ملاحظات وتعقيب على رباعية

الدكتور خلف الطويل حول اللجنة العسكرية   

                                         بقلم : محمود جديد

( 2-4 )  


 

    -يتابع الدكتور كمال الطويل نهجه في  الكتابة وعرض الأحداث باستغلاله غزارة المعلومات المتوفرة لديه ،وإكسائها بما ينسجم مع هدفه الخاص من كتابة رباعيته في هذا الوقت ، وكأنّ ما ورد فيها من جزئيات قد شارك في وضعها ، أو سمعها من أفواه أعضاء اللجنة العسكرية أنفسهم ، وفي كثير من الأحيان يُسقِط الأحداث بمفهوم رجعي على ما سبقها  ليبلور أفكاره المعروضة ويفسّرها ، فعلى سبيل المثال يقول :" بلورت اللجنة العسكرية رؤاها في موضوعة الحكم والوحدة والحزب وفق الخطوط التالية : لا وحدة فورية مع مصر –إنشاء حكم بعثي صرف بتدرّج يراعي القدرة – ركوب مركبة الحزب المعاد تنظيمه مع رفده بالقطريين الباقين خارجه- منافسة عبد الناصرعبر المزايدة عليه يسارياً وقوميّاً وفلسطينيّاً ."

إنّ الدكتور الطويل يلحظ رؤى اللجنة قبل 8 آذار في الحكم والوحدة والحزب بهذه العبارات الموجزة معتمداً على التطورات اللاحقة ، فعندما يحدّد رؤاها حول الوحدة "بلا وحدة فورية مع مصر " فإنّه لم يتكرّم بتحديد وجهة نظرها حول هذه الوحدة ، والتي كانت في الحقيقة تريد إقامة وحدة مدروسة متينة قادرة على الصمود أمام التحديات في الداخل والخارج ، وصالحة لأن تكون نواة وأساس لوحدة عربية شاملة ، أمّا موضوع المنافسة مع عبد الناصر والمزايدة عليه بهذه الصورة المتعمّدة فتدحضها إسراعها في إرسال الوفود إليه للحوار معه حول الوحدة ، ومن قبل شخصيات وحدوية معروفة ، وهذا ما سأتعرّض إليه لاحقاً ...أمّا القول بأنّ اللجنة ركبت مركبة الحزب المعاد تنظيمه مع رفده بالقطريين الباقين خارجه ، قد يخلق التباسا ًفي ذهن القارىء للوهلة الأولى ، وكأنّ أعضاء اللجنة مستقلّون ، أو من أحزاب أخرى ...أليسوا جميعاً من حزب البعث نفسه ؟ بينما الحقيقة هي أنّ هدف اللجنة كان جمع شتات الحزب الذي تناثر بسبب حلّه ، وتوحيد أجنحته ، وأنّ من الأسباب الرئيسية لتشكيل اللجنة هو إعادة إحياء الحزب ، والمحافظة عليه ، وليس ركوب مركبته المخلخلة ...مع العلم أنّ أعضاء اللجنة قدّموا ثمار نضالهم وتضحياتهم على طبق من ذهب إلى التنظيم القومي (عفلق- البيطار) ....

- يصف الدكتور الطويل العقيد / زياد الحريري/ بأنّه " ضابط طموح انتهازي ،وعُرِف عنه إعجاب مكتوم بأكرم الحوراني ". وهنا يستوقفني إطلاق صفة الانتهازي على هذا الرجل ، لأنّه كان ضابطاً كفؤا ًووطنيّاً ، ولو كان انتهازيّاً لما غامر بتحريك لوائه ليساهم في انقلاب ضدّ حكم الانفصال ، لأنّ هذا التحرّك كان من المحتمل أن يعرّض مستقبله العسكري في حال الفشل إلى أفدح المخاطر ، ولربّما يوصله إلى السجن أو القبر ، وأمثال هؤلاء ليسوا انتهازيين ...فالانتهازي من يستغلّ الظروف وجهود وتضحيات الآخرين لصالحه بعيداً عن المسؤولية ، ثمّ أنّ الطويل كيف استطاع سبر أغوار العقيد الحريري ليكتشف إعجابه المكتوم . وهنا وللتاريخ أشهد أن صلاح جديد كان مستاءً من إزاحة الحريري من الجيش ، كما كانت تجمعه علاقة طيّبة صادقة مع الضباط الحمويين ، إضافة إلى ذلك فكان لاينسى  عملاً إيجابياً قام به أيّ شخص لصالح الحزب ... وعلى كلّ حال ، فإنّ كنز المعلومات الذي حظي به الدكتور لم يقدّم له شيئاً عن أسماء  آخرين شاركوا في تنفيذ انقلاب 8 آذار  حرّكوا وحداتهم على محور آخر هو : محور ازرع – الكسوة –دمشق (ازرع بلدة في حوران قرب جبل العرب) ، ومن أبرزهم النقيب(وقتذاك) : كاسر محمود ..  

- يذكر الدكتور الطويل محاولة النحلاوي الانقلابية في 13/1/ 1963 ، وهي في الحقيقة في عام 1962 ، ويعزي الفتك به إلى " الوعود المعطاة له من قبل أطراف وحدوية وبعثية بنصرته ،إنّ تحرّك هذه الأطراف أوقعته في الفخّ ، بل وتحرّكت ضدّه ..." 

إنّني أتلمّس المطبّات التي أوقع ألدكتور الطويل نفسه بها ، فعندما لا يجد في كنز المعلومات الذي يغرف منه ما يشاء يلجأ إلى الخيال الخصب ...فهل يُعقل للانفصالي رقم واحد بامتياز أن يتوجّه إلى ضباط وحدويين ( بعثيين وناصرين)ليناصروه ؟ وهو الرجل المعروف بذكائه وهدوئه وحذره ، وهل يُعقَل لأي وحدوي بعثياً كان أم ناصرياً أن يدعم مَن تآمر على الوحدة واقترف جريمة الانفصال ؟  ثمّ يبخل الطويل بذكر اسم واحد من الأطراف البعثية والوحدوية التي أعطته وعودا بالدعم والمساندة ...فيا سيّد كمال كانت حركة 13/1/1962 محاولة عصيان وتمرّد من قبل ( ضباط شوام) دون غيرهم بهدف تحسين مواقعهم في الجيش والسلطة ، وهنا من المفيد أن أشهد بأنّني في ذلك التاريخ كنت قائد سرية في اللواء18 مشاة المتمركز في معسكرات قطنا ، وفي نهاية دوام ذلك اليوم لاحظت أثناء ركوبي حافلة الضباط للتوجّه إلى دمشق أنّ جميع الضباط الشوام متخلفون عن الحافلة ،أي باقون في الثكنة منهم : ياسين خبّاز ،وموفق عرقسوسي ، وعبد السلام كباتيلو  ، وقد رابني الأمر، ولذلك أسرعت عند وصولي إلى دمشق لإخبار رفاقنا في اللجنة العسكرية فلم أجد سوى الرفيق عبد الكريم الجندي في منزل الرفيق صلاح نعيسة ، وقد نقلت لهما ما لاحظته ، وعبّرت لهم عن قناعتي بوجود عمل ما في هذا اليوم ، ولم يكن لأيّ منهما علم بالموضوع ، ولم يتحرّك أحد من البعثيين  ضد هذا التمرّد ، غير أنّ السلطة استطاعت احتواءه وإفشاله ، ومهّد ذلك لقيام حركة 28آذار 1962 الوحدوية في حلب ، والتي فشلت أيضاً ، وقد تّم سجن محمد عمران، وصلاح جديد،  وحافظ أسد، وعبد الكريم الجندي ، وحمد عبيد ، ومحمد إبراهيم العلي ، وعزّت جديد ، وكاسر محمود ،وغيرهم وبعد أشهر قليلة خرج من السجن الضباط الذين بقوا خارج مدينة حلب ، ومنهم صلاح جديد وحافظ أسد  ، وكاسر محمود ... وبقي آخرون حتى قيام انقلاب 8آذار/1963 ، وهنا لم يشر أحد إلى الطائفة أو المذهب الذي ينتمي إليها بالولادة بعض أعضاء اللجنة العسكرية كما يتهافتون على ذكر ذلك عقب وصول البعث إلى السلطة...

- يتساءل الدكتور الطويل عن " سرّ الحركة الطليقة للجناح البعثي وهو الصغير حجماً ، والضئيل دوراً في التحالف والانقلاب ..." وبالرغم من أنّه أوعز ذلك بشكل غير مباشر في مكان لاحق وفي الحلقة نفسها لعدم تنظيمهم ، وضعفهم النوعي ، وهذا صحيح ، إلاّ نّ جوابه على تساؤله حصره  " بتمسكن " صلاح جديد "حتى تمكّنه" من خلال تواجده في منصب معاون مدير إدارة شؤون الضباط بعد أن "وضع فوقه " العقيد غسان حدّاد ، " ونسج حوله شرنقة من التودّد والتقرّب ، وتكبير المقام ، لاقت هوىً غلاّباً في نفس حدّاد الذي أصبح أداة مطواعة في يد مرؤوسه " ...لاحظوا تبسيط الظاهرة وتسطيحها ،وحصرها بشخص صلاح جديد الذي هو المستهدف الأساسي من قبل معظم ما كتبوا عن اللجنة العسكرية ، وهو المستهدف الآن وبعد تغييبه عن الساحة السياسية بسجنه عام 1970 ،وثمّ اغتياله مسموماً في السجن عام 1993 ، وسبب الاستهداف هو الملاحقة الدؤوبة لمن تبقى من تيار 23 شباط ، ومحاولة طمس وتشويه منطلقاته وأهدافه الرئيسية ، وقطع الطريق عليهم للعب أي دور في المنعطفات الهامة من تاريخ القطر ...وممّا لاشكّ فيه أنّ صلاح جديد لعب دوراً بارزاً في اللجنة العسكرسة ، وفي مجرى الأحداث منذ 1963 ، ولكن ليس بأسلوب " التمسكن حتى التمكّن " ، أو " التملّق والتودّد والتقرّب وتكبير المقامات " والتي هي غريبة عن صفاته وطبيعته ، وإنّما نتيجة إمكانات وقدرات ذاتية ، وصفات شخصيّة وأخلاق من مستوى عال قلّ وجوده ، وتقشف وزهد في الحياة ومفاتنها ومباهجها ، وقد اعترف بعض من خصومه ، وكتاب محايدون بذلك ، ولكنّ الطويل بخل عليه بكلمة طيّبة واحدة قرأها عنه ، وهاهو باتريك سيل الذي اعتمد كتابه عن حافظ الأسد وسورية كأحد مصادره التي استقى منها معلوماته يقول عنه :"كان صلاح جديد ذكيّاً ...ذا مبادىء وله آراء واضحة اليسارية ...وكان معروفاً بأنّ له أخلاقاً شخصيّة عالية ، ولم يكن مهتمّاً بالثروة ، ولا حتى بالراحة والتنعّم ، بل كان يعيش في شقة بسيطة ...كان يأتي إلى مكتبه مبكّراً ...ويغادره في وقت متأخر ..كان طبع حكومة جديد وشعورها الوطني والقومي ساخناً، وكان إحساسها بالقضية الفلسطينية عميقاً ...فصلاح جديد وفريقه كانوا على وجه العموم شرفاء نزيهين ، ولم تكن منجزاتهم سيّئة أو ضارة بالسمعة " ..أمّا فيما يتعلّق بالعقيد غسان حدّاد فليعلم الدكتور الطويل أنّه كان ضابطاً كفؤاً ومحترماً، وبعثيّاً قبل التحاقه بالجيش، ولكنّه لم يكن صاحب قرار فيما يتعلّق بشؤون الضباط ،وإنّما تحضير الاقتراحات حولهم ، ورفعها إلى رئاسة الأركان ، وقيادة الجيش التي تبتّ بها ، كما أنّ المخابرات العسكرية تلعب دوراً بارزاً في مثل هذه الأمور ...وعلى كل حال فصلاح جديد لم يكن ساحراً( ونحن لسنا في زمن السحر) حتى يستطيع أن يتحكّم بأمور الدولة والجيش بهذه الكيفيّة التي عرضها الطويل ، هذا مع العلم أنّ صلاح جديد كان برتبة مقدّم وقتذاك والبعثي الوحيد في قيادة الجيش والأركان العامّة المليئة بالرتب العسكرية العليا من الناصريين والمستقلين ، وصلاح بشر يخطىء ويصيب ، ويتحمّل المسؤولية الفردية عن  المهام التي أوكلت إليه ، والمسؤولية الجماعية عن المهام والقرارات التي شارك فيها مع آخرين من رفاقه ، ولكن العدل والإنصاف يتطلّب تحديدا دقيقاً للأمور التي تُثار ضدّه ( قرار-أمر –تصريح- خطاب –كلمة وتدخّل شفهي..الخ) علماً أنّه لم يستلم منصباً تنفيذيا مثل : رئيس دولة ،رئيس وزراء ، وزير داخلية ، وزير دفاع ، مدير مخابرات ...الخ 

- لاشكّ فيه أنّ تحرّك الناصريين جماهيرياً للضغط على مجلس الثورة من أجل الوحدة الفورية مع عبد الناصر ، والتخوّف من احتمال الوقوع في مطبّات أسلوب قيام الوحدة السابقة ، وانتكاستها المؤلمة والمفجعة كان يقلق البعثيين والمستقلين ، وهذا القلق لاينفي على الإطلاق إيمانهم العميق بالوحدة ، وضرورة الوصول إليها بشكل مدروس يصونها من الفشل ثانية ، ولهذا تمّ إرسال الوفود إلى المرحوم عبد الناصر للتفاوض والحوار معه من أجل الوحدة بعد فترة قصيرة من قيام 8 آذار ، كما أنّ المعلومات التي تسرّيت عن وجود تآمر ناصري لإحداث انقلاب زاد من ذلك القلق ... وعل كل حال ، فإنّ الذي بادر لضرب التحالف الناصري- البعثي الذي تمّ عقب انقلاب آذار هم الناصريون أنفسهم ، بينما عكَسَ الطويل الحقيقة ظلما نتيجة هواه الناصري أو لأسباب أخرى نجهلها، ومحاولة عرض الأحداث بما ينسجم مع هدفه من كتابة هذه الرباعية في هذا الوقت بالذات ، ومن الطبيعي أن لايبقى البعث متفرّجاً على ما يجري ، وخاصة أن مؤامرة 18 تموز كانت قد نضجت ، وتتحيّن الفرصة المناسبة للتنفيذ ...

- يُعيد الدكتور الطويل سبب فشل المحاولة الانقلابية في 18 تموز إلى " أحد عملاء اللجنة العسكرية الرائد محمد نبهان " الذي عرفت منه اللجنة بتاريخ وتوقيت تلك المحاولة حسب ادّعاء الكاتب ، علماً أنّه اُعتُقِل هذا الشخص في 17 تموز ، وحُكِم عليه بالإعدام كغيره من المنفذين ، ولم يخرج إلاّ ّمع غيره من الناصريين ، ، وقد كان تعقيب الرفيق : مروان حبش على رباعية الطويل صحيحاً ودقيقاً في المسائل التي تعرّض إليها ، ولكنّ الهوس الطائفي مع الأسف يجعل الطائفية مشجباً صالحاً للتعليق عليه كافة التفسيرات السياسية وبسهولة ، وكان من المفروض والواجب على جاسم علوان ورفاقه أن لايتابعوا تنفيذها ، ولو كان محمد نبهان عميلاً لأعطى ساعة التنفيذ ...هذا مع العلم أنّه ما من أحد على الإطلاق كان يعلم ساعة التنفيذ ، وقد فُوجِئَت قيادة الجيش والدولة بذلك التوقيت الذي جرى في منتصف النهار ، ولايمكن لأيّ عاقل أن يسكت عليه حتى يبتدىء المتآمرون بالتنفيذ ، لأنّ العناصر المنفّذة :كانت متواجدة في مبنى سلاح الإشارة المجاور لمبنى الأركان العامّة ، وعلى مقربة من قيادة القوى الجوية ، وليس بعيداً عن مبنى الهاتف الآلي ،  ولاتحتاج لنقل قوات للوصول إلى أهمّ مقرّين لقيادة الجيش ، كما كان يحدث في الانقلابات المعهودة ، ولو كان المتآمرون في أماكن بعيدة ربّما قد يجد البعض تبريرات مزعومة صالحة للتصديق ، ثمّ هل يُعقَل لقيادة تعلم بتاريخ وساعة التنفيذ أن ترسل أعلى سلطة في القطرإلى القاهرة للتباحث مع عبد الناصر حول إقامة الوحدة ،  وهم :  رئيس مجلس قيادة الثورة الفريق لؤيّ الأتاسي ، والعقيد محمد عمران العضو البارز في اللجنة العسكرية والمتواجد في قيادة اللواء 70 المدرّع وهو أهم لواء في الجيش والمتواجد في الكسوة قرب دمشق ، والعقيد فهد الشاعر قائد اللواء 18 مشاة المتواجد في معسكرات قطنا ؟...وكانت مفاجأة التنفيذ سبب خروج صلاح جديد من مبنى الأركان العامة وحيدا وبدون سلاح ، والتوجّه الفوري والسريع إلى الكسوة لاستقدام وحدات مدرعة إلى مركز العاصمة ومواجهة المتآمرين ، والمساهمة بشكل أساسي في إفشال المحاولة الانقلابية ... ولم تكن قيادة البعث المدنية والعسكرية سعيدة بما جرى بعد أشهر قليلة من قيام 8 آذار ...

           في 29-5-2005                                   -يتبع في الحلقة الثالثة -