المحاسبة مدخل الإصلاح

سليم الحص


 

العماد ميشال عون لم يكن، على ما كان يتراءى، قوة سياسية يُعتد بها على الساحة

 اللبنانية قبل عودته من منفاه، وأضحى فجأة، بين ليلة وضحاها، يشكّل قوة ذات وزن يُحسب حسابها اثر عودته. كأنما الناس سئموا فجور الطبقة السياسية وممارساتها التي انطبعت بالالتباس والتقلُّب والرياء عبر السنوات الماضية، وبالأخص خلال الأزمة الوطنية التي نشبت مع صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي ومع تمديد ولاية الرئيس العماد اميل لحود. فإذا بالناس يلتفتون إلى وجه جديد لم يألفوه في الحياة السياسية من قبل فوجدوا في العماد عون ضالتهم.
شد العماد عون الناس إليه بخطاب سياسي يركز على رفض التمايز الطائفي، ويدعو إلى مكافحة الفساد، وينادي بمحاسبة المسؤولين عن حقبة ما بعد اتفاق الطائف بما أفرزت من معضلات من مثل تراكم الدين العام واستشراء الفساد وتفاقم البطالة والهجرة وتحكُّم الأجهزة الأمنية بمجريات الحياة العامة.
حديث التنديد بآفتي الطائفية والفساد ليس بالجديد. فليس بين السياسيين من يعترف بأنه طائفي الهوى او المسلك، مع ان معظمهم هو كذلك، وليس بينهم من لا يتبرأ من حالة الفساد، مع ان معظمهم ضالع فيها حتى الأذنين. الجديد في كلام العماد عون هو المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن بلايا الحقبة التي أعقبت الحرب اللبنانية القذرة. أما تجاوزات الحرب وجرائمها فقد طواها قانون العفو العام الذي صدر عام 1991.
إن مجرد الحديث عن فتح ملفات الحقبة التي أعقبت الحرب بهدف محاسبة المسؤولين عنها هو الذي يقضّ مضاجع الكثيرين ممن تولوا المسؤولية على شتى المستويات إبان هذه الحقبة. مَن المسؤول عن دين عام شارف أربعين مليار دولار وجعل مالية الدولة أسيرة حلقة مفرغة بين عجز مستديم في خزينة الدولة ودين متعاظم سنة بعد سنة؟ من الذي داس مبدأ الفصل بين السلطات فعطّل آليات المساءلة والمحاسبة في النظام السياسي، وذلك عبر التمادي في ممارسة بدعة ثلاثي (ترويكا) الحكم كما عبر التدخل في سير القضاء، وكذلك عبر تحييد هيئات المساءلة والمحاسبة على الصعد الإدارية والمالية؟ بعبارة أخرى من المسؤول عن اطلاق آفة الفساد على غاربها فلا كوابح ولا ضوابط ولا روادع؟ ومن الذي عطّل آليات المحاسبة الديموقراطية بإفساد عملية الانتخابات النيابية فحلّ المال السياسي والاستنفار المذهبي محل إرادة الشعب الحرة في تقرير نتائج عمليات الانتخاب؟ ومن الذي تجاوب مع تدخلات أجهزة الأمن السورية واللبنانية في إدارة شؤون الدولة ورضخ لها لا بل وقطف من ثمارها فكان فعليا شريكا لتلك الأجهزة في موبقاتها.
هذه الملفات، إن فُتِحت، لا بد ان تفضي الى إدانة معظم الطبقة السياسية ومعها معظم الذين تعاقبوا على الحكم منذ وضعت الحرب اللبنانية القذرة أوزارها.
لا مناص من مثل تلك المحاسبة، فمن دونها لن يكون هناك تاريخ موحّد لهذه الحقبة. كنا وما زلنا نقول إن الخبر في لبنان وجهة نظر، وذلك بفعل
تباين المواقف سياسيا، لا بل طائفيا في أحيان كثيرة، إزاء ما جرى ويجري في لبنان في ظل الانقسامات المحتدمة. بذلك ستكون رواية التاريخ، بما تنطوي عليه من تقويم لأحداث الحقبة وتطوَّراتها، متفاوتة لا بل متعارضة كلياً تبعاً لهوية المؤرخ وانتمائه. من هنا القول الشائع إن تاريخاً موحداً للبنان عن حقبة الحرب كما عن الحقبة التي أعقبت الحرب لن يجد من يكتبه، وإذا وُجِد من يكتبه فلن يجد من يعتمده، إلا بعد ان تُطوى نهائياً صفحة الانقسامات الفئوية التي تمزق الساحة اللبنانية. لا بل إن رواية موحّدة لتاريخ لبنان الحديث ستكون فعلياً إيذاناً بانتهاء حقبة الانقسامات الفئوية إلى غير رجعة.
ولا مناص من المحاسبة ليس فقط من أجل كتابة تاريخ موحّد، بل أيضاً من أجل فتح آفاق عهد جديد من البناء: بناء دولة القانون والمؤسسات، على قواعد ديموقراطية وطيدة، تمني بالاستقرار والتطوُّر والنمو.
الطائفية والفساد وجهان لعملة واحدة. فلطالما كانت الطائفية درعاً للفساد. فالمعروف أن محاسبة زعماء الطوائف تبقى شبه مستحيلة في ظل واقع يستطيع ان يصوّر الزعيم للملأ ان إدانته هي بمثابة الإدانة لجماعته. هكذا يبقى الفاسد في حصن حصين، ويبقى الفساد ظاهرة متعششة في حياتنا الوطنية، لا بل هكذا تبقى الطائفية والفساد من سمات ثقافتنا الوطنية المعتلة. فالمحاسبة مطلوبة ليس لمحاكمة الماضي فحسب، ولا هي مطلوبة لتبييض صفحة المجمتع بتبرئة الكثرة فيه من رزايا القلة فحسب، وبالتالي تطهير ثقافتنا الوطنية من أدران الماضي، بل هي مطلوبة كذلك لفتح صفحة جديدة من البناء، لا قيامة للبنان الوطن والدولة والمجتمع من دونها.
السؤال الكبير الذي يفرض نفسه هنا هو: هل المحاسبة المنشودة ممكنة عمليا؟ من الذي سيتولى هذه المحاسبة وكيف.
المحاسبة السياسية من اختصاص مجلس النواب، والمحاسبة الإدارية والمالية من اختصاص الحكومة، والمحاسبة القانونية من اختصاص القضاء. فإذا كانت الطبقة السياسية، ومنها الطبقة الحاكمة متهمة، فمن الذي يحاسبها؟ هل تحاكم الطبقة السياسية نفسها؟ وماذا تستطيع الطبقة الحاكمة وهي منبثقة مباشرة من الطبقة السياسية؟ وهل يستطيع القضاء شيئاً من ذلك ما دام خاضعاً للسلطة الاجرائية، أي للسلطة الحاكمة، تنظيماً وتعييناً وتمويلاً؟
في ديموقراطيات العالم الأكثر تقدماً، المحاسبة منوطة في نهاية المطاف بالشعب عبر الانتخابات النيابية في الأنظمة البرلمانية، وعبر الانتخابات الرئاسية في الأنظمة الرئاسية وكذلك في الانتخابات النيابية. في تلك المجتمعات تسود الحياة الحزبية. فالحزب الحاكم يتعرّض للسقوط في الانتخابات إذا ما أضحى هدفاً لشبهات او مآخذ، والحزب الحاكم يبقى طوال وجوده في الحكم تحت مجهر التدقيق والمراقبة والملاحقة في أدائه من جانب الحزب المعارض على شتى المستويات وفي شتى المجالات، وهو كفيل بتسليط أضواء الرأي العام على هذا الأداء. هكذا يغدو الحكم خاضعاً للمحاسبة المباشرة من جانب الشعب عبر الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية. لا بل هكذا أيضاً تخضع الطبقة السياسية، ومعها الطبقة الحاكمة، لشيء من التبدُّل أو التجدد في نسيجها بحيث يبقى باب المحاسبة مفتوحاً أمام السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية، فلا ينجو عهد من ملاحقة عهد يليه.
هذه الآلية الديموقراطية للمحاسبة غير متوافرة في بلدنا لبنان. وهذا من دواعي قولنا المتكرر ان في لبنان كثيرا من الحرية وإنما قليل من الديموقراطية. في بلدنا لا وجود لأحزاب فاعلة على امتداد الوطن، والانتخابات لا تخاض على أسس حزبية بل تتمحور على زعامات وتحالفات فئوية تقليدية، وهذه الزعامات قادرة دوماً على التحكم في مسار الانتخابات بحيث تكفل الطبقة السياسية، ومعها الطبقة الحاكمة، التجديد لنفسها، لا بل تأبيد سيطرتها، في الدورة الانتخابية تلو الدورة. أما والحال هذه، فما العمل؟ هل قدرنا ان نظل أسرى هذه الحلقة المفرغة إلى ما شاء الله. هل قدرنا ان نبقى على هذه الحال: إذا ما طالبنا بالإصلاح كان ذلك بمثابة مطالبة الطبقة الحاكمة، ومن ورائها الطبقة السياسية، بالانتحار؟
لا نجاة للبنان إلا بثورة ديموقراطية. ولن يكون ذلك إلا باعتماد نظام انتخابي جديد يضمن تجديد الطبقة السياسية مع كل دورة انتخابية، واستكمال مقومات الفصل بين السلطة الاشتراعية والسلطة الاجرائية بحظر الجمع بين النيابة والوزارة، وإخضاع رئيس مجلس النواب للمحاسبة بتقصير ولايته من أربع سنوات الى سنتين قابلة للتجديد، وكذلك تنمية الحياة الحزبية على قواعد لا فئوية بحيث تتناوب الأحزاب على الحكم. وتنمية الحياة الحزبية تتلازم بالضرورة وتنمية الثقافة الديموقراطية لدى الفرد، وهذا في منتهى الأهمية في أي مشروع لتنمية الحياة الديموقراطية. ومن الملح اقامة السلطة القضائية المستقلة، بحيث يُحصّن القضاء في وجه أي تدخل في شؤونه من جانب السلطة الاجرائية، وأخيرا تحميل رئيس الجمهورية تبعة ممارساته في حال صرف النفوذ على وجه غير مشروع إضافة الى حالتي مخالفة الدستور والخيانة العظمى اللتين ينص عليهما الدستور.