لاحتلال الأمريكى والمأزق التاريخي
محمد السعيد إدريس
قبل أن يتمكن إبراهيم الجعفرى
من إعلان تشكيلته الحكومية التى استنزف الإعداد لها وقتاً وجهداً
ثميناً حاول الكاتب الأمريكى ستيفن زونس قراءة الحالة العراقية
المسئولة عن تأخير تشكيل هذه الحكومة والخروج بتوصيف محدد للحكومة التى
يمكن أن تفرزها تلك الحالة. فقال عن الحالة العراقية ما يلى: من المسلم به أن الهوية القومية والإسلامية قوية لدى معظم أبناء الشعب العراقى،
وأن الاستياء العام منتشر من الولايات المتحدة، ومن الصعب أن نتخيل أن
حكومة تمثيلية حقيقية سوف تؤيد وتدعم الأهداف العسكرية والاقتصادية
الأمريكية فى الشرق الأوسط، فى حين لا تعترف بها علانية.
أما عن
توصيفه للحكومة العراقية المتوقعة فقال: لذا يصبح من الواضح، بشكل
كبير، أن العراق إما ستكون لديه حكومة ديمقراطية أو حكومة عميلة
لأمريكا.. إنه لا يستطيع أن يمتلك الإثنتين.
والآن وبعد إعلان الجعفرى لحكومته المنقوصة وحصولها على دعم وتأييد الجمعية الوطنية، كيف
يمكن توصيف هذه الحكومة وفقاً لتقدير ستيفن زونس: هل هى حكومة
ديمقراطية أم هى حكومة عميلة؟
قد تكون أى إجابة الآن متسرعة أو غير
منزهة الهوى والمقصد لكن هناك مقتربات كثيرة لمحاولة فهم هذه الحكومة
وقراءة الواقع الذى تعيشه وبالذات ضمن معادلة المقاومة _ الاحتلال، إذ
أن مستقبل العراق كله أضحى مرهوناً بمستقبل هذه المعادلة: أيهما سيكسب
العراق: المقاومة أم الاحتلال؟
أحد المقتربات المهمة لفهم ماهية
حكومة الجعفرى هو التعرف على أولويات أجندة هذه الحكومة وموقع معادلة
المقاومة _ الاحتلال منها. فقد حدد إبراهيم الجعفرى أولويات حكومته
بأنها الأمن والخدمات وتحسين الظروف المعيشية. لقد جاء الأمن فى مقدمة
الأولويات بما يجعله هدفاً استراتيجياً أعلى للحكومة، والأمن هنا يعنى
الانتصار على المقاومة، لذلك لم يكن منطقياً أن ترد أى إشارة من رئيس
الحكومة عن الاحتلال طالما أنه اختار الشق الأول من المعادلة، وبجدارة،
ليكون على رأس أولويات حكومته، ومن ثم فإن الحكومة تضع نفسها فى صف
الاحتلال ضد المقاومة، وليس لديها أى نية، ربما فى الأجل القريب
والمتوسط، للمطالبة بتحديد جدول زمنى للاحتلال، وهى بهذا المعنى لا تضع
نفسها فى صف الاحتلال وفى مواجهة المقاومة فقط، بل وفى مواجهة كل القوى
العراقية التى تطالب بوضع جدول زمنى للاحتلال، رغم أن هؤلاء يمثلون
شرائح واسعة ضمن أبناء الشعب العراقى ولا يقتصرون على العرب السنة
وحدهم الذين قاطعوا انتخابات الجمعية الوطنية بسبب رفض الأمريكيين
وحكومة إياد علاّوى المنتهية ولايتها لهذا المطلب.
قبل تقييم هذا
الموقف الذى تلتزم به الحكومة العراقية يجدر أن نتساءل: هل يمكن لحكومة
إبراهيم الجعفرى، وهى منحازة إلى صف الاحتلال، أن تنجح فى تحقيق
الهدفين الثانى والثالث من أولويات أهدافها ونقصد: الخدمات وتحسين
الظروف المعيشية؟، هل يمكن تحقيق هذين الهدفين فى ظل الاحتلال وفى ظل
المزايا التى تتمتع بها الولايات المتحدة فى العراق، وبالذات القرارات التى اتخذها الحاكم المدنى الأمريكى للعراق بول بريمر والسياسات
الاقتصادية النيوليبرالية المفروضة بواسطة هيئات الاحتلال الأمريكى مثل
القرار الذى يقضى بخصخصة كثير من الأصول الحكومية العراقية وبتحويل
الأرباح إلى الخارج، هل يمكن تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية فى ظل
استمرار فرض هذه السياسات؟.
الاحتلال لم يكتف بهذه السياسات
الاقتصادية فقط بل إنه أعطى للمواطنين الأمريكيين داخل العراق حقوقاً
متميزة خارجة عن نطاق التشريع الوطنى العراقى، فلا يمكن محاكمتهم على أى جريمة فى العراق، ناهيك عن تمتع قوات الاحتلال التى يبلغ عددها حوالى 150 ألف جندى بالتحرك ومهاجمة أى مكان فى العراق دون موافقة
الحكومة العراقية، كما أن الأمريكيين فى العراق يسيطرون على مواقع
مهيمنة عملياً فى كل وزارة عراقية ويتحكمون فى ميزانيتها. فالموظفون
الأمريكيون باقون فى العراق، على أقل تقدير، حتى عام 2009 ويتحملون
مهام لجان المراقبة التى تشرف على السياسة المالية والإعلام والمجالات
الهامة الأخرى، ويهيمنون أيضاً على النظام القضائى الذى يمتلك السلطة
للانقلاب على أى قانون يمرر بواسطة الحكومة الجديدة المنتخبة.
الاحتلال إذن ليس مجرد وجود لقوات عسكرية بل إن هذا الوجود العسكرى
هو غطاء لما هو أشد خطراً، غطاء للهيمنة الأمريكية الكاملة على العراق،
بما يؤكد أن واشنطن لن تكون مستعدة للسماح للحكومة المنتخبة ديمقراطياً
بممارسة سيادتها الحقيقية وإثبات شرعيتها. فكيف يمكن إذن توصيف هذه
الحكومة؟!!
السؤال تتضاعف خطورته من منظور الفرز الوطنى لهذه
الحكومة إذا أخذنا فى الاعتبار التطورات والنجاحات الهائلة التى
استطاعت المقاومة العراقية تحقيقها فى الأشهر الأخيرة، ليس فقط على
مستوى العمليات العسكرية الكبيرة التى تجاوزت نطاق عمليات حرب العصابات
المحدودة وتكتيك اضرب واهرب إلى مرحلة إثبات وجودها المسلح، بل وأيضاً
على مستوى الشرعية السياسية واكتساب المكانة والحق الوطنى فى مقاومة
المحتل.
لقد استطاعت المقاومة إنجاز مرحلة حاسمة من تاريخها وهو
إثبات وجودها المسلح، كمعادل أساسى فى تقرير الأحداث فى العراق، إذ لم
تعد شرعية الاحتلال قائمة على ادعائه السابق بأنه قد جاء ليحرر
العراقيين ولكى يحقق لهم الديمقراطية والبناء والتنمية، بل كشفت
المقاومة، وباعتراف القادة العسكريين الأمريكيين العاملين فى العراق،
عن ضعف مقدرة قوات الاحتلال عسكرياً، على فرض سيطرتها على كل أنحاء
العراق، وكذلك على احتواء المقاومة، وتقليل حجم عملياتها. وكما عبر جيفرى وايت وهو محلل سابق فى وكالة استخبارات الدفاع فى معهد واشنطن
لسياسة الشرق الأدنى: نستطيع فقط أن نسيطر على الأرض التى نقف عليها..
وعندما نغادر تسقط.
نجاح المقاومة يقابله فشل الاحتلال وبالذات
الفشل فى بناء ما يسمى ب الجيش الوطنى فى العراق، فقد اعترفت الإدارة
الأمريكية بأنه من بين مجموع إعداد وتدريب 120 ألف مقاتل عراقى فإن
الموجود الفعلى للخدمة يقارب 8 آلاف فقط، فضلاً عن التزام أعداد كبيرة
من هذه القوات بعدم قبول مبدأ مواجهة رجال المقاومة لأسباب ذات علاقة
بالمجتمع العراقى الذى يجد فى الوقوف مع الاحتلال ضد المقاومة عملاً
غير وطنى.
لقد وصل الاحتلال الأمريكى للعراق الآن إلى طريق مسدود،
ونستطيع أن نسوق العشرات من الشهادات الأمريكية وغير الأمريكية للتأكيد
على ذلك، لكن سوف نكتفى بثلاث منها لكل منها أهميتها ومغزاها.
الشهادة الأولى: عرضها السيد فون سبونيك الخبير فى الشأن العراقى
الذى استقال من منصبه كأمين عام مساعد للأمم المتحدة للشئون الإنسانية
احتجاجا على سياسة فرض العقوبات على العراق. ففى شهادته فى مركز دراسات
الوحدة العربية فى بيروت أكد سبونيك أن هناك شبه إجماع فى العالم على
أن مصيبة العراق فى استمرار احتلاله، وأن لا مخرج ليبقى العراق موجوداً
على الخريطة، سوى رحيل هذا الاحتلال وترك العراقيين يلملمون جراحهم
وينهضون ببلدهم من جديد.
الشهادة الثانية: للسيدة روز مارى هوليس
مديرة الأبحاث فى المعهد الملكى للشئون الدولية ببريطانيا التى قالت إن
الأمر فى العراق ضبابى إلى حد يصعب معه القول بأن تغيراً تحقق وقالت:
لا أظن أننا سنعرف على نحو مماثل كيف ستصمد الأمور حتى هذا الوقت من
العام المقبل.. ومن الآن إلى أن يحين ذلك فإن البلد كله قد ينهار
وينزلق إلى حرب أهلية.
أما الشهادة الثالثة: والأهم فهى لوزير
الدفاع الأمريكى نفسه دونالد رامسفيلد الذى اعترف بأن الجنود
الأمريكيين أو القوات الأجنبية فى العراق لن يتغلبوا على المتمردين،
وقال خلال مؤتمر صحفى فى وزارة الدفاع إن الولايات المتحدة وقوات
التحالف لن تكون، من وجهة نظرى، العنصر الذى سينتصر على التمرد، بل
العراقيون هم الذين سينتصرون عليه، ورأى أنهم لن يتوصلوا إلى التغلب
على المتمردين بالوسائل العسكرية فقط، إنما بإحراز تقدم على الصعيد السياسى.
شهادة رامسفيلد هذه ترجح صدقية الرواية التى نشرتها صحيفة
مصرية أسبوعية منذ عشرة أيام تقريباً عن لقاء تم بين رامسفيلد والرئيس
العراقى السابق صدام حسين، وهى الرواية التى لم يصدر أى تكذيب لها حتى
الآن.
تقول هذه الرواية الصحفية: أإن رامسفيلد ذهب خصيصاً إلى
العراق المرة الأخيرة قبيل إعلان حكومة الجعفرى بعد سلسلة اجتماعات
مكثفة لأركان الإدارة الأمريكية ومستشارى الرئيس بوش الذى حضر بنفسه
بعضها للبحث فى سبل وقف عمليات العنف والمقاومة فى العراق إنقاذاً
لأرواح الجنود الأمريكيين ووقف عملية الانهيار الحاصل فى التحالف
القائم بين الولايات المتحدة وبعض الدول الصديقة التى أرسلت بقواتها
إلى العراق، وقد توصلت تلك الاجتماعات إلى رأى مفاده الإفراج عن صدام
حسين ونفيه إلى خارج العراق فى مقابل إصداره إعلاناً تليفزيونياً يطالب
فيه المقاومة العراقية بالتوقف عن أعمال العنف وتشكيل حزب سياسى
للمشاركة فى العملية السياسية بالعراق.
ودون الدخول فى تفاصيل ردود
صدام حسين ورفضه لهذا العرض وتمسكه بمطلب إنهاء الاحتلال والاستقلال الوطنى والسيادة العراقية فإن الاضطرار الأمريكى للتفاوض مع صدام حسين
هو اعتراف ب المأزق التاريخى الذى يواجه الولايات المتحدة الآن فى
العراق، واعتراف بجدية المقاومة.
والمأزق التاريخى الذى نعنيه هو
ذلك الموقف العاجز لقوة الاحتلال عن الاستمرار فى المهمة. حدث ذلك فى
فيتنام وقد يحدث فى العراق قريباً وعندها ستبدأ معادلة سياسية جديدة
ليس فقط للعراق بل وللمشروع الأمريكى كله