اللعبة الخطرة

 

 الياس خوري


يحق للمراقب أن يتساءل عن دور الثقافة والمثقفين العراقيين في لعبة الدستور الخطرة التي يعيشها العراق اليوم. إذ أن الأصوات العالية التي تدير اللعبة، هي إضافة إلي المحتل الأمريكي، أصوات زعماء الطوائف والعشائر العراقية.

كأن بلاد الرافدين أسلمت أمر دستورها لسياسة سياسيين، لا تزال غير ناضجة، وهي تاليا أسيرة اعتبارات آنية ومصالح فئوية، وتسويات مع احتلال لا يملك سوي مشروع واحد هو تحطيم القدرات العراقية.

لذا يتم التلاعب بكلمات كبيرة كالفدرالية والأقاليم، ويجري إهمال جوهر الدساتير الحديثة، أي مسألة العقد الاجتماعي التي تعطي الدولة شرعيتها وتنظم آليات تداول السلطة، وعلاقة السلطة بالأفراد الذين يكونون الشعب.

المسألة الدستورية الوحيدة الساخنة هي الفدرالية. والطريف أن الفدراليين يتناسون أن الشعب العراقي يتكون من قوميتين كبريين: العرب والكرد. وان نيل الكرد حقوقهم، وهو مطلب عادل ويستحق الدعم، بل ويفترض بالمثقفين العرب تقديم اعتذار للأكراد علي تجاهل عذاباتهم والمذابح التي تعرضوا لها. لكنه لا يعني إلغاء الهوية القومية للعرب، أي تحويلهم إلي سنة وشيعة. أي إلي جانب القومية الكردية لا وجود لقومية أخري، بل هناك طوائف فقط! هذه اللعبة السياسية والثقافية لا تقود إلي منح الشيعة حقوقهم، بل إلي وضع العراق علي شفير الحرب الأهلية الدائمة.

أما قضية القانون المدني، بصرف النظر عن مصادر التشريع، فهي أيضا قضية مهملة، أو يجري التعامل معها بخفة، مما قد يقود إلي الانزلاق التدريجي نحو الدولة أو الدويلات الدينية الطائفية.

وأخيرا هناك مسألة انتماء العراق إلي العالم العربي. وهي مسألة أساسية في تحديد مستقبل العراق والمنطقة. خفة الإشارة إلي أن عرب العراق، الذين لا وجود لهم في مشاريع الأقاليم، هم جزء من العالم العربي، ومسح الهوية القومية والإقليمية عن الجمهورية العراقية، يذكرنا بمشروع العلم البائس الذي رسمه احد المهندسين، والذي يشبه العلم الإسرائيلي إن لم يكن قد استوحي منه، والله اعلم.

اللعبة مثلما تدور في العراق اليوم، تعبر عن محصلة مزج الانحطاط العربي بالاحتلال الامريكي. الولايات المتحدة جاءت لتقطف ثمرة الانحطاط والديكتاتورية، وكانت المحصلة تعفنا ودما، وهذا النوع من الدساتير التي تفكك الدول ولا تؤسسها.

والسؤال ليس موجها إلي زعماء الطوائف العراقية، ولا إلي بقايا النظام السابق، ولا إلي التيارات التكفيرية التي فتح لها الاحتلال الأمريكي أبواب العراق.

السؤال موجه إلي الثقافة العراقية أولا والي المثقفين والحقوقيين في العالم العربي.

أليس مخجلا أن يكون الاعتراض علي مشروع هذا الدستور سنيا! أي من الطبيعة الطائفية نفسها لواضعي الدستور؟

ألا يوجد من يرفع الصوت، منبها باسم المصلحة الوطنية إلي المنزلق الطائفي الذي يقاد إليه العراق بسلاسل الديمقراطية التي صنعها الاحتلال؟

ألا يخشي العالم العربي أن يتشكل من ثلاث قوميات: إسرائيلية وكردية وغدا بربرية، بينما تنزع الصفة القومية عن العرب ليصيروا سنة وشيعة وأقباطا ومسيحيين واسماعيليين وعلويين وموارنة والي آخره؟

اللعبة ليست عراقية، حتي وان اتخذت من العراق مسرحا لها، بعد الفشل الإسرائيلي في بناء المسرح التقسيمي اللبناني.

لا أريد هنا أن أتحايل علي الطريقة القومجية القديمة من اجل نزع حق الأكراد في بناء إقليمهم. يحق للشعب الكردي الذي تعرض، ولا يزال يتعرض لظلم فادح، التمتع بحقوقه القومية. لكن أن يستخدم هذا الحق كذريعة من اجل بناء أقاليم طائفية في العراق، وإعادة العالم العربي إلي زمن معركة صفين، فهذه مسألة تتعدي الكرد وتصب في مشروع جحيمي سوف يغرق العالم العربي في الدم لأجيال قادمة.

المسألة الغائبة عن المشرعين العراقيين، الذين انتخبوا في إطار قانون هو أشبه بالإحصاء الطائفي، هي تأسيس مفهوم الدولة الحديثة. إذ من دون هذا المفهوم الذي يرتكز علي الفردية والمواطنة، فان مستقبل العراق سوف يكون من جديد أسير هاوية الديكتاتورية. الديكتاتورية الصدامية استندت إلي ايديولوجية قومية تم إفراغها من مضمونها التحديثي وسقطت في براثن فاشية قبلية، أما الديكتاتورية التي يؤسسون لها اليوم، فستكون مزيجا من السلطات الأوتوقراطية وأمراء المناطق والمافيات الطائفية.

سوف يجيبنا مستشرق عربي رقص علي طبول أصوات القصف التي دمرت العراق من اجل احتلاله، إن هذا المشروع الدستوري يعبر عن واقع الانقسامات الطائفية في العراق. وان الشعوب العربية كانت وستبقي قبائل وطوائف وان الفكرة العربية مجرد وهم.

هذا المنطق لا يعبر عن قمة الانحطاط فقط، بل عن قمة الجهل والعنصرية أيضا. لماذا تكون العروبة وهما ولا تكون الصهيونية وهما هي الاخري ؟ لماذا لا يحق للعرب امتلاك هوية وطنية بينما يحق ذلك لكل شعوب الأرض؟

المشروع الدستوري العراقي يعبر عن واقع حقيقي اسمه الاحتلال. انه محاولة لتأبيد الاحتلال عبر تحويل العراق إلي بلاد لا يمكن أن تحكم من داخلها، وهي في حاجة دائمة إلي قوات أجنبية من اجل تأمين تدفق النفط إلي الأسواق العالمية. هذه القوة أمريكية اليوم، وقد تصير غدا إيرانية أو تركية أو إسرائيلية، والله اعلم.

أي أن اللاعبين الطائفيين لا يقومون سوي بالإعداد لتسليم البلاد للقوي الأجنبية. الم يكن هذا هو الانجاز التاريخي لطوائف لبنان المتناحرة التي سلمت البلاد إلي كل من أراد، قبل أن يستفيق الوعي اللبناني في الرابع عشر من آذار؟

هل يحتاج العراق إلي عبور هذا الجحيم هو أيضا؟

ومن يضمن أن لا يكون الجحيم العراقي معبرا إلي إغراق المشرق العربي بأسره في الدم والفوضى؟


"القدس العربي"