سوريا في خط المرأى الاميرك

:جوزف سماح


ة

ينقل سياسيون لبنانيون عن المبعوث الاوروبي تيري رود لارسن رواية مفادها انه عندما التقى وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس حدثها عن اجتماعه بالرئيس السوري بشار الأسد وايجابياته وانه لاحظ ان الأسد اتخذ القرارات كلها دون مراجعة احد وانه التزم تنفيذها حرفياً، يستطرد لارسن ان رايس عبّرت عن غضب شديد واتهمته بـ «السذاجة» واتهمت الرئيس السوري بـ «المراوغة».


وتذكر هذه الرواية بما ينقل عن الرئيس جورج بوش بعدما تسلم رسالة من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حول سفينة الاسلحة «كارين إي». لقد اغتاظ جداً واعتبر ان عرفات لم يقل له الحقيقة وبنى على ذلك موقفه المعروف من ... حل ازمة الشرق الاوسط.


تلتقي الروايتان المزعومتان من ناحية الوقائع. وتلتقيان ايضاً من ناحية الاستنتاج السياسي الذي توصلت اليه الادارة الاميركية وهو، على الارجح، استنتاج يوافق قراراً مسبقاً كانت اتخذته. ولقد نشرت صحيفة «معاريف» الاسرائيلية نقلاً عن اوساط الوفد الاسرائيلي برئاسة آرييل شارون.


الذي زار واشنطن والتقى بوش في مزرعته في كروفورد، ان الاخير أبلغه «ان الأسد جالس، هذه الايام، في مقعد عرفات». الرئيس السوري، بهذا المعنى، كما الرئيس الفلسطيني «غير ذي صلة»، وواشنطن لن تحاوره، ولن ترد على عروضه، ولا تمانع في ذهابه، سننتظر سقوطه.


ان أي مراقب للسياسة الاميركية حيال سوريا يصل الى هذه الخلاصة: لن نتعاطى، لن نعقد صفقة، لن نشجع تسوية، أي ان واشنطن، والكلام لبوش، ستكتفي بالضغط، وفرض العقوبات، وفرض الشروط، والتلويح بأنها قد تقدم على تغيير النظام ان لم يقدم على تغيير سياسته. ولقد كتب معلقون اميركيون وأوروبيون على ان النظام السوري، اذا حرم من اوراقه الاقليمية، فانه سيدخل في مسار انحداري يقوده الى النهاية.


لا اشارة اميركية رسمية جادة الى ان البيت الابيض حسم امره. كل ما يطفو على السطح هو ان جيباً من «المحافظين الجدد» كان يدعو، منذ اواسط التسعينيات الى التغيير في سوريا، يؤلب الادارة على اتخاذ هذا القرار وان رأيه، حتى الآن، ليس غالباً وان كان شديد التأثير.


المطالب الاميركية من سوريا معروفة. ففي العراق يتوجب الكف عن دعم المقاومة، وطرد البعثيين، وتحويل الاموال، ومراقبة الحدود. وفي المجال الفلسطيني يتوجب ابعاد قادة «المنظمات الارهابية« وإقفال المكاتب، ودعم السلطة الوطنية، وممارسة الضغط على الفصائل الفلسطينية لكي ترضى بتهدئة لا أفق لها.


وفي لبنان يتوجب الانسحاب الكامل للجيش والاستخبارات، وانكفاء النفوذ السياسي، والمساعدة على خنق «حزب الله» بعدما تعذر التوصل الى «تسوية» يتولى بموجبها السوريون تصفيته.عندما تلبي دمشق هذه الشروط، وهي في رأي واشنطن أبسط الواجبات، فان نظامها يصبح قابلاً للتحاور.


أي يحصل على سمة دخول الى جنة الدول التي ترضى الولايات المتحدة ان تتباحث معها وأن تعيد اليها سفيرتها. ولكن التحاور شيء والتفاوض شيء آخر. فاذا اراد بشار الأسد ان يتفاوض حول الجولان عليه ان يقدم على خطوات حيال اسرائيل. ومن هذه الخطوات.


حسب تقرير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى» الصادر قبل اسبوعين الاقدام على مبادرات من نوع ما فعله الرئيس انور السادات. علماً ان الوعد المقابل لا يتجاوز «السلام مقابل السلام» اما الجولان المحتل فخاضع، على الارجح، للتقاسم. ولا يخفي الكثيرون ان الاسم الكودي لهذه الوجهة هو: الخيار الليبي.


تملك الولايات المتحدة مجموعة ادوات لفرض ارادتها على سوريا. هناك «قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان» والعقوبات التي شرع بوش في تطبيقها. وهناك لائحة العقوبات المطبقة على «الدول الداعمة للارهاب». وهناك المساعي من الاوروبيين لمنعهم من توقيع اتفاق الشراكة.


وهناك القرار 1559 حول الانسحاب من لبنان وتجريد «حزب الله» من السلاح. وهناك القرار 1595 القاضي بإنشاء لجنة دولية للتحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. والقرار الاخير قابل لتوسع في التفسير يمكن له ان يطال أعلى المستويات السياسية والامنية في دمشق.


وليس سراً ان اميركا تلعب دوراً في إحكام الحصار العربي حول دمشق. كما انها تلوح بقوانين جديدة اميركية او بقرارات جديدة من مجلس الامن. وثمة مشروع قانون باسم «تحرير سوريا» مطروح على الكونغرس ويتيح فرض عقوبات قاسية.


ولم تعد واشنطن تتردد في الاستقبال الرسمي لنفر من المعارضين السوريين الموالين لها والمعدومين من أي قاعدة اجتماعية في بلادهم. والواضح ان الادارة تعتمد سياسة تشهيرية بسوريا ونظامها وسياستها، وتتعمد كسر هيبة النظام والتأكيد المتلاحق على ضعفه.


مقابل هذه الادوات ثمة عقبات. لم يستقر وضع الاحتلال الاميركي في العراق كما ان الملف الايراني وهو شائك جداً لم يحسم. ثم ان المنظمات الراديكالية الفلسطينية خففت وجودها في دمشق وهي تحقق انتصارات في الانتخابات البلدية ويصعب نسبة كل خطوة تقوم بها الى إيعاز سوري.


اما في لبنان فالوضع مفتوح على الاحتمالات كلها ومن غير المؤكد ان الانتخابات القادمة ستأتي بأكثرية تتبنى البرنامج الاميركي. ولقد بات معروفاً ان الاضطرار واجب الى احتساب القوة التي يمثلها «حزب الله» وهي سياسية طبعاً وشعبية، ولكنها عسكرية ايضاً وتتفوق، منفردة، على اي قوة عسكرية اخرى فوق الساحة اللبنانية.


وفي ما يخص سوريا تعاني اميركيا من انعدام وجود بديل مقنع للحكم الحالي ولا تفصل تجربتها الواقعية سوى تعزيز الشكوك بالمتبرعين للعمالة لها. ان مواقف الرأي العام السوري بعيدة جداً عن ان تشبه مواقف الرأي العام العراقي ونخبه وعن تقديم «منطقة كردية» آمنة للوجود الاجنبي.


الواضح ان الادارة لن تستطيع حشد الرأي العام الوطني لديها وراء توتير أمني مع سوريا لانها ستعجز، هنا، عن استخدام ترسانة الاكاذيب السابقة بخصوص «الخطر النووي والكيميائي والبيولوجي الداهم». والاعتراض العربي عليها سيكون أعلى مما كان عليه زمن الحرب على العراق، كما ان الحلفاء التقليديين ليسوا في وارد الالتحاق الاعمى.


أضف الى ذلك ان مواجهة مع سوريا قابلة للتحول الى مواجهة اقليمية أوسع وان احداً لن يفهم سبب ذلك في وقت يكرر النظام عروضه للتسوية «من دون شروط» ويكرر الأسد انه «ليس صدام حسين». ثمة دول تنسحب من قوات «الحلفاء» في العراق ولا تنوي التوجه غرباً.


هذه العقبات ليست بسيطة إطلاقاً. ولكنها لا تمنع ان يكون النظام السوري في خط المرأى الاميركي وان الضغط يسير في اتجاه تصاعدي لا تحول دونه خطوات تنازلية لم تفعل، حتى الآن، سوى زيادة الشراهة. ان أفق العلاقات، من الزاوية الاميركية، هو أفق تصادمي.


واذا كان بدا احياناً، في دمشق، ان هناك من يراهن على انهم «سيطرقون بابنا» من فرط تورطهم في العراق وغيره، فان هذا الرهان خاطيء تماماً ولا أساس له. ربما كان العكس هو الصحيح بمعنى ان أي شعور اميركي بالتورط قد يدفع الى توسيع المواجهة.


لقد حسمت الولايات المتحدة أمرها: النظام السوري جزء من المشكلة ولن يكون جزءاً من الحل. ولقد تم هذا الحسم بمجرد انتقال الادارة الى «عقيدتها» الجديدة التي تعطي الاولوية لاعادة هيكلة المنطقة باسم الديمقراطية، و«الفوضى البناءة»، بدل الاولوية السابقة المعطاة للاستقرار والتسوية.


صحيح ان القوات الاميركية في المنطقة قد تضطر الى العودة الى بلادها. ولكن الواضح ان قيادتها تعتبر ان لها عملاً تؤديه خارج العراق وفي سوريا وإيران تحديداً، وهو عمل يبدأ بكونها أداة ضغط فعالة وقد يصل الى حدود الاستخدام المباشر في شروط خاصة.


ولعل منع هذه الوظيفة (تحول اميركا الى قوة اقليمية) يقتضي تسليط ضغط ينطلق من الرأي العام الاميركي ويطال التركيبة العراقية الراهنة الحاكمة من أجل اقناعها بعدم تحويل بلادها الى منصة انطلاق لأعمال عدوانية تطال الجيران ولا تفيد العراق.


لا مجال للشك في ان الاوراق الاقليمية تتراجع قيمتها لا في الوزن السوري الاجمالي. انها اوراق يجري تعطيلها او استخدامها في اتجاه معاكس. ولكن الواضح ان «الورقة» التي لم تجرّب تماماً هي ورقة الشعب السوري نفسه، وهذا الشعب الذي تطالب نخبه المعارضة، حتى الآن، بالمزيد من الديمقراطية من أجل المساهمة في حد أي عدوان.


لا رهان سوريا متبلور على التدخل الخارجي ولقد كتب 23 مثقفاً سورياً معارضاً مقالات في ملحق لاحدى الصحف اللبنانية مشبعة بنقد النظام وخالية (الا واحد منها) من شبهة الاستنجاد بالخارج. لكن هذه «النوايا الحسنة» يلزمها تجاوب الطرف الآخر الحاكم. ومن المؤسف ان لا مقومات جدية توحي ان المؤتمر القادم لحزب البعث سيوفر هذا القدر المطلوب من التجاوب.


كاتب لبناني