|
أبو مازن يقترب من الوصول إلي
لحظة الأزمة التي وصلها عرفات
د. بشير
موسي نافع
ستة شهور مرت علي انتخاب السيد محمود عباس (أبو مازن)
رئيساً للسلطة الفلسطينية. أشر انتخاب أبو مازن إلي النضج السياسي
الفلسطيني، وإلي قدرة الفلسطينيين علي تجاوز مفاجأة فقدان الزعيم
التاريخي الكاريزمي، وإلي توجه فلسطيني لا يخفي إلي الحفاظ علي
الاستمرارية الوطنية والوحدة الداخلية. وربما يمكن القول ان أبو مازن
لم يرتكب خطأ سياسياً ملموساً خلال الشهور الماضية من رئاسته. ولكن أبو
مازن بالرغم من ذلك يوشك الاقتراب من لحظة الحقيقة التي كان علي عرفات
معاينتها في صيف 2000. بدأ أبو مازن محاولة إعادة بناء السلطة
الفلسطينية، إدارة ومؤسسات، متجنباً إبراز الطابع الأمني الذي سيطر علي
بنية سلطة الحكم الذاتي منذ ولادتها في نهاية 1993. وهناك محاولات
مستمرة للقضاء علي بؤر الفساد التي عششت في جنبات السلطة وانتشرت في
كافة وزاراتها وأجهزتها. وربما يعتبر إقرار قانون التقاعد وبدء تطبيقه
علي صعيد الأجهزة الأمنية مقدمة لإعادة نظر واسعة في الهيكل الوظيفي
المترهل لسلطة اتخمت بعبء البيروقراطية العاجزة عن الاستجابة لمطالب
وحاجات الناس. ومازال الفلسطينيون ينتظرون توكيد مصداقية إدارة أبو
مازن فيما يتعلق بمحاكمة العناصر المتهمة بالفساد وانتهاك حرمة المال
العام. كما مازال الفلسطينيون ينتظرون إحداث تحسن ملموس في مجال
الخدمات التعليمية والصحية، والتعامل مع مشكلة البطالة المتفاقمة. ولكن
الواضح من البداية ان أولويات أبو مازن الداخلية كانت أولويات سياسية.
وهنا أيضاً كان أداء أبو مازن متوازناً وجيداً إلي حد كبير. كانت في
انتظار أبو مازن منذ لحظة توليه رئاسة السلطة الفلسطينية مجموعة من
الملفات الملحة علي صعيد علاقة السلطة، التي تسيطر عليها حركة فتح،
بقوي المعارضة، علي صعيد وضع حركة فتح نفسها، علي صعيد العلاقات
الفلسطينية العربية والدولية، وبالطبع علي صعيد مستقبل التسوية
والعلاقة بحكومة الدولة العبرية. ونظراً لترابط هذه الملفات ببعضها
البعض، وتأثيرها علي مسألة الإصلاح الداخلي، فقد اعتبر أبو مازن ان
مهمته الأولي هي التوصل إلي وقف متبادل لاطلاق النار بين الفلسطينيين
والاحتلال، يفتح الطريق إلي الساحة الدولية، والامريكية منها بوجه خاص،
يفسح المجال لإعادة بناء السلطة، ويطلق عجلة التسوية من جديد. وقد
اختار أبو مازن التوصل إلي وقف إطلاق النار عن طريق تفاهم فلسطيني،
مصراً علي تجنب كل سبل المواجهة الفلسطينية الداخلية. وكان قرار أبو
مازن الامتناع عن شن حملات أمنية لتجريد الفلسطينيين من السلاح قراراً
استراتيجياً وحكيماً في الآن نفسه، ينم عن وعي بتعقيدات الصراع
وانفتاحه علي كافة الاحتمالات. في النهاية، حصل أبو مازن علي وقف
لإطلاق النار بدون سفك نقطة دم فلسطينية واحدة، وأسس علاقات مبنية علي
الثقة بينه وبين قوي المعارضة الفلسطينية المختلفة، والإسلامية منها
علي وجه الخصوص. ملف انتخابات المجلس التشريعي (البرلمان الفلسطيني
للضفة والقطاع) يبدو أكثر تعقيداً. أشاع عزم حماس دخول الانتخابات جواً
من التفاؤل في أوساط الرئاسة الفلسطينية، فدخول حماس الانتخابات يؤشر
إلي بداية انخراطها في العملية السياسية. ولكن أحداً لا يجهل قوة حماس
وقدرتها التنظيمية ونفوذها في الشارع الفلسطيني. كما ان هذه الخطوة من
جانب حماس تأتي في وقت بدأت فيه علامات شيخوخة فتح في الظهور، متجلية
في انقسامات فتحاوية داخلية بين أجيال الحركة وأجنحتها المختلفة. ولا
شك في ان حرص أبو مازن علي عقد انتخابات المجلس التشريعي في ظل هذه
الأوضاع هو مؤشر واضح علي مصداقية الرئيس الفلسطيني وشجاعته السياسية.
فلو افترضنا ان أغلبية أنصار حركة الجهاد، التي أعلنت عزمها عدم دخول
الانتخابات، ستصوت لمرشحي حماس، فلنا ان نتصور النتائج التي سيحققها
الإسلاميون. ربما لن يكون من المصلحة الوطنية الفلسطينية ان تعمل حماس
علي الحصول علي عدد كبير من مقاعد المجلس التشريعي، كما قد لا يكون من
المصلحة الوطنية العمل علي إخراج فتح من قيادة الحكومة الفلسطينية،
ولكن هذا لا ينفي وجود مشكلة كبيرة علي صعيد أوضاع فتح ووزنها
الجماهيري. وكلما ازدادت أزمة فتح تعقيداً كلما اتسع حجم المشكلة التي
يواجهها أبو مازن في تعامله مع كبري القوي الفلسطينية وقائدة الحركة
الوطنية منذ عقود. وستنعكس هذه الأزمة علي وضع الحكومة الفلسطينية، علي
قدرة هذه الحكومة علي التعامل مع ملفات الإصلاح وإعادة بناء مؤسسات
السلطة، وعلي علاقة أبو مازن بالحكومة من ناحية واللجنة المركزية لحركة
فتح من ناحية أخري. علي صعيد الأوضاع الفلسطينية الداخلية، يتحرك
أبو مازن ببطء ملحوظ. وهذا ما أخذ يثير انتقاد البعض، واتهام الرئيس
الفلسطيني بأنه غير قادر علي اتخاذ قرارات صعبة وحاسمة. ولكن التحرك
الصحيح مهما كان بطيئاً هو أفضل من التحرك السريع المتخبط، كما ان
تحقيق إنجازات بطيئة وصغيرة مع المحافظة علي وحدة الصف الفلسطيني أفضل
بكثير من تبني سياسات مدوية، تثير إعجاب هذا الطرف او ذاك ويدفع
الفلسطينيون ثمنها من تماسكهم الداخلي. لكن معضلة أبو مازن الكبري تبقي
في تحقيق تقدم علي المستوي السياسي الرئيسي، مستوي الاستقلال الوطني
الفلسطيني، نهاية الاحتلال، والتخلص من عبئه الثقيل الجاثم علي الحياة
الفلسطينية، جيشاً ومستوطنات. وهنا يبدو أبو مازن وكأنه يقترب حثيثاً
من لحظة الحقيقة. الذين روجوا، ومازالوا يروجون، لان مصاعب أبو مازن
هي في جلها مصاعب تتعلق بالأوضاع الفلسطينية الداخلية، مخطئون بلا شك،
ويساهمون من حيث أرادوا أو لم يريدوا في ترسيخ السياسة الإسرائيلية
القائمة علي تحويل القضية الفلسطينية من قضية نضال وطني ضد احتلال بشع
وغير شرعي إلي قضية إصلاح فلسطيني وسيطرة أمنية. وليس هناك شك في ان
إدارة الرئيس بوش قد تبنت الكثير من الرؤية الإسرائيلية، وان هناك بين
القيادات الفلسطينية، بما في ذلك بعض الملتفين حول أبو مازن، من
ابتلعوا هم أيضاً هذه الرؤية. الحقيقة التي باتت واضحة، والتي ستصبح
أكثر وضوحاً بمرور الأيام، ان سفينة أبو مازن الداخلية تسير بلا عقبات
جوهرية، وحتي تلك المتعلقة بوضع حركة فتح، والتي يمكن القول بانها أكثر
المسائل الآنية إلحاحاً، سرعان ما ستجد طريقها إلي الحل علي هذا النحو
أو ذاك. ثمة عدد كبير من قيادات فتح أضحي واعياً بضرورة أخذ حقائق
التاريخ والواقع في الاعتبار، وان فتح ومهما بلغ دورها في تاريخ الحركة
الوطنية الفلسطينية من أهمية لا يمكنها ان تتجاهل بروز قوي وتيارات
فلسطينية جديدة أبلت بلاء حسناً خلال الحقبة الأخيرة من النضال الوطني.
بكلمة أخري، ليس ثمة ما يثير القلق داخلياً، ما يستوجب القلق فعلاً لدي
أبو مازن والقيادة الوطنية الفلسطينية هو المؤشرات المتزايدة علي ان
مشكلة الدولة العبرية والإدارة الامريكية هي مع الفلسطينيين كشعب وقضية
وليس مع قيادة عرفات كما قيل طوال العامين أو الثلاثة
الماضية. استقبل انتخاب أبو مازن باحتفالية واسعة النطاق، عربياً
ودولياً، وحتي حكومة شارون لم تجد بداً من الترحيب به وإن رافق الترحيب
سلسلة لا أول لها ولا آخر من المطالب. ولكن هذا الترحيب لا يبدو اليوم
وكأنه ترجم إلي تحقيق تقدم ملموس علي الأرض. العكس هو الصحيح. علي
مستوي العلاقة مع الطرف الإسرائيلي، وبالرغم من عدد من اللقاءات السرية
والعلنية بين الطرفين، ما زالت الآمال الفلسطينية معلقة في الهواء،
وحكومة شارون تفاجئ الرئيس الفلسطيني بين يوم وآخر بإجراءات لا تستهدف
إلا تعزيز الاحتلال في الضفة الغربية وتفريغ مشروع الدولة الفلسطينية
من محتواه. الواضح حتي الآن، وبالرغم من التأخير المعتاد، ان شارون
يريد بالفعل الانسحاب من قطاع غزة. ولكن الواضح أيضاً ان هذا الانسحاب
لن يتبعه انسحاب ما من الضفة الغربية، لا بالاتفاق مع الجانب الفلسطيني
ولا من طرف واحد، وان عملية غزة لن تكون مقدمة ولا جزءاً من عملية
أشمل. وفي حين يدرك العالم كله ان سلام أوسلو قد انتهي بالفعل فإن
حكومة شارون لا تبدو علي استعداد حتي للعودة إلي اتفاق أوسلو، الاتفاق
الوحيد القائم بين الطرفين. خارطة الطريق هي الأخري خارج نطاق الخطاب
السياسي الإسرائيلي. وبعد مرور شهور علي مؤتمر شرم الشيخ، لم تنسحب
القوات الإسرائيلية التي أعادت احتلال كل الضفة الغربية قبل ثلاثة
أعوام إلا من جيب صغير في منطقة أريحا. وإذ يجمع الفلسطينيون علي مطلب
تحرير الأسري، الذين تجاوز عددهم العشرة آلاف ويقبع بعضهم في المعتقلات
بلا محاكمة، فإن العدد الضئيل الذي أفرج عنه حتي الآن كان من أولئك
الذين توشك محكومياتهم علي الانتهاء علي أية حال. ومن حين إلي آخر،
تعود الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلي اعتقال واغتيال نشطين فلسطينيين.
بمعني ان وقف اطلاق النار الذي أريد منه ان يكون مقدمة إطلاق جديد
لعملية السلام أصبح بلا جدوي ولا تأثير يذكر علي مجمل العملية
التفاوضية. طبقاً لخطة شارون، ستفكك المستوطنات الإسرائيلية المقامة في
قطاع غزة. ولكن الاستيطان في الضفة الغربية يجري تعزيزه علي قدم وساق.
مستوطنات قائمة تتوسع بإضافة آلاف الوحدات، وأخري تضم أراضي جديدة تقسم
الضفة الغربية إلي قسمين جغرافيين غير متصلين، بحيث أصبحت مقولة دولة
فلسطينية قابلة للحياة مقولة لا معني لها. وفي ذلك كله توكيد لما
استبطنه التحرك الإسرائيلي من طرف واحد من البداية: ان الانسحاب من
قطاع غزة لا يقصد به تنشيط عملية السلام بل إحكام السيطرة علي الضفة
الغربية. كان أبو مازن يدرك ربما ان آماله معلقة علي تفعيل الدور
الامريكي وليس علي حسن النوايا الإسرائيلية. ولكن الموقف الامريكي لا
يبشر بالكثير. لقد أكد الرئيس الامريكي، كما أكدت وزيرة خارجيته،
مؤخراً معارضة توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وضرورة
ان يكون الانسحاب من غزة مقدمة وليس نهاية لعملية السلام في صيغتها
الحالية. ولكن هذا هو كل شيء علي ما يبدو. بالرغم من الحديث عن خلاف
بين بوش وشارون اثناء زيارة الأخير لواشنطن، جاءت تصريحات شارون لتعكس
ارتياحه من مواقف الرئيس الامريكي. وسواء فيما يتعلق بتوسيع المستوطنات
أو ما يتعلق بخطة الانسحاب من قطاع غزة، فإن المخططات الإسرائيلية يجري
تطبيقها بدون أدني تغيير يذكر. بل ان الحكومة الإسرائيلية، التي
أزعجتها المواقف الامريكية الإيجابية من أبو مازن، أخذت في شن حملة
منظمة ضد الرئيس الفلسطيني فحواها انه لا يختلف كثيراً عن عرفات وانه
عاجز عن اتخاذ القرارات الضرورية للتقدم بعملية السلام. ثمة أدلة
متزايدة، ستمتحن بلا شك في زيارة أبو مازن لواشنطن، علي ان إدارة بوش
لا تحاول إيجاد حل نهائي للصراع علي فلسطين، بل مجرد تهدئة الوضع
وتمضية الوقت حتي يتسني لها التعامل مع القضايا التي تراها أكثر
إلحاحاً في العراق وسورية وإيران. أبو مازن، باختصار، يقترب الآن
من اللحظة التي واجهها سلفه في صيف 2000. خلال الشهور السابقة لمباحثات
كامب ديفيد، اثناء المباحثات، وبعدها بقليل، توصل عرفات إلي قناعة بأن
الدولة العبرية قد قررت التهرب نهائياً من استحقاقات أوسلو، وان طريقه
الوحيد لتحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة علي الأراضي
المحتلة منذ 1967 هو الانتفاضة. وربما لن يمر زمن طويل قبل ان يصل أبو
مازن إلي القناعة ذاتها وإلي ان كل ما قدمه علي صعيد وقف اطلاق النار
والإصلاحات الداخلية غير كاف لتحقيق ولو جزء من الآمال الوطنية
الفلسطينية. وعندها سيكون علي ابو مازن ان يأخذ أصعب القرارات في
تاريخه السياسي. 9
|