تحوُّلات المنطقة بين مشاهد الانتخابات وخفايا الأجندات

حسن نافعة


 

لم يسبق أن حظيت الانتخابات في العالم العربي، لأسباب معروفة، بأي قدر من الاهتمام أو الانتباه أو المتابعة الجادة على الصعيدين الداخلي والخارجي. غير أن الأمر أصبح مختلفا هذه الأيام، لأسباب باتت معروفة أيضاً. ويعج جدول أعمال المنطقة بعدد من الانتخابات التشريعية والرئاسية المقرر إجراؤها في دول عربية على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة. فهناك الانتخابات التشريعية اللبنانية المفترض عقدها في نهاية الشهر المقبل، والانتخابات البرلمانية الفلسطينية المقرر إجراؤها يوم 17 تموز (يوليو) المقبل، والانتخابات الرئاسية المصرية المقترح عقدها في أيلول (سبتمبر) من هذا العام أيضاً والتي ستعقبها انتخابات تشريعية قبل نهاية العام نفسه. ومن المتوقع أن ترتب هذه الانتخابات أثارًا بعيدة المدى ليس فقط بالنسبة للدول والشعوب المعنية بها مباشرة ولكن أيضا بالنسبة لمجمل أوضاع المنطقة ككل. ولأن هذه الانتخابات قد تشكل نقطة تحول كبرى أو انعطافة مهمة في تاريخ المنطقة، وربما تسهم في نقلها من حال إلى آخر مختلف تماما، فمن المتوقع أن يتابعها الداخل والخارج باهتمام غير مسبوق، على رغم أنه ليس في مقدور أحد أن يتنبأ بنتائجها من الآن، أو يقرر سلفًا ما إذا كانت هذه النتائج ستدفع بالمنطقة في الاتجاه الصحيح أم لا.

فعلى السطح تبدو هذه الانتخابات، أو بعضها على الأقل، وكأنها تأتي استجابة لضغط أميركي مباشر يستهدف دفع العالم العربي نحو تبني الخيار الديموقراطي وسيلة لإدارة شؤونه، خصوصاً أن هذا الخيار أصبح ينظر إليه من جانب الإدارة الأميركية الحالية باعتباره قضية أمن قومي. ويرى كثيرون في هذا التطور دليلا ساطعًا على توافق مصالح الولايات المتحدة الأميركية مع مصالح شعوب المنطقة في أن تأتي هذه الانتخابات حرة ونزيهة وشفافة قدر الإمكان، ومعبرة عن طموحات وأمال شعوب المنطقة في التحرر من الاستبداد الذي جثم على صدرها لعقود طويلة. أما ما يجري في الأعماق فيقول شيئًا مختلفًا تمامًا وهو أن هذه الانتخابات تجري تحت ضغط أچندة خفية تحاول التأثير على مسارها وتحديد نتائجها مسبقا بما يخدم الأهداف الأميركية -الإسرائيلية المشتركة في المنطقة.

فالمطلوب من الانتخابات التشريعية اللبنانية، وفقاً لهذه الأچندة، أن تسهم في تغيير التوازنات السياسية الداخلية بطريقة تساعد على توفير الأجواء المناسبة لنزع سلاح حزب الله واستخدام لبنان كقاعدة انطلاق لتنفيذ الاستراتيچية الأميركية - الإسرائيلية الرامية لمواصلة الضغط على النظامين السوري والإيراني تمهيدا لإسقاطهما نهائيا. والمطلوب من الانتخابات الفلسطينية، وفقا للأجندة نفسها، أن تفرز غالبية تكفي لتشكيل غطاء سياسي لمنظومة أمنية قادرة على تفكيك بنية المقاومة الفلسطينية ونزع سلاحها وتذليل بقية العقبات التي لا تزال تعترض طريق التسوية بالشروط الشارونية. أما المطلوب، من الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مصر فهو إيجاد ثغرة تسمح بكسر نظامها السياسي المغلق وفتح الطريق أمام بناء نظام مختلف قادر على التكيف بمرونة مع تحولات النظامين الإقليمي والعالمي وقيادة العالم العربي بطريقة تتسق مع مقومات مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أو "الموسع". والسؤال: هل تأتي رياح هذه الانتخابات بما تشتهي السفن الأميركية؟

للإجابة على هذا السؤال يتعين أن نلقي نظرة فاحصة على مجمل المشاهد الانتخابية المتوقعة في الدول العربية المعنية والتي ستأتي نتائجها في تقديري محصلة لصراع حاد بين تيارين: التيار الذي تعبر عنه القوى الراغبة في التعاطي والتعاون مع المشروع الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة، من ناحية، والتيار الذي تعبر عنه القوى الرافضة لهذا المشروع، من ناحية أخرى، بصرف النظر عن موقع هذه القوى داخل بنية الأنظمة العربية الحاكمة حاليا أو خارجها. ولا شك عندي في أن الولايات المتحدة ستلقي بثقلها وراء القوى المؤيدة لها على أمل أن تسهم نتائج هذه الانتخابات في تسهيل تنفيذ أجندتها للمنطقة بالطرق والوسائل السلمية.

٭ أولاً - المشهد اللبناني: ظل المشهد اللبناني يتفاعل على مدى شهور طويلة، وبخاصة منذ التجديد للرئيس أميل لحود، بطريقة مثيرة للقلق. واستغلت الولايات المتحدة بعض الأخطاء التي وقعت فيها سورية، خصوصاً عدم وفائها بما سبق أن تعهدت به لأطراف دولية مؤثرة حول موضوع التمديد، لتحقيق تقارب غير متوقع مع فرنسا أسفر عن إصدار القرار 1559 الذي اصبح سيفًا مسلطًا ليس على سورية وحدها ولكن أيضا على حزب الله والوجود الفلسطيني في لبنان. وفي سياق هذه التفاعلات وقعت جريمة اغتيال رفيق الحريري التي كان من الطبيعي أن تحدث زلزالاً سياسيًا هائلاً لا تزال تفاعلاته مستمرة حتى هذه اللحظة. وعلى رغم أن قوى داخلية وخارجية عدة حاولت الاتجار بدم الشهيد، إلا أن القوى الحية داخل الشعب اللبناني تمكنت، حتى الآن، من استثمار الحدث لتفجير ثورة حقيقية بدأت تشكل عنصرًا ضاغطًا فاعلاً على الدولة البوليسية ليس فقط في لبنان وإنما في مجمل المنطقة.

ومع ذلك ما زال البعض يراهن على الانتخابات التشريعية المقبلة أملا في تغيير المعادلة السياسية اللبنانية الداخلية ليس في اتجاه خلق لبنان قوي وديموقراطي ومستقل حقيقة، ومتفاعل بذكاء ونضج مع محيطه الإقليمي والدولي، ولكن في اتجاه استعادة صيغة قديمة عفا عليها الزمن لا تزال تدرك استقلال لبنان باعتباره استقلالا عن العالم العربي وحده، وتتصور أن الضامن الحقيقي لهذا الاستقلال لا يكون إلا بالتحالف مع فرنسا والولايات المتحدة، أو حتى إسرائيل!. ولحسن الحظ فقد تمكنت التفاعلات التي أطلقتها "ثورة الأرز" من إيجاد آلية لإعادة فرز القوى اللبنانية على أساس موقفها من المقاومة وسلاح حزب الله، بدلا من فرز آخر مغلوط كان يعتمد التحالف مع سورية أساسا ومقياسا له، وهو كان ينطوي على خلط شنيع بين القبول بدولة الأجهزة البوليسية وبين الالتزام بالموقف الوطني المبدئي العام المقاوم للهيمنة الإسرائيلية وللسياسة الأميركية المنحازة إليها.

وإذا كان من شأن عملية الفرز الجديد هذه، والتي بدأت تحرك تفاعلات الساحة اللبنانية، أن تشعرنا بقدر أكبر من الاطمئنان على مستقبل لبنان كمنارة ديموقراطية حقيقية يرتبط أمنها واستقلالها وازدهارها بأمن العالم العربي واستقلاله وازدهاره وديموقراطيته أيضاً، إلا أننا لا نعتقد أن المعركة حسمت بعد. فالكلام المعسول الصادر عن بعض القوى السياسية في لبنان ربما يكون لدوافع تكتيكية انتخابية سرعان ما تتغير و"تعود ريمة إلى عادتها القديمة". ومن هنا الأهمية الحاسمة للانتخابات المقبلة. فإذا أسفرت هذه الانتخابات عن غالبية ملتفة حول حماية المقاومة اللبنانية ومطالبة بتمكينها من الاحتفاظ بسلاحها، وهو السلاح الوحيد القادر على ردع إسرائيل في هذه المرحلة الدقيقة، فسيكون لبنان خرج من أزمته أقوى وأكثر إشراقا وديموقراطية واستقلالا وتأثيرا على أوضاع المنطقة. فمن المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى الدفع في اتجاه إنهاء دور "الدولة البوليسية" في العالم العربي والتأكيد معنى أن الديموقراطية والمشاركة الشعبية، وليس أجهزة القمع، هي الضامن الحقيقي لأمن الدول وسيادتها. وفي كل الأحوال فستشكل هذه الانتخابات اختبارا لحقيقة النوايا الأميركية تجاه المنطقة ولنوعية الديموقراطية التي ترغب في إرسائها فيها.

٭ ثانياً - المشهد الفلسطيني: يبدو أن الرهان الإسرائيلي على حرب أهلية فلسطينية بعد رحيل عرفات سقط نهائيا. فقد جرت انتخابات الرئاسة الفلسطينية بسلاسة، كما جرت بعض مراحل الانتخابات المحلية والبلدية. وها هو الشعب الفلسطيني يستعد لخوض الانتخابات التشريعية في 17 تموز (يوليو) المقبل، التي أعلنت حماس أنها ستشارك فيها. الأهم أن ذلك كله يجري في ظل هدنة لا تزال صامدة على رغم الاستفزازات والتحرشات الإسرائيلية. ومن الواضح تمامًا أن شارون يتمنى نسف هذه الهدنة خلال الأسابيع المقبلة وخلق وضع يسمح بتأجيل الانتخابات التشريعية، التي يتردد أن حماس قد تفوز بالغالبية فيها أو، على الأقل، بما يكفي من المقاعد للحؤول دون فرض تسوية بالشروط الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وللعب دور سياسي بارز ومؤثر في بلورة استراتيجية وطنية فلسطينية لإدارة الصراع في المرحلة المقبلة.

ومع ذلك ما زالت الغيوم تلوح في الأفق السياسي الفلسطيني. إذ يؤكد البعض أن هناك قوى داخلية وخارجية تحاول تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية، مستخدمة حجج وذرائع كثيرة. ويبدو أن السبب الحقيقي في الرغبة في هذا التأجيل يكمن في الخوف من احتمال فوز حماس. والغريب أن رئيس الولايات المتحدة الذي لا يتورع عن إشهار عصاه الغليظة في وجه كل من يتحدث عن تأجيل الانتخابات اللبنانية ويطالب كل يوم بضرورة عقد هذه الانتخابات في موعدها، هو نفسه الذي يصمت صمت القبور حين يتعلق الأمر بالحديث عن تأجيل الانتخابات الفلسطينية. ومن المؤكد أنه ستكون لهذه الانتخابات، خصوصاً إذا خاضتها كل القوى والفصائل السياسية الرئيسة، نتائج بالغة الأهمية بالنسبة لتطورات الأوضاع في المنطقة. ذلك أن هذه الانتخابات، وبصرف النظر عمن يفوز بالغالبية فيها، ستسهم في صياغة نظام وطني فلسطيني نعتقد أنه سيكون أكثر ديموقراطية وأكثر قدرة على مواجهة التحديات القادمة، بما في ذلك التحديات الإسرائيلية والأميركية. وفي كل الأحوال، ومرة أخرى، فستشكل هذه الانتخابات اختبارا لحقيقة النوايا الأميركية تجاه المنطقة ولنوعية الديموقراطية التي ترغب في إرسائها فيها.

٭ ثالثاً - المشهد المصري: يبدو أن مصر ستكون هي الرقم الصعب في اختبار حقيقة النوايا الأميركية. فقرار الرئيس مبارك بتعديل المادة 76، أطلق قوى المجتمع المدني من عقالها وأثار كَمّا هائلا من التفاعلات غير المحسوبة والتي يبدو أنها أصبحت أكبر من قدرة أحد على إدارتها وضبطها. وفي سياق هذه التفاعلات سيتعين على النظام المصري اتخاذ قرارات صعبة ستستثير حتماً ردود أفعال خارجية قد تكون حادة. فإذا تحولت انتخابات الرئاسة إلى مسرحية شكلية، فربما تضطر الولايات المتحدة إلى عدم الاعتراف بنتائجها. وإذا توافرت لها ضمانات الجدية فقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. وحتى في حالة فوز مرشح الحزب الوطني الحاكم في مصر بمقعد الرئاسة، فمن المؤكد أن تتحول الانتخابات التشريعية المقبلة، والتي ستجري بعد ذلك بشهور قليلة، إلى معركة مختلفة كلية عما سبقها. ولا شك أن هذا الموضوع يتطلب معالجة منفصلة. وأيا كان الأمر فليس من المقطوع به أن تتوافق نتائج الانتخابات المتوقعة مع الطموحات الأميركية بالضرورة. فلا شك أن الديموقراطية هي المطلب الحقيقي للشعوب العربية ووسيلتها للتخلص من الاستبداد الداخلي، لكن ليس معنى ذلك أن هذه الشعوب تقبل بالأجندة الأميركية. فمتى تدرك الولايات المتحدة هذه الحقيقة؟

كاتب واكاديمي مصري.