جورج حاوي شهيدا ومعالجات قضائية مفخخة

عدلي صادق



مرة أخري، وأمام جريمة اغتيال أخري، بسيارة مفخخة، راح ضحيتها المناضل المرموق جورج حاوي، لم تقترب قنوات التلفزة العربية الفضائية (لا سيما اللبنانية) علي قدر ما تدفقت في معالجاتها وتغطياتها للحدث، من فكرة احتمال أن يكون الفاعلون، من خارج ما يُسمي بـ النظام الأمني اللبناني السوري . وحدها قناة المنار اللبنانية، هي التي صاغت أسئلتها، لضيوف البرامج الحوارية، علي شكل احتمالات أن يكون العدو الصهيوني هو مقترف الجريمة، وهي التي واجه أحد ضيوف برنامج حواري، صباح أمس (الجمعة) شبق الاتهام لسورية، بأسئلة عن الدلائل والركائز، ناهيك عن منطق التحليل. ووقع الاغتيال الآثم، لكي تعود الهجمة شرسة وقطعية، ضد الرئيس لحوّد وسورية، وهو الأمر الذي رأي فيه البعض، علي شاشة المنار أفضل تغطية لعمليات الاغتيال، وضوءا أخضر لاستمرارها، وهذا هو نفسه ما قلناه، عند اغتيال سمير قصير، ودعونا اللبنانيين، الي تجربة توجيه الاتهام ضد إسرائيل، بالاستناد الي فرضيات طبيعية وتجارب وشواهد. فالقتلة عندما يعلمون أن محاولتهم لإحداث الفتنة والبلبلة، باتت مكشوفة، فإنهم سيفكرون ألف مرة، قبل الإقدام علي اقتراف جريمة جديدة. وقلنا إن النظام السوري، ليس في وضع يجعله يتبني جريمة مفخخة متنقلة، تعود كل حلقة منها، عليه، بردود أفعال ضاغطة، دوليا وإقليميا، وهو ليس بهذه الحماقة لكي يرتكب أفعالا كهذه، في زمن كهذا!
لقد طالعتنا شاشات التلفزة، منذ نقلها للخبر العاجل، صباح يوم الثلاثاء (21/6/2005) بصور سيارة حاوي التي جري تفخيخها بتقنية عالية، جعلت التفجير يطال المطلوب، ولا يطال مرافقه. وعندما يسقط رجل مناضل، كجورج حاوي، أحد أشد مناصري قضايا التحرر، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ينهض سؤال، رغما عن الفضائيات التي تؤدي دورا شيطانيا، فتجحبه عن الأسماع: لماذا يكون الهدف، في كل مرة، أحد منتقدي سورية من حلفاء الشعب الفلسطيني، أو ممن يكرهون إسرائيل ويرونها أم البلاء، ويكرهون السياسة الأمريكية، ولا يكون الضحية، أحد منتقدي سورية من حلفاء الدولة العبرية السابقين، أو ممن يعادون العرب، في السياسة وفي الثقافة، وإن كانوا يسايرون، أو ممن يرون في أمريكا أملا وليس الطوفان؟! لماذا يسقط جورج حاوي، الذي يقول في رثاء لأبي علي مصطفي: نقول لأشقائنا الفلسطينيين، معلمينا في النضال، وقدوتنا في الاستشهاد، كفي اعتبار القتال لحظة عابرة، والمفاوضات حالة دائمة، ولا مجال لحلول وسط، مع هذا المشروع الصهيوني الي أن تتغير طبيعته. أي الذي يقول للفلسطينيين: نحن تلامذة في مدرستكم الكفاحية ولماذا لا يسقط أي منتقد لسورية، يعارض المقاومة، ويتعمد تخويف اللبنانيين من التوطين، ويقول عن الفلسطينيين، بأنهم نفايات بشرية، مثلما تفوّه النائب السابق الساقط في الانتخابات، نيقولا فتوش؟!


مرة أخري، تعكس الفضائيات اللبنانية، باستثناء المنار توجهات تيار عريض ـ للأسف ـ من اللبنانيين، يقع في الفخ المتنقّل، الذي ينتقي طرائده وضحاياه، علي الفرّازة، مستفيدا من عنوان التعارض مع سورية، قاصدا اتهامها، ومراكمة عناصر وأسباب استهدافها أمريكيا، وسط محيط يؤيد الغزو، بذريعة اغتيالات كأن أمرها بات محسوما. فهكذا جرت الغالبية العظمي من معالجات التلفزة اللبنانية، أما التلفزة الفضائية العربية، فقد اكتفت بنقل واقع التوجهات والاتهامات تلميحا وتصريحا، ولم تكلف نفسها عناء القيام بتحويل حقيقي مضاد، لسياق الاتهامات. وفي هذه المعمعة، تتكرر مرة أخري، مع بعض المعارضين السوريين، ظاهرة التداخل أو التماهي، التي لمسناها لدي الكثير من المعارضين العراقيين، بين معارضة النظام ومعارضة الوطن، والاستهتار بمصيره، من خلال التأليب الدولي والإقليمي علي النظام الحاكم. وبدا الوعي في غيبوبة عميقة، بعد اغتيال جورج حاوي تحديدا، إذ لم يُعن أحد، لأن حسابات الفخ المتنقل، تقتضي أن تصطاد ثائرا بحجم جورج حاوي، كان قد تهلل فرحا، بحضور البندقية الفلسطينية، فوق التراب اللبناني، لكي يحشتد الشرفاء حول المقاومة، بصفتها الأمل والبديل، ولكي تتوافر للبنانيين المقهورين، في مناخها، فرصة النضال من أجل تغيير جذري، في النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي، ومن أجل تجاوز الطائفية!
وما أن سقط حاوي، حتي احتشد بعض الراغبين في أن تكون هناك جنازة لبنانية، في كل يوم، لكي يشبعوا لطما كاذبا. وأظهرت الشاشات، وجوها متجهمة، ممن لم يحبوا حاوي في أي يوم ولم يحبهم. فقد أصبح إتقان النفاق، وإجادة إظهاره علي الشاشة، هو المعادل الموضوعي لإتقان السياسة، وكأن استباحة سورية، وطمس الموضوع الفلسطيني تحت كومة هائلة من التراب، هو أمنية جورج حاوي، الذي ظل قلبه يخفق مع نبض الشعب الفلسطيني، حتي الرمق الأخير من حياته. وكأن جورج حاوي، ليس هو الذي استضاف في بيته، قبل سبعة عشر يوما بالضبط من استشهاده (4/6/2005) حلقة من برنامج حوار مفتوح الذي يقدمه غسان بن جدو، عبر شاشة الجزيرة لكي يتحدث ويعلن بأن أمريكا تطمع في نفطنا، وفي خيراتنا، وفي موقعنا الاستراتيجي، وتريد فقط حماية إسرائيل ولكي يدعو سورية الي أن تبادر بإصلاح ديمقراطي حقيقي، يستند الي طاقات الشعب السوري وإمكانياته، لكي تستقطب طاقات الأمة العربية، في دعمها، وإلا فالمصير سيكون أسود، ونحن في لبنان، سندفع الثمن المزدوج !
هكذا، كان طبيعيا أن تطال الجريمة، رجلا يريد لنفسه ولبلده، أن يحتشد مع سورية ضد عدو الأمة، ولم تطل الجريمة، رجلا يريد لنفسه ولبلده، أن يحتشد مع أعداء الأمة، ضد سورية. وبحسابات هؤلاء الأعداء، كان المصير الأسود، الذي يتحدث عنه، هو ما ينتظره بعد أيام!

ما زلت أذكر إطلالة جورج حاوي، من خلال شاشات التلفزة، يوم رحيل الرئيس عرفات، الذي قاتل حاوي معه، واختلف معه، لكنه لم يُضع البوصلة، مثلما أضاعتها الفضائيات عامدة متعمدة. ففي مرثيته كانت عبارات العزاء الموجهة لنا، بمثابة تجديد للتضامن: توحدوا وتابعوا المعركة. وحدتكم هي الأساس. وشعبكم لا حدود لعطائه. أما نحن في لبنان، فأوفياء للمسيرة. نعزيكم كما نعزي أنفسنا، ونعاهدكم أن نبقي متضامنين، شعبا ومقاومة، وقوي وطنية، داخل الحكم وخارجه، من أجل النصر. ففي نصركم ضمان لوحدتنا وبقائنا، أرضا وشعبا ووطنا !
سقط جورج حاوي بقنبلة مدسوسة، مزقته إربا، مختتما رحلة كفاح بدأها يافعا، في العشرين، يسافر علي قدميه، لكي يصل الي قادة ثورة 1958 فيسلمهم رسالة المسيحيين في المتن، لمنع وقوع الثورة في أوحال الطائفية، وللمطالبة بتسليح الشباب المسيحي، للدفاع عن عروبة لبنان، في وجه الأحلاف الاستعمارية. في تلك السن، وفي تلك اللحظة، تعرف علي كمال جنبلاط ومعروف سعد وصائب سلام، وألح في طلب الجواب الحازم، بالمشاركة المسيحية في الثورة. وظلت صورته تلك، راسخة في أذهان قادة الحركة الوطنية اللبنانية، كشاب جريء، من قرية بتغرين، ثم ناشط نقابي، مع الشبيبة والطلاب والعمال والمثقفين، ثم سياسي مجرب، كان أحد أذكي من يقرأون المشهد اللبناني السياسي اليوم. فقد دعا بقوة الي عدم تضييع البوصلة، في معركة السيادة الوطنية، والي عدم افساح المجال لمن يتظاهرون بأن السيادة باتت مطلبا لهم، فيما هم من خارقيها الأساسيين، الذين تعاونوا مع إسرائيل. وقال لقد رفضنا السيطرة السورية الخاطئة، وفي الوقت نفسه نرفض السيطرة الاسرائيلية الأمريكية، وسنقاوم كل أشكالها، ومن بين هذه الأشكال، محاولات التدخل الأوروبي الأمريكي، وسنكون في طليعة من يتصدي لمحاولات السيطرة. كان يدعو الي اختصار الطريق والوقت، ويقول بدلا من الإكثار من الحديث عن رفض السيطرة الأجنبية، ينبغي عدم إعطاء الآخرين الذرائع، وعدم إفساح الفرص أمامهم، ولنقل عدم استدعائهم !
غير أن القنبلة التي أودت بحياته، جاءت في السياق الذي يستدعي الآخرين. فقد تفنن المجرمون في اختيار الهدف: رجل سياسي وطني متمرس، لا طائفي، انتقد الهيمنة السورية، لكنه دافع عن العلاقة الأزلية بين بلدين شقيقين، وشرح كيفية تصحيحها. يرفض التدخل الأجنبي، ويعرف أن هناك من يستدعون الأمريكيين، ويدعو الي فضح هذا المنحي. لكن القتلة يعرفون، بأن اللبنانيين الذين وقعوا في أفخاخ الجريمة المتنقلة، سيختزلون الرجل، في كونه من معارضي الوجود السوري، ومن منتقدي ما اصطلح علي تسميته النظام الأمني اللبناني السوري وبقاياه. هؤلاء، سيتناسون أيضا، أن جورج حاوي، هو الداعي الي عدم تحميل الانتصار اللبناني المتحقق بجلاء كل القوات غير اللبنانية، أكثر مما يحتمل، لكي لا يتحول الي النقيض، ولكي لا يفقد أبعاده الوطنية، التي تقضي بإرساء علاقات قومية لاحقة، مع سورية. لقد قتلوه في سياق محاولات استدعاء الأمريكيين، ذلك لأن بعض اللبنانيين، ما زالوا أسري الجريمة المتنقلة. ويبقي السؤال الذي تتحاشاه الفضائيات: لماذا لم تستهدف سيارة مفخخة، حليفا سابقا، علنيا أو مستترا، لإسرائيل، أو أميرا من أمراء الحرب والقمع، ضد الفلسطينيين، أو معاديا للعرب، أو رمزا لبنانيا مضادا لتاريخ النضال العربي؟! هل تجيب الـ LBC مثلا في حلقة من برنامج حواري؟ أم أن تغييب السؤال والجواب، مقصود، لكي تطمئن الأيدي التي تقتل، الي السياق الإعلامي والسياسي، في لبنان؟!
كاتب من فلسطين
http://www.adlisadek.com