبلي ليؤكد لي بأن القيادة القومية قد اقتنعت بوجهة نظري ) (10) وعلى أثر ، عودته، قررت القيادة القومية بدءا من  8/12/1965 فتح دورة من الاجتماعات  ،لا تتوقف إلا بالوصول إلى حل ما ،وعقد في بداية الدورة اجتماع مشترك بين القيادتين ،وتحدث أعضاء القيادة القطرية ،جميعا ،وأكدت الأكثرية تضامنها واجماعها على أن ما تنوي القيادة القومية القيام به بالتعاون مع الأستاذ صلاح واللواء عمران ،وهما ليسا عضوين في القيادة ،سيخلق أزمة حادة تضاف إلى الأزمات المتراكمة ،واستمرت القيادة القومية في اجتماعاتها اليومية ،(وكان النقاش يطول بشكل مزعج ومثير للأعصاب ،ويهبط إلى مستوى لا يصدق ،ولاسيما حين يحتدم النقاش بين الفريق أمين واللواء حافظ أسد ،ويتبادلان التهم والتهديدات )،(وكان التعقيد بعد ذلك في الوصول إلى الحلول السياسية ،فقد كانت هناك حركة ضاغطة قوية لحل القيادة القطرية ،وتعيين قيادة قطرية جديدة بعد أن سلكت هذه القيادة سلوكا أبعدها عن أن تكون مؤسسة قيادية حزبية ،وجعلها آلة  طيعة في يد شخص واحد هو اللواء صلاح جديد ،وكان الأستاذان ميشيل وصلاح وكل أصحاب الاتجاه القومي المستبعدون يضغطون ضغطا شديدا لحل القيادة.) وكان الفريق أمين الحافظ والأستاذ شبلي العيسمي وعلى غنام يضغطون ضغطا مماثلا داخل القيادة ) ( أما نحن أكثرية القيادة القومية ومنها منصور الأطرش وجبران مجدلاني والدكتور على الخليل وأنا(11) ،فقد كنا نريد أن نرمي بأبصارنا إلى ما بعد الحل ،أين هي قوانا الحزبية التي نطمئن إليها ؟ هل نطمئن إلى الفريق تمام الإطمئنان ،وهو يقف الآن مع القيادة القومية ،وقد كان قبل خلافه مع جديد ،رأس اللجنة العسكرية ،وكان معروفا بنزقه وتفرده ….أم هل نطمئن إلى عمران الذي كان يعرفه الجميع بالقدرة على التلون والتبدل والعمل وراء الكواليس ؟أما الاستاذ صلاح  فقد كنا نعلم كفاءته وقدرته في الحكم ،ولكننا كنا نعلم أيضا أن قواعد الحزب والجيش قد عبئت ضده تعبئة عظيمة سواء عن حق أو عن غير حق . )

انفجار الأزمة

     أجرت قيادة الجيش ، وضمن صلاحياتها الممنوحة لها في القانون ومن الحزب ،تنقلات بين العسكريين  ،ولكن آمر اللواء المرابط في حمص امتنع عن تسيير العناصر المشمولة بالنقل في لوائه ، وهم ثلاثة عناصر ، وأهمل أوامر وزير الدفاع ،بتحريض ودعم من الفريق أمين الحافظ ،الذي اعتبر أن تنفيذ هذا الأمر لعب بالجيش لا يمكن أن يوافق عليه ، واأعطت القيادة القطرية ، بعد أن عرض الموضوع عليها ، توجيها لوزير الدفاع باتخاذ الاجراءات اللازمة لتنفيذ الأوامر الصادرة عن قيادة الجيش ، وأصدر الوزير أوامره بفرض عقوبة انضباطية بسجن آمر اللواء ،  وبأمر من وزير الدفاع ، وبموافقة القيادة القطرية  ،قام عضو القيادة القطرية  المقدم مصطفى طلاس ،رئيس أركان اللواء ، يوم 19/12 باعتقال آمر اللواء المتمرد وأربعة آخرين بينهم ضابط برتبة نقيب ، وارسالهم مخفورين إلى دمشق ،وبدلا من أن يؤكد أمين عام الحزب والقيادة القومية على تعزيز سلطة قيادة الجيش والقيادة القطرية ،اعتبرا أن هذا الأمر خطير جدا ، واتخذت القيادة القومية، منه ،وهو موضوع عادي ونظامي ،القشة التي قصمت ظهر البعير ،والذريعة التي هبطت عليها من "السماء الأرفع " وأقدمت بتاريخ 21 كانون الأول 1965 ، على نشر نتائج اجتماعاتها ، ومما قررته بالنسبة للقطر السوري ، وأذاعته على التنظيم الحزبي في نشرتها رقم 6/8 تاريخ 22/12/1965 :

-   تشكيل قيادة موسعة تشرف على شؤون الحزب والحكم والجيش في القطر على أن تضم هذه القيادة جميع أعضاء القيادة القومية يضاف اليهم عدد من الرفاق من القطر السوري شرط أن لا يزيد عددهم عن عدد أعضاء القيادة القومية ، وهذا يعني حل القيادة القطرية .

-        تعلق مواد النظام الداخلي التي تتعارض مع هذه القرارات .

-   تستمر القيادة القومية في ممارسة كافة السلطات العسكرية والمدنية والحزبية- التي قررت تسلمها بعد حادث حمص - حتى يتم تشكيل القيادة الحزبية .  

     ولما تحقق للمطالبين بحل القيادة ذلك الأمر ،رجع القائد المؤسس ،للاشتراك في اجتماعات القيادة القومية ،بعد أن كان قد قاطعها مدة من الزمن ،كما أن القيادة القومية ،قبل اتخاذ قرار الحل ،أقدمت على استنفار كافة القطعات العسكرية ،وربط الأمين العام ،بشخصه تحركات الضباط واجازاتهم.

     اتخذت القيادة القومية هذه القرارات ، رغم نصيحة الكثير من النشطاء الحزبيين وتحذيرهم لها ، وخاصة من زار منهم الأمين العام ، من المخاطر التي ستعقب حل القيادة القطرية فيما اذا كان هناك تفكير باتخاذ اجراء كهذا .

     ناقشت القيادة القطرية في اجتماع مطول لها بتاريخ 23/12/1965 لم يحضره الأمين القطري الفريق أمين الحافظ ،قرار القيادة القومية ،واجمع أعضاؤها على:

ـ أن قرار القيادة القومية ،هو انقلاب حقيقي على الحزب والحكم .

ـ أن القيادة القومية قد تخطت الشرعية الحزبية ،وخالفت توصيات المؤتمر القومي الثامن ،وأحكام النظام الداخلي .

ـ أن القيادة القطرية ،ستلتزم بقرار الحل ، بسبب أن وحدة القيادة الواجب توفرها ،قد فقدت ،وبالتالي لم يعد باستطاعتها ممارسة مهامها بشكل فعال .

ـ أن الرفاق أعضاء القيادة القطرية سيعملون على حماية التيار الحزبي الذي يؤيد القيادة القطرية من التصفية ،وعدم السماح بالمساس بالمؤسسات الحزبية ،قبل انعقاد المؤتمر القطري أو المؤتمر القومي ،  بدورة استثنائية لمناقشة أسباب قرار القيادة القومية ،واتخاذ التوصيات بشأنه .

ـ الطلب إلى القيادة القومية ،دعوة المؤتمر القطري ،أو المؤتمر القومي إلى عقد دورة استثنائية لبحث الأزمة الجديدة ،واقرار ما يراه مناسبا .

كما اتفق أعضاء القيادة القطرية على ضرورة الالتقاء بشكل دائم ،لمراقبة التطورات اللاحقة .

لم تستجب القيادة القومية إلى طلب القيادة القطرية ،عقد دورة استثنائية لأي من المؤتمرين القطري أو القومي ،وقررت تعيين قيادة مركزية سمتها القيادة الحزبية العليا ،تتكون من أعضاء القيادة القومية ويضاف إليهم عشرة أعضاء يعينون من التنظيم الحزبي ،سمت منهم خمسة ،وهم:صلاح البيطار ،سليمان العلي ،إلياس فرح ، زيد حيدر ،عبد القادر نيال ،أما الخمسة الباقون فقد حاولت القيادة القومية أن تعين بعض أعضاء القيادة التي صدر قرار بحلها ،فاعتذر من اقترحت أسماؤهم ،وبالتالي لم تستكمل القيادة .

بدأ انقلاب القيادة القومية يأخذ أبعاده ،فكانت باكورة أعمالها ،إقالة أعضاء القيادة القطرية في مجلس الرئاسة، واقالة وزارة الدكتور يوسف زعين وتعيين وزارة جديدة برئاسة الأستاذ صلاح البيطار الذي لم يكن يثق بالقيادة الحزبية العليا ،واشترط حين قبوله تكليف تشكيل الوزارة ،أن لا تسقط وزارته إلا بموافقة ثلثي أعضاء القيادة ،كما اشترط أيضا نقل العديد من الضباط الحزبيين من مواقعهم .

كما أن القيادة الحزبية العليا ، رغم أنها قد زادت عدد أعضاء المجلس الوطني بالمرسوم التشريعي 22/8/1965 واصبح 134 عضوا، فانها عمدت الى انهاء عضوية أعضاء القيادة القطرية التي صدر قرار بحلها من المجلس الوطني ،الذي كان قد تم تشكيله في الأسبوع الأخير من شهر آب 1965 ،وعقد أولى جلساته في أيلول 1965،وكان قد تكون من : الأعضاء السوريين في القيادة القومية +  أعضاء القيادة القطرية +أعضاء مجلس قيادة الثورة + العسكريين الذين كانوا في اللجنة العسكرية المنحلة + قيادات المنظمات الشعبية ورؤساء النقابات المهنية +ممثلين عن القوى السياسية (الشيوعيين ،الناصريين) +ممثلين عن الفعاليات الاقتصادية +ممثلين عن المستقلين .          

شكلت القيادة الموسعة ،لجانا لزيارة فروع الحزب في المحافظات ،وشرح ما أقدمت عليه القيادة القومية ،وواجهت اللجان المذكورة ،في أغلب الفروع التي زارتها ،معارضة شديدة للإجراءات المتخذة لعدم شرعيتها ولمخالفتها الصريحة للنظام الداخلي للحزب ،ونتيجة لتلك المعارضة ، أصدرت القيادة القومية بتاريخ 10/1/1966 نشرة عللت فيها ، ثانية ، سبب قرارها ، ومما ورد فيها ، أن القيادة القطرية :

-   قلصت واستبدلت المفهوم القومي للحزب بمفهوم قطري وأنها قد تسلطت وألغت حقيقة الحزب القومية وحولته الى جهاز اداري يخدم السلطة .

-   لم تستجب في المؤتمر القطري الاستثنائي ( مؤتمر آب 1965 ) الى اقتراح القيادة القومية بتعليق النظام الداخلي وجمع الصلاحيات في يد القيادة القومية تمسكا منها ( أي القيادة القطرية ) بالأشكال النظامية ، وحرصها على شكليات النظام الداخلي .

     وورد فيها، أيضا ، أن :

-        الخلاف مع القيادة القطرية لم يكن مجرد صلاحيات [ل هي أزمة تتعلق بالمفهوم القومي للحزب .

-   الأزمة قد وصلت الى حد أصبح معه الصراع على السلطة بين العسكريين يهدد بالصدام العام وتدمير الثورة وتبين أن الأزمة تستعصي على المعالجة الا بحل القيادة القطرية .

-   القيادة لم تستجب في المؤتمر القطري الاستثنائي الذي سبق حل القيادة القطرية منذ أكثر من خمسة شهور الى اقتراح  تعليق النظام الداخلي وجمع الصلاحيات في يد القيادة القومية تمسكا منها ( من القيادة القطرية ) بالأشكال النظامية وحرصها على شكليات النظام الداخلي .

- القيادة القومية لم تقم تكتلا جديدا عندما لجأت الى تعيين القيادة الحزبية الجديدة .

وفي الرد على رسالة من قيادة فرع حماه بتاريخ 28/12/65 تستفسر فيها عن الأسباب الحقيقية لحل القيادة < لعدم اقتناعها بالمبررات التي وردت في النشرات > ، حدد الأمين العام في اجابته ، نقاطا ثلاث اعتبرها قاسما مشتركا بين جميع القيادات القطرية التي تولت المسؤولية منذ الثامن من آذار ، وهي :

  1 – التسلط العسكري فيها وعليها .

  2 – اهمال القيادة القومية وتركيز السلطة القطرية .

  3 – عدم وقوفها أمام بعض الانحرافات الفكرية وتشجيعها أحيانا لها .

     بدأت القيادة الجديدة إعداد قوائم بقصد تصفية الموالين للقيادة القطرية ،وكذلك كان االفريق أمين الحافظ يطرح بالحاح ضرورة تطهير الجيش من جميع الضباط الذين لا يوالون القيادة الجديدة ،كما اقترح لجوء القيادة الجديدة إلى أحد المعسكرات الموالية ،ومنه تشن هجوما على أنصار القيادة القطرية إذا لم ينصاعوا لما سيتخذ بحقهم من إجراءات ،ولكن بعض أعضاء القيادة الحزبية العليا كانت على خلاف مع الفريق وتخشى من تسلطه ومن الحلول العسكرية التي يطرحها لانهاء التخبطات  التي تتخبط بها القيادة ،كما كان هو يتهم القيادة بالتآمر عليه ، وفي نفس الوقت كان بعض أعضاء هذه القيادة في خشية من ألاعيب اللواء محمد عمران ، وكانت مناوراته واضحة جدا ،(فوسطاء الخير الذين اصلحوا مابينه وبين الاستاذ صلاح في الصيف عند قدومه من اسبانيا في إجازة ،وأقنعوا الأستاذ صلاح والاستاذ ميشيل  ،ثم الفريق أمين الحافظ ،دون علمنا ، فإن اللواء عمران متفق معهم في الرأي ،وأنه لا يرى حلا لأزمة الحزب إلا بحل القيادة القطرية. )(12)وحسب تصور القيادة القومية ،فإن مهمة اللواء محمد عمران تتلخص في :

1ـ إعادة الانضباط إلى الجيش الذي فقد كل معنى من معاني الانضباط العسكري أو الحزبي .

2ـ إبعاد الضباط المتسلطين وبخاصة المقدم عزت جديد والرائد سليم حاطوم .

وشعرت القيادة الحزبية العليا أن اللواء عمران ،بدأ يبني قواعده الخاصة في الجيش ،ويأخذ خطا مناهضا للفريق ،وكان ،كما يقول الدكتور منيف الرزاز :(يؤخر كل إجراء لنقل أي ضابط من الذين يهم القيادة نقلهم حتى ينتهي الشهر الذي حددته القيادة وحصرت حق نقل الضباط فيها)وبعدها تعود إليه السلطة في إجراء ما شاء من التنقلات ،(وكلما أردنا أن نتخذ قرارا بنقل الضباط الذين اتفقنا على نقلهم ،أخبرنا بأن نقل هؤلاء يحتاج أولا إلى تغييرات في موازين القوى لنضمن تنفيذ أوامر النقل وإلا تعرضنا لعصيانهم وانقلابهم على الحكم ،وقدم لنا قوائم بنقل ضباط آخرين من مراكز عملهم تستهدف أول ما تستهدف أنصار القيادة القومية وأنصار الفريق .)(13)

كان اللواء محمد عمران ،في نفس الوقت ،يتفاوض مع الأستاذ صلاح البيطار ومع بعض أشخاص من الوحدويين الاشتراكيين ،للقيام بانقلاب يهدف إلى :

1ـ إبعاد كل أعضاء اللجنة العسكرية ،بما فيهم (هو ) إذا اقتضى الأمر ، شريطة أن يعود بعد فترة .

2ـ استلام الرفيق صلاح البيطار منصب رئيس الدولة .(14)

وفي مجال التنظيم الحزبي في القطر السوري كانت القيادة الحزبية ،قد قررت إعادة النظر في تركيب الحزب وفي إعادة تنظيمه مجددا ،وتوجيهه وفق توجهات القيادة الجديدة .

وفي مجال الحكم ،فقد عجزت الحكومة عن تنفيذ إية خطوة إيجابية ،مدة الثلاثة والخمسين يوما التي قضتها في السلطة ،ولقد دخلت الحكومة وخرجت ولم تنتج شيئا (كنا نسمع جعجعة ونريد أن نرى الطحن ) كما يقول الدكتور الرزاز ،وأكمل (اذا كان في القيادة من التناقضات ما يمنعها ويعطلها ،فمجلس الوزراء لم يكن فيه تناقض إطلاقا.) (14)

وعلى الصعيد الشعبي ،بدأت الأجهزة المختصة الإيعاز لتشكيل وفود من أحياء مدينة دمشق ومن المدن الأخرى ، لتقديم التهنئة إلى الفريق أمين الحافظ ،رئيس مجلس الرئاسة ،وإلى الأستاذ صلاح البيطار رئيس الوزارة ،على خطوة حل القيادة و (بعض البسطاء من بين أعضاء الوفود ،حسبوا أن ما تم في سورية هو نفس ما حصل في العراق ،في الردة التشرينية ،حتى بعض أعضاء الوفود التي أمت قصر الضيافة ،يوم الأربعاء 5كانون الثاني 1966 قالوا:"الحمد لله ياسيادة الرئيس اللي خلصتنا من حزب البعث ) ،كما أن الصحف كان تكتب وعلى امتداد عدة أيام عن استمرار تدفق الوفود الى قصر الضيافة ودار الحكومة لإعلان التأييد الكامل لإجراءات القيادة القومية .

في هذه الأجواء المشحونة ،والتي تنذر بالخطر على مصير الحزب والثورة ،طلبت الكثير من القيادات الحزبية من القيادة القطرية ،ضرورة تحمل مسؤوليتها في قيادة التنظيم الحزبي ،وتوجيهه ،وفي لقاء لأعضاء القيادة التي صدر قرار بحلها ،تمت الموافقة على الاجتماع ، باستمرار، كمؤسسة حزبية قيادية ،لحماية الحزب وصيانة حكمه ،وطلبت من بعض الرفاق النشطاء ،أعضاء المؤتمر القطري ،التوجه بكتاب إلى القيادة القومية موقع من ثلث أعضاء المؤتمر ،لعقد دورة استثنائية له ،عملا بأحكام المادة 61 فقرة –8-،والمادة 87 فقرة –2- من النظام الداخلي لعام 1965 والتي تنص ( تعقد المؤتمرات الحزبية دورات استثنائية بناء على دعوة من القيادة المختصة أوبناء على طلب ثلث الأعضاء الأصلاء للمؤتمر وعلى أمين القيادة توجيه الدعوة لعقد المؤتمر خلال مدة أقصاها الشهر ،وفي حال عدم دعوة المؤتمر من قبل القيادة المختصة بحق للأعضاء الذين تقدموا بالطلب تشكيل لجنة تنظيمية لها الحق في الدعوة والتهيئة لعقد مؤتمر استثنائي وإذا توفر النصاب القانوني تصبح قراراته ضمن صلاحياته قرارات ملزمة ) ولقد تم تقديم هذا الطلب إلى القيادة القومية بتاريخ 25/1/1965 ،وقررت القيادة القطرية ،أيضا :

ـ عدم دعوة الفريق أمين الحافظ وحسام حيزة إلى اجتماعاتها ،للموقف المعادي الواضح للقيادة بالنسبة للأول ،ولتعاطف الثاني معه.

ـ توسيع القيادة بإضافة بعض أعضاء اللجنة العسكرية إليها ،وتم إضافة كل من االعقيد أحمد المير محمود ، العقيد أحمد سويداني ، الرائد مصطفى الحاج علي .

ـ الاتصال الدائم بشكل فردي ، مع الأمين العام الدكتورمنيف الرزاز ،لحثه على ضرورة دعوة المؤتمر الفطري أو المؤتمر القومي لدورة استثنائية ،وكذلك تم تكليف بعض الرفاق المدنيين والعسكريين من غير أعضاء القيادة ،للقيام بنفس الغرض.

ـ تشكيل لجنة يحضرها أي من أعضاء القيادة ،التي سمت نفسها القيادة القطرية المؤقتة ،مهمتها إعداد التقارير التي ستوضح وجهة نظر القيادة في الأزمة ،وفي الوضع السياسي ،على أن تنجز قبل الموعد المحدد لعقد أحد المؤتمرين بدورة استثنائية ،ليطلع عليها المؤتمرون .

كان توجه القيادة القطرية المؤقتة ،حل الأزمة ،عن طريق المؤسسات الحزبية ذات الاختصاص واستبعاد أي عمل عسكري وفعلا قام أكثر أعضاء القيادة المؤقتة والنشطاء الحزبيون ،بلقاء الأمين العام ،وألحوا عليه ضرورة أن تأخذ مؤسسات الحزب دورها لحل هذه الأزمة وطرحت عليه اقتراحات بديلة في حال عدم الموافقة على دعوة المؤتمرات لدورة استثنائية ،ومن هذه الاقتراحات ،إجراء انتخابات حزبية لعقد مؤتمر قطري جديد ولكن الأمين العام ،ومعه بعض أعضاء القيادة القومية ،كانوا يواصلون التأزيم إلى نهاية الشوط وكانت إجابته إلى كل الذين حاوروه تتلخص في :

ـ عدم دعوة أي مؤتمر لدورة استثنائية .

ـ عدم إجراء انتخابات إلا بعد تخليص الحزب من (المنحرفين ).

ـ إعادة الحزبيين الموالين للأستاذين ميشيل عفلق ،وصلاح البيطار إلى التنظيم ،(علما أن هؤلاء لم يتقدموا بطلبات عودة إلى الحزب ،لا في فترة الإنفصال ولا بعد الثامن من آذار ).

رؤية القيادة المؤقتة للمستقبل

أثناء فترة الحوار مع الأمين العام ،كانت القيادة القطرية المؤقته تسرع في إعداد التقارير اللازمة التي توحد رؤيتها للأزمة ونظرتها الى المستقبل على كل الأصعدة ، ولقد تم انجاز هذه التقارير قبل 23شباط 1966.

1- حول الأزمة الحالية:

ـ ظهور منطق الوصاية على الحكم والسلطة إلى جانب منطق الوصاية على الحزب ،(إحلال فرد محل القيادة الجماعية) .

ـ الصراع الداخلي بين مختلف مؤسسات الحزب والحكم ،وانعكاس آثاره على الحياة العامة واليومية للمواطنين

ـ استغلال شعار (وحدة الحزب ) في محاولة منع الأكثرية من ممارسة مهامها وصلاحياتها الممنوحة لها في النظام الداخلي ومقررات المؤتمرات ،وأن وحدة الحزب لا يمكن أن تتحقق في المفاوضات والاتفاقات بين الأطراف ،ولا بالحلول الفوقية والتوفيقية التكتيكية .

ـ محاولة تفتيت وحدة الجيش و إدخال التناقضات على بنيته العقائدية والشعبية الطبقية .

ـ زج القواعد العسكرية الحزبية في معترك الصراع في الأزمات التي كانت تنشأ بين القيادات الحزبية .

ـ انعدام الرقابة والمحاسبة الحزبية سهل نمو الشعور باللامبالاة وأضاع المسؤولية .

ـ محاولة الفئات السياسية المعادية والطابور الخامس ،خلق التناقضات وتعميق الجوانب السلبية في الجيش

ـ تحرك مجموعة غير الحزبيين في الجيش بشكل واضح ،عندما شعرت أن بين الحزبيين من يدغدغها ويغازلها ويطريها ،وهذا ما جعلها تشعر بأهميتها في مجال الصراع الدائر بين الحزبيين .

     وأوصى التقرير ،لتجاوز الظواهر السلبية ،وخاصة في الجيش ،ب:

ـ ربط الجيش بالحزب ربطا عضويا .

ـ إعادة النظر بالتنظيم الحزبي في الجيش على ضوء التجربة .

ـ التأكيد على أن سلوك الحزبي هو ملك الحزب وليس ملك نفسه .

ـ تطبيق الصيغ التي أقرتها المؤتمرات الحزبية ،في تحديد ميدان وظيفة الجيش ،وفي فصل السلطات العسكرية عن المدنية ،على أن يستثنى منصبا وزير الدفاع ورئيس الأركان في حال نجاحهما بعضوية القيادة القطرية أو القيادة القومية .

2- في المجال السياسي للحزب كحزب عربي قومي اشتراكي:

أولا :في مجال السياسة الداخلية :

 للوصول إلى تقييم علمي لتجربة الثورة في القطر السوري خلال المرحلة الماضية ،لا بد من معرفة حقيقية للعوامل الذاتية التي عاشت تحت وطأتها قيادة الحزب والحكم من ناحية ،ولا بد أيضا من إحاطة تامة بالظروف الواقعية للقطر السوري من ناحية ثانية .

أخذت الثورة طابع الانقلاب العسكري ،وأدركت أنها بحاجة إلى مزيد من الوضوح النظري ووضع استراتيجية علمية لها في شتى المجالات ،فكان، عليها اخلاصا منها لحقيقتها ولمهمتها التاريخية ، أن تكون ثورة شعبية اشتراكية ،بل ومنطلقا للثورة العريية الشاملة ،وأن تطور واقعها على ضوء معطيات التجربة والممارسة العملية .

لقد عالجت مقررات مؤتمرات الحزب والمنهاج المرحلي ،مشاكل البناء الثوري في كل القطاعات ،غير أن تلك المناهج والخطط كانت تلقى ترددا في التطبيق أو تجاوزا وتنكرا لها وذلك نتيجة للتناقضات الأساسية التي سيطرت على قيادات الحزب العليا وأدت بدورها إلى فقدان القيادة السياسية الواحدة للثورة التي يفترض فيها توفر الحد الأدنى من وحدة النظر ووحدة الأسلوب ،وقد تبين وجود ثلاثة اتجاهات في قيادة الحزب والثورة .

ـ تيار إصلاحي غير مؤمن باستمرار الخط الثوري .

ـ تيار يعمل على تعطيل دور الحزب وتجاوز مؤسساته تمهيدا لقيام حكم فردي .

ـ تيار انتهازي يحاول استغلال مواقعه لضرب الثورة وتنفيذ مخططاته.

هذا التناقض أدى إلى شل قدرة الحزب  القيادية لقيادة الجماهير كما أدى إلى الإنسياب في التنظيم الحزبي،وضعف الشعور بالمسؤولية وظهور روح التكتل والانتهازية .

     أما على صعيد الحكم ،لم يكن للثورة هوية واضحة على كافة المستويات ،فكانت نتيجة ذلك مترددة المواقف متناقضتها ،وغير مقدامة لتباين العقلية في القيادة ونقص التجربة وعدم الوضوح .

     وعلى صعيد الوضع الاقتصادي لابد من وضع خطة محكمة علمية ومركزية للقطاع الاقتصادي ووضع حلول عاجلة لقضايا عديدة يأتي في طليعتها معالجة الجهاز الاداري في مؤسسات القطاع الاقتصادي ومكافحة الغلاء والبطالة وتهريب الرساميل وأزمة السكن وتسويق الانتاج وغيرها .

     أما على صعيد أجهزة الأمن فإن تضخيم صلاحياتها وحرفها عن مدلولاتها ومهمتها الأساسية التي تفترض أن تقوم في دولة اشتراكية .وأن استغلالها لصلاحياتها بالحد من الحريات العامة للمواطنين وتماديها أكثر من ذلك إلى حد التدخل في منظمات الحزب ومؤسساته ،كل ذلك أدى إلى تشويه صورة الحزب والثورة لدى الجماهير ،ويجب محو الآثار السيئة الناجمة عن ذلك ومحاسبة المسؤولين عنها والوقوف بوجهها بكل حزم لمنع تجاوز هذه الأجهزة لمهماتها في المستقبل .ومن الضروري تنظيم جهاز الأمن والمخابرات ،وذلك بأن تكون هناك ثلاث مؤسسات لكل منها مهمتها الخاصة المحددة وهي :

ـ الشعبة السياسية وترتبط بوزارة الداخلية .

ـ المخابرات العسكرية ومهمتها الحفاظ على أمن الجيش وترتبط بالمؤسسات المسؤولة في الجيش

ـ المخابرات العامة وترتبط بالقيادة القطرية ومهمتها تقديم دراسات ومعلومات عامة ،دون التدخل في شؤون المواطنين بصورة مباشرة .

     وفي مجال الحريات العامة والتعبير عن الرأي ،فإن الديمقراطية الشعبية هي النظام الأمثل الذي يتيح للشعب قيادة الثورة نحو تحقيق أهدافها وأن الصيغة العملية لتنفيذ ذلك النظام تتجسد في قيادة الحزب الطلائعي الثوري للمنظمات الجماهيرية الشعبية .

     إن ثورة آذار يجب أن تتيح لكل المواطنين التقدميين واليساريين الشرفاء من خلال منظماتهم الشعبية والنقابية الحرية التامة في نقد الثورة والحزب نقدا إيجابيا بناءا  وإلى أقصى الحدود .

     إن ثورة آذار يجب أن تفتح صدرها لكل القوى التقدمية واليسارية في القطر السوري ،إذ ليس من الطبيعي أن يظل هناك اشتراكي حقيقي خارج نطاق المعركة الاشتراكية ،وليس من المعقول أن يقف مناضل وحدوي تقدمي بعيدا عن المشاركة الايجابية في ثورة الوحدة والحرية والاشتراكية .

       إن الخلافات التي تقوم بين الحزب وبين أي من القوى التقدمية أمور ومشاكل جانبية يجب أن لا تحول دون لقاء القوى التقدمية في معركتها المصيرية مع الاستعمار وعملائه من الرجعيين والرأسماليين .

     إن ثورة آذار يجب أن تؤكد على الانفتاج واللقاء مع هذه القوى ،وأن عليها اتخاذ خطوات جدية لتحيل تلك النوايا والإرادة الصادقة إلى واقع عملي ملموس .

     على قيادة الحزب أن تستكمل تأسيس منظمات شعبية لقطاعات الحرفيين والشبيبة ،وتوفير الحريات الكاملة في العمل النقابي وتنمية الوعي الطبقي وإشاعة روح الديمقراطية في المنظمات الشعبية .

     كما ناقشت القيادة القطرية المؤقتة واقع التأميم والتحولات الاشتراكية ،وواقع جهاز الحكم ،وضرورة وضع دستور دائم للقطر ،وتطبيق المنهاج المرحلي ،وناقشت واقع التعليم والإعلام والخدمات وتجربة الجيش العقائدي .

     ورأت القيادة القطرية المؤقتة ،بعد تحليلها لأوضاع الطبقات الاجتماعية في القطر ،ضرورة اتباع سياسة حازمة لا مهادنة فيها ولا تراجع تجاه القوى المستغلة لأن كل موقف غير هذا هو تمييع للخط الثوري وتنكر لالتزام الحزب بمصلحة الجماهير الشعبية الكادحة ،أما الطبقة البرجوازية الصغيرة ،فيجب توعيتها لتدرك أن مصلحتها تتحقق بانتصار قضية الثورة .

     ثانيا :في مجال السياسة العربية :

وكانت تصورات القيادة القطرية المؤقتة ،حول الوضع العربي ،تتلخص في أن العرب اليوم وهم جزء من هذا العالم المتصارع يتطلعون إلى واقعهم يتلمسون فيه امكانياتهم الحقيقية ويفتشون عن الطريق الذي يوصلهم لبلوغ أهدافهم والانتصار على القوى التي تعيق تقدمهم وتقف حائلا بينهم وبين القيام بدورهم الكامل في تأكيد المثل الإنسانية .

ـ إن الاستعمار الجديد يتشبث الآن بكل قواه لإبقاء سيطرته الاقتصادية والسياسية والثقافية على هذه البقعة من العالم (أي الوطن العربي ).

ـ إن العرب يخوضون معركة جدية وحاسمة ضد الاستعمار الجديد وأساليبه المتطورة في السيطرة والتشبث بمقدرات وطننا وثرواته وطرق مواصلاته ومعابره الدولية .

ـ كانت المعركة فيما مضى سافرة واضحة ،وهي اليوم أشد ضراوة وأكثر حسما وفائدة ،إنها اليوم معركة مصيرية ،معركة بين القوى الثورية المؤمنة بالشعب وأهدافه الكاملة من جهة ،وبين الاستعمار و الطبقات التي انشدت إليه بحكم ارتباطها المصيري بمصارفه ورساميله من جهة أخرى .

ـ أخذت أساليب الاستعمار الجديد في الوطن العربي طبيعة اتحاد مصيري بين الاستعمار وبين الطبقة الرأسمالية العربية وأنظمة الحكم العميلة المتحالفة معها .

ـ يقوم الاستعمار والدول العربية المرتبطة به بمحاربة ذكية متئدة لأنظمة الحكم التقدمية والايقاع بينها ،ويحاول باستماتة لجم اندفاعها في الطريق الثوري الكامل سواء عن طريق الضغط والتلويح بالحصار الاقتصادي أو عن طريق الوعود بالقروض والرشوات أو الدعوة إلى وحدة الصف العربي أو التضامن العربي .

ـ إن الدعوة لقيام حلف إسلامي لا يجوز اعتبارها إحياء لحلف بغداد فقط بل هو في الحقيقة أشد خطرا وأكثر تأثيرا نظرا لامتداد هذا الحلف إلى بقاع أخرى لم يشملها حلف بغداد ،ومحاولة هذا الحلف استغلال الشعور الديني في تهديم الوحدة الوطنية ، ان هذا الحلف هو تحريض للرجعية العربية لاتخاذ مواقع الهجوم  والانقضاض على الجماهير العربية ومكتسباتها باستغلال الشعور  الديني لديها لصرف أنظارها نهائيا عن معركة التحرر وبناء الاشتراكية .

ـ إن القوى التقدمية في الأيام الأولى لوحدة مصر وسورية كانت في أوج قوتها ،وقد رافق هذه الوحدة نموا كاسحا في القوى التقدمية على نطاق الوطن العربي ،وقد تجلى هذا النمو في الاندفاعات الشعبية الوطنية في أكثر بقاع الوطن العربي .

ـ إن الصراع بين القوى التقدمية العربية ،ترك عقدا ،جعل شعار لقاء القوى التقدمية ووحدتها يبقى شعارا مجردا .فنظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة ،وحكم الحزب في سورية ،والحكم الثوري في الجزائر ،لم يجدوا حتى الآن صيغة عملية توحد نضالهم ضد الاستعمار.

ـ إن الصراع القائم بين القوى التقدمية العربية يتمثل بصورة رئيسية بالصراع القائم بين حزب البعث العربي الاشتراكي وأنصاره والمتفهمين لمواقفة ودولته في سورية ،وبين عبد الناصر ونظامه والقوى الدائرة في فلكه ،وهذا الصراع شغلها عن متابعة المهمة الأساسية في محاربة الاستعمار ، والأنظمة الرجعية ،وأقعد جميع القوى والحكومات التقدمية عن المبادرة إلى طرح اللقاء الثوري بينها وتحقيقه عمليا.

ـ إن وطننا العربي يمر بمرحلة حاسمة ،وهذا يتطلب التحرك بسرعة وبصورة جدية للالتقاء مع القوى التقدمية التي تقف موقف الحياد لدفعها إلى الموقف الإيجابي الذي يستطيع المساهمة في حل العقد القائمة بين القوى التقدمية الأخرى ضمن أسس موضوعية واعية لظروف المعركة العالمية أن مثل هذا اللقاء سيكون له أثر حاسم ومباشر في مختلف القضايا القومية المطروحة ،وعلى رأسها توفير جو من الثقة التامة للتفاعل المتبادل ،ويخلق بالنتيجة الشروط الموضوعية لإقامة الوحدة العربية على أسس شعبية اشتراكية

ـ   إن الحزب يشعر بمسؤوليتة للمبادرة بصورة جدية إلى طرح هذا اللقاء وخلق الظروف الموضوعية لتحقيقه وذلك بتعبئة الشعور الشعبي وتحريك المنظمات الشعبية والجماهيرية لتقوم بدورها في جعل هذا اللقاء أمرا محتوما ، وأن ما يحتم هذا اللقاء والدخول في المعركة ،هي المعركة الرئيسية المصيرية ،في تحرير فلسطين

ـ إن القوى التقدمية أصبحت على بينة من بطلان شعار وحدة الصف ،أو وحدة العمل العربي الذي كانت مؤتمرات القمة هي الصيغة العملية لتحقيق ذلك ،وكانت هي المهرب الذي لجأت إليه القوى التقدمية لتغطية انقسامها والتنصل من مسؤولياتها في التحرير ،وأن محاولات الحزب المتعددة لنقد هذه المؤتمرات ونتائجها لم تبرئ ساحته في نظر الشعب العربي ،والنتيجة التي يحسها الشعب أن هذه المؤتمرات عودة مفضوحة إلى العمل التقليدي الفاشل .

ـ إن سياسة التضامن العربي وسياسة وحدة الصف العربي سياسة تجاوزها الزمن كما تجاوزها منطق النضال العربي ، ففي مثل هذه الظروف ،يساعد التضامن العربي في تكريس الأنظمة الرجعية القائمة ويقدم لها سلاحا تضرب به الحركات التقدمية وتجهض نضال الجماهير العربية .

ـ إن الطرح التقليدي لمعركة تحرير فلسطين ،ومقررات مؤتمرات القمة التي التزمت منطقه ستؤدي في النهاية إلى تكديس الأسلحة في مختلف البلاد العربية ،يقابله إبقاء الأوضاع المتخلفة وعدم القدرة على تجاوزها وتعطيل كل مشاريع التنمية وما يخلفه ذلك من عجز عن تطوير المستوى المعيشي  للفرد العربي.

ـ إن الزمن ليس في صالح العرب على الإطلاق ،وأن كل يوم يمر تزداد فيه قوة <إسرائيل >العسكرية والاقتصادية بل أن استفادتها من الزمن يسير بشكل متصاعد بعد أن أخذت تفكر بالاستفادة من الذرة سواء في السلم او في الحرب .لذا كان لابد من التفكير بعمل ثوري حاسم يشل استفادة< اسرائيل >من الزمن ويضرب كل مخططاتها المبنية على ذلك ، إذن لابد من طرح البدء بالمعركة ،وبالطبع فإن مثل هذا الطرح يتطلب تحديدا لطبيعة المعركة وأسلوبها وأداتها ،إن الطريق الوحيدة للوقوف في وجه القوة العاتية هي حرب التحرير الشعبية ولابد لهذه الحرب أن تتخذ شكلا معينا ينسجم مع الواقع العربي ومقوماته ومعطياته ،على أن يحلل ذلك بنظرة ثورية تكشف الامكانيات الحقيقية وتتصور مستقبل تطورها ونموها ،إن معركة من هذا النوع يجب أن يخطط لها لتكون نقطة الانطلاق لا لتحرير فلسطين فقط بل لتحرير وتوحيد الوطن العربي بأسره ،وفي الحقيقة لم يبق أمام العرب إلا معركة من هذا النوع .

ـ إن العمل الذي يجب أن تقوده طلائع البعث العربي الاشتراكي بصورة رئيسية في النطاق القومي هو العمل من أجل الوحدة ،إن القوى الثورية الجماهيرية المنظمة  هي  الأداة الموضوعية التي تصنع الوحدة وتحميها وترسخها ،لذا فإن أفضل أشكال الوحدة وأرسخها هي التي تأتي حصيلة لنضال ثوري جماهيري .

ـ إن الوحدة العربية سوف تتم على مراحل ،وهذه المرحلية في تحقيق الوحدة لا تشكل خطرا على الوحدة الشاملة مادامت ناجمة عن بعض الظروف الموضوعية للنضال العربي ،وهي ليست تعبيرا عن نظريات شبه انفصالية وشبه اقليمية .

ـ إن العمل من أجل الوحدة هو منطلق نضالنا وسياستنا وعلينا تقع المسؤولية المباشرة في خلق المبادرات الدائمة التي تهيء الشروط الموضوعية لإقامتها على أسس شعبية .

ـ إن السير في التحويل الاشتراكي للمجتمع هو خطوة وحدوية وثورية في نفس الوقت لأنه يؤدي إلى ازالة المرتكزات القطرية لقوى الرأسمالية الإنفصالية ويفتح الطريق أمام الجماهير العربية الكادحة لصب طاقاتها في مجرى النضال الوحدوي .

  ـ إن الوحدة في مفهومها الديمقراطي يجب أن تأتي تتويجا للنضال العربي الثوري الموحد ،وعلى سلطة الحزب في القطر السوري أن تعمل دوما على توفير الشروط للقاء وحشد جهود القوى التقدمية في الوطن العربي .

ـ إن الوحدة العربية كبقية الوحدات القومية ،تهيء لهذه البلاد فرصا كبرى للنماء الاقتصادي والتصنيع والتقدم الاجتماعي .

ـ إن النضال من أجل الوحدة ، هو بالوقت نفسه نضال من أجل البناء الاقتصادي المتطور والمتقدم ،وهو في الوقت نفسه ،نضال من أجل تحرير جزء كبير من العالم من وطأة السيطرة الامبريالية .

ـ إن العمل الوحدوي الحقيقي في أي صفع من أصقاع الأرض يأتي في طليعة الأعمال الثورية التي تؤدي إلى قبر الامبريالية وانقاذ الإنسانية من وطأتها .

ـ إن لقاء القوى التقدمية ضرورة لابد منها لانتصار قضية الثورة العربية ،وعلى المنظمات الشعبية أن تقوم بدور رئيسي في تحقيق هذا اللقاء .

ـ إن الجهود المبذولة لتحقيق لقاء القوى التقدمية وتوحيد نضالها يجب أن ترتبط بالاستعداد الجدي لمعركة تحرير فلسطين وغيرها من المعارك القومية والتحررية ومن ثم خوضها ،ذلك أن جو المعركة وحده كفيل بالقضاء على الجوانب السلبية في واقع تلك الحركات وجعل هذا اللقاء أكثر تماسكا وصدقا .

ـ إن مؤتمرات القمة العربية  هي عودة إلى العمل التقليدي إزاء تحرير فلسطين وتضليل الشعب العربي وامتصاص نقمته ، وهي تمييع للقضية الفلسطينية ومحاولة لإجهاض ظهور أية حركة ثورية لتحرير فلسطين ، ولقد عمل ميثاق التضامن على تكريس الأنظمة الرجعية البالية من غضبة الجماهير العربية .

ـ على سلطة الحزب في القطر السوري أن تبادر إلى وضع خطة للحرب الشعبية لتحرير فلسطين ،وأن تحدد موقفها من منظمة التحرير الفلسطينية التي هي نتيجة من نتائج مؤتمرات القمة ،وبالتالي فهي غير قادرة على حمل أعباء مهمة معركة التحرير .

ـ إن إذكاء الشعور العربي في الأجزاء المغتصبة من الوطن العربي مثل اسكندرون وعربستان ضرورة للبدء بنضال من أجل استعادة هذه الأجزاء إلى الوطن الأم .

ـ إن إعادة تقييم نكسة الحزب في القطر العراقي وكشف الحقائق ضرورة لوضع استراتيجية شاملة بشأن هذا القطر .

ثالثا :في مجال السياسة الدولية :

   ملامح عامة :

 ـ انقسام العالم إلى معسكرات تبعا للظروف الدولية والحاجات الاقتصادية والروحية لدى الشعوب وهذا الإنقسام قلق غير مستقر ،يتبدل ويتغير في أزمنة السلم والحرب.

ـ انحسار الاستعمار العسكري ، بسبب :

 أـ تعاظم قوة الشعوب على مجابهة التحديات الامبريالية بشكل قوي وفعال .

ب ـ انعدام الحاجة غير المشروعة لهذه  المناطق المستعمرة بسبب وسائل الدمار .

ـ من مصلحة الشعوب المستضعفة أن تظل الصين على تحديها للإمبريالية العالمية ،لأن هذا التحدي يضعف الامبريالية عسكريا ويفقدها هيبتها الاستعمارية.
ـمن مصلحة الشعوب المستضعفة أن تستفيد من فتح الاتحاد السوفي
يتي أبوابه عليها ،ولظروف الاتحاد السوفياتي ووجهة نظره في اتباع سياسة التعايش السلمي ،اكتفى في تحديه للإمبريالية بتقديم العون المادي أو المعنوي  في الحدود التي لا تتطور إلى حرب عالمية.

ـ إن التناقض بين الصين والاتحاد السوفييتي ، أضعف من قدرة المعسكر الاشتراكي على التحدي .

ـ إن مصلحة الشعوب المستضعفة أن تكتل نفسها في أطر سياسية تساعد على كسر طوق الاستعمار وبناء بلدانها .

أساليب الاستعمار :

أولا ـ إن الدول الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة وانكلترا اتبعت أساليب متعددة لعرقلة التطور العالمي وإطالة أمد تحرر البلدان المتخلفة ، فهي :

أ ـ أعطت فلسطين لمجموعات من شذاذ الآفاق ، وأمدتها بما هو فوق طاقتها من عتاد وسلاح لتهدد الوجود العربي ، ولتضطر العرب إلى البحث عن السلاح دفاعا النفس وفي سبيل استرداد الأرض المغتصبة،  مفضلين ذلك على النماء والتطور الاقتصادي والاهتمام بالمشاريع الحيوية .

ب ـ قسمت ألمانيا ، وشبه الجزيرة الهندية .

ج ـ أقامت دولة جنوب أفريقيا ، ودولة روديسيا العنصريتين في القارة الأفريقية .

ثانيا ـ تسلل الاستعمار إلى كتلة الحياد الإيجابي ومحاولته الإفادة من هذه الكتلة في تنفيذ مخططاته .

ـ النضال ضد الاستعمار ، أخذ طابعا مستقلا ،وخاضت الشعوب في العالم الثالث ، معاركها بمعزل عن الصراعات الدولية ، وكانت حريصة دوما على عدم تصنيفها في صف أحد المعسكرات .

ثالثا ـ الدأب المستمر للدول الامبريالية من أجل السيطرة على خيرات الدول النامية وتعويق تطورها ، وحرصها على ابقاء الشعوب المستضعفة مجزأة ومقسمة إلى دويلات صغيرة .

رابعا ـ اتباع الامبريالية الدولية ، أسلوب ترويض الأحلام القومية والثورية للشعوب المستضعفة بمنامات البطولات الفردية التي يمارسها الحكام الفرديون لإبقائها متخلفة .

   ـ إن الشعوب المتخلفة التي يستطيع حكامها أن ينقذوها من ( خرافة المعجزة القيادية ) ليفتحوا أعينها على إمكانات الواقع ، هي الشعوب التي تقوى على مقارعة واقعها المتخلف بكل ما تملك من قوة وصبر وعطاء .

 ـ إن الحكام لا يجوز أن ينساقوا بأساليب الاكتفاء بضبط الأمن , وإظهار أبهة الدولة التي يحكموها , وعظمتها الفارغة متجاهلين الهوة الفاصلة بين مجتمعاتهم والمجتمعات الامبريالية والمسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتقهم لتقليص الهوة ومحوها.

ـ عندما أدرك الاستعمار أن عروشا وجمهوريات غالية على قلبه انتهى دورها المرسوم ، وجدت الامبريالية الدولية صمام الأمان في ( الثورة الاكذوبة ) و ( الثائرين المشعوذين ) حتى لا تحل الكوارث بمصالحها ، وهذا ما حصل في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ، ، ظنا منه أنه بذلك يقطع الطريق على الحركات الشعبية الثورية التي تكافح لتضع شعوبها في طريق الحرية وفي دروب التقدم والقوة .

خامسا ـ اتبعت الامبريالية العالمية أسلوب زعزعة ثقة العالم المستضعف بنفسه وتشكيكه بالأساليب الثورية التي ينتهجها لبناء نفسه ومستقبله , وذلك عن طريق تركيز جهوده وأمواله في نقاط واهنة من العالم المستضعف قابلة لإقامة السفاح الدولي فوق أراضيها ومنصرفة إلى مباذل الحياة الانسانية عن التطلع إلى المستقبل القومي والانساني الكريمين .

 سادسا ـ اتبعت الامبريالية العالمية الأسلوب الثقافي الموجه الهجين لعرقلة التطور في البلدان المستضعفة ، وتشويه مثقفي الشعوب المستضعفة واقتلاع جذورهم من التربة التي نشأوا عليها وابعادهم عن القضايا التي تعيشها شعوبهم ، وخلق ما يسمى ب ( طبقة المثقفين ) ، تصبح عالة على شعبها ، وتنقطع عن التطلعات الثورية ، تحت ستار كثيف من الانهزامية .

سابعاـ التناقض في المعسكر الامبريالي :

إن طبيعة النظام الرأسمالي وجشعه يحمل بين طياته بذور التناقض والانقسام الحتمي ، وإن بدت قدرته في كثير من الأحيان على تجاوز تلك التناقضات والحفاظ في فترات كثيرة على وحدته في صراعه مع القوى الاشتراكية النامية المعبرة عن تطور التاريخ نحو التقدم .

 ـ انعكاسات السياسة الدولية على الوطن العربي .

أ ـ انعكاسات المعسكر الامبريالي على المنطقة :

ـ الحفاظ على المصالح البترولية قبل كل شئ .

ـ دعم< اسرائيل> لتكون القاعدة الأساسية والأخيرة للولايات المتحدة والحارسة للاحتكارات الاستعمارية في المنطقة .

ـ دعم الأنظمة العسكرية والفردية في المنطقة ، واصطناع بعض الصفات التقدمية الكاذبة لإلهاء الجماهير وامتصاص نقمتها من جهة ، ولعزلها عن النضال اليومي في سبيل قضاياها مما ينقص المناعة الثورية لدى الجماهير .

ـ التعاون المشترك بين الرجعية العربية والامبريالية الأمريكية -الانكليزية .

- إطلاق السعودية في الجزيرة العربية وتسليحها لحماية المصالح البترولية في المنطقة .

 ـ تحويل الأردن إلى قاعدة رجعية وتغذية مطامح الملك حسين في السيطرة على سورية والعراق .

ب ـ انعكاسات السياسة السوفيتية على المنطقة :

ـ تنطلق السياسة السوفيتية من خلال فكرة استبعاد الحرب العالمية ومن العقيدة الشيوعية

ـ دعم الأنظمة المعادية للاستعمار ودعم الدول التي تسير في التطور اللا رأسمالي , وتعتمد الاتجاه الاشتراكي ، على أن لا يصل المد الثوري إلى مرحلة خطيرة تهدد بخوض معركة مباشرة مع الاستعمار قد تؤدي لحرب عالمية لا يريدها الاتحاد السوفيتي .

ـ إبعاد السيطرة الامبريالية عن المنطقة ،ويظهر هذا خاصة في الوطن العربي نظرا لقربه من حدود الاتحاد السوفيتي ، ولكونه مركزا استراتيجيا أساسيا في تطويق الاتحاد السوفيتي ، بالإضافة لموارده البترولية الضخمة .

ـ تأييد الحركات الشيوعية في المنطقة ، ودعم الحركات الوطنية ، اعتقادا منها بأن التحويل الاشتراكي ومكافحة الاستعمار يمكن أن يتم عن غير طريق الأحزاب الشيوعية .

ـ تغيير الموقف من قضية فلسطين من خلال وضوح الحركة الثورية العريية كحركة  اشتراكية مناهضة للاستعمار في المنطقة وقادرة على الصمود في وجهه.

ـ محاولة منع الحركات الثورية في الوطن العربي من التشدد والتزمت والأخذ بمنطق الصين .

ج ـ انعكاس سياسة الصين الشعبية :

- تميل الصين إلى الالتزام المبدئي في سياستها الخارجية وتتجه إلى التشدد الكامل في المواقف ضد الاستعمار وضد الانتهازية السياسية ويتجلى هذا في موقفها الواضح الصريح من قضية فلسطين .

ـ تدرك الصين أنها لا تستطيع أن تحل في مجال التسليح والمساعدة الاقتصادية للدول العربية ولهذا فهي لا تطمح إلى دفع الدول العربية التقدمية لمعاداة الاتحاد السوفيتي وانتهاج سياسة التزمت والتشدد دون مقومات واقعية .

د ـ دول عدم الانحياز :

ـ محاولة هذه المجموعة ، عدم استغلالها من أي من المعسكرين ، والحفاظ على الهوية الوطنية لدولها .

ـ موقف الحزب وسلطته .

ـ النضال مع شعوب العالم لالغاء القواعد العسكرية وجلاء كل الجيوش الأجنبية.

ـ محاربة الأحلاف الاستعمارية

ـ وقف سباق التسلح العالمي .

ـ العمل ضمن مجموعة دول عم الانحياز ، لدفعها في الطريق الواضح للنضال ضد الاستعمار وتحويلها إلى قوة فاعلة تؤثر بشكل جدي في الأحداث الدولية لمصلحة الحرية والتقدم .

ـ التعاون مع كل الدول الاشتراكية وتعزيز الصلات معها .

ـ الوقوف في وجه الاحتكارات الرأسمالية والدولية ومحاربتها لمنعها من السيطرة على العالم .

ـ اللقاء مع كل القوى والحركات التقدمية في العالم .

ـ العمل الدائب على فضح الحركة الصهيونية في العالم وارتباطها مع الاستعمار .

ـ الاستفادة من مواقف الاتحاد السوفيتي من أجل تشديد الهجمات على الاستعمار .

ـ الاستفادة من مواقف الصين المبدئية بالنسبة لقضية فلسطين والوحدة العربية في جميع المجالات .

3ـ في مجال التنظيم الحزبي :

ـ اعتبار مقررات المؤتمرات الحزبية ( القومية والقطرية و خاصة مقررات المؤتمر القومي السادس وبعض المنطلقات النظرية الصادرة عنه ) بدءا وأساسا يجب العمل على تعميقها وتطويرها واغنائها من خلال النضال والعمل الدؤوب لتتكامل في إطار نظري يستوعب ويجاري تطلعات الجماهير العريية في بناء المجتمع الاشتراكي العربي الموحد .

ـ الإخلاص الكامل في التطبيق للديمقراطية المركزية ضمن الحزب والحرص على المؤسسات الحزبية واحترامها ومنع كل تجاوز لها أو محاولة تخطيها والالتزام الكامل بالمقررات الصادرة  عن المؤتمرات الحزبية وتنفيذها بحزم ودون تردد .

ـ التزام الصراحة التامة والوضوح  الكامل مع القواعد الحزبية والجماهير الشعبية ومنظماتها واطلاعها على كل الظروف والملابسات الداخلية والعربية والدولية وشرح المصاعب والعقبات التي تعرقل السير الحثيث نحو الأهداف القومية والاشتراكية للمساهمة في إيجاد الحلول والنضال لتحقيقها .

ـ الوقوف بحزم ضد الوجاهة العقائدية لبعض الحزبيين التي تستغل كجواز مرور للوصول إلى منصب معين ، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بنزع كل المنافع المادية التي لحقت بالرفاق الحزبيين خلال المرحلة الماضية .

  كان توحيد رؤية القيادة القطرية المؤقتة .حول الأزمة والمهمات المطروحة أمامها في كافة المجالات ، وتوضيح الصعوبات التي تقف عائقا أمام تحقيقها ، شرطا ضروريا لوحدة القيادة والحزب ، وكانت هذه الرؤية هي العمود الفقري للتقارير التي ستقدم إلى المؤتمر القطري أوالقومي في دورته الاستثنائية .ولكن الموقف المتعنت والرافض الذي وقفته القيادة القومية من دعوة أي من المؤتمرين ، أخر تقديم التقارير الى حين انعقاد المؤتمر القطري بعد حركة 23 شباط .

   ولقد تبين بعد حركة 23 شباط ، أن تصورات القيادة للمرحلة القادمة لم تكن قد مست حتى مسامع بعض أعضائها ، وانما كانوا يعملون لتحقيق مطامحهم الشخصية ، وأن لهم حساباتهم الخاصة ، كما أنهم بدأوا يتململون من عبء النضال الواجب قيادته ضد الامبريالية والصهيونية ويدعون االى الاستكانة ، وبدل النضال بدأ هذا البعض يفكر في السلطة ومغانمها وما تجلب من ثراء وجاه

دواعي التفكير بالعمل العسكري

كان جهد القيادة القطرية المؤقتة ، منصبا نحو ترسيخ دور المؤسسات الحزبية صاحبة الصلاحية في حل الأزمة ولم يكن في توجهاتها اللجوء إلى أساليب بديلة ، ولكن الأمور على مستوى الحزب والحكم أخذت تتدهور بشكل متسارع ، كما كانت أجواء القيادة القومية تتأزم باستمرار ووجهات نظر أعضائها تتباين وتتباعد ، كما بدأت الانقسامات تظهر بين أبرز أعضائها ،وأخذ البعض منهم يشكك بنوايا البعض الآخر ، وكان الأستاذ ميشيل يرى أن مناورات اللواء عمران تعطل كل امكانية لحسم الأمور ويتهمه بأنه يعمل على تعزيز الانقسام داخل صفوف القيادة ويتهم الأستاذ صلاح بأنه لم يكن يعرف الهدف من قرارات 21/12 اذ كان يصر على أن تصحيح الحكم مفتاح لتصحيح الحزب وأنه لم يطلعه على مضمون المقالات التي كتبها في جريدة البعث ولا على توقيت نشرها ، وفهمت وكأنها أيديولوجية تيار القيادة القومية – وكانت عودة الى القديم متجاهلا ما طرأ من تطور على فكر الحزب – كما كان الأستاذ ميشيل يتهم الأستاذ صلاح ومجموعته بأنهم غارقون في مشاكل الحكم وبعيدون عن ادراك مناورات اللواء عمران الذي استطاع لفرط تأثيره عليهم أن يشل كل قدرة على التمييز والنقد لديهم تساعدهم على رؤية المخاطر التي تسير فيها الأمور .

   لقد انتقلت الأزمة الى داخل القيادة الحزبية الموسعة ، وأدى ذلك الى عجز هذه القيادة وفقدان قدرتها على ادارة الأزمة وحلها ، ورغم ذلك لم يكن لبعض الأعضاء ذوي التأثير فيها _ الآستاذين ميشيل وصلاح والدكتور الرزاز والفريق أمين واللواء عمران- من هم سوى طرح تصفية ممن يسمونهم بالمنحرفين في الحزب والانتقام من أبرز رموز الاتجاه المخالف لهم ، كل ذلك تحت شعار عشش في عقولهم : ( تصحيح الحزب وإبعاد المنحرفين عنه وعن مؤسسات الحزب والحكم ) ، وظهرت بوادر عديدة تشير إلى ذلك من أبرزها ، كما نوهت ، رفض كل المقترحات التي تقدم بها الرفاق الذين يمثلون الرأي الآخر ، وأهمها دعوة المؤتمر القومي الثامن الى عقد دورة استثنائية ، واصرارهم على تغيير موازين قوى واقعية تلازم الأزمات وتبرز أثناءها ،وخاصة في القوات المسلحة .كما طرح ،وبإصرار ،تغيير بعض قيادات الفروع وفصل كل عضو يقف في موقف غير ما تريده القيادة القومية .

بدأت القيادة القومية محاولاتها لتبديل مواقع بعض الحزبيين العسكريين بقصد اضعاف الرأي الآخر وكان كل من الفريق أمين الحافظ  واللواء محمد عمران ،يطرح ما يجد فيه مصلحته وتدعيم مواقعه ، ويقول الدكتور الرزاز (كنا ننتظر أن نتسلح بعمران وإذا بعمران ينقلب علينا ، وبدلا من أن يعمل على تنفيذ إرادتنا يبني هو لنفسه بناءه الخاص ويجعل هدفه الأول إضعاف الفريق وقواته متهما إياه بأنه هو الذي يهئ للإنقلاب وأصبح كل اقتراح يقترحه أو إجراء يتخذه ، يجد المعارضة الفورية من الفريق ولو كانت لمصلحتنا ) ويضيف ( كنا نتخبط في التناقضات فمن جهة تناقض الفريق أمين الحافظ ، مع اللواء حافظ الأسد ، ثم تناقض الاثنين مع اللواء عمران ومن جهة ثانية تناقض أكثرية القيادة مع اللواء حافظ والدكتور إبراهيم ممثلي القطريين في القيادة ، ومن جهة ثالثة خلاف أكثرية القيادة مع الفريق أمين الحافظ وخشيتها من تسلطه أيضا ومن حلوله العسكرية .) (15)

في حمأة هذا الصراع الداخلي في الحزب، والتسيب في السلطة ، طرح شعار ( بطيخ يكسر بعضه ) من قبل قسم كبير من المواطنين ، وبعضهم ينتمي إلى طبقات لها مصلحة في الثورة ، وهذا دليل على أن شرعية حكم الحزب قد اهتزت في ضمير الشعب .

كانت هذه الأجواء السائدة ،دافعا لبعض أعضاء القيادة القطرية المؤقتة ، من عسكريين ومدنيين ، ومن إحساسهم لما يتهدد الحزب والثورة من مخاطر ، كانت دافعا لأن يطرحوا ضرورة دراسة الاختيار الآخر ، أي (العمل العسكري) بعد أن سدت كافة السبل الحزبية من قبل القيادة القومية وكان أطراف هذه القيادة ، كل منهم ، يعد العدة للقيام بإنقلابه  وبالتوازي مع الإصرار على اتباع الأساليب الحزبية حتى اللحظة الأخيرة ، بدأت القيادة القطرية المؤقتة بدراسة اخبيار العمل العسكري وكان ذلك قي بداية الاسبوع الثاني من شهر شباط1966 .

   كان أول ما استوقف القيادة القطرية المؤقتة وأخذ حيزا من النقاش ،هو أن حركة عسكرية قد تكون حلقة بداية في سلسلة حكم الحزب وبالتالي قد تفتح باب الانقلابات العسكرية ، الذي جاءت ثورة الثامن من آذار لتوصده إلى الأبد وأن الجيش الذي نجهد لتحويله إلى جيش عقائدي يجب أن ينأى عن التفكير بمثل ذلك ، وأن ينصب جهده على  تنفيذ ما يخصه من أهداف الثورة وعلى إلتزامه العميق بمصالح الطبقات الكادحة .

   وكان ثاني ما استوقف القيادة هو التفكير بوحدة الحزب القومية ، واتجه الرأي بأن وحدة الحزب القومية تكمن في مصلحة الحزب والثورة ، التي هي مصلحة الأمة العربية وجماهيرها المكافحة . لذا يجب بعد العمل العسكري ، إذا حدث ،العمل مباشرة على تشكيل لجنة تحضيرية ، يكون أعضاؤها مرشحين من قيادات المنظمات الحزبية في الوطن العربي والخارج ، مهمتها الإعداد لمؤتمر قومي منتخب ، وذلك انطلاقا من الشعور بالمسؤولية التاريخية للحفاظ على وحدة الحزب وعدم تشتته ، وإيمانا لا يتزعزع بحقيقة الحزب القومية .

   وكان ثالث ما رأت القيادة القطرية المؤقته ضرورة بحثه هو : هل العمل العسكري سيكون ترسيخا لثورة الحزب ، وينقلها إلى مواقع جادة في البناء الثوري ومكافحة الامبريالية ، أم هو نهاية الثورة ؟ ولقد لخص العقيد عبد الكريم الجندي  جوهر ما دار من نقاش ، في وصيتة ، يتساءل العقيد عبد الكريم : هل هذه نهاية الثورة ؟ قد تكون نهاية الثورة وقد تكون بدايتها . قد تكون النهاية إذا آمنا بحتمية انتصار الاستعمار والصهيونية  والرجعية والعملاء والمخادعين ، وهذا لا يمكن أن يكون طبيعيا في تاريخ الشعوب ، وقد تكون بدايتها ، لأنها في الأصل لم تكن ثورة بكل معنى الكلمة ، لقد كانت انقلابا عسكريا  يهدف للتحول إلى ثورة شعبية وكانت هذه هي الفكرة التي ناقشناها قبل الثامن من آذار بيومين ، وكان هذا هو نفس السؤال الذي عرضته قبل 23 شباط ).

   وكان رابع ما أكدت عليه القيادة المؤقتة ، هو دعوة المؤتمر القطري الثاني ، فورا ، بعد الحركة لانتخاب قيادة قطرية .

  وتمهيدا لتنفيذ الصيغ المقترحة حول فصل السلطات العسكرية عن المدنية ، طلب إلى الرفاق العسكريين في القيادة المؤقتة الذين يفضلون اختيار العمل السياسي ،وضع استقالاتهم تحت تصرف القيادة  ، وتقدم كل من صلاح جديد ، عبد الكريم الجندي ، محمد رباح الطويل باستقالته ، بينما رغب الباقون العمل في ميدان الجيش ، ولكن بعض أعضاء القيادة المؤقتة دهشوا لعدم وضع سليم حاطوم استقالته تحت تصرف القيادة ، وتوجهوا إليه طالبين منه أن يختار العمل السياسي ، لان رتبته الصغيرة لا تتناسب مع الأدوار التي كلف بها من جهة ، ولا مع المناصب التي تقلدها كعضو في القيادة القطرية وفي اللجنة العسكرية، وحين أكد سليم حاطوم التزامه ، في حدود رتبته ، بالانضباط بعمله العسكري ، عاد محمد رباح الطويل وأكد عليه ضرورة اختيار العمل السياسي ،وقال له : ( يا سليم اسمع مني واتخذ من العمل السياسي حرفة لك ، وانني أشك بكل ما قلته ، وكن على ثقة رغم ما بيننا من صداقة ومودة قديمتين بأنك إذا حاولت التمرد أو الانقلاب ، سوف أكون أول من يقف في وجه محاولتك تلك ) .  

 تتالت اجتماعات القيادة القطرية المؤقتة بشكل يومي لبحث الخيار العسكري وتقدير الموقف من كل جوانبه، ولكن بعض الأعضاء لم يكن بعد قد حسم أمره للقيام بعمل عسكري ،ومنهم اللواء حافظ الأسد ، بينما كان رأي آخرين ، ضرورة الحسم بسرعة ولا ضير من تجاوز رأي اللواء حافظ  ، وينطلق هؤلاء من فرضية بأن موقفه سيكون إلى جانب القيادة بينما كان رأي أكثرية أعضاء القيادة ، ويمثلهم اللواء صلاح جديد ، ضرورة الاجماع الكامل من كل أعضاء القيادة حول هذا الأمر ، ولا يجوز تجاوز أي رأي أو إهماله ، وهذا شرط ضروري وهام لوحدة القيادة مستقبلا .

    كان التقدير بأن أغلب القطعات العسكرية والفروع الحزبية المدنية والعسكرية تقف الى جانب القيادة ،وكان تقييم القطعات العسكرية كالتالي : قطعات الجبهة ، مؤيدة ، باستثناء الشرطة العسكرية وكتيبة هندسة في مدينة القنيطرة وهاتان الوحدتان لا فاعلية لهما . الوحدات العسكرية في قطنا ، مؤيدة . الوحدات المحيطة بدمشق ، مؤيدة ، باستثناء الشرطة العسكرية ، وهذه الوحدة يمكن السيطرة عليها ومنعها من التحرك . اللواء 70 غير مسيطر عليه ، ووضعت خطة من قسمين للسيطرة عليه ، 1 – شل حركته من قبل فوج المدفعية الذي يقوده عضو القيادة محمد رباح الطويل ويعسكر بمنطقة اللواء ، 2- ادخال عدد من الضباط الذين لا يقودون قطعات عسكرية ليستعين بهم آمر اللواء العقيد أحمد المير محمود ، اذا احتاج لهم في قيادة كتائب اللواء ، اضافة الى دعم جوي لمراقبة تحرك اللواء في حال فشل السيطرة (17). الوحدة العسكرية في السويداء ، مؤيدة . الوحدات العسكرية في القطيفة ، مؤيدة ، باستثناء آمر اللواء . موقع حمص وقطعاته العسكرية ، مؤيدة ، باستثناء آمر اللواء ومدير الكلية الحربية . القوى الجوية ، مؤيدة . القوى البحرية وفوج المدفعية الساحلية ، مؤيدة . أما الوحدات الموجودة في مواقع حماه وحلب والمنطقة الشرقية ، فهي وحدات غير فاعلة ويمكن التعامل معها بسهولة في حال عدم تأييد أي منها . 

    اتخذت لقيادة القطرية المؤقتة قرارا  بضرورة تكثيف نشاط أعضائها بين قيادات التنظيم الحزبي ، وشرح ما آلت إليه الأمور ، وتلمس آرائهم حول الممكنات التي يرونها للتخلص من هذا الوضع الذي آل إليه الحزب والسلطة والذي يزداد تأزما ، ويتدهور بسرعة حتى بدأت تظهر بوادر الصدام في القوات المسلحة ، وأخذت ظاهرة الأسرى تتفشى بين القطعات ،كما تفشت ظاهرة تسيير الدوريات العسكرية للتحرش والمراقبة واثبات الوجود ، هذه هي حالة الجيش الذي يفترض فيه أن يكون متماسكا منسجما ، كما بدأت المنافسات والأحقاد تتعمق بين البعثيين ، أكثر فأكثر ، والكل يضع يده  على الزناد نتيجة التباين في فهم واستيعاب عقيدة الحزب ونتيجة سيادة مفاهيم خاصة بعيدة كل البعد عن المفاهيم الحزبية والمنطق الحزبي ،وهذا ما أدى إلى فقد المناعة ، واصبح المناخ ملائما لكل متصيد يجيد حبك الشائعات وتشويه الحقائق.

انتصار منطق الحسم العسكري وتنفيذ الحركة

    جاءت الحلول الفوقية والبعيدة عن أي منطق حزبي ، ولا هدف لها إلا تحقيق الرغبة في المجابهة والمجابهة  فقط ، فقد اتخذت القيادة القومية قرارا بنقل الرفيقين سليم حاطوم وعزة جديد من قطعتيهما العسكريتين من جهة ، ومن جهة ثانية تهديد كل من يحضر الدورة الاستثنائية للمؤتمر القطري ـ الواجب عقدها بتاريخ 25 شباط 1966 وفق أحكام النظام الداخلي - بالطرد من الحزب ، كما أطلقت ، أيضا ، تهديدات باعتقال الحضور  ، وهذا يعني الوصول إلى نهاية الشوط في إبعاد الرأي الآخر والتخلص منه ، ومن جهة ثالثة ، كان كل من الفريق أمين الحافظ واللواء عمران يحشد مؤيديه للقيام بانقلاب لصالحه، ومن جهة رابعة ، كانت  القيادة تخشى من انتقالٍ المجادلة اللفظية والتحديات الكلامية الى الاقتتال العسكري داخل القطعات في حال تأخر حسم الأزمة .

   اجتمعت القيادة القطرية المؤقتة ليل يوم 16 شباط 1966 في منزل عضو القيادة فايز الجاسم وكان كل أعضاء القيادة قد وصلوا إلى نتيجة مآلها أن الحل الوحيد المتبقي أمام القيادة هو العمل العسكري لانقاذ الحزب والثورة والمحافظة على مصيرهما ( حسب منظورنا ) وهو ،وان كان حلا غير نظامي ومخالفا لتقاليد الحزب الديمقراطية الا أنه يأخذ مبرراته من التزامه المطلق بمقررات مؤتمرات الحزب والنضال الصادق لتنفيذها ، ومن العزم على احلال الرابطة القومية مكان جميع الروابط الاقليمية والطائفية والعشائرية ، ومن الفهم الواضح للثورة بأنها ادراك دقيق للمصالح الأساسية للشعب واستشفاف كل ما يمكن أن يدعم هذه المصالح .

    كانت القيادة ، بعد اختيار الحسم العسكري ، قد وافقت على ترشيح الرفاق العسكريين من أعضاء القيادة المؤقتة، لكل من اللواء حافظ الأسد لتولي مهام وزير الدفاع ، ورغب أن يكلف بتسييرها ، والعقيد أحمد سويداني لمنصب رئيس الأركان بعد ترفيعه ، يوم الحركة ، إلى رتبة اللواء ، وفي هذا الاجتماع ، أعيد تقييم الوضع في الجيش والقطاع المدني وكانت النتيجة ذاتها ، أي أن الوضع يميل بشكل كبير لصالح القيادة وتقرر القيام بالعمل العسكري في نفس الليلة ، وكلف الرفاق العسكريون بإجراء اتصالاتهم ، كما كلف الرفاق المدنيون بكتابة مشروع بيان يوضح سبب اللجوء الى اختيارالعمل العسكري على أن تجتمع القيادة ثانية  الساعة العاشرة ليلا في نفس المكان ، ولقد تم كتابة البيان الذي سيذاع على الشعب ، كما كتب بيان آخر موجها إلى الحزب في الوطن العربي .

 في الإجتماع الثاني من نفس الليلة تبين أن هناك صعوبة في تهيئة اللواء المرابط في حمص ، في هذه الليلة نظرا لعدم إمكانية تبليغ الرفاق العسكريين في هذا الوقت الضيق ، لذا تم تأجيل التحرك العسكري ، وحسم الأزمة إلى وقت لاحق ، على أن : 

  ـ يقوم أعضاء القيادة القطرية المؤقتة، وبشكل إفرادي أيضا ، بزيارة الأمين العام للقيادة القومية وبذل المساعي الأخيرة معه ،عسى أن يقتنع بضرورة  العودة الى حل الأزمة ،عن طريق المؤسسات الحزبية ذات الاختصاص .

ـ تكثيف الاتصال بقيادات فروع الحزب المدنية والعسكرية ، ومع قيادات المنظمات الشعبية ، لمعرفة وجهة نظرها في الحل البديل ، بعد فشل كل محاولات الحل عن طريق المؤسسات الحزبية

   كنت ممن زار  الأمين العام في منزله ، وفي غرفة مكتبه ، وبعد سماع وجهة نظره ، واصراره على الآراء ذاتها ، والتي تهدف إلى التصفية ، تحدثت مبينا له ، مخاطر الإقدام على ما تنويه القيادة القومية ، وأن المراد تصفيتهم، وفق منظوره ، يعتبرون الحزب حزبهم ، ولا يسمحون العبث بمصيرهم إلا من خلال المؤسسات الحزبية ذات الصلاحية في حل الأزمة ، وكان كل الرفاق القياديين الذين اجتمعوا معه يؤكدون وجهة النظر هذه ويحملونه ، بصفته الأمين العام ، المسؤولية الأكبر عما يمكن أن يحدث  .(18)

   توزع بعض الرفاق أعضاء القيادة مهمات الاتصال بالفروع ، وقمت أنا والرفيق مصطفى رستم بزيارة إلى محافظتي حماة وحمص ، يومي الاثنين والثلاثاء ، 21-22 شباط وفي حماة تم تبادل الرأي مع الرفاق في قيادة فرع الحزب ، ونوقشت الأزمة من كافة مناحيها ، كما نوقش الوضع في الحزب والسلطة مطولا ، وتم ابلاغهم بكل الاتصالات والجهود التي بذلت حتى الآن وبالطريق الذي أصرت القيادة القومية على سدها نهائيا أمام الحلول المقترحة وأدرك الرفاق في قيادة فرع حماة التوجهات البديلة المحتملة للقيادة ،وفي حمص طرحنا مع الرفيق نور الدين الأتاسي ( كان الدكتور نو الدين قد استقر في حمص منذ أن قبلت القيادة قرار الحل ) كل ما قررته القيادة ، وأعلن تأييده المطلق لأي إجراء تقوم به ، واقترحنا عليه التعرف إلى وجهة نظر الرفاق القياديين في فرع حمص .

 عدت أنا والرفيق مصطفى إلى دمشق ، ووصلنا حرستا حوالي الساعة الخامسة مساء، وبالصدفة التقينا بالرفيق سليم حاطوم ـ عائدا من ثكنته ، فاستوقفنا وأبلغنا عن اجتماع سيعقد الساعة الثامنة مساء في بيت الرفيق جميل شيا ، (الفريب من النصب التذكاري لعدنان المالكي).

اجتمعت القيادة بكامل أعضائها ، في الوقت المحدد ، وعرض كل رفيق نتائج اتصالاته ، وتم تقدير الوضع حزبيا وشعبيا ، وعسكريا ، كما تم توضيح سوء الحال الذي آلت إليه الأمور ،وخاصة بعد صدور قرار نقل الرفيقين عزة وسليم ، وتقرر بالإجماع ، ضرورة الحسم العسكري بعد منصف هذه الليلة الأربعاء 22/23/شباط ووقع كل أعضاء القيادة على وثيقة الحسم العسكري .

تم تكليف الرفيقين عزة وسليم بتنفيذ المهمة ،وتحريك قطعاتهما لمحاصرة قصر الضيافة الذي حشد فيه الفريق عددا كبيرا من العسكريين وكما هائلا من الأسلحة ، وقصرالروضة ، وهو المقر السكني للفريق أمين الحافظ ، ومبنى الشرطة العسكرية ، كما تم تكليف الرفيقين حافظ الأسد وأحمد سويداني ، تبليغ قرار القيادة الى الرفاق في القطعات ، ، وتكليف الرفيق محمد رباح الطويل بمؤازرة الرفيق أحمد المير محمود قائد اللواء السبعين ، وفق الخطة المقررة ، وتم تكليف الرفيق محمد الزعبي ، السفر إلى السويداء ، لتبليغ آمراللواء هناك بقرار القيادة ،كما تم تكليف الرفاق أحمد سويداني ومحمد عيد عشاوي ومصطفى الحاج علي الدخول الى مكتب وزير الدفاع اللواء محمد عمران حين بدء التحرك – كان ينام ليليا في المكتب رغم تقيم استقالته الى القيادة - ، وجميل شيا الدخول إلى مبنى الإذاعة  بالتعاون مع حراسها من سلاح المغاوير ، ومروان حبش الدخول إلى مبنى القيادة القطرية ،( وكان في نهاية شارع المالكي مقابل التمثال، ) واللواء حمد عبيد الذهاب إلى القطعات في قطنا . واالمقدم مصطفى طلاس الدخول إلى اللواء المعسكر في حمص والعقيد عبد الكريم الجندي الدخول إلى معسكر القطيفة وتقرر عدم الموافقة على الطلب الملح للرفيق صلاح جديد الدخول الى اللواء سبعين ، للحاجة إليه في مقر تواجد القيادة .

 انفض الاجتماع وانطلق كل عضو من أعضاء القيادة  للقيام بما كلف به بينما بقي البعض الآخر في المنزل ، حتى الموعد المقرر للتنفيذ.(19)

   في الساعة الثانية عشر ليلا ،قمت بنقل الرفيق حمد عبيد إلي منزله في جادة الخطيب لارتداء بزته العسكرية ثم عدت وإياه إلى منزل الرفيق شيا ولقد طلب  مني أن أرشحه إلى منصب وزير الداخلية بعد أن تم تكليف الرفيق حافظ الأسد بوزارة الدفاع ،لأنه ربما لا يكون حاضرا في جلسة تشكيل الوزارة ، ومن هناك توجه الى معسكرات قطنا . بينما بقي في المنزل كل من الرفاق صلاح جديد ، ، إبراهيم ماخوس ، فايز الجاسم ، مصطفى رستم ، وفي الساعة المحددة للتحرك ،وصلت قوات المغاوير بقيادة الرفيق حاطوم أولا، تبعتها قوة مدرعة بقيادة الرفيق عزت جديد ، وكانت التعليمات صارمة وواضحة بعدم إطلاق النار إلا  دفاعا عن النفس، ولكن قوات المغاوير فوجئت باطلاق نيران غزير جدا من مبنى قصر الضيافة ووزارة الخارجية ، مما أوقع عددا من الضحايا، لم يكن في الحسبان.وتبين أن الرفيق أمين الحافظ قد كدس كميات كبيرة من الآسلحة المتنوعة وحشد عددا من الجنود يفوق مرات ومرات ما يحتاجه لحراسته ،وربما كان سيستخدمهم في تحركه العسكري ،وذات الشىء كان في مقر سكنه ، ولذلك ،اضطرت المدرعات الى اطلاق مدافعها لإسكات مصادر النيران في قصر الضيافة ومنزل الرفيق أمين الحافظ ، مما أدى إلى إصابة بعض من أفراد أسرته بجروح بسيطة ، ونفذت المهمات الأخرى التي كلف بها بقية الرفاق،بدون أية عوائق أو مقاومة تذكر ، ،ودخل الرفاق سويداني ، عشاوي ،الحاج علي مكتب الوزير بعد استئذانه بالدخول ،وأدرك الرفيق عمران ما حصل وكان ذلك متزامنا مع تحرك  القوات ،وبادرهم قائلا : نصحناهم(أي أعضاء القيادة الموسعة )بعدم إجراء تنقلات وحذرناهم من العواقب ولكنهم أصروا على ذلك .

   قمت بدوري ، بالدخول إلى مبنى القيادة القطرية ،وبعدها قمت بجولة في شارع  (أبو رمانة) والتقيت مع الرفيقين عزة وسليم .اللذين كانا ما يزالان يصدران الأوامر إلى قواتهما لاسكات مصادر النيران ، وأبلغاني بأنهما يأملان بعد وقت قصير بانتهاء العملية  ، وعدت إلى منزل جميل  شيا وأخبرت الرفيق صلاح جديد وبقية الرفاق بذلك ،(20) وبعد قليل غادر الرفيق صلاح المقر ، إلى مبنى وزارة الدفاع بناء على طلب الرفيق حافظ الأسد والرفيق أحمد سويداني  ،لمساعدتهما  في الاتصال مع القطعات العسكرية ولان بعض الرفاق في هذه القطعات .يريدون سماع صوته وتلقي الأوامر منه .

  كانت الهواتف مفصولة من مركز الاتصالات عن منطقة أبو رمانة والمالكي ،حيث يقع مبنى القيادة القطرية ، بناء على تعليمات الأركان العامة ، فاتصلت بالهاتف الرباعي مع الرفيق صلاح وطلبت منه إصدار أوامر لإعادة الربط الهاتفي  ليتسنى لي الاتصال مع قيادات الفروع  ،   وما أن أنبلج الفجر وأذيع البيان في النشرة الصباحية الأولى حتى بدأت هذه القيادات اعلامي عن تأييدها للحركة .   

ولابد من التنويه أن القيادة القطرية المؤقتة ، قد قررت إذاعة بلاغ باعتقال عدد من القياديين :أمين الحافظ ـ ميشيل عفلق ـ منيف الرزازـ محمد عمران ـ منصور الأطرش ـ صلاح البيطار ـ شبلي العيسمي .وذلك تفاديا لوقوع أي صدام عسكري بين الرفاق أ و التقليل من احتمالاتهـاـ كما نص البلاغ ذاته على أن المعتقلين سيقدمون للمحاكمة أمام محكمة حزبية خاصة لمحاكمتهم على ما اقترفوا بحق الحزب والثورة.

    اجتمعت القيادة القطرية المؤقته فور تنفيذ العملية وقررت تسمية الدكتور نور الدين الأتاسي رئيسا للدولة ،÷ وتسمية الدكتور يوسف زعين رئيسا للوزراء وضمت هذه الوزارة ، لأول مرة في تاريخ سورية ، وزيرا يمثل الحزب الشيوعي السوري ، اضافة الى وزراء ناصريين واشتراكيين ومستقلين .

 كما تمت دعوة المؤتمر القطري الثاني ، وكانت صلاحيته ما تزال قائمة ، لعقد دورته الاستثنائية الثالثة في 10 آذار1966 ، وحضر هذه الدورة الأكثرية المطلقة ، وقاطعها أنصار القيادة الموسعة وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد ، وانتخب المؤتمر في نهاية دورته ، قيادة قطرية جديدة ، من : نور الدين الأتاسي – صلاح جديد – يوسف زعين – حافظ الأسد – محمد الزعبي – عبد الكريم الجندي – جميل شيا – مصطفى رستم – محمد رباح الطويل – مروان حبش – محمد عيد عشاوي – فايز الجاسم – ابراهيم ماخوس – أحمد سويداني – حبيب حداد – كامل حسين . وكان باكورة قراراتها البدء باتصالات مع المنظمات القومية للحزب من أجل تشكيل لجنة اتصال قومي مهمتها الاعداد لمؤتمر قومي للحزب .

   وفي الختام ، يمكن القول :

   أن السؤال الأساسي ، ليس هو من أسس البعث ؟ فهذا ينسحب الى زوايا الدراسات التاريخية ، ولكن السؤال كان ولا يزال منصبا على من سيحقق البعث ،؟ فهو وحده الذي يجب أن يرقى الى موقع الصدارة وأن يستمر في النضال من موقعه هذا : انها الأجيال المتعاقبة التي تستقر المبادئ في ضمائرها وتظل محورا لكل فعالياتها بغية تحقيق مستقبل مشرق لأمتها ولكل شعوب العالم .

   إن قدوم حكم جديد يقتضي وجود أفكار جديدة وممارسات متلائمة مع هذه الأفكار وأن القيادة القطرية المؤقتة كمؤسسةـ باستثناء بعض أفرادها كما تبين لاحقا وكما نوهت سابقا ـ فهمت الثورة بأنها وعد غير محدد ، وشكل متميز للتغيير ، فهمت الثورة أنها رحم لتاريخ جديد ، ويجب الحفاظ على حيويتها وقدراتها بشكل دائم .

   إن القيادة القطرية المؤقتة التي قادت العمل العسكري صبيحة 23 شباط ، وانطلاقا من هذا الفهم كان لديها رؤية واضحة، ومنطلقات إيديولوجية بينة ،ويشاركها في نلك الأغلبية العظمى من قواعد الحزب ، وقياداته ، ولقد كانت  الآمال والطموحات كبيرة في إمكانية المساهمة في خلق واقع عربي جديد يفرض نفسه على القوى الكبرى من اجل استعادة كامل حقوق الأمة العربية في كل أقطارها، والانتصار لحركات التحرر في كل أنحاء العالم .

 

                                                                                 مروان حبش

 

الهوامش

(1)   لم يحضر مندوبون عن قطر سورية هذا المؤتمر بسبب حل الحزب

(2)   ورد ذلك في نشرة للقيادة القومية صدرت في كانون الثاني 1960 .

(3)  تلقى اللواء عمران هذه المكالمة في مكتبي بمبنى البرلمان الذي اتخذنا ، يوم 11/تشرين الثاني 1965 ، من بعض غرفه مقرا مؤقتا للقيادة .

(4)  كانت اللجنة العسكرية تضم :  أمين الحافظ ، محمد عمران ، صلاح جديد ،  حافظ الأسد ،  عبد الكريم الجندي ، أحمد المير محمود ، عثمان كنعان ، منير الجيرودي ، حمد عبيد ، موسى الزعبي ، أحمد السويداني ، توفيق بركات< عين ملحقا عسكريا في الهند عام 1964 > ، حسين ملحم ، محمد رباح الطويل ، سليم حاطوم ، مصطفى الحاج علي .

(5)  كنت رئيس لجنة النظام الداخلي التي أوصت بهذه التعديلات ، ولقي بعضها معارضة من مؤيدي الأستاذين ميشيل وصلاح ، حتى أن ، رئيس المؤتمر ، منصور الأطرش ، نادى بصوت مرتفع ، قائلا : ( يارفيق مروان ، حاجي تمرر علينا تعديلات في هذا الوقت المتأخر من الليل ، وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل ) ، وأقر المؤتمر بأكثرية كبيرة ، التعديلات التي طرحت عليه .

(6)  أثناء وصولي الى مبنى قصر الضيافة لحضور اجتماع القيادة القطرية ، التقيت بالمقدم حسين ملحم وكان وقتها قائدا للشرطة العسكرية ، وطرح علي ، كما كان قد طرح على غيري من أعضاء القيادة ، رغبته في أن يطرح اسمه كرئيس للأركان .

(7)   ، (8) التجربة المرة للدكتور الرزاز 0

(9)  كنت قد رافقت أنا ومصطفى رستم الأمين العام منيف الرزاز ،للقيام بجولة حزبية الى فرعي حلب وإدلب في 7 تشرين الثاني 1965 ،وفي اجتماع حزبي مع القواعد الحزبية بفرع حلب ،تحدث بما يخالف الواقع ،ورد عليه الرفيق مصطفى رستم ،مما اضطره إلى سحب أقواله ،أما في إدلب فإنه امتدح التجاوزات غير القانونية التي كان أعضاء قيادة الفرع قد ارتكبوها تجاه المواطنين ،ووصف تلك التجاوزات بأنها ثورة حقيقية ضد الإقطاع ,ووجدت نفسي أرد عليه قائلا له : يارفيق ،إن حكم الحزب سن التشريعات اللازمة وعلى المؤسسات الحزبية أن تراقب تنفيذها لا أن تتصرف وفق أهوائها ،ومن يومها ،أصبح الود مفقودا بيننا ،وبعد استفحال الأزمة ، ، وفي تقرير قدمه للقيادة القومية ، وصف حزبيي ادلب بالمتسلطين على الشعب .

(10)التجربة المرة للدكتور الرزاز 0

(11)كانت القيادة القومية تضم : ميشيل عفلق ، منيف الرزاز ، أمين الحافظ ، أحمد حسن البكر ، شبلي العيسمي ، منصور الأطرش ، جبران مجدلاني ، حافظ الأسد ، علي الخليل ، ابراهيم ماخوس ،  صدام التكريتي ، كريم شنتاف ، علي غنام  مع التنويه بأن اسمي البكر والتكريتي لم يطرحا على المؤتمر بل تم الاكتفاء بالطلب الى المؤتمر الموافقة على اضافة اثنين من القطر العراقي دون ذكر أسمائهما < لظروف العمل السري > ، وحسب اعتقادي ، أن المؤتمرين لو عرفوا أن أحدهما هو صدام ، ما كانوا ليوافقوا عليه ، لأن القناعة عند أكثريتهم أنه يوم انقلاب عارف وطاهر يحيى على الحزب ، ذهب الى الاذاعة وساهم في اذاعة برقيات التأييد للانقلاب . وأيضا ،لم يحضر البكر والتكريتي دورة جلسات القيادة القومية لعدم تواجدهما في دمشق .

(12)التقرير الوثائقي عن تسجيل جلسات القيادة القومية 0

(13) التجربة المرة للدكتور الرزاز .

(14) في ساعة متأخرة من ليلة أحد أيام الأسبوع الثاني من  شهر شباط ، استدعى وزير الدفاع اللواء محمد عمران ، وزير الاصلاح الزراعي السيد جميل حداد ، وطلب منه احضار عضو القيادة القومية  اللواء حافظ الأسد الى منزله ، وبعد زيارة السيد حداد للواء حافظ في آمرية الطيران بشارع مرشد خاطر ، عادا معا الى منزل اللواء عمران ، الذي تباحث معه حول القيام معا بانقلاب يكون من أهدافه ابعا اللآخرين من أعضاء اللجنة العسكرية ،ولكنهما لم يتفقا على ذلك ، اذ أن اللواء حافظ رأى ابعاد أمين الحافظ فقط .

    وفي ليل 16شباط طلب الأستاذ صلاح من السيد محمود جيوش أن يتقصى عن سبب حضور قادة الوحدويين الاشتراكيين ، الجلسة الأولى للمجلس الوطني الموسع ، - وكان الأستاذ صلاح قد بذل جهدا كبيرا من أجل الموافقة على عضويتهم - ، وبعد أن اتصل السيد جيوش بمصطفى الحلاج ، ذهب اليه في منزله ووجد هناك اللواء محمد عمران ، وسامي صوفان ، وأبو النور طيارة ، وفايز اسماعيل ، وطلبوا من اللواء عمران أن ينقل الى السيد جيوش ما تباحثوا به ، وأبلغه اللواء عمران بأن اللواء صلاح جديد ومجموعته سينفذون انقلابا ، وباستطاعته احباط ذلك والقيام بانقلاب لمصلحته ، شريطة موافقة الأستاذ صلاح على استلام رئاسة الدولة ورئاسة الوزارة ، وفي يوم 17شباط تم الاتصال مع الأستاذ صلاح في مكتبه برئاسة مجلس الوزراء واجتمع عدد منهم معه ، ولكنه رفض الفكرة مبدئيا ، وكثفوا اتصالهم معه لاقناعه بالقبول ، واجتمعوا معه في اليوم التالبي بمنزله ، وانضم اليهم كل من جميل حداد ، سليمان العلي و فهمي العاشوري ، وتشكلت من بينهم لجنة لدراسة موضوع القيام بانقلاب ، وأبلغت اللجنة المنتظرين بأن الاستاذ صلاح سيلتقي ببعض الضباط المؤيدين للواء عمران للتعرف الى وجهة نظرهم ، قبل اتخاذه قرارا بهذا الأمر .

(15-16 ) من التجربة المرة للدكتور الرزاز .

(17) ادعى محمد ابراهيم العلي في الجزء الثالث من كتاب له بعنوان < حياتي والاعدام > بأنه هو الذي دخل اللواء 70 وسيطر عليه ووضعه تحت أمرته ، وهو ادعاء خال من الصحة تماما ، وكان دوره كما ذكرت ، هو اللود الذي يكلفه به آمر اللواء فيما اذا احتاج اليه ، وأصلا ، فهو لم يبلغ حين تقرر تنفيذ الحركة يوم 16/2 ، كما أنه ادعى بأنه كلف شقيقا له مع محمد حيدر بنقل كلمة السر الى ارفاق بحمص ، وأيضا ، فهو ادعاء من وحي خياله ، لأنه لا توجد كلمة سر ، وكان المسؤول عن منطقة حمص هو ، عضو القيادة القطرية المقدم مصطفى طلاس ، وادعى أيضا ، بأدوار له في حلب بعد تكليفه ، بشكل موقت ، بقيادة الكتيبة المرابطة هناك ، وبخلافات له مع قيادة الفرع ، وبصفتي عضو قيادة قطرية ورئيس مكتب التنظيم فيها ، لم أستلم أو أسمع ما يؤكد ادعاءاته ، كما أنني في هذه الفترة ، قمت بزيارة الكتيبة ، وهو قائدها موقتا ، وقيادات فرع الحزب هناك ولم يبلغني أحد ما يفيد ، عن وجود مثل هذه المشكلات .

           (18) لقد اطلع الرفيق مصطفى رستم على هذه الدراسة ، ودون النقاط التالية :

          ان العرض جيد وكما أرى لو أنك حصلت على مذكرات عمران ، وتعليقات مجموعة صلاح البيطار والقيادة القومية ، لأن ذكر مقاطع منها يضفي موضوعية أكثر ، طبعا لا أعرف اذا كنت تستطيع الحصول عليها ، والأمر يستحق الجهد ولو أخذ منك وقتا أطول .

         يمكن بلورة موقف مجموعة 23شباط كالتالي :

1-  ان أطراف الأزمة عديدون : عفلق مع الحزب في القطر ، البيطار + عمران مع الجيش والحزب بشكل عام ، أمين الحافظ والقيادة القطرية .

2-  ان القيادة حين حلت ، وجدت ان المواجهة الصحيحة هي في قبول قرار القيادة القومية من جهة ، والضغط عليها لتطبيق النظام الداخلي من جهة ثانية ، والتقدم بمشروع يحدد الرؤية السياسية التي على أساسها يرتقي الصراع من مستواه الشخصي الى التجاذب حول موقف وضمن اطارر الحزب ...وهنا لابد من التركيز أن المشروع كان يستند على ثلاثة محاور :

أ‌-      سيادة العلاقة التي يرسمها النظام الداخلي للحزب .

ب‌-   اخضاع الجيش لسلطة قيادة الحزب وكل يعمل ضمن الصلاحيات التي يحددها النظام الداخلي .

ج – كسر حلقة العداء مع القوى التقدمية من شيوعيين وناصريين وقوميين عرب الخ ...والتي سادت أواخر الخمسينات وحتى منتصف الستينات ، ومن ثم السعي لاقامة جبهة تقدمية على صعيد الوطن العربي و تكون القضية الفلسطينية هي محور الالتقاء ، وان خوض المعركة مع العدو غير ممكن من خلال الجيوش ، لأن العدو من خلال علاقته مع الغرب وأمريكا بالتحديد والتفوق التقني للغرب على الاتحاد السوفييتي ، ومن جهة ثانية ، دعم الاتحاد السوفييتي المحدود يجعل أسلوب حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد الذي يحول الحياة في < اسرائيل > الى حياة صعبة وتفقد جاذبيتها ليهود العالم من جهة ، كما يحولها الى عبء متزايد على الغرب نفسه ، هذا الأسلوب هو الوحيد الممكن ، ومن جهة ثانية ، يجعل الجبهة التقدمية المزمع تأسيسها قادرة على استقطاب الشعب العربي ، وبذلك تحدث وحدة شعبية لابد منها لانجاز الوحدة العربية ، كما أنه يطور العلاقة بين أطراف هذه الجبهة ويضائل الخلافات فيما بينها ويساهم في عزل القوى العربية العادية ويفقدها القدرة على التأثير ، ولذلك فقد كنا نعتقد أن أسلوب حرب التحرير الشعبية استراتيجية أساسية قادرة على انجاز مهمة التحرير والتوحيد على صعيد الوطن العربي .

   ان اصرار القيادة القومية على تجاوز النظام الداخلي ومباشرتها باتخاذ اجراءات التصفية حزبيا وعسكريا ، كان على القيادة القطرية أن تتعامل مع تلك التصرفات .

   بادرت القيادة القطرية المؤقتة الى تشكيل لجنة من : صلاح جديد –يوسف زعين – ابراهيم ماخوس – جميل شيا – مصطفى رستم لاعداد مشروع الرؤية المستقبلية ، وكان يحق لأي عضو قيادة – اذا سمحت ظروفه - أن يحضر اجتماعات اللجنة والمساهمة في نقاشات المواضيع المطروحة .

وبعد أن حسم عضو القيادة القومية اللواء حافظ الأسد موقفه ، حضر الاجتماعات الأخيرة للجنة .

   وقبل اتخاذ قرار الحسم العسكري ، اجتمعت مع الأمين العام الدكتور الرزاز في منزله ، وقد دار بيننا الحوار التالي :

  - رفيق أبو مؤنس < الرزاز > ، أن حل القيادة القطرية مع أنه كان مخالفة لا مبرر لها ، واذا أردتم أن تفعلوا ذلك ، فكان عليكم ، وفق أحكام النظام الداخلي ، دعوة المؤتمر قطري لدورة استثنائية وطرح الأزمة عليه .

                        - هذا غير ممكن لأن المؤتمر كان من تركيب القيادة نفسها .

                        -لا بأس بوسعكم الدعوة لا جراء انتخابات وعقد مؤتمر قطري جديد وينتخب هذا   لمؤتمر قيادة قطرية جديدة . 

                      - أيضا ،هذا الاقتراح لا يحل المشكلة ، والانتخابات غير ممكنة قبل ابعاد عدد من الحزبيين المنحرفين واعدة من طردوا أو ابعدوا .       

                     - لا بأس أيضا ، اننا نطالبكم بدعوة المؤتمر القومي لعقد دورة استثنائية له ، وهذا من حقنا أن نطالب به ، للطعن في قراركم وطرح الأزمة عليه ، ولا أظنكم تشككون به فهو المؤسسة الأعلى وهو الذي انتخبكم كأعضاء قيادة قومية .

                     - نعم ، ولكن ليس بالسرعة التي تطالبون بها ، ولا بد من اتخاذ اجراءات كثيرة قبل ذلك ،من ناحية ، وعندما نرى ، نحن ، بأن الوقت أصبح مناسبا ، من ناحية ثانية .                                                                           

                   - رفيق أبو مؤنس ، اذا كنتم مصرين على تجاوز أنظمة الحزب وأنت تعرف الحجم الهائل الرافض داخل القطر، لقرار حل القيادة ، لذا فان الخشية هي أنكم تدفعون الطرف الآخر ليفعل نفس الشيء < أي تجاوز الأنظمة الحزبية > .

                    وقمت ، أخيرا ، بتوجيه رسالة خطية شخصية للأمين العام .

                    وفي مساء ذلك اليوم الذي اجتمعت به مع الدكتور الرزاز ، عقدت القيادة القطرية المؤقته اجتماعا لها ، تم فيه عرض الاتصالات الأخيرة مع الأمين العام ، وموقفه من كل الاقتراحات التي قدمت اليه ، وفي هذه الجلسة اتخذ قرار الحسم العسكري .                                                                  (19) بعد قرار القيادة بتنفيذ الحركة ذهبت بصحبة الرفيق عبد الكريم الجندي ، إلى مطعم "أبو كمال"لتناول طعام العشاء .والتقينا هناك بالرفيق احمد الشيخ قاسم < أمين فرع الرقة > الذى وصل من الرقة لحضور المؤتمر القطرى ، كما التقينا بالرفيق المرحوم الشاعر كمال الناصر الذى اوصانا خيرا(بالختيار) ويقصد الأستاذ ميشيل عفلق .

 (20وجدت الرفيقين فايز الجاسم ومصطفى رستم يغطان في نوم عميق بينما كان الرفيقان صلاح جديد وابراهيم ماخوس في شرفة المنزل ، يراقبان تطورات الأمور، وبدت على ماخوس علائم التوتر والارهاق وهذا دفعه الى أن يقول بانفعال ، للواء صلاح ، ما كنت أحسب أن حسم الأمر سيأخذ كل هذا الوقت ، فأجابه بهدوء : لا تنسى بأننا قررنا حسم الأزمة بأسلوب عسكري .

                                   - انتهى -