في سبيل الاحاطة بكافة أصول وفروع ما تشهده الساحة اللبنانية في هذه الأيام من تعقيدات وتداعيات مطلوب حالة من الوعي واليقظة لاستخدام كامل للحواس الخمس التي وهبنا إياها إضافة إلى الحاسة السادسة لمن وجدت لديه.
وحيال ازدحام التطورات تداخلت التفاصيل ببعضها البعض، وامتزجت التسريبات بالشائعات من كل اتجاه ومصدر الأمر الذي أدى إلى ضياع الحقيقة، وإلى صعوبة اكتشاف الحقيقة في مأساة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وسنحاول إجراء عملية فرز للمواقف التي بدأت ظهر ذلك الاثنين (الرابع عشر من مارس آذار).
إن الانطباع القائم حالياً يقوم على المعادلة التالية:
هناك المعارضة، أو مجموعة المعارضات، وكأنها السلطة البديلة تريد الانقضاض على السلطة القائمة باعتبار أن مطالبها تحققت، مقابل فريق آخر يتمسك بالسلطة ولن يتخلى عنها وعن مكاسبها بسهولة لأنها معركة تنازع بقاءَ وتقرير المصير، لذا يصح القول: في لبنان أطراف معارضة تتصرف وكأنها ستجلس سعيدة على سدة الحكم غداً أو بعد غد .. وهناك الموالاة التي يتصرف أنصارها وكأنهم باقون أبداً على هذه الحال.
وفي مسألة تأليف الحكومة الجديدة: عندما أعاد الرئيس اميل لحود تكليف عمر كرامي بتأليف الحكومة إثر الاستشارات الملزمة استخدم الرئيس المستقيل ـ المكلف تعبيراً لافتاً وهو أن الخروج من المأزق الحكومي لا يتم إلا بالعمل على «تربيع الدوائر"، آملاً في حينه إقناع المعارضة المشاركة في مسؤوليات وتبعات هذه المرحلة المصيرية من تاريخ الوطن. لكن المعارضة رفضت كل الصيغ والطروحات التي قدمت إليها لتأليف حكومة اتحاد وطني، وعبثاً حاول كرامي إقناع بعض الوجوه المعارضة حتى من بين الذين كان يشترك معهم في جبهة واحدة عندما كان في صفوف المعارضة.
ويقول بعض أركان هذه المعارضة من المنتمين إلى لقاء قرنة شهوان، أو إلى اللقاء الديموقراطي: نحن نفضل تولي السلطة كاملة وليس نصف سلطة كما هو متداول في الأيام الأخيرة.
يضاف إلى ذلك أن تعثر عمر كرامي في رحلة التأليف للمرة الثانية خلال أربعة شهور فقط يعود إلى قناعة المعارضة بأن مشاركتها في الحكومة الكرامية مرحلة عابرة باعتبار أنها ستشرف على إجراء الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها مبدئياً ! في شهر مايو ـ أيار رغم الضبابية الكثيفة التي تحيط بهذا الموعد في ظل عدم الحسم للقانون الجديد. لذا تفضل المعارضة اللبنانية إجراء الانتخابات البرلمانية ضمن المهلة المحددة لأنها على يقين بأن المناخ العام المخيم على لبنان سيضمن حصولها على الأكثرية في تركيبة المجلس العتيد.
وفي هذا السياق يلاحظ هروب عمر كرامي من استحقاقات المرحلة لكنه وضع في قفص الاتهام، والسبب أنه «متواطئ» مع أركان السلطة لتهريب الوقت، والعمل على تدمير المرحلة الدستورية وعدم التحضير الجدي لها.
مثل هذا الوضع وبأسلوب التعاطي مع إرباكات المشهدية السياسية قد يدخل البلاد في العديد من المطبات غير الحميدة. وإذا لم تنجح مساعي ربع الساعة الأخيرة في «حلحلة» الكثير من الأمور الشائكة والصعبة يكون لبنان يواجه أزمة حكومة، والمهم ألا يواجه أزمة حكم. ولعله من هذا المنطلق لاحظنا أن وليد جنبلاط أعاد النظر في أولويات المرحلة الحالية. فأمسى إجراءَ الانتخابات يحتل أولوية مطلقة وترك كل شيء يتصل برئاسة الجمهورية إلى ما بعد هذه المرحلة.
في مسألة الاغتيال: بقطع النظر عن الملابسات التي ترافق الكشف عن المرتكب الحقيقي، يتضح يوماً بعد يوم أن هذه الجريمة هي أكبر من الوطن ومن الطاقات والامكانات المتاحة لكشف بعض ملابسات هذا الاختبار. وهذا ليس بتبرير في أي حال.
وفي هذا الإطار يقفز موضوع تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية برئاسة الضابط الايرلندي بيتر فيتزجيرالد، حيث أخذ كل فريق مضمون التقرير مع ما يلتقي مع طروحاته وتوجهاته.
والأمر المؤكد وجود فريق ما في مكان ما يعرف ما الذي حدث بالضبط، وهو الطرف «غير المنظور» حتى اللحظة. وبقطع النظر عما رافق صدور هذا التقرير من حيث أنه مزج بين التحليل السياسي وعناصر الجرم القضائي.
وهنالك بعض العبارات اللافتة بهذا الشأن وهو ما ورد في البند الخامس من التقرير، وهذه هي حرفية النص:
«من الواضح أن اغتيال الحريري حصل على خلفية نزاعه على النفوذ على سوريا، بصرف النظر عن منفذي العملية وأهدافها. والمهم أن نبقى نصب أعيننا أن التحقيق المناسب ـ وليس التحليل السياسي ـ هو وحده الكفيل أن يؤدي إلى تحديد هوية من أمر بهذه الجريمة الشنيعة وخطط لها ونفذها، وأن إطلاق الأحكام المتسرعة حول مرتكبي الاغتيال بدون تحقيق مناسب وأدلة مقنعة ومحاكمة مناسبة، هو انتهاك لمبادئ العدالة الأساسية».
ولعل هذه الفقرة الواردة في تقرير لجنة تقصي الحقائق يختزل الكثير من التعابير والملابسات التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري.
واستجاب مجلس الأمن الدولي إلى الاتصالات التي جرت بهذا الشأن وهو يعكف الآن على إعداد الصيغة النهائية للجنة التحقيق الدولية، الأمر الذي يضع لبنان مرة جديدة تحت المجهر الأممي أو بتعبير آخر وجود عدالة بديلة عن العدالة اللبنانية !
وما بين بلورة الصيغة الأخيرة للقرار والتطلع إلى المرحلة الأولى من عمل اللجنة على الصعيدين العملي واللوجستي، هناك فارق زمني غير قصير، وما من أحد فوق رأسه مظلة ترى اللجنة ضرورة استدعائه والاستماع إلى المعلومات التي هي بحوزته.
في هذا الوقت تبدو مشاعر الرئيس جورج دبليو بوش الحماسية في تصاعد مستمر حيال التطورات التي تشهدها الساحة اللبنانية بشكل خاص والوضع في المنطقة. وآخر أقواله ومقولاته ما يلي: »... جدّد الرئيس بوش إشادته بالتظاهرات الشعبية الشرق أوسطية وقال في خطاب له بولاية «أيوا": لقد أعجبت بالتظاهرات في المدن اللبنانية وأهدافها ... أن ما يجري هو مسيرة الحرية في منطقة بيروت خاصة ولبنان بصفة عامة حيث كان الناس هناك يقولون لسوريا: أخرجي من بلادنا كي نصبح دولة حرة وديموقراطية».
وتتواصل في الدوائر الأميركية التفسيرات والاجتهادات كترجمة مباشرة للتظاهرات الحاشدة. فبعد المطالعة التي قدمها الرئيس جورج دبليو بوش للتظاهرات المليونية، واعتبر فيها: «هل صحيح أنهم يكرهوننا ؟ يضيف إن من شأن هذا الزحف البشري إلى ساحة الشهداء أن يجعل كل مظاهر العداء والكراهية لسياستنا في الشرق الأوسط تتهاوي».
وفي نفس السياق اعتبر أحد كبار المسؤولين الأميركيين «أن ما يجري في بيروت من تظاهرات وتجمعات حاشدة هو نتاج السياسة التي اعتمدتها واشنطن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول».
والترجمة العملية لهذه التصريحات والمواقف محاولة لوضع اليد على هذه الإرادات اللبنانية الأمر الذي لا أتصور أن يسمح به شباب وصبايا «انتفاضة الاستقلال» سواءً من جانب الولايات المتحدة أو من أي طرف آخر في الداخل أو من الخارج وهي التي نظمت تنظيماً رائعاً ليقولوا بصوت واحد ومشترك يضم كافة شرائح الطيف اللبناني: كفى!
وهنا نفتح قوسين لنشير إلى انشغال الإدارة الأميركية بما أطلق عليه «قانون تحرير لبنان وسوريا».
ويقول بعض الخبراء المتابعين عن كثب للتطورات الجارية في المنطقة: أن جورج دبليو بوش نجح، حتى الآن في حمل سوريا على سحب قواتها من لبنان.
لكنه يطمح إلى حمل النظام على الانسحاب من سوريا نفسها» ! ...
وورد في مقدمة هذا المشروع الذي تقدمت به رئيسة اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في مجلس النواب الأميركي اليانا روس ليثنن: ».. إن نشاط سوريا بدعمها للإرهاب وتطويرها لصواريخ بعيدة المدى ولبرامجها وقدرتها على تطوير أسلحة دمار شامل، واحتلالها المستمر للجمهورية اللبنانية، ودعمها وتسهيلها النشاطات الإرهابية في العراق وانتهاكها الخطر والمنهجي وغير العادي لحقوق الإنسان للشعبين اللبناني والسوري الذي يشكل تهديداً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وللسلام الدولي ..»
ويمضي نص المشروع في الحديث بشكل تفصيلي عما يمكن أن تتعرض له سوريا من عقوبات ثم يتحول إلى إيران «وضرورة مناقشة التهديد العالمي الذي يسببه الانتشار النووي الإيراني ودعم الإرهاب الدولي» الخ
ومع كل هذا وذاك تؤكد مصادر موثوقة بأن الحوار والذي يتراوح بين الترهيب تارة والترغيب طوراً بين واشنطن ودمشق لم ينقطع أبداً.
ونوجز فنقول لبنانياً: ... ولا يزال التحقيق مستمراً وسيظل هكذا لأمد غير قصير. والخشية تكبر وتعظم إذا ما دعا مجلس الأمن الدولي في تحديده لمهام لجنة التحقيق الدولية الاستناد إلى القرار 1566 والمتعلق بالإرهاب الدولي وإرهاب الدولة.
وأخيراً يستحق جورج دبليو بوش التهنئة على نجاحه فرض مرشحه بول وولفويتز لرئاسة البنك الدولي. والمشكلة تكون خطيرة وكبيرة إذا ما قاد هذا الرجل مؤسسة البنك الدولي كما أدار الحرب الأميركية على العراق.
أما الوضع في لبنان فإن الأخطار المحيطة تتعدى عملية النجاح أو الفشل في تأليف حكومة جديدة أنها أزمة وطنية وليس فقط سياسية.
كاتب لبناني.