النظام السوري إلى أين ؟

                                                  بقلم : محمود جديد


 

      أعدّ /حافظ الأسد ابنه /باسل / ليكون الوريث ، وبرز ذلك واضحاً بعد أن تقدّم به السنّ ، وأزمن مرضه وتفاقم ، وكان التغييب القسري لأخيه /رفعت/ عن الساحة السورية خطوة مهمة على طريق تيسير عملية التوريث نظراً للشهوة السلطوية الجامحة لدى الأخ ، ولم يكن لبشار الأسد أيّ حساب في هذا المجال ،لأنّ طبيعته الشخصية ، وطموحاته كانتا لاتستجيبان لمواصفات ومتطلبات الحاكم الديكتاتور،، ولذلك شقّ لنفسه طريقاً آخر باتجاه دراسة طبّ العيون ، والتوجّه إلى لندن لهذا الغرض ، ولكنّ القدر حال دون إتمامه هذه المسيرة ، وعاد مسرعاً في أوائل عام 1994 بعد حادثة سير أخيه باسل المعروفة ليتولّى كرسي الوراثة الشاغر تنفيذاً لرغبة والده الملحّة ... وقد أعدّ له برنامجاً تثقيفيّاً مكثفاً في شؤون الحكم والسياسة ، وأرسله على جناح السرعة إلى الكلية العسكرية ليشتد عوده ، ثمّ أخذ يمنحه الترفيعات الاستثنائية المتلاحقة ليصبح عقيداً خلال خمس سنوات ، وقد كانت استجابة ابنه للإعداد جيدة وسريعة ، وقد حاول خلال هذه الحقبة التعرّف المباشر على كوادر وشخصيات (غيربعثية) سياسية واقتصادية وعلمية محترمة السمعة والكفاءة ، وكان يزورها في مقرّات عملها ، وكانت لفتة ذكية، ولكنه تناساها ، ثمّ أضاعها فيما بعد ... وكانت خطة /حافظ الأسد/ ترتكز على إيصال ابنه إلى القيادة القطرية للحزب ، وتعيينه نائباً أوّلاً لرئيس الجمهورية بهدف ضمان التوريث السلس ، وضمن هذا السياق مهّد له الطريق بإزاحة كل الشخصيات العسكرية الطموحة لتولي المسؤولية الأولى أمثال : العماد حكمت الشهابي ، والعماد علي دوبا ، واللواء علي حيدر ، واللواء محمد الخولي ..الخ بالرغم من الخدمات الكبيرة التي قدّمها هؤلاء لاستئثاره بالحكم والمحافظة عليه ...

وقبل وفاة /حافظ الأسد/ كان موعد انعقاد المؤتمر القطري ، ومن (الطبيعي) في ظلّ حكم ديكتاتوري شمولي أن تكون الترتيبات قد أصبحت جاهزة لاختيار أعضاء القيادة القطرية الجديدة ، وأنّ الأسماء أصبحت معروفة ، ويبدو أنّ /عبد الحليم خدّام/ كان من بين المزاحين عن مناصبهم ومسؤولياتهم في الحزب والدولة ، وإذا بقدرة قادر أصبح رئيساً مؤقتاً للدولة بسبب رحيل / حافظ الأسد/ المفاجىء ...وهناحصل الإرباك في عملية التوريث فأركان النظام في الجيش والأمن يعلمون جيّداً المخطط الذي وضعه الأب لإيصال ابنه إلى الرئاسة ، والعهود والوعود التي قطعوها له في هذا المجال ، وفي الوقت نفسه أصبحت الحاجة ماسة لاستمرار /عبد الحليم خدّام / في تولّي المسؤولية ، وضرورة عقد صفقة معه لإتمام عملية التوريث ،لأنّه أصبح الجهة الوحيدة المخوّلة بإصدار القرارات والمراسيم اللازمة لإيصال ( الوريث) إلى الرئاسة ...وضمن هذا السياق تمّ تعديل الدستور من قبل مجلس الشعب بزمن قياسي غير مسبوق ، والترفيع إلى رتبة فريق ...الخ ، وبشكل يندر حدوثه في العالم اااا...وعلى كل حال ، وكيفما كان الأسلوب فقد تمّت عملية التوريث ، وأصبح الدكتور بشار الأسد رئيساً وخُتِمَت بخطاب القسم الذي عبّر فيه عن  توجّهات وأفكار جديدة باتجاه الرأي الآخر ، وقد فهمه الكثيرون وحمّلوه أكثر من مضمونه الحقيقي المقصود ( كما أثبتت الأحداث فيما بعد ) ،وقد تلقفوه بلهفة نظراً لتعطشهم لأيّة نسمة ديمقراطية ، سواء أكانت وهماً أم حقيقة ، وقد دفع بعضهم الثمن غاليا بعد ذلك نتيجة هذا الفهم ...هذا مع العلم أنّ / الدكتور بشار/ كان قد تزعّم حملة ضدّ الفساد قبل وفاة أبيه ، وتجسّدت في وسائل الإعلام أكثر من الواقع المعاش ، وكانت شرائح واسعة من الشعب السوري يتوسّمون به خيراً ، ويتمنون له التوفيق في مسعاه ، ويقفون وراءه عن قناعة نظراً لمحدودية الاختيارات المتاحة وقتذاك ، وللآمال التي عقدوها عليه ، وخاصة بعد أن قلّم أظافر بعض بقايا أتباع عمّه /رفعت/ ، وبعض شلّة " زعران"  القرداحة ....

قمقم الإرث والتوريث :    كان / بشار الأسد / بمثابة غصن تفرّع عن جذع شجرة شاخت ويبست أغصانها القديمة ، فهو يحمل مواصفات وخصائص الشجرة الأم ، لأنّه كان أسير توجّهات ونصائح ووصايا أبيه الذي حدّد له الخطوط العامة العريضة للنهج السياسي الذي يجب أن يسير عليه مستقبلاً في الداخل والخارج وعناصر النظام الموثوقين والمجرّبين الذين يجب الاعتماد عليهم ، وخاصة في المرحلة الأولى من حكمه ...هذا بالإضافة إلى حمله وتبنيه سياسات وممارسات حكم والده مدة ثلاثين عاما ، وفي الوقت نفسه أصبح أسير الأشخاص والأجهزة والقوى الداخلية ، والأطراف الخارجية التي وقفت معه أثناء عملية التوريث ، وساندته بعد وفاة أبيه ، وشعوره بالتزام (أخلاقي) تجاههم يفرض عليه استشارتهم والأخذ بالكثير من آرائهم ، والمحافظة على دورهم وحصتهم في الحكم ، والتعوّد على تقبّل احترامهم له بعد أن عايشهم ست سنوات وهو يقدّم لهم عبارات الأعراف والتقاليد العسكرية المألوفة من احترام وتبجيل ... وهكذا أصبح /بشار الأسد / رهين المحبسين : الإرث والتوريث ، وسجن نفسه في هذا القمقم ، ولكنّه كان يُخرِج رأسه بين الفينة والأخرى ليتنفس جرعة أوكسجين حتى لايختنق ، وأنا كمعارض لاتحرجني ولاترهبني كلمة حق سواء في أمور تتعلّق بالشأن السوري أو الفلسطيني أو العراقي ...الخ ، ولذلك أقول أنّ /بشار الأسد / عندما استلم الحكم لم يكن شخصاً سيّئاً كإنسان ومواطن ، ويمتلك نوازع خير كثيرة ، ولديه تطلعات ديمقراطية (دون أن يكون عنده برنامج  محدّد لتحقيقها) ، ولديه أيضاً مشاعر وطنية وقومية صادقة عبّر عنها في بعض مؤتمرات القمة التي حضرها ، وفي بعض خطبه وممارساته تجاه العراق وفلسطين قبيل العدوان ، وهو يدفع الثمن عقاباً عليها في هذه الأيام ، وسيكشف المستقبل القريب ماذا بقي من رصيده منها ....

وعموماً فإنّ وصايا ونصائح أبيه ، والجمائل التي أحسّ بها تجاه مَن وقفوا معه عند إتمام عملية التوريث ، وتعضّي الأجهزة الأمنية والعسكرية والحزبية ، وحرصها على المحافظة على مكاسبها غير المشروعة وتخويفها المستمر له من الاندفاع في إجراء التغييرات والإصلاحات من مصير مشابه لمعظم قادة دول المعسكر الاشتراكي ، وإبدائه حرصاً مبالغاً فيه لصيانة تراث وتركة حكم أبيه ،والمحافظة عليه ...وضغط الظروف والأحداث المتسارعة في المنطقة والعالم ، ونقص خبرته السياسية والعسكرية عند استلامه الحكم ...كلّ هذا جعله يضيّع فرصة ذهبية كان بإمكانه أن يدخل التاريخ من الباب العريض لو نفّذها ، وهي نقل سورية من الحكم الديكتاتوري الشمولي إلى حكم ديمقراطي حقيقي ، ويصبح /     خوان كارلوس / السوري ، لأنّ كثيرا من المعطيات كانت متوفّرة للسير في هذا الاتجاه من أهمّها :

1 – تمتعه عند استلامه الحكم بسمعة طيبة ، وبشعبية حقيقية مبنيّة على المؤشرات التي بدت منه للشعب السوري ، سواء بسلوكه أم بالإعلان عن تصميمه على مكافحة الفساد ...

2 – يُعتبر كشخص بريئاً من أخطاء حكم أبيه ، لأنّه لم يكن مسؤولاً عنها ، ولم يحمل معه وزر الصراعات التي دارت داخل البعث نفسه ، ولابين البعث والأحزاب المعارضة الأخرى وخاصة / الأخوان المسلمين / ،أي أنّ  كافة الأطراف (حسب تقديري) كانت  ستقف إلى جانبه ، وتدعم خطواته إن وجدت جدّية وصدقاً وتصميماً على إجراء إصلاحات ديمقراطية جذرية ..وخاصّة أن المعارضة السورية الحقيقية بكافة شرائحها لم تراهن وقتذاك على العامل الخارجي لإجراء تلك العملية ، ونأمل أن تستمر في هذا الموقف الوطني الشريف ...

3 – إنّ شعبنا في سورية واع سياسياً من جهة ، وعاطفي من جهة ثانية ، وتشدّه وتوحّده الخطوات الصحيحة إذا أحسّ بصدق دوافعها ،وجدّية تنفيذها ...وقد حرّك خطاب القسم مشاعره بالرغم من محدودية ما جاء فيه من الجانب الديمقراطي ، ولو أقدم /بشار الأسد/ على تنفيذ خطوات ديمقراطية جدّية ملموسة  لشكّلت بلسماً للكثير من الجراحات التي سبّبها نظام أبيه طيلة 30 سنة ...

4- وجود مناخ دولي مناسب للسير على الطريق الديمقراطي ، وخاصة الأوربي منه ، بالرغم من الاستغلال الأمريكي للديمقراطية كمطلب حق يُراد به باطل ، وتوظيفه في مخططاتها في المنطقة والعالم ...

سقوط النظام السوري في الاختبار الديمقراطي بعد عمليّة التوريث :  

    فعل خطاب القسم في الشعب السوري فِعل غيمة صيفية أنزلت بعض المطر بعد جفاف طويل فأنبتت بعض الزرع ولكنه ذبل بسرعة بسبب قيظ النظام السوري المستمر ، وقد تمثّل ذلك بمنتديات المجتمع المدني التي أفرزتها شرائح حيّة في الساحة السورية بديناميكية سريعة تعبيرا عن المخزون الديمقراطي الدفين في النفوس ،وتأكيداً على ضرورة وحتمية تعاون كافة الشرائح الوطنية للشعب السوري في السير المشترك على طريق التغيير الوطني الديمقراطي المنشود ، ومن هنا جاء تضافر جهود أطراف الشرائح الوطنية بكافة توجهاتها مع نماذج شريفة مخلصة من البرجوازية الوطنية المنتجة امتدّت حتى إلى داخل / مجلس الشعب السوري / متمثلة بالنائبين المحترمين الشجاعين : رياض سيف ، ومأمون الحمصي المعتقلين لنظافتهما الوطنية ، وليس لأسباب وتهم ظالمة منسوبة إليهما، ولكنّ قيادات النظام السوري وأجهزته على صعيد الحزب والدولة لم يرق لها هذاالتحوّل الجنيني الشعبي نحو الديمقراطية ،لا بل أرعبها ، فاستنفرت ومعها جوقة أحزاب جبهتها للتصدّي لهذه الظاهرة النبيلة ووأدها في مهدها ، بينما كان /الدكتور بشار الأسد / يرصد  ما يجري مرتبكاًً ومنصتاً لنصائح أبيه وهو في لحده من خلال بقايا مستشاريه ،وقادة أجهزته ، ورجاله الذين أوصى بهم خيراً فكان ما كان من حملة اعتقالات لرموز منتديات المجتمع المدني المعروفين، وعلى رأسهم الدكتور :عارف دليلة  ، وبذلك سقط /بشار/ في الاختبار الديمقراطي الأول ، وبدّد ، وأضاع ورقة هامة من يديه ، ولم يكتفِ بذلك ،بل أكّد سقوطه هذا أمام مجلس الشعب ، وفي لقائه التلفزيوني مع /حسن معوّض / على فضائية " العربية" ، بإعلانه تنصّله من وعوده الديمقراطية ، وإلزام نفسه بكل المحطات الخاطئة التي سلكها والده ، وخاصة عند مشاركته في الحملة الأمريكية العدوانية الأولى على العراق عام 1991 ، وبذلك شدّ الوثاق على جسده أكثر فأكثر داخل القمقم الذي وضع نفسه فيه بعد التوريث ...

غير أنّ النظام السوري حاول التهرّب من الاستحقاق الديمقراطي برفع شعارات التحديث والتطوير ، والإصلاح الاقتصادي على الطريقة الصينية ، واعتباره الطريق الصحيح البديل عن الإصلاح السياسي  ، ولكنّ هذا الشعار ما لبث أن سقط بسرعة ليحلّ محلّه شعار"الإصلاح الإداري " باعتباره الخطوة الضرورية المسبقة لتحقيق إصلاح اقتصادي ، وقد استورد لجانا أجنبية مختصة(من فرنسا) للقيام بهذه الخطوة ، ثمّ ما لبثت أن فشلت أيضاً ، فطرح شعار الإصلاح القضائي ... وهاهو اليوم يطرح شعار إصلاح  البعث ...الخ وهكذا أثبتت الأحداث بالملموس أنّ هذا النظام قد اهترأ ومن الصعب جداً ترقيعه أو إصلاحه ...فلو كانت مسيرة النظام السوري صالحة منذ انقلاب وارتداد / حافظ الأسد/ على خط الحزب وحتى الآن (35 سنة )لاستطاع أن يبني تجربة متميّزة يتفاخر بها كل سوري وعربي ، أمّا الآن فلا أريد أن أدخل في وصف الأوضاع الداخلية السورية الراهنة ولديّ الكثير ،ولا أرغب في استنطاق السياسيين والخبراء المعارضين للنظام ، وإنّما أريد أن استحضر شهوداً من أهله ، وأوّلهم /الدكتور عماد فوزي الشعيبي / أحد كوادره الأكاديمية والإعلامية والمدافعين عنه ، حيث ذكر في مقال له بعنوان " الإصلاح في سورية رؤية من الداخل " والمنشور في "نشرة أيمن عبد النور " ما يلي :

" وهناك مشكلة حقيقية في موضوع الإمكانات البشرية .فالمجتمع السوري عموما ًإمّا محشو بإمكانات سطحية معلّبة بشهادات ورقية (عابرة للجامعات )، أو أنّه مجتمع بلا نجاحات ،وبلا كفاءات ، وغالبية الكفاءات إمّا في الظلّ ويصعب الوصول إليها ،أو هاجرت إلى الخارج أو إلى الداخل حيث شُحِنت ضد الدولة ،والأهمّ أنّها تكاد إذا ما استدعيت للمساهمة في بناء البلاد لاتعرف شيئاً عن المعطيات السائدة ،لأنّها حُرِمت منها ،ومُنِعت من الوصول إلى المناصب المناسبة ، وبالتالي حُرِمت من الخبرة ، وهناك عدد كبير جدّاً ممّن تسلّقوا الهرم الوظيفي لسنوات طويلة من طراز"الأتباع" أي المحسوبين على فلان وفلان كظلال سرمدية لهم،ويُعيدون إنتاج الظاهرة في شكل يبعث أحياناً على الزفر عميقاً ، ولا يمكنك أن تجد مكوّنات الشخصية القيادية والخبرة الإدارية ،والنزاهة الشخصية مجتمعة إلاّ في صورة سحرية ونادرة في سورية...." وعندما يتحدّث /الشعيبي/عن الإصلاح يقول :" ولكن مَن المصلح ومَن الذي سيصلح إذا كان المصلح الذي –غالباً-ما يوكله الرئيس بالإصلاح يحتاج إلى إصلاح ،أي إذا كانت غالبية الكوادر التي يتمّ الاعتماد عليها اليوم غير مؤهّلة إمّا شخصيّا أو علميّا أو إداريّا أو نزاهة أو بكل ذلك ..." وهناك شاهد آخر هو الدكتور /الطيّب تيزيني/ الكاتب والمفكّر العربي السوري المرموق ،حيث كتب في المحرّر العربي تاريخ18 /3/2005 ما يلي : " فعلى الطالع والنازل ، يعلن مسؤول أو آخر أنّ الإصلاح الوطني الديمقراطي يسير في سورية على قدم وساق مع أنّ واقع الحال أخذ في التردّي أكثر فأكثر .فالفساد الاقتصادي والقضائي والتعليمي والسياسي والاجتماعي يقرن اقتراناً مذهلاً مع عملية مفتوحة مطردة من الإفساد ، ويحدث ذلك يداً بيد مع الانكسارات على صعيد السياسة الخارجية حالة من الاضطراب والشعور بالخذلان والأسى ." ثمّ يتحدّث عن القرار السياسي والقيادة السياسية فيقول :" ولنضع في الاعتبار أنّ المؤسسة السياسية ، التي تعتبر حتى الآن قائدة الدولة والمجتمع ،دخلت في غيبوبة جعلتها غريبة على الأحداث بل عبئاً عليها.ونكاد نرى المؤسسة السياسية القيادية المذكورة تحوّلت إلى نمط من "الطبقة المغلقة" المماثلة لما كان يحكم الهند قبل قرون باسم " kasten " وإلى الآن ،تكاد لاترى شيئا يدلل على خروجها من حالة الغيبوبة المذكورة ...."

وعلى كل حال ، فإنّ الثابت أنّ الأوضاع الداخلية السورية مستمرة في تردّيها واهترائها، لعدم وجود مشروع إصلاح حقيقي حتى الآن، وإرادة سياسية جادّة وحازمة في تطبيق أيّة خطوات ملموسة في هذا المجال ، وفي الوقت نفسه فإنّ الخناق الخارجي أخذ يضيق على رقبة النظام ، نظراً لعجزه عن تلبية متطلبات الإدارة الأمريكية وبعض حلفائها في أوربا ، وهنا أوضّح موقفي بأنّني  لست من اولئك  الانتهازيين الانتظاريين المصابين بالحول السياسي الذين لا يرون الأوضاع في سورية إلاّ من خلال زاوية ضيقة ، لإدراكي القاطع بخطورة وحجم المخطط الأمريكي – الصهيوني المرسوم للمنطقة والعالم ، ولكنّ كلامي هذا لايعني بأيّ شكل من الأشكال التوقف عن النضال الديمقراطي ، ومهادنة النظام السوري ، وإيجاد التبريرات لتقاعسه وتلكئه ، وعدم رغبته في إنجاز خطوات ديمقراطية جدية ، وإنّما المطلوب والملحّ هو تكثيف وتصعيد النضال من قبل جميع القوى الحيّة المخلصة من أجل إجباره على دفع استحقاقات وطنية ديمقراطية ، هي في جوهرها إحدى المتطلبات الضرورية لمواجهة المخطط الأمريكي ، كما أنّها حاجة لاغنى عنها لإجراء وإنجاح إصلاح حقيقي ينقذ القطر السوري من الأوضاع المتردية التي وصل إليها في كافة المجالات ... وهنا تبرزأمام النظام السوري فرصة انعقاد المؤتمر القطري العاشر في أول الشهر السادس المقبل ، كي يقدم على خطوات ديمقراطية هامة ، ويستبدل قيادته الهرمة والفاسدة ، ويعتبر ذلك الاختبار الأخير له في ظل مجمل الأوضاع الداخلية والخارجية الصعبة ، بالرغم من عدم وجود أيّة مؤشرات تبشّر بالخير ، لأنّ النظام على ما يبدو يعيش حالة صراع داخلي بين تيّارين : الأول يريد التكيّف والتلاؤم مع الضغوط والمطالب الأمريكية لامتصاصها ، وتجنيب النظام مخاطر السقوط ، والثاني يعتبر أنّ الإدارة الأمريكية ستقابل كل تنازل بمطلب جديد ، ولن تقف عند حدّ حتى إتمام تنفيذ مخططها وإسقاط النظام ، ولذلك لابدّ من إجراء إصلاحات داخلية هامة ، و الارتكاز على جبهة داخلية قوية للوقوف في وجه الضغوط ولكن على ما يبدو أن الاتجاه الأول هو الذي سيسود بعد المؤتمر القطري ، لأنّ النظام يسير فعلاً على طريق مسلسل التنازلات ومن أهمّها : التمهيد لحل القيادة القومية والتحوّل لحزب قطري تلبية للشروط الأمريكية ، واتخاذ قرار بإعادة إعمار القنيطرة نزولاً عند رغبة الكيان الصهيوني ، ويأتي إدخال تفاح الجولان إلى السوق السورية خطوة تطبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي كدفعة أولى على الحساب (بالرغم من تعاطفنا وحبّنا وتقديرنا لأخوتنا في الجولان المحتلّ) ، وتأتي مصافحة /بشار الأسد / للرئيس الإسرائيلي تتويجاً لما تمّ حتى الآن ....  هذا بالإضافة إلى التنازلات التي حدثت باتجاه القضية الفلسطينية والعراق ...بينما لم نلاحظ أية مؤشرات تعبّر عن الخط الثاني ، وعلى كل حال سينجلي الموقف داخل سورية بوضوح  خلال الشهرين القادمين ...  

المطلوب من المعارضة السورية :

   أمّا بالنسبة للمعارضة الوطنية الديمقراطية والحركة الإسلامية عامّة والإخوان المسلمين خاصة ، فالمطلوب منها جميعاً تجاوز حساسيات وتناقضات وأخطاء الماضي ، والتسامي فوقها ، والابتعاد عن الافتراءات والأحقاد والضغائن من أجل المساهمة الجدية والصادقة في إنقاذ سورية ، وتصحيح مسارها ، والمساهمة في بنائها ، وضمن هذه الرؤيا أقترح ما يلي :

1 - الدعوة السريعة لعقد مؤتمر وطني للمعارضة السورية في الخارج ،على أن يتمّ في بلد محايد ، واختيار الخارج هنا يعود لتعذر عقده في الداخل بسبب ممارسات النظام اللاديمقراطية المعهودة ، ويحضره كافة القوى والتيارات الوطنية والديمقراطية والقومية واليسارية والإسلامية ، وممثلين عن منظمات وتنظيمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان , والفعاليات الاقتصادية الوطنية  ، ويُستثنى منه مَن اختار طريق التحالف مع أمريكا جهاراً نهارً ،وراهن على ديمقراطيتها ومخططاتها ومشاريعها ... وذلك بهدف بحث مستقبل سورية السياسي ، ووضع وجهة نظر وطنية ديمقراطية مشتركة ملزمة للجميع، لإنقاذها من حالة التردي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الآن  ....

2 – وعلى ضوء نتائج المؤتمر القطري القادم للحزب الحاكم في سورية يتم عقد ندوة وطنية تساهم فيه أحزاب المعارضة بلجنة مشتركة موحّدة مع جبهة الحكم ، ومَن يدور في فلكها من أحزاب جديدة لم تشارك في المؤتمر الوطني ، بهدف وضع ميثاق وطني ديمقراطي شامل يلتزم الجميع فيه...

3 – في حال رفض النظام السوري وأحزابه فكرة الحوار والندوة ، وهو المرجّح، عندئذ لايبقى أمام المعارضة سوى خوض نضال ديمقراطي موحّد ، وتحديد الأشكال والأساليب المناسبة لذلك ، على طريق التغيير الديمقراطي المنشود ، وفي هذه الحالة يتحمّل النظام السوري تبعات رفضه فكرة الحوار ، وأيّة مضاعفات أخرى....

4 – إنّ المطالب الديمقراطية التي تتكرّر وتتقاطع في وثائق المعارضة الوطنية والديمقراطية والإسلامية تشكّل قاسماً مشتركاً أساسياً للجميع ، يمكن إغناؤه وتطويره من خلال الحوارالأخوي المشترك ...وفي إطار ومسار التفاعل والتنسيق والحوار يجب الأخذ بعين الاعتبار المسألتين التاليتين:

الأولى : بذل كل جهد ممكن من أجل صيانة الوحدة الوطنية ، وتعزيزها، لأنّها الضمانة الأساسية التي تقطع الطريق على  تمزيق القطر العربي السوري، وبث الفتن والاضطرابات فيه ، وتساعد على إحباط  

المخططات الصهيونية المعروفة...ولذلك فالمطلوب من الجميع تجنّب إثارة النعرات العشائرية والطائفية والجهوية والشوفينية والعنصرية في تصريحات وكتابات وجرائد ومجلاّت ومواقع أطراف النضال الوطني السوري ، أو تسويقها بأيّ شكل وتحت أيّة عبارات ...

الثانية :عدم إفساح المجال للشئون والهموم القطرية أن تقودنا نحو التقوقع والانغلاق القطري ، والتخلّي عن الهموم القومية ، وفي طليعتها القضية الفلسطينية والمسألة العراقية ...لأنّه لا ملاذ آمن لأحد داخل أيّ قطر عربي مهما كبر ،أو صغر ... ولا مستقبل لأي قطر بانعزاله وانغلاقه على ذاته، فمعركة الأمّة العربية واحدة ، مهما تعدّدت وتنوّعت أشكال مخططات التحالف الامبريالي – الصهيوني.

وأخيراً ، فإنّ التاريخ لن يرحم أحداً ، ولن يغفر لأحد، ويجب أن تبقى عبره ماثلة أمام أعيننا جميعاً ، وخاصة في المنعطفات والمحطات الهامّة من حقبه التي انتكست فيها الأمة ،أو انتصرت ، لتشكّل لنا دروساً نستفيد منها في مواجهة مخططات أعدائنا المتربّصين بنا الدوائر في هذه الأيام السوداء ...                في : 16 / 4 / 2005