عقلية <<القلعة المحاصرة>>
جوزف سماحة
ينتمي <<حزب الله>> إلى الائتلاف الواسع المتجه إلى تحقيق فوز انتخابي كاسح. لكنه انتماء من نوع خاص يجعل الحزب يتصرف انطلاقاً من عقلية <<القلعة المحاصرة>> أو التي تتوقع حصاراً قريباً.
إن قراءة سريعة للمستجدات اللبنانية والإقليمية تقود إلى استنتاج مؤداه أن سلاح الحزب سيكون موضوعاً بارزاً على جدول أعمال السلطة البازغة. لا بل قد يكون هذا السلاح عنصراً متحكماً في سلوكيات المتعاطين الأجانب مع الملف اللبناني.
لن يضيع هذا الهدف، السلاح، عن عيني واشنطن. ويخطئ كل من يراهن على أن باريس راغبة في سحبه نهائياً من التداول. ستبقى الولايات المتحدة وفرنسا قوتي دفع لتنفيذ القرار 1559. ولن يتأخر كثيراً الوقت الذي يعلن فيه استئناف الحملة، باسم مجلس الأمن وغيره، من أجل استكمال تطبيق القرار الدولي.
إن الإلحاح على هذا الهدف معلق مؤقتاً في انتظار بلورة السلطة الجديدة واستقرارها. لكن 1559 راجع. وقد لا يعني رجوعه التلويح الفوري بالحل العسكري (لا أدوات جدية محلية له). غير أنه سيعني بالتأكيد، وتحت مسميات <<الحوار>>، والسلاح <<شأن داخلي>> أو <<قضية وطنية>>، السعي إلى فرض حصار سياسي على الحزب من أجل شلّه على الأقل. سيجد الحزب نفسه، بعد أشهر، مواجهاً ب<<نصاب 14 آذار>>. وما نراه من خلافات طارئة ضمن المعارضات السابقة، ومن انفراط التحالفات، ومن عمليات التفاف، ومن تسلط للبعض على البعض باسم <<وحدة المعارضة>>... ما نراه من ذلك كله سيتراجع لصالح عنوان موحد يدعو الشيعة إلى ملاقاة <<الإجماع>> اللبناني. ولا يجوز، ولا بأي حال، الانخداع بالتجربة الفاشلة ل<<اللقاء الشيعي اللبناني>> وذلك، بالضبط، لأنها كانت <<خطأ تاريخيا>> بمعنى أنها فشلت لأنها جاءت قبل أوانها وقبل أن تكون المحاريث فعلت فعلها في البيئة الشيعية ومهّدت، قدر الإمكان، لإحداث التصدعات المطلوبة.
وحتى لو جرى التسليم، جدلاً، بأن شيئاً مما تقدم لن يحصل فإن إسرائيل ستكون حاضرة لنوع من التدخل يؤثر على جدول الأعمال اللبناني الداخلي. قد يتم ذلك على شكل انسحاب من مزارع شبعا أو على شكل تحرشات تهدف إلى تغيير قواعد الاشتباك. وفي أي من الحالين سيقام ربط محكم بين أي تطور حدودي وبين القرار 1559، وهو ربط تريد له تل أبيب أن يكون ثأراً متأخراً من الطريقة التي أرغمت بها على تطبيق 425. لكن الثأر ليس المحرّك الوحيد. فإسرائيل تملك أسبابها الفلسطينية لذلك. كما أنها، مع الولايات المتحدة الأميركية، تملكان أسباباً إيرانية للتعامل مع <<السلاح على الحدود>>.
سنشهد في لبنان انتعاشاً للنظرية القائلة بأن استعادة السيادة الوطنية من سوريا تبقى ناقصة ما لم تستعد، أيضاً، من مقاومة أهلية مسلحة. هناك من سيلحّ على <<مركزية الأمن>>، وهناك من سيعترض على <<تسلح طائفة دون غيرها>>، وهناك من سيثير احتكار قرار السلم والحرب، وهناك من سيتساءل عن <<لبنانية>> السلاح أو <<إقليميته>>... سيقال إن لبنان أمام فرصة فريدة، منذ عقود، وإن <<حزب الله>> لا يملك حق التهديد بإضاعتها. وليس هناك ما يمنع أن يكون العرض مغرياً. ويعني ذلك أن الطوائف الذاهبة نحو ابتلاع الدولة وتقاسم السلطة ستحفظ للحزب ومن يمثل حصة في هذه... الدنيا.
عندما يحصل ذلك، وهو سيحصل، ستكون منظومة الحماية السابقة للمقاومة قد استكملت انهيارها، أو، على الأقل، انهيار معظم أركانها. أكثر من ذلك ستكون مفاعيل لجنة التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد شرعت في الظهور مع ما قد تعنيه من تأثير على مصير الرئيس إميل لحود أو انحيازاته، ومع وصول الرذاذ إلى سوريا نفسها، ومع تبلور
السياسة الأميركية حيال دمشق والمترددة بين التغيير الشامل وبين اقتراح <<الخيار الليبي>>. سيعاد، في مثل هذه الأجواء، نبش صور الماضي القريب. وسيبدو نوعاً من الهرطقة الكلام عن مصلحة لبنانية في معاونة سوريا لاسترداد الجولان. لن يكون سهلاً على السيد حسن نصر الله الدعوة إلى تظاهرة شبيهة بتظاهرة 8 آذار. صحيح أن ذلك التحرك أدى إلى تعليق لطرح قضية السلاح ولكن الصحيح، أيضاً، أن الحزب ما زال يداوي ندوباً خلفتها التظاهرة في علاقات المذاهب الإسلامية. ويفسّر الهمّ الأخير، إلى حد ما، بعض التكتيكات الانتخابية للحزب.
لهذه الأسباب، ولغيرها، يتصرف الحزب، في الوقت نفسه، كأنه طرف أصيل في ائتلاف عريض، وكأنه قلعة محاصرة أو متجهة نحو الوقوع في حصار بعد أن يحصل الفرز بين الأصيل وغير الأصيل في الائتلاف الراهن.
<<عقلية القلعة المحاصرة>> حالة ذهنية تستدعي سلوكيات معينة. ولقد سبق لأحزاب كثيرة ولحركات تحرر عديدة أن عاشتها. وهي تعني التصرف على قاعدة التماسك الداخلي، والاتكال على القوى الحية الشديدة الالتزام، والتعاطي بحذر مع الآخرين، والمراوحة بين الانغلاق وبين التحالفات المهلهلة التي لا يجوز الاعتماد عليها.
إن السلوك الانتخابي للحزب يدل على أنه <<يعاني>> من هذه الظاهرة، وهي <<معاناة>> يمكن لها أن تكون ناجمة عن تقدير صحيح لموازين القوى واتجاهاتها. يبدو واضحاً أن هناك من قرّر أن طوق الحماية الجدي الوحيد للحزب هو الطوق المذهبي. ويعني ذلك أن رفع منسوب التماهي بين الحزب والطائفة هو سلاح الردع الأساسي حيال الآخرين. هذه هي الوجهة الاستراتيجية. أما تكتيكياً فلا بأس من مسايرة الأطراف الإسلامية في الائتلاف المشار إليه (الحريري وجنبلاط) على أمل تسليف مواقف يجري سدادها لاحقاً في ظل التعقيدات الهائلة والفعلية، وذات الأبعاد الإقليمية المؤكدة، لاحتمال أن يتحمّل أحد مسؤولية <<الفتنة>> المذهبية. وفي استطراد ما تقدم يمتنع الحزب عن استكشاف أي احتمال آخر في البيئة المسيحية تاركاً لحليفيه تولي الهندسة الإجمالية، لصالحهما، للعلاقة مع هذه القوى (ثمة احتمال ضئيل بخرق هذه القاعدة، جزئياً، في بعبدا عاليه).
إلا أن <<عقلية القلعة المحاصرة>> تظهر، أكثر ما تظهر، في نهج الحزب حيال كتلة <<هلامية>> (قومية، يسارية، ديموقراطية، علمانية) معنية به من زاوية رؤيتها لموقع لبنان من صراعات المنطقة، ومن زاوية اعتبارها أن المصلحة الوطنية اللبنانية البعيدة المدى هي البقاء في خندق ممانعة الغزوة الكولونيالية المعطوفة على التوسعية الإسرائيلية. إن هذه الكتلة موجودة فعلاً في الجنوب والبقاع حيث الثقل الانتخابي للحزب، ولكنها منتشرة في لبنان كله. لم يعرها الحزب أي اهتمام. عاملها كما لو أنها كمّ مهمل. لم يتعاط معها وكأنها احتياطي قد يفيد يوماً ما. لم ينتبه إلى أنها عنصر مساعد في توسيع القاعدة التي ستتلقى الضغوط اللاحقة. لم يكرّر معها تجربة <<السرايا>> التي، على سطحيتها، أوحت بوجود وعي لمعنى الانفتاح المضبوط.
لا تسمح <<عقلية القلعة المحاصرة>> بهذا <<الترف>> مع أنها تدرك أن 1559 راجع، وأن الاصطفاف حياله قد لا يكون الاصطفاف الحالي.
... الى منتدى الحوار |
الصفحة الأولى| أخبار لبنان| عربي ودولي| اقتصاد| ثقافة |
رياضة| قضايا وآراء| الصفحة الأخيرة| صوت وصورة |
©2005 جريدة السفير |