حساسيتان ضمن المعارضة:
خطّان في رثاء الحريري
جوزف سماحة
فوق مسرح الحياة
السياسية اللبنانية، وفي ساحة الشهداء تحديداً، يبكي الجميع الرئيس الشهيد رفيق
الحريري. ليس الأكثر ذرفاً للدموع هو، بالضرورة، الأكثر <<حريرية>>. إن
مراجعة متأنية لكل خطابات الرثاء التي ألقيت توحي أننا أمام حساسيتين شديدتي
التمايز: رثاء الخسارة ورثاء الربح.
<<رثاء الخسارة>> يركز على
إنجازات الشهيد وماضيه الوضيع والملتزم قومياً، وعلى دوره السياسي الداخلي، وعلى
العلاقة، ولو من طرفه، مع سوريا، وعلى مساهمته في حماية المقاومة عبر <<تفاهم
نيسان>>. يركّز، أيضاً، ولأسباب حصرية بالجريمة، على التحقيق الدولي وقادة
الأجهزة الأمنية. يرفض، مرحلياً، الاشتراك في الحكومة ويطالب بانتخابات سريعة
وعادلة. و<<رثاء الخسارة>> يشدد على ربط التحركات الشعبية كلها
بالاحتجاج على اغتيال قائد المشروع وباعث الأمل، وكذلك على رفض الحرب وقواها
واحتمالات تجددها. يريد، من باب الوفاء، إعطاء الوسط التجاري معناه الذي أراده له
بانيه. <<إن <<اتفاق الطائف>> هي العبارة الأكثر تكراراً لدى هذا
الفريق، واستحضار <<التيار>> وأهميته وضرورة استمراره همّ ثابت.
والواضح أن ثمة إدراكاً للصعوبة البالغة في ملء الفراغ، وفي حل مشكلة الحجم الهائل
ل<<المقعد الفارغ>> يصل إلى حد عقد المؤتمرات الصحافية قرب الضريح
والتساؤل عن احتمال <<الاتحاد الوطني>> والحريري في مثواه الأخير.
هذا رثاء ملؤه الحزن والقلق.
<<رثاء الربح>> يميل إلى التركيز
على سوريا وممارساتها، ويوجه اتهامات إلى المرحلة السابقة كلها مع
<<مغمغة>> حول توزيع المسؤوليات عنها. يؤكد مدبّجو <<رثاء
الربح>> أن أهمية رفيق الحريري اكتشفت لحظة استشهاده، ويكثرون من الإطناب في
امتداح الرمز الذي غاب وليس القائد. وعند التطرق إلى <<اتفاق الطائف>>
نلاحظ التذكير بأنه لم يطبّق مرة في الماضي بما يؤسس لاحتمال تحرر، ولو جزئياً، منه
في المستقبل. <<رثاء الربح>> ينزلق نحو قول هذه الجملة الرهيبة والغنية
في دلالاتها الضمنية: لقد حقق الحريري بموته للبنان ما لم يحققه في حياته! وفي
استطراد هذه الجملة الرهيبة، وللتعمية عليها، ولإعطائها غير معناها، ينهال كلام
كثير عن الوحدة الوطنية المتحققة حول الضريح ويجري إغفال مذهل لمعنى
<<الحريرية>> في ما يخص السياسة والتوازنات الداخلية اللبنانية.
<<رثاء الربح>> يقود مباشرة نحو تعميم ذي شحنة إيديولوجية عالية ومبالغ
فيها ل<<الوحدة الوطنية>>، ولذوبان الاختلافات، وللمضمون اللبنانوي
للتحركات، ولاكتشاف فئة من اللبنانين أن ما كانت تقوله فئة أخرى هو الصحيح ليس
بالمعنى المباشر الاحتجاجي على ممارسات وإنما بالمعنى <<الحضاري>> الذي
يميز لبنان عن سواه من العرب. يملأ <<رثاء الربح>> (يحاول أن يملأ)
الإناء الفارغ بمضمون سيادوي حيال سوريا وضدها على حساب مضمون آخر حيال إسرائيل
وضدها. لقد وفّر الاغتيال فرصة التقاء الجناحين، وبما أنه قاد إلى الانسحاب السوري
فإنه بشارة خير إلى أن نهضة الشعب الموحّد تلوح في الأفق، وإلى أن الاستقرار قادم
ومعه الازدهار، وإلى أن الرساميل عائدة، والهجرة متوقفة، والأمل عند مفترق الطريق.
هذا رثاء ملؤه الحبور والأمل. رب ضارة نافعة.
<<رثاء الحزن>>
يفتقد الرجل القائد صاحب الدور والمشروع والوزن والعلاقات العربية والدولية. ينطلق
من إدراك حاد أن هذه الأمور قد لا تعوّض، أو قد لا تعوّض بسهولة. تقدم على هذا
الرثاء نخب وقيادات تشعر بنوع من اليتم وتخشى على مواقع وتوجهات وخيارات. تخاف من
أن فقدان الرجل الاستثنائي يطيح إمكانية عرض تسويات على سوريا والخارج، ولعب دور
حاسم في رسم معالم التسوية الداخلية والذهاب بها، قدر الإمكان، نحو روح
<<الطائف>> والتوزيع الذي اعتمده للصلاحيات وأدوار الرئاسات والمؤسسات.
<<رثاء الحبور>> يتحدث عن <<الرمز>> الذي يتحوّل
تغييبه إلى <<شرط>> للانطلاقة الجديدة المتفلتة تماماً من قدرته على
ضبطها والتحكم بمساراتها وتجييرها. وهكذا فإن المعطى الجديد قادر على سد الفراغ
علماً أنه، أي المعطى، قائم على تراجع <<الوطأة>> السياسية والاقتصادية
ل<<الحريرية>>، وعلى انتقال <<الشيعة>> إلى الدفاع عن
النفس، وعلى صعود حيوية جديدة استعادت صلاتها الخارجية، وتعتبر أنها هُمّشت مديداً
وآن لها أن تستعيد حقاً مهدوراً.
وراء التظاهرات الحاشدة، وراء الشعارات
الموحدة، وراء الأعلام اللبنانية، وراء التحركات شبه اليومية، وراء الزيارات إلى
الضريح من كل المناطق والطوائف، وراء فولكلور المصحف والصليب والكنائس والمآذن...
وراء ذلك كله يمكن تمييز هذين الخطين المتمايزين في الرثاء: خط المحزونين الذين
يعرفون كم خسروا، وخط الشركاء في الحزن الذين يعرفون كم باتوا في موقع القدرة على
الربح.
تجمع التظاهرة الطرفين. يتجاوران. يخطبان. يرفعان يافطات واحدة. يشاركان
في عقد الندوات. الخطابان متشابهان شكلاً ومتقاطعان لكن ذلك لا يصمد أمام تحليل جدي
للنص لأن حساسية متمايزة تكمن في كل نص.
إن اغتيال رفيق الحريري خسارة. ويمكن
أن نستعير من <<رثاء الحبور>> ما نشاء من عواطف يبقى أن الواقعية هي في
<<رثاء الحزن>>.
لبنان، اليوم، بلد متناثر، مفكك، متصدع،
<<أسطورة الحريري>> ليست جامعة لأنها تدخل في سردية كل مجموعة وتأخذ
معناها فتتعدّد المعاني.
إن البلد الهزيل، كما نراه، لا كما يراه
<<المغتبطون حزناً>> على الحريري، يحتاج، أكثر ما يحتاج، إلى عمود
فقري، إلى محور حاكم، إلى كتلة تاريخية تقدر على حفظ تماسكه وإدارة علاقاته وصلاته،
وتحديد موقفه من قضايا المنطقة. إذا كنا نفتقد شيئاً فإننا نفتقد ذلك. الحاجة إلى
ذلك شيء وتأبيد خياراته شيء آخر. أي أن هذا <<القطب المهيمن>> حاجة
وجودية للبنان حتى لمن يريد، باسم الديموقراطية، الاعتراض على سياسته.
وتدل
التجربة، في مرحلة ما بعد الطائف، أن رفيق الحريري كان، بين جميع السياسيين
اللبنانيين، أفضل مَن مثّل هذا الاحتمال. كما يدل الوضع الراهن على خلو الساحة من
مثل هذا الاحتمال وهو الأمر الذي يفتح الأبواب أمام المغامرات، والانقلابات،
والتعديلات الدرامية، والانعطافات الصعبة الاحتمال.
لذلك فإن الاغتيال خسارة.
وهذه هي الحقيقة في وجه كل من يقول إن الاغتيال فرصة. والاستنتاج السياسي الحكيم هو
البحث عن أقصى الممكن للحد من الخسارة. لا مكان، موضوعياً، لأي وهم حول تعظيم
الفرصة، اقتصادياً وسياسياً، وزيادة القدرة على الاستفادة منها.
إن من يراقب
سلوك المعارضين، على تنوعهم، سيلاحظ أن هذا التنوع يُظهر، خاصة، في ردود الأفعال
المتفاوتة على عدد من القضايا، التشديد على عناوين دون أخرى، والترتيب المتباين
للأولويات. غير أن التنوع يبدو، تحديداً، في كيفية رثاء رفيق الحريري مع ما يعنيه
ذلك من اختلاف في النوايا حيال مستقبل لبنان.