مـن أجل بلادنا الحرة

 محمد علي الأتاسي


صباح ذلك اليوم المشؤوم هاتفني صديقنا المشترك الفنان يوسف عبدلكي قائلاً بصوته المتهدج: ألم تسمع شو صار مع سمير! لم أفهم ما الذي يعنيه..."قتلوا سمير. فجروا سيارته".ماذا تقول! يا إلهي سمير... لا سمير مو معقول.

لحظات مرة وغريبة، احتبس الدمع فيها وجف الحلق. أغلقت سماعة الهاتف ورحت أدور حول نفسي كالأبله. لم أدر ماذا يمكنني أن أفعل وأنا في دمشق! حاولت عبثاً أن أتصل بإلياس خوري، لكن هاتفه كان مغلقاً. اتصلت بعقل العويط ولم أقل له سوى كلمة واحدة: "معقول!" وخاننا الدمع معاً وانتهت المكالمة.

حزمت حقائبي وتوجهت في الليلة نفسها إلى بيروت بحثاً عن صدر أجهش عليه حزني وقهري وخوفي وتهوري. توجهت إلى بيروت بحثاً عن قلب وعقل أشاركهما السؤال "لماذا؟".

كان الجميع منشغلاً بالتحضير للجنازة وبمؤاساة أحزانه وكفكفة دموعه. كان الجميع منشغلاً عن سمير الحي بسمير الميت.

في بيروت أشعلت الشموع في ساحة الشهداء، عانقت الأحبة والأصدقاء، حلقت ذقني وارتديت ثيابي النظيفة كما لو أني ذاهب الى موعد مع سمير في أحد مقاهي بيروت، عدا أني ذهبت هذه المرة للمشاركة في جنازته!

مشيت مع الجموع وراء النعش. صفقت كالولهان والمجنون والعاشق. صفقت قهراً وفجيعة. صفقت حزناً ورفضاً وغضباَ. صفقت كمن يضرب الهواء ويلعن الزمن ويتحدى الموت. ورددت مع المشيعين "عسكر على مين، يا عسكر، أنا وطني أكبر يا عسكر".

منذ خطف الموت سمير قصير، استيقظ كل صباح متلمساً بطني وفخذيّ في محاولة للتأكد من أنها لا تزال في مكانها. فصورة سمير وهم ينتزعونه من السيارة ببطنه المفتوح وأمعائه المتدلية وأشلاء فخذيه، لن تغادر ناظري وكوابيس يقظتي ما حييت.

لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير بماهية مشاعر القاتل وهو يشاهد كيف نال مخططه الجهنمي من جسد سمير! ربما يكون بلا مشاعر ولا أحاسيس من يرتكب مثل هذه الجريمة! لكني مع ذلك لا أستطيع أن أفهم كيف يمكنه أن ينظر في عيون أطفاله ويخلد مطمئناً إلى النوم، بعد أن يكون أعطى نفسه الحق في أن يقرر من منا سيعيش ومن منا سيقتل اليوم ومن منا سيلتحق به غداً.

ترى إلى متى سيصطادوننا بهذا الشكل الخسيس؟ لماذا لا يتجرأون على كشف هويتهم الحقيقية؟ لماذا لا يواجهوننا بالكلمة بدلاً من الموت؟

لا أستطيع أن أصدق أنهم نالوا من سمير وأن الموت كان يتربص به إلى هذا الحد، وأن الصفحة الأولى من "النهار" صباح كل يوم جمعة ستخلو من مقال جديد له، وأن قلمه المشاكس وفكره الحر وبسمته المتوقدة غادرتنا، وأن الصحافي المتابع للشأن الداخلي السوري بكل هذا الحب للشعب السوري وهذا النقد للنظام لم يعد موجوداً بيننا ليسبقنا جميعاً في مغامرة الحرية وفي تحدي الخطوط الحمر.

كان سمير مشاكساً من الطراز الأول، وكنا من أجل ذلك نتلذذ بمشاكسته محاولين تصيد هفوة له في مقالة هنا أو ظهور تلفزيوني هناك. كنا نخاف عليه من وهج التلفزيون وأضوائه، في حين كان يفاجئنا بقدرته على تحويل هذه الشهرة التلفزيونية المستجدة ضريبة يترجمها بالمزيد من الجرأة والصراحة وقول كلمة الحق في كتاباته الصحافية وبالمزيد من الرصانة والعمق والدأب في أبحاثه وكتبه الأكاديمية.

 

ربيع دمشق

سيقال الكثير عن سمير قصير اللبناني والسوري والفلسطيني الذي تلتقي في كتاباته هموم استقلال لبنان وديموقراطية سوريا وقيام دولة فلسطين. من جهتي سأتوقف عند جانب خبرته جيداً فيه خلال السنوات الماضية وهو ذلك المرتبط بعلاقته بالمثقفين السوريين وبربيع دمشق وبالهم الديموقراطي المشترك بين سوريا ولبنان.

إذا كانت مقالات سمير قصير المتعلقة بالشأن السوري توالت تباعاً في السنوات الخمس الأخيرة، فإن علاقة سمير بالهم الديموقراطي السوري تعود إلى زمن أبعد من ذلك بكثير. فخلال الثمانيات من القرن المنصرم احتك سمير بالشأن الداخلي السوري عن قرب، من خلال الصداقات والعلاقات الحميمة التي جمعته مع خيرة المثقفين السوريين المنفيين إلى باريس أمثال فاروق مردم بك وبرهان غليون وفايز ملص وعمر أميرالاي، وأخيراً وليس آخراً صبحي حديدي الملتحق متأخراً بهذه الثلة التي حرمت لفترة طويلة من جوازات سفرها السورية بسبب توقيعها بيان المثقفين السوريين الشهير الرافض دخول الجيش السوري إلى لبنان.

عاد سمير إلى بيروت مطلع التسعينات من القرن المنصرم ليحتك هذه المرة بالهم السوري عن قرب سواء تعلق الأمر بالوجود العسكري السوري المطبق على بلده أو بمروحة العلاقات الواسعة التي راح ينسجها مع المثقفين السوريين الذين يترددون على بيروت. كان سمير قصير بمثابة ممر إجباري لكل مثقف سوري يأتي إلى بيروت بحثاً عن محاورين لبنانيين يشاركونه الهموم نفسها والتطلعات نفسها. وسرعان ما انعكست هذه الهموم المشتركة في كتاباته الصحافية التي راح ينشرها تباعاً في جريدة "النهار"، والتي استطاعت تبشيرنا بما يسمّى "ربيع دمشق" حتى قبل حدوثه. ويكفي أن نستذكر هنا كيف استبق سمير ظهور بيان الـ 99 مثقفاً سورياً ليطالب الرئيس السوري بشار الأسد بمعظم ما طالب به هذا البيان لاحقاً. وفي هذا كتب الآتي بتاريخ 1472000 في "النهار": "ليبدأ عهده بمبادرة واضحة في اتجاه إعادة حرية الرأي والتعبير إلى الصحافة السورية، وليقرن هذا الانفتاح الملح بإطلاق سراح السجناء والسماح للمبعدين بالعودة، فيتأكد معظم السوريين عندها أن الرأي لم يعد جريمة وأن المساءلة عادت ممكنة وهي رديفة الشفافية". لم تمض أسابيع قليلة حتى ظهر بيان الـ 99 معلناً بداية "ربيع دمشق" ومتقاطعاً مع مقالة سمير قصير في الكثير من مطالبها. يومها كتب سمير مقاله المؤثر والمعنون "سوريا تحيا" موجهاً فيه "تسعا وتسعين تحية" إلى زملائه المثقفين السوريين، وكان سمير في مقدمة موقعي بيان المثقفين اللبنانيين تضامنا وتأييداً مع مضمون بيان الـ 99.

بعدها وعلى مدى خمس سنوات رافق سمير بمقالاته الشأن الداخلي السوري وكان الصدى اللبناني لآمال الشعب السوري وآلامه في نضاله من أجل الحرية، من مقالات "أوان الورد" و"رياض دمشق" إلى "رأفة بسوريا" و"تلازم الحرية" وصولاً إلى مقاليه "بيروت ربيع العرب" و"فعل بيروت في دمشق" ومعظمها منشور في كتابه المعنون "ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان". كما أن سمير قصير كان في مقدمة موقعي عرائض الاستنكار اللبنانية على قمع "ربيع دمشق" واعتقال ناشطيه السياسيين، وصولاً إلى البيان المشترك للمثقفين السوريين واللبنانيين احتجاجاً على التمديد للرئيس لحود وللمطالبة برفع الوصاية عن إرادة الشعبيين، والذي بذل سمير قصير جهوداً كبيرة من أجل جمع تواقيعه ونشره في الوقت المناسب قبيل جلسة البرلمان اللبناني. تجدر الاشارة الى أن المثقفين السوريين بادلوه التحية بمثلها، فعندما تعرض لمحنة سحب جواز سفره من الأمن العام اللبناني، وقعّوا بيانا تضامنيا مع سمير قصير، احتجوا فيه على ما يتعرض له من ضغوط.

انتفاضة الاستقلال

مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري واندلاع انتفاضة الاستقلال، أدرك سمير قصير أن ما بشر به طويلا من حتمية الانسحاب السوري بات قريباً. ومع بداية قيام مخيم الحرية كان سمير يصل ليله بنهاره من أجل تأمين الجوانب اللوجستية لحياة هذا المخيم ومن أجل ابتداع الشعارات والإشراف على طباعتها وتوزيعها ومن ثم كتابة المقالات.

في الأيام الأولى بعد اغتيال الحريري لم يعد سمير يجد الوقت الكافي لقراءة الصحف اللبنانية، وأصبح محالاً عليه متابعة مواقع الأنترنت السورية وقراءة كل ما يصدر عن المعارضة والمثقفين السوريين. في تلك الفترة وأثناء عبوري ساحة الشهداء كان هناك حفل خطابي حول المنصة التي كانت قد نصبت في الليلة السابقة في الساحة. توقفت لسماع بعض الكلمات فراعني الخطاب العنصري ضد الشعب السوري الذي تفوه به بعض الخطباء من رموز المعارضة. توجهت لتوي إلى مكتب سمير قصير في "النهار" معاتباً ومشككاً في جدية هذه الانتفاضة. تعالت أصواتنا وتفجر سمير غضباً بشكل لم أعهده به من قبل في محاولة مستميتة منه لرد التهمة والدفاع عن انتفاضة الاستقلال والعتب من المثقفين السوريين الذين تباطأوا في التضامن معها. وأمام انفعال سمير وغضبه بات مستحيلاً علينا إكمال النقاش فغادرته على شبه قطيعة وأنا أضع على مائدته بيان المثقفين السوريين المستنكر اغتيال الحريري والداعي لإنسحاب الجيش السوري ولوقف الاعتداءات على العمال السوريين بالإضافة إلى مقالة تنحو في الإتجاه نفسه كنت نشرتها في "الملحق" تحت عنوان "حرية لبنان من حرية سوريا" ولم تتح الفرصة لسمير للإطلاع عليها من قبل. في اليوم التالي وأنا أقرأ الصحف فوجئت بما قام به سمير في تلك الليلة. فقد نزل إلى الساحة واعتلى المنصة وسط الحشود التي تنادي "هي يلا سوريا طلعي برا" وقرأ عليهم أسطراً من مقالتي بالإضافة إلى بيان المثقفين السوريين بالكامل. وعندما حاول البعض مقاطعته بصيحات الاحتجاج والصفير صرخ فيهم قائلا: "أنا المخابرات لم تستطع إسكاتي، حتى تسكتوني أنتم" وتابع قراءة البيان إلى النهاية. وبهذا نجح سمير قصير في إسماع الصوت السوري المغاير في قلب ساحة الشهداء في وقت ظن الكثيرون أن انتفاضة الاستقلال تلتقي على كراهية سوريا دولة وشعباً. لا بل أن سمير قصير في معظم كتاباته التي واكبت انتفاضة الاستقلال حاول أن يكون الضمير الناطق باسمها والمحصن لها من أي انحرافات عنصرية. ويكفي في هذا المجال أن نورد ما كتبه في مخاطبته شبان المعارضة: "ان عروبة الانتفاضة اللبنانية تحتاج هي أيضا إلى تحصين، إذ لا يخدم هذه القضية أن يعتقد بعض شبان المعارضة أن استعادة الاستقلال الوطني تعني استعادة لتميز لبناني مفترض، فيما تكمن الأهمية القصوى لهذا التحرك في قدرته على تطعيم المشهد العربي وتاليا في تعريب مطلب الديموقراطية. أما الاسترسال في شعارات تلامس العنصرية وتقيم تضادا بين السوريين واللبنانيين، فهو لا يفيد الا بتأبيد السياسات البالية بحرسها الجديد كما القديم".

كان سمير قصير يردد في أواخر أيامه أن المهمة المقبلة بعدما تحقق استقلال لبنان وبعدما بدأت الانتخابات النيابية، ستكون الدفع في اتجاه الإصلاح في سوريا ليس فقط من أجل ديموقراطية سوريا ولكن من أجل تحصين استقلال لبنان.

 

"كرمالكم"

عندما التقيت جيزيل خوري للمرة الأولى بعد استشهاد سمير قالت باكية: "مات كرمالكم"، أحسست بضخامة المسؤولية وأجبتها: " نعم إنه شهيدنا" من دون أن أفهم معنى ضمير الجمع في كلمة "كرمالكم". مع ذلك بقيت أتساءل من تراها تقصد؟ هل تراها تعني أصدقاءه الشخصيين أم زملاءه الصحافيين أم السوريين بشكل اعم وأشمل؟ لم أفهم بالضبط ما تعنيه بكلمة "كرمالكم" إلا عندما سمعتها تقول دامعةً في الحلقة التي خصصها برنامج "بالعربي" لمقتل سمير قصير: "راح ضحية حلمه ببلاد الشام حرة".

ومن أجل هذه البلاد الحرة، فإن سمير قصير سيبقى فينا بكلماته ومواقفه وأفكاره، لن تناله قنبلة هنا أو رصاصة هناك. سيمشي معنا مجدداً في شوارع دمشق حين يعلن أوان الورد. سيضحك معنا ويسهر معنا ويغني معنا لحرية دمشق وبيروت والقدس. وفي الانتظار، عهدا سمير، على جدران دمشق سنخط عبارتك الآتية: "قد يكون اخواننا السوريون من عمال ورجال أعمال ومثقفين، جفلوا لحظة مما خالوه عدائية موجهة ضدهم فيما هي ثمرة الاستبداد الذي يخنقهم هم واللبنانيين، لكنهم سيعودون أهلاً لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم أن ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، انما يعلن أوان الورد في دمشق".

"الرأي / خاص"