السيرك الدموي
الياس خوري
من نظّم حفلتَي حراس الأرز واصدقاء الشرتوني في ذكرى مذبحة شاتيلا وصبرا؟
انا لا احب القراءة التآمرية للاحداث، لكن حين تعيش على ايقاع التفجيرات المتنقلة في بيروت، فإن احتمالات المؤامرة وألاعيب الأجهزة الظاهرة والخفية يجب ان لا تغيب عن البال. ومع ذلك سوف افترض حسن النية، وان ابطال الحدثين قاموا بما قاموا به، وادلوا بدلوهم نتيجة اقتناعاتهم الشخصية، مستغلين ظرف التفلت الراهن، من اجل استعادة لغة الحرب.
في الحالين تبدو الأمور مثيرة للسخرية. ان يأتيك من يقول انه لن يبقى فلسطيني واحد في لبنان او يوزع قرصا مدمجا يحمل ذلك الشعار الوحشي: على كل لبناني ان يقتل فلسطينيا، او ان يتم تمجيد الاغتيال، في بلاد انتفضت ضد الاغتيال السياسي، فهذا هو العته في عينه.
العته يأخذ صورته من شكل العرضين، حيث بدا القبح عاريا والاستعجال سيد الموقف. كأنها محاولة لتهريب الكلام، او كأنها قنابل صوتية تمهد الأرض للقنابل الحقيقية.
لا اريد الدخول في التفاصيل وفي التحقيقات التي تجري، فالمسألة على المستوى السياسي لا اهمية لها، لكنها تشير الى حقيقتين:
الحقيقة الأولى اسمها ذاكرة الحرب. محاكمة الحرب واستخلاص دروسها، هي الوسيلة الوحيدة من اجل ان يصير كل خطاب طائفي او عنصري نافلا. وهذا ما تناسته الطبقة الحاكمة في زمن الهيمنة السورية، الى درجة اصبح معها احد المتهمين في مجزرة شاتيلا وصبرا وزيرا للمعوقين! المجزرة التي هزّت العالم واجبرت الحكومة الاسرائيلية على تشكيل لجنة كاهانا القضائية للتحقيق في مسؤولياتها، مرت في الذاكرة اللبنانية مرورا عابرا، ولم تستدع اي تحقيق جدي، بل صارت احدى علامات القدر في بلادنا المحكومة بالمجازر والجرائم.
الدعوة الى حماية الذاكرة ليست دعوة الى الانتقام بل الى الغفران. لكن الغفران لا يمكن ان يتم من دون تأسيس مبنى اخلاقي يعترف بالجريمة ويفرض على مرتكبيها الاعتذار، والعقاب المعنوي على الأقل. وهذا لا ينطبق على مجزرة المخيّمين فقط، بل على كل الارتكابات التي قامت بها الميليشيات الطائفية حين افلتت من عقالها، وحولت مدن لبنان وقراه ساحات للقتل والنهب والاستباحة.
شرط المصالحة مع الذات، رفض العنصرية والمنطق الطائفي والاستقواء بالخارج. وهذا يفرض على القوى التي شاركت في الحرب، نقدا ذاتيا حقيقيا.
غير ان سياسة محو الذاكرة التي سادت، سمحت لخطاب عنصري سبق ان ارتكبه الشاعر سعيد عقل حين كان احد القادة الروحيين للقومية اللبنانية بأن يستعاد اليوم من دون اي شعور بالذنب. ومعه تستعاد رموز تافهة لجأت الى اسرائيل ولا تزال، وهي رموز تشعر بالأسى لأن العنف توقف في لبنان، حالمةً بمستقبل دموي يستعير رموزه وخطابه من بقايا الخطاب الفاشي.
وفي السياق نفسه يأتي المؤتمر الصحافي الذي عقد في نادي الساحة عن حبيب الشرتوني. اذ بدلاً من وضع الاغتيال في سياقه التاريخي، شهدنا مراسيم عبادة للقتل، تناست ان حبيب الشرتوني حين سئل في اذاعة "صوت لبنان" بعيد اعتقاله لماذا قتل بشير الجميل اجاب لماذا الحرب؟
تقوم آليات محو الذاكرة بجعل النسيان مستحيلا. سُمّي انسانا لأنه ينسى على ما قيل وكتب. لكن شرط النسيان هو الشعور بالعدالة. الموتى لن يعودوا، لكن حقهم على الأحياء هو ان تكون ذكراهم جزءا من ذاكرة وطنية تدين الجريمة على المستوى الأخلاقي وتستخلص دروسها السياسية والانسانية.
اللعبة التي تمّت في شكل متزامن، تشير الى ان هناك من لم يتعلم شيئا، ويتمنى اعادة البلاد الى مناخات الحرب، كي يثبت النظام المخابراتي المشترك ان لبنان لا يستطيع ان يحكم نفسه بنفسه.
الحقيقة الثانية، هي محاولات الانقلاب المستمرة على انتفاضة الاستقلال، قبل ان تحقق الانتفاضة هدفها الثاني في قيام نظام ديموقراطي على انقاض النظام الامني.
الانقلاب على الانتفاضة يمكن ان يتم لأن القوى السياسية اللبنانية لم تفهم الدرس الأساسي من الحدث الكبير. الانسحاب السوري صار ممكنا، ليس بفعل الضغط الدولي وحده، بل لأن الانتفاضة اعلنت نهاية الحرب اللبنانية، وطوت الصفحة الدموية التي حطمت الاستقلال الوطني.
نهاية الحرب ليست كرنفالا، بل حدث سياسي - ثقافي كبير. ولعل عدم القدرة على تظهير هذه الدلالة يعود الى عجز القوى السياسية التقليدية عن مواكبة التحول من جهة، والى قصور فكري في الاوساط العلمانية، منع معظمها من صوغ افق لبناني جديد، من جهة ثانية.
لكن ليس صحيحا ما ذهب اليه البعض من ان ثورة الأرز حملت في ثناياها خطاب حراس الأرز!
اولا، يجب ان يتم التعامل مع الكلمات في شكل دقيق. قادة الانتفاضة اطلقوا عليها اسم انتفاضة الاستقلال، اما تعبير ثورة الأرز فقد صكته وسائل الاعلام الاميركية كي تتجنب استخدام التعبير الذي عممته في العالم وباللغة العربية، الانتفاضة الفلسطينية.
ثانيا، شهدت ساحة الحرية توحيدا للاعلام والشعارات، كان نتيجة جهد كبير قامت به القوى العلمانية، مما ازال اشباح الحرب عن الساحة، وسمح لمئات الألوف بأن يجدوا في الانتفاضة وسيلتهم للتعبير عن توقهم الى الحرية.
ثالثا، شكلت الانتفاضة رغم عثراتها الكثيرة، علامة تحول جذرية نحو وفاق وطني، شرط تبلوره الانتقال الى الدولة المدنية، والى فصل الدين عن الدولة.
غير ان حنين البعض الى الحقبة السورية، يجعلهم غير قادرين على استيعاب الدرس الأكبر الذي صنعته انتفاضة الاستقلال. الحرب انتهت، وكل محاولة للعودة اليها او الى لغتها سقوط في اللعبة الكبيرة التي لا تهدد لبنان وحده، بل تجعل لبنان وسوريا معا ضحية التفكك والاندثار.
لكن هناك من لا يزال يراهن على افق دموي يسمح ببقاء الديكتاتورية في السلطة. وهذا دليل قصور فكري وعدم القدرة على فهم المتغيرات الكبرى التي صنعتها الانتفاضة اللبنانية. لذا نشهد تفجيرات دموية من جهة ونستمع الى كلام دموي من جهة ثانية. وفي الحالين محاولات يائسة من اجل اعادتنا الى الخوف والشلل.
جريمتان، الاولى تصنعها التفجيرات الدموية المتنقلة، والثانية تصنعها اللغة القديمة المجبولة بدم الابرياء. وفي الحالين نحن امام كرنفال دموي بلا افق، مهمته تعطيل التغيير الذي لا يدرون انه حصل!
"ملحق النهار"