لبنان وسورية بعد الإنسحاب ... إلي أين؟

 

د. عصام نعمان



بإكتمال الإنسحاب العسكري السوري تنتهي حقبة وتبدأ أخري في تاريخ لبنان وسورية بل في تاريخ المنطقة.
ليبس من قبيل المغالاة القول ان هذه الأيام التي نعيش مرارتها تحاكي أيام إنفصال سورية عن مصر في أواخر أيلول (سبتمبر) 1961. ففي كلتا الحالين سقطت تجربة وحدوية او إتحادية أو تعاهدية علي نحوٍ بالغ الخطورة.
سينبري أبطال التجربة التعاهدية السورية ـ اللبنانية كما انبري أبطال الوحدة المصرية ـ السورية إلي تحميل أمريكا وإسرائيل مسؤولية السقوط المدوّي. لكن الأرجح أن حكم التاريخ علي كلتا التجربتين سيحمّل أبطالهما ، بالدرجة الأولي، القسط الأكبر من المسؤولية.
صحيح أن الغرب الأوروبي والغرب الأمريكي كانا دائما معاديين وناشطين في منع قيام دولة إقليمية مركزية بين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والساحل الغربي للخليج الفارسي ـ العربي. لكن الأصح أن القوي السياسية التي تصدت لإقامة هذه الدولة، من محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلي صدام حسين في النصف الثاني من القرن العشرين، مروراً بجمال عبد الناصر وحافظ الأسد، قد ارتكبت من الأخطاء ما أعطي الغرب الأوروبي ثم الغرب الأمريكي من الذرائع والفرص ما مكّناهما من تفشيل التجارب الوليدة.
اليوم تقف سورية ولبنان علي مفترق طرق ويتعيّن عليهما أن يتخذا من القرارات ويعتمدا من السياسات ما سينعكس بالضرورة علي علاقات القوي داخلهما كما علي العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينهما. وفي كلا المجالين يبدو أن لأمريكا دوراً مؤثراً وسلبياً.
في لبنان، ثمة إصطفاف جديد للقوي السياسية بدأ بالتشكّل. فالمعارضة الإئتلافية التي قادت في الداخل حملة إخراج سورية من لبنان أخذت بالتفكك طبقاً لمقتضيات مصالحها الاستراتيجية والسياسية. كذلك جبهة الموالاة الإئتلافية. فوليد جنبلاط والقوي السياسية المتحالفة معه في منطقة جبل لبنان ليس في مصلحته ولا في مصلحتها إحلال وصاية أمريكية بازغة علي البلد محل وصاية سورية ذاوية. هو يعرف أن المعارضة المسيحية التقليدية يهمها إستثمار الخلل الحاصل في ميزان القوي الداخلي لإعادة النظر في التوازنات التي كان أقامها إتفاق الوفاق الوطني (الطائف) العام 1989. بعضها يتوخي من وراء ذلك إستعادة نفوذ سابق تلاشي مع تنامي الوصاية السورية. بعضها الآخر يحمل طموحاً راديكاليا جوهره إعادة تركيب لبنان علي أساس كانتونات طائفية تجمعها دولة فدرالية. أما أمريكا فإن لها أجندة متعددة الأغراض، أبرزها تجريد المقاومة الإسلامية (حزب الله) والمخيمات الفلسطينية من السلاح، وإتخاذ لبنان منصة سياسية، وحتي عسكرية إن إقتضي الأمر، لتغيير النظام السياسي في سورية علي نحوٍ يؤدي إلي سَوق سورية ولبنان معا إلي صلح مع إسرائيل، يكون علي شروط هذه الأخيرة.
في سورية، ثمة مخاض عسير يُفترض ان يلد تعديلات وإصلاحات في المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم في شهر حزيران (يونيو) المقبل. غير أن مخاضا آخر يعتمل داخل الجسم السياسي السوري مردّه إلي الصدمة الناجمة عن خروج سورية المفاجيء والمزري من لبنان والآثار الاقتصادية والسياسية والأمنية التي ستترتب عليه. هذا المخاض يبدو متميزاً عن المخاض الأول الذي يخص الحزب الحاكم بالدرجة الأولي، في حين أن الثاني يتعلق بالقوي السياسية الأخري المعارضة للنظام والعاملة من اجل تغييره او، علي الأقل، تطويره باتجاه المزيد من الحرية والديمقراطية. هل من سبيل إلي تلاقي المخاضين وتكاملهما علي نحوٍ يؤدي إلي قيام حركة تصحيح ديمقراطي شاملة تجري بمشاركة جميع القوي الوطنية والقومية والإسلامية الديمقراطية؟ هذا هو السؤال ـ التحدي الذي يواجه القيادات السياسية السورية بمختلف ألوانها واتجاهاتها.
علي صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين، يلّح سؤال : ما مصير معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق والاتفاقات المتفرعة عنها؟ هل تبقي نافذة أم يجري تعديلها حتي حدود إفراغها من مضمونها؟ إن الجواب عن هذا السؤال يتوقف علي ما ستنتهي إليه عملية إصطفاف القوي السياسية الجارية هذه الأيام والتي لن تنتهي إلاّ بإجراء الانتخابات النيابية في لبنان.
بموازاة المخاض السياسي الجاري في كل من سورية ولبنان، ثمة هجمة سياسية أمريكية تستهدف البلدين داخليا وإقليميا. إنها جزء لا يتجزأ من إستراتيجية أمريكا المعلنة لإعادة تشكيل المنطقة سياسيا وإقليميا. في هذا الإطار يرتبط المخاض في كل من لبنان وسورية وعلاقاتهما الثنائية من جهة بتحديات ماثلة وتطورات مرتقبة في كل من فلسطين والعراق ومصر والسعودية وإيران من جهة أخري .
في فلسطين، لا يبدو أن خطة شارون للإنسحاب من قطاع غزه تتكامل مـع خريطة الطريق التي تهدف، نظريا، إلي تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة قابلة للحياة. ذلك أن شارون، ومن ورائه اليمين الصهيوني المدني والديني، يرفض وقف الاستيطان كما يرفض رفع يد إسرائيل عن القدس العربية والحرم القدسي الشريف. ذلك سيؤدي بالضرورة إلي إعادة تأجيج الانتفاضة. تري، هل تدفع متطلبات سياسة بوش في العراق إزاء كل من سورية ولبنان ومصر والسعودية إلي إكراه إسرائيل علي وقف الاستيطان لإنجاح خريطة الطريق ؟ ليس ثمة ما يشير إلي أرجحية حدوث ذلك في الوقت الحاضر.
في العراق، لا يبدو أن التوفيق بين مصالح أمريكا ومصالح إيران ممكن ومجزٍ علي المديين المتوسط والبعيد وسط التجاذب الحاد بين القوي الموالية للدولتين المتصارعتين داخل الجمعية الوطنية العراقية. علما أن القوي العسكرية للنظام الجديد ـ الحرس الوطني والشرطة تحديدا ـ تكاد تترنح تحت وطأة خسائرها البشرية اليومية. ذلك يربك إدارة بوش الحائرة بين خيار الخروج من الأتون العراقي بالسرعة الممكنة أو تمديد الاحتلال المكلف بإنتظار توليد ظروف سياسية وعسكرية أفضل. ثم، ماذا تراها تقرر سورية بعد إنتهاء مخاضـها المزدوج وفي ضوء نتائجه؟ هل تصادق النظام العراقي الجديد لتأمن ضغوط اميركا أم تدعم قوي المقاومة العراقية علي نحوٍ أفعل لتقصير إقامة أمريكا المكروهة في بلاد الرافدين؟
في مصر، يبدو أن أمريكا غسلت يديها من حسني مبارك والحملة الناشطة لتمديد ولايته. تري، هل تستعيض عنه بشخصية أخري من حزبه الحاكم ـ عمر سليمان، مثلاً ـ أم تتجرأ علي تقبّل فوز مرشح للتيار الإسلامي في إطار حوار خجول مع الإسلاميين عموما يهدف إلي تظهير حزب إسلامي ديمقراطي كحزب اردوغان التركي، يتقبّل التعامـل مع الغرب أو معارضته بأسلوب سلمي وديمقراطي؟
في السعودية، تبدو أمريكا مرتاحة لنجاح تجربة الإنتخابات علي الصعيد البلدي. غير أن بوش طالب ولي العهد الأمير عبد الله في خلال زيارته الأخيرة له بتعـاون أوسع وأوثق علي صعيدين : تخفيض أسعار النفط بزيادة إنتاج السعودية منه، وتوظيف أفضل لعائدته في محاربة الإرهاب. لا تمانع الحكومة السعودية في تلبية هذين المطلبين، الاّ أنها ما زالت تتحفظ لجهة رغبة أمريكا في إشراكها في تغطية جزء كبير من فاتورة إعادة إعمار العراق. فالرياض متخوّفة من إزدياد نفوذ إيران داخل النظام العراقي الجديد ذي الغلبة الشيعية، وهي تحاذر أن يتسبب دعمها المالي المقترح له في إضعاف العرب السنّة. ما الدور الذي تريده السعودية لسورية في هذا المجال؟ وهل تتفق مع أمريكا علي إسناد دور لسورية في دعم العرب السنّة لتحقيق لون مع ألوان التوازن مع إيران في بلاد الرافدين؟ وهل يستلزم ذلك التخلي عن النظام السوري القائم أو تعديل تركيبته علي نحوٍ يسمح لأهل السنّة داخله بلعب دور أفعل؟
في إيران، لا يبدو أن المحافظين يتوقعون تسوية قريبة مع أمريكا حول الملف النووي. بالعكس، يبدو أن الصراع يتجه إلي التصعيد. في هذه الحال، ستتجه طهران إلي تقديم مزيد من الدعم السياسي والمالي لدمشق وكذلك لحزب الله من اجل مواجهة الهجمة الأمريكية المرتقبة علي نطاق المنطقة كلها وفي مواقع متعددة.
الصراع طويل ومرير، وقد دخلت سورية ولبنان كما سائر الأطراف الإقليميين حقبة جديدة خطيرة ومعقدة ومفتوحة علي شتي الإحتمالات .