التيار القومي والشارع العربي
الدواعي والمنطلقات
مروان حبش
تتعرض الأمة العربية إلى ضغوط كبيرة ، هدفها تغيير عقيدتها وقيمها ومحو هويتها ، في نفس الوقت الذي تهرول فيه أنظمتها الحاكمة العاجزة عن حماية أمنها وهويتها ، لتقديم التنازلات بغية استمرارها في السلطة ، على حساب المصالح العليا والمشروعة للأمة .
ونظرا لضعف الحركات القومية وعدم فعاليتها في الضغط على السلطات التجزيئية الحاكمة ،استساغ بعض المثقفين التحدث عن موت القومية ، أو نكرانها واعتبارها وهما ، ويجد هؤلاء مسوغا لأحكامهم في أمرين أساسين : الأول ، في فشل وحدة 1958 وعدم تحقيق المشروع الوحدوي العربي . والثاني ، يرتبط بظاهرة الكوكبة . ورغم أن هذين الأمرين واقعيان ، فإن مشكلة أولئك المثقفين تكمن في القراءة الخاطئة . وأمام هذا كله ، أصبح الأمر ملحا للبحث الجدي عن عوامل الإنقاذ وإيقاف هذا التدهور الخطير .
إننا نرى أن الإنقاذ يكون بإعادة ربط جسد الأمة بحزام يضم جوانبها ويلملم أطرافها ويقوي فعاليتها ويهيء لمسيرة وحدتها بواسطة تيار قومي التركيب يتبع سياسة مبادئ لا سياسة شعارات ، ويقوم باغتنام الفرصة القادمة، فرصة ضعف الدولة القطرية بسلطاتها التجزيئية المافيوية .
ومن أجل تحقق هذا التيار يتحتم تشكيل أوسع تحالف ممكن بين القوميين – أحزاب و حركات وشخصيات – ولكل آراؤه ، ولكن الزمن والمخاطر لا يسمحان بالتمترس أو التسلي بالمناداة < كل في آرائه > ، بل يجب التوافق ، وطرح خطاب قومي يعتمد على المفاعيل العصرية في تحقيق نشاطاته
إن هذا التيار يؤمن :
أن القومية العربية – التي تكتسب شرعيتها من التاريخ – هي تكون ثقافي ، أهم مغذياته الأديان السماوية وفي طليعتها الدين الإسلامي ،وإضافة إلى هذا التكون الثقافي تأتي المصلحة القومية العليا .
أن الهوية القومية منتج ثقافي يخضع في مفهومه البنيوي إلى المؤثرات نفسها التي تحكم المسارات الثقافية سلبا وإيجابا .
أن القومية العربية هي قومية إنسانية ، تقدمية ، و علمانية .
أن الاتجاه نحو المستقبل يتطلب استعمال المنهج العقلي في المعرفة وتطبيق ذلك على أمور الحياة ومجالاتها كافة ، وبه يتم إدراك أن ما كان ضروريا في لحظة تاريخية ، ما ، يكف عن أن يكون عقلانيا في شروط تاريخية جديدة ، وبه < العقل > تتم معرفة الأخطاء التي حصلت لتجنبها ، ومعرفة العقبات التي تعرقل تحقيق المشروع القومي ، وأنها " العقبات " إرادة واعية " من داخل واقعنا أو من خارجه .
أن العقل يتجاوز نفسه على نحو دائم ويؤسس لحرية ارتياد الواقع في كل عناصره ، ويرفض تقسيمه إلى ما هو ارتياده مسموح به ، وما هو ممنوع عنه < لا عصمة –– لا تابو – لا طوطم > ، وبذلك يحدد العقل الخيارات التي هي نتاج الواقع نفسه .
أن ما وصل إليه الواقع من تطورات يقتضي بالضرورة نقدا متجاوزا لإنتاج وإعادة إنتاج المفاهيم والمقولات القومية كشرط رئيس لاستمرارية فاعليتها واحتفاظها بالمصداقية المعرفية وتفاعلها مع حركة الواقع ، وتأسيسها للمستقبل ومواكبتها للحداثة كقاعدة أساسية للتطو ر والتخلص من الجمود .
ومن هذا المنطلق يرى التيار القومي أن تجديده يجب أن يشمل الفكر ، والاجتماع ، والسياسة ، والاقتصاد ......، ويحقق الوحدة ، والحرية ، والعدالة الاجتماعية ، والمساواة وتكافؤ الفرص ، وحق الاعتقاد ، والمواطنة ، والتنمية المستقلة ، وبناء قاعدة صناعية متطورة ، وصون الوطن وحمايته ، وحكم القانون ، وكل ذلك من خلال صياغة عقد اجتماعي جديد .
ويعتبر التيار القومي أن قضية التجديد هي قضية الضرورة للتغيير والتحديث ، أي كيفية الدخول إلى مدار العصر ، لذا يجب أن يلعب < التيار القومي > دور المجدد الحقيقي ، وأن يكون محرض نهضة حقيقية ، ولأنه " الكتلة التاريخية " التي انقرضت من تاريخها ومن عقليتها عقدة رفض من هو غير عربي ، عليه أن ينزع < مرض الخوف الذهاني > من نفوس الأقليات ، وأن لا يسمح باختلاط كل ما قبل الوطنية من الظواهر< الدينية والطائفية ، والجهوية ، والعشائرية والعائلية ... > بالآليات الإيديولوجية الحقيقية ، كما عليه أن يزيل جدلية التناقض بين الأجيال ، والاتجاه نحو النمو في الحرية للفرد وللمجتمع .
ينطلق التيار القومي من أن التاريخ سيرورة متماسكة مولدة للمشكلات ، وأن الزمان يعاش في مواجهة المشكلات المطروحة ، يعاش وكأنه زمن يتعجلنا ، وبما أن إرادة الإنسان الفاعل الواعي لها الدور الرئيس في تحريك مسيرة التاريخ < لا حتميات > ، وبهذه الإرادة يتأسس مشروع التيار القومي " الفكري ، والسياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي " ويتأسس < هذا المشروع في صورة منظومة متكاملة ، وليس في حلقات متعاقبة ، كما أنه لا يستند إلى فرصة الأولويات كي لا تضيع صلة الاتصال والترابط بين أهدافه التي يجب إعادة بنائها في وعينا بناء بنيويا منظوماتيا من خلال علاقة الترابط المتبادل بينها مجتمعة > .
كما أن التيار القومي يرى :
أن إرادة تمديد الماضي وإطالته هي إرادة مدمرة ، كما أن العودة إلى مؤسساته أو المحافظة عليها هو نوع من < المرض الذهاني > ، وهذا يؤكد أنه من المفارقة الحديث عن التحديث في استخدام آخر منتجات العلوم في الوقت الذي يبقى فيه العقل حبيس الماضي وأسير الجمود .
أن السير نحو الحضارة الحديثة يتطلب التجاوز ، تجاوز كل ما أصبح معيقا " متخلفا " ، وفي نفس الوقت يرى أن تجديد مشروعه القومي يجب أن يتفاعل مع بيئته بأهدافه وعناوينه وقواه التي تحمله ، أي أنه" التجديد " ثمرة تفاعل بين أبناء الأمة مع واقعهم وتطلعهم إلى تغييره ، وإلى تحقيق أهداف رسموها لنضالهم .
أن العلم الوضعي والقوانين الوضعية يسندان الحق الطبيعي في مقولة الوحدة العربية باعتبارها معيارا محسوسا لحاجات العرب في العصر الحديث ، كما أن التطورات ذاتها تفرض على العرب ، من باب المصلحة المباشرة التوجه نحو التكامل والتعاون ، أي أن الأمرين :( نظرية الحق الطبيعي ونظرية المصلحة ) يؤكدان ضرورة الوحدة العربية .
إن الوعي الصائب يقر بأن <القطري > لا يكون نقيضا ل < القومي > عندما لا يكون انعزاليا وتجزيئيا ، و يتطابق مع القومي حينما يكون وطنيا ، انطلاقا من أن كل ما هو في المصلحة الحقيقية لأي قطر يكون حتما في المصلحة القومية للأمة ، وكل ما يضر بالأمة سيضر بالقطر حتما .
أن الديمقراطية هي الوجه السياسي للحرية ، وهذه بدورها المبدأ الفلسفي التام للديمقراطية التي هي نهج في الحكم يقوم على قواعد الشفافية والحوار والمساءلة والمحاسبة والمساواة وتكافؤ الفرص وحرية الرأي والإعتقاد والتفكير ، والتعددية السياسية الندية وتداول السلطة سلميا و توضيح أن رفض التطوير الديمقراطي للمؤسسات هو رفض للعيش مع الآخرين ، ورفض للتنازل والتسوية اللذين لا غنى عنهما في العلاقات الاجتماعية والسياسية من الناحية الأخلاقية ، وبالتالي إن رفض الديمقراطية هو رفض للإنسان وإحلال التعصب المدمر للصيغة السياسية – الثقافية ذات المنحى التعددي.
ضرورة التأكيد على الرابط بين الديمقراطية والعلمانية ، لأن النظام الديمقراطي يقر بسيادة الشعب وحقه في اختيار من يحكمه ، كما يقر بالحق المتساوي لكل المواطنين < ذكورا وإناثا > ، ويؤكد مفهوم " المواطنة " كقيمة حضارية ، وهذا لا ينجز إلا بالعقلانية والعلم والابتعاد عن كل ما هو غيبي أو هو خارج إرادة الإنسان .
أن الأحادية القطبية تحمل معنى بنيويا بالدرجة الأولى ، أي أنها أحادية تحاول توحيد العالم على أساس عولمة < كوكبة > آليات السوق .
ويرى التيار القومي ، أن من بين التحديات والمخاطر الكبيرة التي تهدد هوية الأمة العربية ، وتجزئ المجزأ في أقطارها :
- عودة الاستعمار الى الوطن العربي ، بشكله المباشر وتواجده العسكري في بعض الأقطار ، أو من خلال نفوذه الإقتصادي والسياسي في الأقطار الأخرى
- الكيان الصهيوني بدوره الوظيفي التجزيئي الإجلائي ، وهو كيان غير منتم إلى المنطقة ثقافيا وإثنيا
- المشاريع الصهيونية والأمريكية ، بدءا من السوق الشرق أوسطية ، إلى الشرق الأوسط الأكبر ،بغية تحويل العرب إلى أيد عاملة رخيصة والاستيلاء على ثرواتهم ، و بغية خلق مجتمعات جديدة تشاد على كذبة اجتماعية تكتسب مع الوقت وبفضل الدعاية قوة أمر واقع لا قوة إقناع ، دون إدراك أن مجتمعات كهذه < أقيمت أو ستقام > محكوم عليها أن تتداعى أو تختفي يوما ما .
وهذا يوجب على التيار القومي أن يعتبر نفسه ، إلى جانب مهامه الأخرى ، حركة تحرر وطني ، تقع عليها مسؤولية تبني ثقافة المقاومة بكل أشكالها ، وثقافة نزع الخوف ، ونشرهما .
- العولمة ( الكوكبة > التي تعرف – بمعناها العام ، بأنها " التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة ، أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية " وهذا يوجب تناولها من منظور عقلاني شامل ومن منظور إنساني ، أيضا، يحيط بها من مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والإعلامية والحضارية ، وما يصاحبها من تدهور في مستوى معيشة قطاع واسع من الشعب وازدياد البطالة ، وتقليص دور الدولة في تقديم الخدمات ...... . . والعولمة < الكوكبة > كتحد جديد وداهم تدفع إلى تأجيج الصراع القومي - لأنها تفيد قوميات وثقافات على حساب قوميات وثقافات أخرى - وتقود إلى خلق تكتلات اقتصادية كبرى ، وإذا ما حصل مثل هذا التكتل بين الأقطار العربية فإنه سيؤدي إلى تعزيز البعد القومي بينها .
إن هذه التحديات وغيرها تؤكد راهنية وضرورة قيام تيار قومي بمشروع نهضوي جديد يحقق التقدم المنشود إن كان على مستوى قطري ، أو على مستوى الوطن العربي.