2005/06/24

logo.jpg (5438 bytes)

 

 

front




لبنان والفوضى الخلاقة

سليم الحص
يتحدث المسؤولون الأميركيون عما يسمّونه <<الفوضى الخلاقة>> في الشرق الأوسط، بمعنى نشوء حال من القلاقل والاضطراب والنزاعات تكون هي المقدمة لإعادة ترتيب المنطقة سياسياً واقتصادياً، وربما جغرافياً، على قياس ما تُفصّل الإدارة الأميركية لأقطار هذه المنطقة.
وما تضمر الإدارة الأميركية للمنطقة بعضه واضح وبعضه يبقى خفياً. الواضح منه هو مشروع الشرق الأوسط الأكبر، الذي يضمّ في منظومة واحدة، غير محددة المعالم، جميع دول منطقة الشرق الأوسط، بما فيها المشرق العربي، أي دول الطوق المحيطة بإسرائيل والخليج العربي، الى العراق وربما ليبيا، وكذلك دول غير عربية من مثل تركيا وإيران وربما قبرص وأفغانستان، ومعها بالطبع إسرائيل. أما الهدف المعلن فهو ربط دول المنطقة في إطار نظام إقليمي جديد يُطلق، بحسب ما يُقال، حركة إصلاح سياسي واسع ينشر ألوية الحريات العامة والديموقراطية وسائر حقوق الإنسان في مجتمعات المنطقة، كما يفترض ان يطلق حركة تنمية زاخرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً تنهض بمجتمعات المنطقة من حال الفقر والتخلّف والاضطراب التي تواجهها.
وأما الهدف الحقيقي، الذي يستقرأ من سياسات الدولة العظمى وممارساتها ومشاريعها في المنطقة، فهو مزدوج: فمن جهة يُراد القضاء نهائياً على مفهوم العروبة، ومن جهة ثانية وضع المنطقة برمّتها تحت مظلّة السطوة الإسرائيلية.
فالعروبة، بما هي قوة دفع نحو التحرر والوحدة بين شعوب الأمة العربية، كانت وما تزال تشكّل هاجساً للصهيونية وإسرائيل. ففي صلب مفهوم العروبة ان قضية فلسطين ليست مجرّد قضية وطنية لشعب تلك الأرض وإنما هي قضية العرب المركزية. فهي إن اقتصرت على الشعب الفلسطيني فإن تصفيتها ستكون ميسورة المنال بقهر هذا الشعب وتشريده وسحق مقاومته، علماً أن مقاومة الشعب الفلسطيني لغاصب أرضه وحقوقه لا يمكن ان تكون طويلة النفس من دون عمق عربي يساندها ويناصرها ويرفدها. وقد شكّلت ظاهرة الرئيس جمال عبد الناصر مفصلاً في تنمية هاجس الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، حيال الخطر الذي يمكن أن تشكله العروبة على مصير الكيان الصهيوني. والمعروف أن جمال عبد الناصر ذهب بعيداً في شهر سلاح العروبة في وجه المشروع الصهيوني، فكانت الوحدة المصرية السورية وكانت محاولة لاستيعاب اليمن وليبيا وكانت الحملات السياسية والإعلامية لضبط سياسات الدول العربية على إيقاع المواجهة مع المشروع الصهيوني. هكذا جعل الرئيس عبد الناصر من العروبة عقدة في التفكير الغربي إزاء المنطقة، وأضحى القضاء على العروبة مطلباً صهيونياً. والضعف المطبق الذي حلّ بجامعة الدول العربية خلال السنوات الأخيرة قد يكون من ثمار هذا الواقع.
أما إخضاع المنطقة للسطوة الصهيونية فمطلب اميركي بقدر ما هو مطلب اسرائيلي. فقد بات من المسلمات في وعي كل عربي ان الاستراتيجية الاميركية في المنطقة لا تختلف في شيء، سواء في الجوهر أم في المظهر، عن المشروع الإسرائيلي الصهيوني. من هنا كان الدور الأميركي المشؤوم في جرّ مصر والاردن الى عقد تسوية مع إسرائيل على حساب الحق العربي، ومن هنا كان احتلال اميركا للعراق، ومن هنا ما يتعرّض له لبنان وسوريا من ضغوط هذه الايام تتمحور على تصفية المقاومة اللبنانية وقطع العلاقة بين سوريا وبين حركة <<حماس>> وحركة <<الجهاد الاسلامي>> علماً أن الحركتين تحتفظان بمكاتب لهما في دمشق.
أما طريق الوصول الى إخضاع المنطقة للسطوة الصهيونية فيمر بالضرورة، على ما يبدو، بشرذمة الشعوب العربية وتفتيتها، بحيث تبقى إسرائيل هي الكيان المتماسك الوحيد في المنطقة، وتبقى تالياً هي الأقوى والأقدر على التحكّم بمسار المنطقة بأسرها ومصيرها بما يخدم مآربها ومشاريعها التوسعية ويوطد كيانها ويحصنه. هكذا نجد تفسيراً لما تتعرّض له المنطقة من ضغوط هذه الايام، بما في ذلك ما يُثار في العراق من فتن عنصرية ومذهبية، وما تتعرّض له سوريا من مضايقات اميركية شديدة، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من اعتداءات وتهديدات من جانب اسرائيل، وما تثيره الادارة الاميركية في وجه مصر والمملكة العربية السعودية ودول عربية اخرى من قضايا تتعلق بالحريات والديموقراطيات تحت عنوان الإصلاح السياسي.
في عام 1996 وضعت في اميركا ورقة سياسية بعنوان <<الاختراق النظيف>>، صاغتها لجنة برئاسة ديك تشيني الذي عاد فيما بعد ليشغل منصب نائب الرئيس الاميركي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وقد رسمت الورقة مخططاً (سيناريو) لإثارة الاضطراب والقلاقل في المنطقة بتسلسل محدّد يبدأ بالعراق ويمر بسوريا ولبنان وينتهي بإيران، ويتناول في طريقه <<حزب الله>> تحديداً. ويبدو وكأنما هذا المخطط موضوع حالياً موضع التنفيذ كما تنبئ التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة.
إنها إرهاصات <<الفوضى الخلاقة>> بأسطع تجلياتها.
وكل المؤشرات توحي ان لبنان ربما أضحى هدفاً مباشراً من أهداف هذه اللعبة الجهنمية، فأخذت تدبّ في اوصاله معالم <<الفوضى الخلاقة>>. ولعل مسلسل جرائم الاغتيال المنكرة التي وقعت فيه خلال الآونة الاخيرة هو من إفرازات هذا الواقع. ومن حقنا ان نتساءل ما اذا كان اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري ومعه الدكتور باسل فليحان يأتي في هذا السياق؟ وكذلك اغتيال الصحافي والمفكّر سمير قصير وأخيراً امين عام الحزب الشيوعي السابق المناضل جورج حاوي، وكذلك مسلسل التفجيرات الليلية التي استهدفت في مرحلة من المراحل منشآت تجارية وسياحية الى الشرق والشمال من العاصمة بيروت.
لا بل من حقّنا أن نتساءل كذلك ما إذا كانت أجواء التوتر والانقسام التي رافقت جولات الانتخابات النيابية مؤخراً تندرج في هذا السياق، علماً بأن من مسبّبات عدم الارتياح السائد قانون انتخاب فرضه في واقع الحال موقف من أميركا وفرنسا أملى التزام موعد محدد للانتخابات النيابية، فلم يعد ثمة متسعٌ للبحث في قانون انتخاب جديد. وهل يأتي في هذا السياق أيضاً ما جاء في القرار الدولي 1559 من مطالبة بنزع سلاح المقاومة؟ مع العلم أن هذه المسألة تشكّل مادة للخلاف الحادّ بين اللبنانيين يتعذّر التكهّن بأبعاده.
وهل ستأتي في هذا السياق أيضاً يا تُرى محاولات من أميركا لفرض بعض جدول أعمالها في المنطقة مما لا قبل للبنان بتحمّل مغبّته، من مثل طرح موضوع الصلح المنفرد مع إسرائيل ومن ثم تطبيع العلاقات مع إسرائيل وربما توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. يخشى ان تُستغل في هذا السبيل دعوى استعادة السيادة فيُقال ان لبنان لم يعد معنياً بمقولة وحدة المسارين اللبناني والسوري أو تلازمهما، وأن على لبنان تالياً السير في الطريق الذي يحفظ مصالحه الذاتية من دون الالتفات الى سوريا. فلمَ إذن لا يسلك لبنان الطريق الذي سلكته من قبل مصر في كامب دايفيد والأردن في وادي عربة؟ من يدري، لعل وراء الأكمة مشروع 17 أيار جديداً!
ثمّة اقتناع سائد بين اللبنانيين هذه الأيام ان بلدهم خرج فعلياً من تحت مظلّة الوصاية السورية الى تحت مظلة الوصاية الأميركية. وثمّة تخوّف من ان يترتب على ذلك تحوّل لبنان الى مختبر للمشروع الأميركي المُعدّ للمنطقة، أو على الأقل تحوّله الى منصّة تنطلق منها أميركا لتنفيذ مشاريعها في المنطقة.
والسؤال المطروح بعد الانتخابات النيابية: هل ستكون السلطة، في جناحيها الاشتراعي والإجرائي، على مستوى التحديات التي تحبل بها المرحلة المقبلة في ضوء كل هذه المعطيات؟ الجواب سيكون في أداء مجلس النواب عند انطلاقه، خصوصاً في مواجهة استحقاق تأليف حكومة جديدة، وبتّ مسألة سلاح المقاومة، هذا ناهيك بالاصطفافات السياسية بين شتى الكتل النيابية التي سترسم صورة المجلس وربما تحدّد مدى فعاليته وإنتاجيته.
يبقى السؤال: ماذا يفعل لبنان، لا بل ماذا يفعل العرب، في التصدّي لمشروع <<الفوضى الخلاقة>> الذي يُنفّذ في منطقتهم؟ الجواب: لا شيء. إنهم يُحسنون الإصغاء إلى المسؤولين الأميركيين يحاضرون أمامهم في الإصلاح والقيم الحضارية والإنسانية. فيتسابقون على مسايرة الدولة العظمى في سياساتها، حتى في فلسطين والعراق، حيث مواقفها العدائية للأمة وقضاياها. أما جامعة الدول العربية فهي في غيبوبة.
... الى منتدى الحوار
Discussion Forum
 
الصفحة الأولى| أخبار لبنان| عربي ودولي| اقتصاد| ثقافة
رياضة| قضايا وآراء| الصفحة الأخيرة| صوت وصورة
 
©2005 جريدة السفير