خريطة طريق.. للركوع!
د. محمد السعيد إدريس
قبل أن يذهب شارون للقاء
الرئيس الأمريكى جورج بوش بمزرعته فى تكساس ضمن إشارة أمريكية مسبقة ب حميمية هذا اللقاء كان الإسرائيليون قد أعدوا السيناريو اللازم للخروج
منه بالمكاسب المطلوبة وبالتحديد وضع الوعود السابقة للرئيس بوش التى
قدمها لشارون فى زيارته السابقة لواشنطن والتى أكدها فى خطاب ضمانات
لرئيس الحكومة الإسرائيلية4 أبريل 2004 موضع التنفيذ.
وفى مقدمة
هذه الوعود ما يتعلق بضم المستعمرات الإسرائيلية فى الضفة الغربية،
وتجاوز حدود ما قبل الخامس من يونيو 1967، وأيضاً ما يتعلق بإنهاء حق
العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وتأكيد يهودية الدولة
الإسرائيلية، بما يعنى ليس فقط منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة بل
وتحويل من بقى من الفلسطينيين داخل إسرائيل منذ عام 1948 عددهم يتجاوز
الآن ال 1.5 مليون نسمة إلى لاجئين.
شارون لم يكتف بذلك بل زاد
عليه بمطلبين آخرين: الأول، يتعلق بالضم الإسرائيلى النهائى للقدس
الشرقية المحتلة، والثانى، يتعلق بتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الدول
العربية.
ولفرض هذه المطالب على الرئيس الأمريكى كان لابد من إعداد
سيناريو محكم يجمع ما بين إظهار أعلى درجات التشدد والتهديد من جانب
متطرفين إسرائيليين للحكومة وللفلسطينيين وللاستقرار، وإظهار أعلى قدر
من الإصرار من جانب الحكومة على تنفيذ المطالب، وتفجير الوضع مع
الفلسطينيين فى محاولة لتحويل دفة الضغوط الأمريكية نحو الجانب الفلسطينى بدلاً من الجانب الإسرائيلى.
فقبيل ذهاب شارون إلى
الولايات المتحدة تعمد تفجير بالونة اختبار لها مغزاها عندما نقلت عنه
صحيفة هآرتس الإسرائيلية عزمه على أن يؤكد للرئيس الأمريكى معارضة
إسرائيل مطلب السلطة الفلسطينية الشروع فى مفاوضات حول التسوية
النهائية، وأنه عازم على جعل خطة الانسحاب الإسرائيلى من غزة وعدد
محدود من المستعمرات الهامشية غير الاستراتيجية فى الضفة الغربية تسوية
لا نهائية طويلة الأمد، بما يعنى استبعاد أى تفاوض مع الفلسطينيين حول
قضايا الوضع النهائى أو التسوية النهائية خاصة القدس والمستوطنات
والحدود النهائية للدولة الفلسطينية وحق اللاجئين الفلسطينيين فى
العودة إلى ديارهم والتعويض.
هنا نلمس حقيقة الموقف الإسرائيلى
المزدوج، حيث يصر شارون على فتح ملف قضايا التسوية النهائية مع الرئيس الأمريكى حسب وجهة النظر الإسرائيلية ووفقاً للوعود الأمريكية، وفى
الوقت نفسه يستبعد فتح ملف هذه القضايا مع الجانب الفلسطينى الذى عليه
أن يقبل صاغراً بتسوية جزئية مشوهة وطويلة الأمد سوف تتحول حتماً إلى
تسوية نهائية ليس أمام الفلسطينيين من بديل لها بعد أن تكون إسرائيل قد
خلقت وفرضت واقعاً جديداً بتهويد وضم القدس وكل مستعمرات الضفة إليها،
وبعد أن يكون تحويل إسرائيل إلى دولة يهودية كاملة قد أنهى كل أمل
بعودة اللاجئين.
والسيناريو الذى أعده الإسرائيليون لذلك بدأ
بإصدار قرار بضم مستعمرة معاليه ادوميم الواقعة فى بلدية القدس حتى
تصبح كل الأراضى الواقعة داخل حدود البلدية جزءاً من الأراضى
الإسرائيلية، ثم تبعه قرار من الحكومة الإسرائيلية ببناء 3500 وحدة
سكنية فى الضفة الغربية بهدف خلق تواصل جغرافى بين مستعمرة معاليه
ادوميم والقدس لضمان ضم القدس وتهويدها.
وفى محاولة إسرائيلية
للضغط على الرئيس الأمريكى للقبول بهذين المشروعين تعمد ايهود اولمرت
نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى أن يصعد الموقف الإسرائيلى من موضوعى
الحدود والمستوطنات إلى أقصاه متجاوزاً إدارة بوش، ووجه خطابا غير
مباشر إلى طائفة الصهيونيين المسيحيين أو الإنجيليين الأكثر تشدداً من
الصهيونيين اليهود فيما يتعلق بموضوعى إسرائيل الكبرى وهدم المسجد
الأقصى وإعادة بناء هيكل سليمان باعتبارهما شرطين موضوعيين لعودة السيد
المسيح عليه السلام من وجهة نظرهم.
فقد أعلن اولمرت أن إسرائيل لن
تتخلى أبداً عن القدس القديمة الشرقية، وزعم أن كل شبر من الأرض بين
نهر الأردن والبحر المتوسط هو أرض يهودية ولم يكن فلسطينياً فى يوم من
الأيام، وقال اولمرت فى محاولة للضغط على الرئيس الأمريكى أن الانسحاب
من غزة لا يعنى الإخلال بأى مبدأ من مبادئ التحالف بين اليهود والطائفة
الإنجيلية المسيحية فى الولايات المتحدة. وأكد، فى إشارة مزدوجة إلى
الرئيس الأمريكى وتلك الطائفة، أن إسرائيل لن تنسحب أبداً من المسجد
الأقصى أو من أى جزء من القدس القديمة التى هى جزء لا يتجزأ من التراث اليهودى والذاكرة الجماعية للشعب اليهودى على مدى ألفى عام حسب زعمه.
وقال أنه يؤمن بأن كل شبر من الأرض بين نهر الأردن والبحر هو جزء من
التراث اليهودى كما كان دائماً جزءاً من الميراث الأخلاقى لليهود
ومصدراً لإلهام الشعب اليهودى على مر العصور.
وزعم أن أى شخص يتحلى
بالمسئولية لا يمكن أن يوافق على الانسحاب من أقدس الأماكن عند اليهود
مثل القدس، وأن ذلك مستحيل ، مضيفاً أنه لا يعتقد أن أى شخص يمكن أن
يتوقع من إسرائيل أن تترك الأقصى يقع تحت حكم المسلمين الذين لا يتسمون
بالتسامح، ولم يبدوا أى نوع من التسامح تجاه أى دين آخر.
وأوضح
اولمرت أن بوش بعث بخطاب ضمانات إلى شارون فى 4 أبريل 2004 يؤكد أن
المستعمرات الكبيرة فى الضفة مثل معاليه ادوميم و غوش عتسيول ستظل
جزءاً من إسرائيل عند الدخول فى اتفاقات الوضع النهائى.
ولمزيد من
تسخين الموقف، بل وتفجيره، أقدمت قوات الاحتلال على تجاوز الهدنة
الفلسطينية التى أقرتها الفصائل الفلسطينية فى القاهرة والتى سبق أن
أقرتها فى قمة شرم الشيخ، عندما تعمدت قتل ثلاثة أطفال فلسطينيين كانوا
يلعبون الكرة فى رفح، وعندما ردت الفصائل الفلسطينية على هذه الجريمة
بإطلاق الصواريخ على عدد من المستعمرات الإسرائيلية أسرع شارون أثناء
وجوده فى الولايات المتحدة بوصف ذلك بأنه خرق للهدنة، التى سبق أن
رفضها عند إعلان الفلسطينيين الالتزام بها، كما أسرع وزير الحرب شاؤول
موفاز بتوجيه تحذير إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس زاعماً
فقدان السلطة للسيطرة الأمنية فى الأماكن التى توجد فيها فى محاولة
للانحراف بمحادثات شارون مع الرئيس الأمريكى وتركيز الاهتمام على
المطلب الإسرائيلى بتفكيك البنية التحتية لفصائل المقاومة.
وتزامن
مع هذا الحدث تعمد اليهود المتطرفين بزعامة حركة ريفافا اقتحام المسجد
الأقصى أثناء وجود شارون فى الولايات المتحدة لتفجير قضية القدس على
أوسع مدى ومغازلة طائفة المسيحيين الصهيونيين فى الولايات المتحدة
وتأكيد أن إسرائيل تسير على الوعد ب تحرير القدس وبناء الهيكل.
وفى
لقائه مع الرئيس الأمريكى وعلى مرأى ومسمع من العالم كله وقف شارون فى
تحد سافر لكل القوانين والأعراف الدولية ليرد على طلب الرئيس الأمريكى
بوقف التوسع الاستيطانى ليقول أن إسرائيل ستقوم بإزالة البؤر
الاستيطانية غير القانونية، لكن المواقع الاستيطانية الكبيرة ستبقى كما هى فى أى اتفاق حول الوضع النهائى مع الفلسطينيين. فى عُرف شارون أن
المستعمرات الكبيرة قانونية ورغم ذلك لم يرفض الرئيس بوش، بل إنه لم
يصمت لكنه دعم مطالب شارون فى ضم المستوطنات بإعلان رفض توسيع
المستوطنات القائمة وبناء وحدات سكنية جديدة فيها مكتفياً بضم
المستعمرات الموجودة على الأرض، وهو هنا توافق مع ما سبق أن أعلنته
وأوضحته وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بأن الولايات المتحدة تميز بين
تجميد الاستيطان وبين ضم المستعمرات الضخمة فى الضفة الغربية عبر
التفاوض.
حدث هذا فى مزرعة الرئيس الأمريكى فى تكساس، فى الوقت
الذى وقف فيه شيمون بيريز نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى ليؤكد أن
إسرائيل لن تقوم بتقسيم القدس، ولن يتم بحث مكانته المدنية فى أى
مفاوضات حول التسوية الدائمة وستظل القدس عاصمة إسرائيل والشعب اليهودى
بأسره وإلى الأبد . كما وقف أحد مسئولى منظمة ريفافا اليهودية المتطرفة
متحدياً الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم كله ليعلن تحديد يوم
التاسع من مايو المقبل موعداً جديداً لاقتحام المسجد الأقصى، والأسوأ
من هذا كله أن يتعمد قريبون من شارون توجيه انتقادات لاذعة للرئيس الإسرائيلى موشيه كاتساف لتورطه فى مصافحة الرئيس السورى بشار الأسد
والرئيس الإيرانى محمد خاتمى فى مراسم تشييع البابا يوحنا بولس الثانى،
وقالوا أن كاتساف أهان إسرائيل بمصافحة الأسد وخاتمى ويمنح أهلية لزعيمى محور الشر، فضلاً عن أن المصافحة تمس بجهود إسرائيل والولايات
المتحدة لعزل إيران وسوريا.
حدث هذا كله، ثم جاء سلفان شالوم وزير
الخارجية الإسرائيلى للقاء الرئيس حسنى مبارك فى شرم الشيخ وتقديم ما
أسماه ب خريطة طريق إسرائيلية للسلام مع الدول العربية والإسلامية
ومطالبة مصر بالمساعدة فى تنفيذ هذه الخريطة وإعادة التأكيد على أن سبع
دول عربية هى فى طريقها الآن لتطبيع العلاقات مع إسرائيل !!، بما يعنى
أن تلك الخريطة تتجاوز هؤلاء السبعة وتتوجه إلى دول عربية أخرى لم تشرع
بعد فى التطبيع.
لم يطلب شالوم المستحيل، لكنه كان يقرأ الواقع..
الواقع العربى الذى سمح للإسرائيليين بكل هذا التجرؤ الفاضح لواقع عربى
مفضوح ومهزوم.