مخاوف إخلاء غزة

عدلي صادق


 


رؤية تزدحم بالمفارقات وبالمخاوف، بعث بها اليّ، مهاجر فلسطيني محنك، ارتحل في دائرة واسعة، من هذه الدنيا، إذ كان أبوه قد ولد في يافا، لأسرة فلسطينية مسيحية، بينما وُلد هو في بيروت. أما ابنه فقد ولد في باريس، حيث يقيم الآن!
أخونا ريمون هيرش، ناشط إعلامي وسياسي، من طراز رفيع، يُتحفني برسائله الإلكترونية المنتظمة، باللغة الإنجليزية، وهذا بعض ما جاء في رسالته الأخيرة، من مفارقات ومخاوف:
عندما أرادت إسرائيل إجلاء 14 ألف إثيوبي الي بلادنا، فعلت ذلك خلال يومين، عبر مسافة ألف ميل. لكن حكومة شارون، ظلت لمدة عامين تكافح لإجلاء سبعة آلآف يهودي، الي مسافة عشرة أميال. وهنا نكون بصدد أحد أمرين: إما أن تكون إسرائيل، قد فقدت قدرتها علي الحركة، أو أنها أفتقدت النوايا الحسنة!
ثم كيف يمكن لإسرائيل، أن تتحدث عن مشكلة، في إعادة توطين سبعة آلآف مستوطن يهودي، بينما هي تدعم مشروعاً، لجلب مليون أجنبي يهودي، خلال الإثنتي عشرة سنة المقبلة، بواقع 84 ألف مهاجر سنوياً، أي بواقع سبعة آلآف مستوطن شهرياً؟!
فإما أن تثبت إسرائيل، أنها تستطيع إجلاء سبعة آلاف من غزة، خلال شهر، أو تعلن بأنها غير قادرة علي جلب مليون مهاجر، خلال 12 سنة. وإذا كانت المشكلة، هي صعوبة إقناع سبعة آلاف مستوطن، فمن الطبيعي أن تكون المشكلة الأكبر، هي إقناع مليون مهاجر أوروبي وأمريكي. وإذا كانت إسرائيل، لا تجد مكاناً لسبعة آلآف، فمعني ذلك أن المليون القادم، لن يجد له مكاناً إلا في الأقطار العربية المجاورة، من خلال دفع أبناء المهاجرين، الي حروب مفاجئة!
بعد ذلك، يخلص ريمون الي القول: إن هذا هو أحد الأمثلة، علي نوايا إسرائيل السيئة ومخاطرها. لذا يتعين علي الفلسطينيين، أن يتضامنوا، وأن يتحدوا، وأن تتشابك أيديهم، أطفالاً وكباراً، وحكومة ورئيساً، وأن يكونوا حذرين جداً، من فخ الانسحاب من غزة، وأن يشكلوا تحالفاً من أجل السلام القائم علي العدالة، وأن يطرحوا اقتراحاً واضحاً، للحل المتوازن، مع هامش من الخيارات. فشارون يريد استخدام الانسحاب من غزة، لتقسيم الفلسطينيين، وإلهائهم عن الضفة والقدس، من خلال تحويلهم الي قسمين، أحدهما تحت الحصار، في غزة، والثاني تحت الاحتلال، في الضفة، بحيث تتشكل عناصر اجتماعية متغايرة، في كلا المنطقتين، فتجعل وحدتهما أصعب من ذي قبل، مع إصرار إسرائيلي علي إضعاف المنطقتين، بما يكفي للسيطرة ـ بالريموت ـ علي كل الأراضي الفلسطينية!
وتكمن خطورة إضعاف الفلسطينيين الي أدني مستوي، في التهيؤ ـ بمساعدة دول ومؤسسات ـ لإطلاق مشاريع في غزة، أشبه بالألعاب النارية في المناسبات، هدفها احتلال عقل كل فلسطيني، ودفعه لأن يكون جزءاً منها. ولن تكون هذه الألعاب النارية، بالمشروعات، فساداً تقليدياً، وإنما عملية استقطاب للشخصيات، وللأموال، وللخرائط، ولخطط الأعمال، ولغير ذلك، مما يجعل الإنسان الفلسطيني ينسي الضفة الغربية West Bank ويركز الانتباه الي البنك الدولي World Bank بينما ينظر الفلسطينيون جميعاً، الي السماء، بإعجاب، حيث تُبرق الألعاب النارية. وفي هذه الأثناء، سوف ينشط بعض اللصوص، بين الفلسطينيين، لإفراغ جيوبهم من المال، ولإفراغ القدس من الناس. ومثلما هي كل نهايات الألعاب النارية، سيدرك الفلسطينيون بعد بضع سنوات، أن المشروعات الكثيرة لن تبقي، وأن إسرائيل، عملت علي أن يبقي منها، ما يكفي لتعزيز قوة بعض الفلسطينيين في غزة، وجعل هؤلاء، يرفضون سيطرة الحكومة الفلسطينية. ذلك علماً بأن الذين يحاربون السلطة اليوم، هم مجرد تجار سموم، وموظفين فاسدين، ومضاربين لا ضمير لهم. أما غداً، فإن الوضع سيبقي علي ما هو عليه، مع إضافة واحدة، وهي ظهور عدد قليل، من الدكتاتوريين الماليين، الذين يجعلون وحدة الوطن، مستحيلة!
وعلي صعيد فخ التطبيع، تسعي حكومة شارون، الي تقليص الضغوط المتزايدة علي إسرائيل، من خلال تسهيلات لمسؤولين، لدفعهم الي التطبيع قبل أن تقوم الدولة الفلسطينية، والي الحيلولة دون قيام تحالف فلسطيني، يهدف الي عزل إسرائيل أو الي الجفاء حيالها. ويري ريمون هيرش، أن السبيل الوحيد، لتلافي مخاطر هؤلاء، هو تصليب الوحدة الفلسطينية، وتكريس المؤسسات الديمقراطية، والتشدد حيال قضايا الترهل والفساد، لكي يثبت الشعب الفلسطيني، أن له حكومة واحدة، في الضفة وغزة، يتمسك بها، ويعزز موقفها وسيطرتها، وأن لا حكومات ولا مراكز قوي غيرها. وفي هذا السياق، يتوجب علي الحكومة والشعب، أن يقفوا صفاً واحداً، ضد الجريمة بكل أشكالها، لأن آثارها الفادحة، تضاهي آثار الاحتلال نفسه، كما يتوجب علي الفصائل، مثل فتح و حماس وغيرهما، أن تشكل أحزاباً سياسية جديدة، ومؤسسات قاعدية ديمقراطية، لكي تثبت بأنها قادرة علي جعل الديمقراطية، خياراً علي صعيد الممارسة الفعلية. وليس من شأن هذا السياق، إضعاف الفصائل القوية، أو الانتقاص من قيم المقاومة المشروعة، بل هو ـ علي العكس ـ يؤدي الي تقوية الروابط الوطنية، من خلال خلق أحزاب جديدة، تغطي بالتساوي، مجمل الأراضي الفلسطينية، وتفسح المجال، لأن يحل التعاون الفعلي والحقيقي، بين القوي الفلسطينية الحية، وفق رؤية واضحة، بدل التعارض والصراع!
أخيراً، فإن ما يطرحه ريمون هيرش، من مفارقات ومن مخاوف، يستحق ورشة عمل، تناقش كل ما جاء في رسالته الطويلة، التي تلقيتها أمس. ولعل ما جاء في رسالته، يفسر تشددنا الي حد النزق أحياناً، بخصوص وضعية الترهل وضياع المعايير وبطء التوجه الي الإصلاح!
www.adlisadek.com
9