رسالتي لأبي مازن وقريع

نبيل عمرو


 

في السياسة، تنشأ أزمات.. وتُفتعل أخرى.. غير ان ما يحدث في ساحتنا، هو استمرارية لأزمة كبرى، ولكن يجري في احيان كثيرة تزوير اسبابها كي لا نتمكن من وضع الحلول الحقيقية والفعالة لها.
دفعني للكتابة في هذا الاتجاه، أقوال رئيس هيئة الاستخبارات الاسرائيلية، الذي فهمت منه، نوعا من تزوير ازمتنا الكبرى، وتحويلها الى مجرد خلاف بين محمود عباس واحمد قريع بذات الصورة التي تم رسمها في حياة الرئيس عرفات، حين كان كل شيء يعزى بخلاف مستحكم بينه وبين رئيس وزرائه.
ومع انني لا استبعد، بل ولا انفي، وجود خلافات بديهة بين اي رئيس دولة ورئيس وزرائه، الا انني لا اقبل حصر ازمة مستديمة كالتي نعيشها في هذا الاطار الضيق وحتى غير المنطقي.
فلو كان الامر كذلك لأمكن حلها ولو بطريقة عشائرية، كما تعودنا ان نفعل في (فتح) على مدى ما يقارب النصف قرن.
بكل صراحة وموضوعية أقول.. إن البعد الفلسطيني في الأزمة، وهو بعد متأثر بقوة النفوذ الموضوعي للاحتلال في كل نواحي حياتنا، يتجسد في العناصر التالية:

اولا : ثقل ارث الماضي، وصعوبة الغائه او تجاوزه.

لقد اديرت الساحة الفلسطينية، وعلى مدى اربعين سنة بطريقة خاصة، لم تكن وفق نظام بعينه، وانما وفق متطلبات الظروف الموضوعية التي كانت تملى على الساحة الفلسطينية ورئيسها بالذات.. حتمية التكيف وابتكار الوسائل المؤقتة لمواجهة ازمة او للخروج من مأزق، كان «نظام اللانظام» هو اطارنا، وضابط علاقاتنا، وكان ياسر عرفات قادرا على ضبط ايقاعه لأنه كان صانع هذا الايقاع.
وحين رحل عرفات تم إنجاز الجزء الاسهل من التعامل مع الارث الضخم، واعني به الانتقال الهادئ للسلطة، لم نجد صعوبة في تطبيق النظام.. كما لم نجد حرجا في تسمية المهام، بل اننا ذهبنا الى ما هو ابعد، حين اجرينا الانتخابات الرئاسية، في مناخ مواتٍ.. وحتى ذلك اليوم، كنا نسبح بسهولة ويُسْر لأننا كنا نسبح مع تيار محلي واقليمي ودولي، يريد لنا ان نصل الى شاطئ الامان.
وحين انجزنا مرحلة الاحتفاء بنا، والاحتفال بانجازاتنا الديمقراطية المبهرة، بدأت مقاييس صعبة للنجاح بالظهور، هي ذات المقاييس التي فرضت على عرفات، ووضعته داخل حصار غريب واستثنائي لم يحدث مثله في التاريخ.
لقد ترك لنا الرئيس الراحل، منظومة عمل امني واداري ومالي، هي من النوع الذي لا يعمل إلا بمحرك واحد. اسمه ياسر عرفات، وحين بدأ عباس وقريع وغيرهما في محاولة العمل، وجدوا انفسهم كما لو انهم يبدأون من الصفر في كل شيء، وظهر على الارض ان اسئلة الامتحان شديدة الصعوبة.. وان الوقت المحدد للإجابة شديد القصر.

ان شيئا يشبه الانقلاب، حدث على نحو قدري، حين اصبح محمود عباس رئيسا منتخبا للسلطة، وتكرس معه احمد قريع كرئيس ذي صلاحيات كاملة للوزراء، اما عرفات الذي كان، حتى اسابيع بعد غيابه، هو المرجعية الذرائعية للجميع، فقد اصبح في ذمة الله، اي ان احدا لن يستطيع تحميله اوزار التقصير وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات.
وحين توفرت لمحمود عباس شرعية الرجل الاول، وتوفرت لأحمد قريع شرعية الرجل الثاني، في اطار السلطة، وجد الاثنان نفسيهما في صندوق عرفات، ولم يستطيعا الافلات منه.. مع ان شرط العالم للتعاطي الفعال مع الحل السياسي هو الخروج من الصندوق وليس الحياة فيه.

ثانيا : تآكل الادوات.. واهتراؤها

حتى الرئيس الراحل ياسر عرفات، صانع النظام وعرابه ومحركه الوحيد، كان يعاني ويشكو.. إذن كيف سيكون الحال مع الورثة الذين يعرفون، حق المعرفة، ان السياسة ليست مجرد مواقف وبرامج واهداف.. انها قبل ذلك ادوات عمل فعالة.. وفي حال غياب هذه الادوات وضعف فاعليتها، يصبح السياسي مجرد رمز لشرعية قوية، وليس رئيسا لمؤسسة فعالة، وفي حالة من هذا النوع يمتلئ الفضاء السياسي بظواهر في غاية الغرابة، مثل معالجة الوضع الامني بالتفاوض والتراضي وليس باتخاذ الاجراءات، ومثل تبرير فقدان هيبة السلطة واستسهال التجرؤ عليها، بإظهار الخوف من حرب اهلية او المساس بالمعادلات الموروثة، وليصبح التبرير هو منطق السلطة الوحيد والتفتيش عن الذرائع، هو عملها وعنوان حركتها في كل الاتجاهات.

ثالثا: الدخول الإسرائيلي الحاذق على أزماتنا

منذ اليوم الاول، وضع الاسرائيليون محمود عباس تحت اضوائهم الكاشفة، وقبل ان يقسم اليمين الدستورية اعلنت اسرائيل عن مقاطعتها له.
لم يكن ذلك خطوة انفعالية، جراء حادث يعرفون حق المعرفة عدم صلة محمود عباس به، بل كانت الاشارة الاولى لسياسة ترويض من نوع ما، او وضع الرجل الذي اصبح خيار العالم وخيار الفلسطينيين في ذات الوقت في وضع يتعين عليه ان يجيب عن آلاف الاسئلة في كل يوم.
ان محمود عباس يعترف بالازدواجية الخطرة التي يعيشها وتشكل حالته السياسية. وهي بالضبط قوة الشرعية وضعف الادوات، غير ان اسرائيل التي تدرك ذلك جيدا اضافت للازدواجية الخطرة عاملا أشد خطورة وهو توظيف حالة القهر المتمادية في نفوس الفلسطينيين جراء الحصار الخانق، والسياسات المرعبة على صعيد الاستيطان والجدار وغيرها لتكون عامل افشال يومي لمحاولات ابو مازن الجدية في الإقلاع داخليا وسياسيا.
ان الجنرال موفاز تحول الى مطرقة تدق رأس ابو مازن كل يوم والى عامل تحريض يربك الرجل، ويقوض التعاطف الاميركي والدولي معه.
والآن.. ماذا يتعين على ابو مازن ان يفعل.. او بتعبير ادق ما هي حدود قدرته على العمل..؟
رغم ثقل الإرث القديم، والذي لم يكن ابو مازن بعيدا عنه، ورغم المعوقات الاسرائيلية التي جربها ابو مازن حين كان رئيسا للوزراء، الا ان هنالك مساحات عمل ممكنة، وما فعله ابو مازن حقاً في الفترة القصيرة، التي قضاها في ولايته، يحمل مقومات مشجعة للاستمرار والتطوير.
قد لا يستطيع فتح المسار السياسي اليوم او غدا وقد لا يستطيع توطيد الامن على نحو كاف خلال ايام او اسابيع.. غير انه يستطيع مواصلة المحاولة بدأب ويستطيع تطوير ادوات السلطة الامنية والادارية والمالية.
يستطيع فرض تطبيق القوانين الرئيسية التي تهم المواطن فورا، وفي مقدمتها قانون الخدمة المدنية وقانون التقاعد، وان يوفر التغطية المالية الضرورية للتطبيق الفوري، من اموال الاستثمارات الهائمة على وجهها في كل بقاع الارض إلا فلسطين.
ويستطيع، بدأبه ومثابرته، وهذه احدى خصائصه، ان يكرس الوئام الوطني الذي صنعه بنفسه مع كافة الفصائل ويستطيع كذلك الاستفادة من المناخ العربي والدولي المساعد له والمراهن عليه.
قد لا نرضى عن بعض ما يفعل ابو مازن إلا ان ذلك يدفعنا الى ان نقدم له الدعم كي يواصل الاقلاع في طريق الاصلاح وفتح المسار السياسي.
ان ازمتنا الكبيرة والمعقدة لها باب وحيد للحل، هو الدخول الجدي الى مائدة المفاوضات، وعدم اضاعة الوقت في التجارب المستيحلة النجاح والتي اتقن الاسرائيليون تصميمها واللعب بها.. وحين دعا ابو مازن الى الدخول العاجل الى مفاوضات الوضع الدائم لم تكن دعوته منطلقة من ترف التحليل والابداع الفكري وانما من واقع التجربة. ومعرفة حقيقة ان احد اهم عوامل القضاء على الفرص هو الزمن، لذا لنحاول اختصار الزمن بالذهاب الى صلب الموضوع.
ان هذا الامر لا يعجب الاسرائيليين، ولن يعدموا ذرائع لتقويضه، ورغم ذلك وحتى على هذا الصعيد الاصعب بوسع ابو مازن ان يواصل المحاولة والا ييأس.
اعود اخيرا الى حكاية عباس وقريع..
وهنا اتوجه بنصيحة للاثنين معا، مفادها ان يتجنب كل منهما اية اشارة تشي بخلاف، لأن من يستطيع استثمار هذه الاشارات هو طرف ثالث، لا يترك شاردة وواردة في ساحتنا إلا ويوظفها في سياق خططه وأهدافه.