ديموقراطية لبنان
بين الوهم والوحي

سليم الحص
في بلدنا تتفجّر القضايا بين الحين والآخر أزمات وطنية. أما في بلاد العالم المسمّى ديموقراطياً، حيث لا أزمات وطنية، فالقضايا التي تحتدم تؤول في نهاية المطاف إلى تسويات يحتكم في اجتراحها إلى الدستور، وتعبّر عن إرادة الشعوب الحرة.
فاحتدام الخلاف حول قضية ما في بلدنا يرتقي إلى مستوى الأزمة الوطنية إذا ما تفاقم إلى حدود الاستعصاء وتهديد الوحدة الوطنية، منذراً بشر مستطير.
وكان لنا فيض من الأزمات الوطنية منذ الاستقلال بمعدل واحدة كل عقد من الزمن تقريباً، وكان أفظعها وأعتاها تلك التي استدامت نحو خمسة عشر عاماً، وكان آخرها الأزمة الوطنية التي نعيش اليوم نهاياتها بإذن الله ببركة القابضين على القرار الدولي.
الحلول السياسية تأتي في بلاد العالم الأكثر تقدماً نتاجاً للتفاعل الديموقراطي، وبالتالي تعبيراً عن إرادة الشعب الحر. أما في بلدنا الصغير فالأزمات الوطنية تنتهي بحلول كثيراً ما تهبط علينا، بإملاء أو إيعاز خارجي يسمى أحياناً إرادة عليا وأحياناً أخرى وحياً خارجياً. هكذا كان الأمر عام 1958 عندما انتهت الأزمة الدامية على تقاطع في الموقف بين الرئيس جمال عبد الناصر وأميركا حول الشأن اللبناني. فكان شعار المرحلة <<لا غالب ولا مغلوب>>. أما الأزمة الوطنية الكبرى التي زلزلت وطننا ما بين 1975 و1990، فقد تخللتها محاولات كثيرة لإنهائها من الداخل، كلها باءت بالفشل. وكان من تلك المحاولات تقريب موعد انتخاب الخلف للرئيس سليمان فرنجية، فكان انتخاب الرئيس الياس سركيس قبل بضعة أشهر من الموعد الدستوري، وكانت محاولة من الرئيس سركيس لاستهلال عهده بحكومة من الفعاليات، أي من المتحاربين من الجانبين، تُنهي حال القتال، فما استطاع. وكانت استقالة الحكومة التي كنت على رأسها شخصياً في عام 1978 إفساحاً في المجال أمام قيام حكومة من الفعاليات، فما كان ذلك، وكان إعلان المبادئ الوفاقية الأربعة عشر في عام 1979 والمشاورات السياسية الموسعة التي أعقبت إعلانها، فما أجدت نفعاً.
ثم كان انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية، فكان أن ازداد القتال استعاراً. وكان مؤتمر جنيف ثم مؤتمر لوزان في سويسرا، اللذان جمعا حول طاولة الحوار القيادات اللبنانية على ضفتي المواجهة، وكانت الثمرة حكومة تنتحل عنوان الاتحاد الوطني برئاسة الرئيس رشيد كرامي، ضمت الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل من جانب، والأستاذ وليد جنبلاط والأستاذ نبيه بري من الجانب الآخر، وكنت شخصياً من أعضائها، فما كان منها إلا العقم والمراوحة والشهادة على مزيد من التدهور الذي بلغ أقصاه بعد استشهاد الرئيس كرامي ثم انقضاء عهد الرئيس أمين الجميل من دون انتخاب خلف له.
وما بلغت الأزمة خواتيمها في نهاية المطاف إلا بمبادرة عربية جامعة حظيت بمباركة دول كبرى فكان مؤتمر الطائف الذي صدرت عنه وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف. هكذا تنتهي الأزمات الوطنية في لبنان بوحي خارجي أو بمباركة دولية، ربما لأن وراء أكثرها خلفيات أو عوامل خارجية، إقليمية أو دولية.
الأزمة الوطنية الأخيرة، التي ما زلنا نعيش تداعياتها، انفجرت مع حدثين متلازمين: فمن جهة كان التمديد لرئيس الجمهورية العماد إميل لحود لثلاث سنوات، وكان لسوريا باع مشهودة في تحقيق هذه الخطوة، ومن جهة ثانية كان القرار 1559 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي بمبادرة مشتركة من دولة عظمى هي أميركا ودولة كبرى هي فرنسا. فانفرزت الطبقة السياسية في لبنان حول القرار فريقين، كلاهما في خندقه السياسي يرشق الآخر بخطابه التصعيدي الحاد، فلا سلام ولا كلام ولا حوار ولا من يتحاورون.
لم تُجدِ كل المحاولات التي بُذلت لردم الهوة بين الخندقين، إلى أن هبط الوحي الدولي فوُلد الحل بسحر ساحر. عجز الرئيس عمر كرامي عن تأليف حكومة لأشهر متتالية. فإذا بالرئيس نجيب ميقاتي يفلح في تشكيل حكومة خلال يومين. فلا اعتراض ولا شروط تعجيزية ولا عقبات تعترض سبيله. وتبخّر ما كان يسمى مطالب وقيم وثوابت يتسلح بها كل فريق من التنطح لفرض ما لا يقبل به الفريق الآخر.
كان فريق يطالب بالمشاركة في الحكومة فإذا به راض عن حكومة تشكل من دونه. وكان فريق يناصب سوريا العداء، وينبذ كل من وما يمت إليها بصلة. فإذا به يسلّم بلعبة الاختيار الحر <<ديموقراطياً>> بين مرشحين اثنين، أحدهما معروف بقربه الوثيق من سوريا والثاني محسوب جهاراً نهاراً على... سوريا. كان فريق يجد المصلحة الوطنية في تأخير موعد الانتخاب، فإذا به يكتشف فجأة أن الموعد الذي نص عليه القانون مقدس لا يجوز الإخلال به يوماً واحداً لأي سبب من الأسباب، وكان فريق ينادي بمشروع معين لنظام انتخابي جديد فإذا به مأخوذ بحكمة العودة إلى نظام عقيم اعتمد في عام 2000 بوحي من جهات خارجية.
إلى ذلك، كان هناك من ينادي باستقالة رئيس الجمهورية وإقالة القيادات الأمنية وتجريد المقاومة من سلاحها، وكذلك المخيمات الفلسطينية، بموجب القرار الدولي 1559، ويرفض البحث في أي موضوع أياً يكن قبل جلاء الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فإذا بهؤلاء بسحر ساحر يعلقون كل مطالبهم ومواقفهم ويلتقون على مطلب أوحد هو إجراء الانتخابات النيابية في موعدها القانوني، وتغدو سائر المطالب مؤجلة إلى ما بعد الانتخابات. كلمة السر الأميركية كانت ضمناً في الإصرار على إجراء الانتخابات والرهان على الفوز فيها بحيث يمكن للفائز أن يطالب، من موقع الشرعية الذي لا يُقاوَم، بما كان يطالب به من موقع المعارضة السياسية فيلقى اعتراضاً من الآخرين، وشتان بين الموقعين من حيث قوة المطالبة وفعاليتها.
في الدين: رأس الحكمة مخافة الله. أما في السياسة، فرأس الحكمة مهابة الدولة العظمى والامتثال لرغباتها.
في مفهوم الديموقراطية الغربية، الحكم لإرادة الشعب. هو الذي يقرّر ما يشاء في شأن أي نظام انتخابي يُعتمد، وأي موعد للانتخاب، وأي رئيس لأي حكومة. أما في <<ديموقراطية>> لبنان، فرئيس أميركا يتحدث في موضوع موعد الانتخاب في لبنان، وكذلك رئيس فرنسا، والناطق الرسمي في أميركا كما في فرنسا هو الذي يبارك قيام حكومة ويعرب عن رضاه عنها. أخبار التحركات السياسية تغص بها وسائل الإعلام وتزيّن عناوين الصحف اليومية، ولكن القرار الذي يحدد المسار هو في موقف يصدر عن واشنطن أو باريس أو نيويورك، تتردد أصداؤه عبر القاهرة أو الرياض أو دمشق. وكثيراً ما يكون الصوت الصادر عن واشنطن صدى لما هو مصنوع أصلاً في تل أبيب.
أميركا تبشّر بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ولا تتورع عن شن حروب مدمرة باسم هذه القيم الإنسانية والحضارية، وباسمها تمارس أبشع ألوان التنكيل والتعذيب بالمعتقلين في سجن أبو غريب في بغداد وسجن غوانتانامو في كوبا، ويبقى المسؤولون عن هذه الارتكابات الفظيعة من دون محاسبة، وباسم الحرية والديموقراطية أيضاً تدعم الدولة العظمى إسرائيل التي تحتل أرض الفلسطينيين وتمارس أبشع ألوان الإرهاب في حقهم وتحول دون عودة اللاجئين إلى أرضهم وديارهم.
بأي منطق ديموقراطي تسمح الدولة العظمى لنفسها بإلقاء وزنها دعماً لوجهة نظر معينة ضد أخرى في بلد صغير مثل لبنان؟ فلماذا لا تترك الدولة العظمى للشعب أن يقرر ما يشاء في شؤون تعنيه ولا تعني الدولة العظمى من قريب أو بعيد؟
لا غلو في القول والحال هذه إن الديموقراطية في لبنان وهم، والممارسة، إن كان فيها شيء من الديموقراطية فهي ديموقراطية الوحي من الخارج في غالب الحالات.
في النظام العالمي الجديد، في كنف ما يُسمى عولمة، الكبير يحاسب الصغير، فمن يحاسب الكبير؟ وإن همّ القوي بالتهام الضعيف فمن الذي يردعه؟ هذا يجعل العولمة مرادفة لشريعة الغاب دولياً ولو في وجهها الحضاري المتطور والمتألق.