ضافي جمعاني علي شاشة الجزيرة: السجن والوحدة ومآلات النضال
عدلي صادق
يستحق سامي كليب، مقدم زيارة خاصة علي شاشة الجزيرة الثناء علي
حلقات هذا البرنامج النوعي الرائع. إنه استحقاق طبيعي، مثلما هو حقه في
نبذة ـ ولو قصيرة ـ عن حياته، في موقع الجزيرة الذي تميّز عن غيره من
مواقع الفضائيات، علي شبكة الإنترنت، بتقديم مختصر للسيرة الذاتية،
لمعظم العاملين في القناة. فمن وجهة نظر مهنية بحتة، يُعد أداء سامي
كليب، أحد حالات الأداء البرامجي مكتمل العناصر: اختيار جيد للموضوع،
التحضير العميق له، خيارات إخراج وتصوير بديعة، لغة مبرقة، ذكاء في
الأسئلة، مع خفة ظل، يستحيل حيالها علي المرء، أن يتقصي حقيقة ميول
سامي الخاصة. وللإنصاف، تقتضي موهبة سامي كليب، اعتصاراً أكبر،
لموهبته، لكي يقدم برامج أخري، ذات طابع سياسي وتاريخي وحواري. وبالنظر الي الحلقتين الأخريين، من زيارة خاصة كعيّنة، وهما حلقتان، الأولي،
لضافي الجمعاني، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، حتي
وقوع حركة حافظ الأسد التصحيحية في تشرين الثاني 1970 وقائد قوات منظمة
طلائع حرب حرب التحرير الشعبية قوات الصاعقة والثانية لشفيق جحا،
الأستاذ العتيق السابق في الجامعة الأمريكية في بيروت، والناشط القومي،
الذي تذكره سامي كليب، علي الرغم من أن محركات البحث، علي شبكة
الإنترنت، التي تجلب للمتصفح، أسماء هامشيين وضرابي طبول، لا تعطي عن
شفيق حجا سطراً أو كلمة. وليس هذا مستغرباً علي سامي، القاريء
والمتابع. فقد التقيته مرة واحدة عابرة، في مقر اليونسكو في باريس،
وعندما بدأت في التعريف بنفسي، بادرني قائلاً بالحرف الواحد: أعرفك
تماماً!
ہہہ
في لقائه مع ضافي الجمعاني، استند سامي كليب الي
مذكرات لم تنشر. وبهذه المثابرة اللافتة، يكون مقدم برنامج زيارة خاصة
قد أضاء كالعادة، مواضع لم تصل الي النور، وأسدي خدمة لتاريخ الحركة
القومية العربية، وكذلك للرجل صاحب المذكرات التي لم تنشر، أفضل مما
يسديها النشر نفسه، سيما في ظل حركة التوزيع السلحفائية، للكتب، في
العالم العربي. وفي إشارة ذات صلة، يمكن لسامي أن يتقبل دعوتي لأن أرتب
له، لقاء بعد فترة ـ تجنباً لتكرار الموضوع بالتتابع ـ مع صديقنا
الدكتور إبراهيم ماخوس، الذي كان وزيراً لخارجية سورية، إبان حكم
مجموعة الشهيدين صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، لكي يتعرف المشاهد
العربي، علي مناقبية مناضلين قوميين زاهدين، من خلال الإطلاع علي تجربة
رجل، كان في الحكم، لكنه كان يستكمل حاجيات منزله، من خلال مدد الأهل
في الريف السوري، من أرزاق الأرض، وهو الرجل نفسه، الذي لم يتطفل علي
مكان لجوئه السياسي في الجزائر، فشمّر عن ذراعيه، ودخل الي مستشفي
مصطفي لكي يعمل طبيباً يعالج الناس، ويكسب رزقه بعرق جبينه، علماً بأن
موقعه السابق، في القيادة السورية، كان يسمح له بأن يبيع الكلام ويتكسب
ـ بل يُثري ـ من اللعب علي حبال السياسة وتجاذباتها الإقليمية، مثلما
كانت صفته كمجاهد في الجزائر، تطوع قبل الاستقلال للنضال مع أحرارها،
تسمح له، بأن يجني من غير عمل، ثمار مشاركته في الثورة. ويمكن لسامي،
أن يلتقي د. يوسف زعيّن، رفيق د. ماخوس، الذي يعيش الآن في هنغاريا، أو
أن يلتقي صديقنا أبو نضال محمود جديد، الضابط المعايش للأحداث، الذي
عاش مع حافظ الأسد وعبد الحليم خدام في مصر، إبان الوحدة، وابن عم صلاح
وزوج شقيقته، وهو الملتزم مبدئياً، والمستقيم أخلاقياً، بشكل إعجازي،
علي الرغم من منع زوجته من السفر اليه في الجزائر، لأكثر من ربع القرن،
لم يعرف خلالها سوي القراءة والرياضة وفعاليات التضامن مع فلسطين
والعراق!
فمن خلال اللقاء بهؤلاء، يمكن للمشاهد العربي أن يعرف، بأن
المجموعات الرقيعة الفاسدة، في أحد أحزاب الحركة القومية، عندما أرادت
التأسيس لحكمها الوراثي غير الجماهيري، ولحكمها الفاسد صاحب البزنسة
الطفيلية الذي ألهب ظهور الناس بالسياط، وانتهك مقدراتهم وأعراضهم،
وجلب لهم الهزائم المتلاحقة والمخاطر؛ عمدت (هذه المجموعات) الي إقصاء
الشرفاء والزاهدين والمناضلين الحقيقيين، بتأييد مخابراتي دولي. ولم
يشفع للمناضلين الذين أقصاهم الفاسدون عن الحكم، أنهم عاشوا بشرف، في منافيهم، ولم يركبوا أية موجة، للانقضاض علي الحكم الذي ظلمهم ـ مثلما
فعل منفيون من كل العالم العربي ـ لكي ينالوا حقهم الإنساني في جمع شمل
عائلاتهم، أو زيارة أوطانهم، أو حمل جوازات سفر حكوماتهم. ففي ظل ما
آلت اليه أمور الظالمين، الذين باتوا يرتجفون من احتمالات سطوع الشمس،
أو من أخذ الجماهير زمام المبادرة، سيكون جميلاً وشيّقاً، عرض الحكايات
من بداياتها، علي ألسنة الشرفاء الذين عاشوا طويلاً، في
المنافي!
ہہہ
ضافي جمعاني، ضابط الجيش الذي اعتقل مرات عدة، في
الأردن، واعتقل مرة طويلة طويلة، في سورية، يجيب عن أسئلة سامي كليب،
ليصبح المشاهد بصدد رفيق يسجنه رفاقه، لمدة ربع القرن، دون أن يخضع
لاستجواب أو دون أن يتلقي سؤال، ناهيك عن المحاكمة. ويزدحم لقاء
الزيارة بالمفارقات: الملك الذي يخطط ضافي الجمعاني ورفاقه، لمحاصرة
قصره، يترفق به وبالرفاق، في السجن، ويعاملهم باحترام، وهو المتهم
بموالاة الإمبريالية، ويزيد علي ذلك بأن يحاول إطلاق سراحهم، من سجن
رفيقهم حافظ الأسد، الذي لا يتكرم عليهم بمجرد محاكمة بالحد الأدني من
المنطق ومن القانون، تجنبهم الموت في السجن، أو البقاء فيه لربع قرن،
ويفتك بهم، وهو المعادي للإمبريالية. ويروي ضافي جمعاني أن الملك حسين
طلب من حافظ الأسد إطلاق سراحه، لكن الأسد رد بدعابة كعادته في مثل هذه
المواقف (حدثت مثل هذه الدعابة مرات، مع ياسر عرفات عندما كان يطلب
مسجونين). وهذه مفارقات تستحق التأمل، في هذه المرحلة التي تذوب فيها
الثلوج، ويبدو فيها، أن كل نظام طاغية، قد أوشك علي حصاد ما زرعت يداه،
علي الرغم من أن فعل الممانعة الوحيد، الذي يؤجل هذا المصير، هو فعل
النخب والجماهير المظلومة نفسها، التي تربأ بنفسها، أن تتقبل المخططات
الأمريكية!
ہہہ
كانت هناك إشارة لافتة، في حديث ضافي جمعاني،
لسامي كليب، وهي أن تنظيم الضباط الأردنيين الأحرار، الذي تأسس في
العام 1953 متأثراً بتجربة الضباط في مصر، اعتنق في البداية فكرة إرجاع
الأردن الي أصله وفسر جمعاني ذلك، بأنه يعني ضم الأردن الي سورية، لأن
طرد البريطانيين، الذين كانوا آنذاك في البلاد، كان من تحصيل الحاصل .
فالهدف المحدد للتنظيم، هو الوحدة مع سورية. لكن ضافي اليوم، يقول بأن
هذا الرأي، في ذلك الحين، يدل علي معرفة بسيطة في الشؤون السياسية .
ويقاطعه سامي في استفهام تقريري: تقصد براءة سياسية؟ فيوافقه ضافي
مستطرداً بما معناه، إنه أبلغ رفاقه في التنظيم بهذا الرأي في حينه،
لكنهم صمتوا ولم يعلقوا وأنا شعرت بعدها، إنه ما عاد التنظيم ملتزم
بالهدف الأساسي الذي أقيم من أجله . ويتدخل سامي كليب، بروح لبنانية
مفهومة ولا ذنب له فيها: أنا حتي عندما قرأتها (حكاية الضم الي سورية)
في مذكراتك، لفتتني، إذ كيف لرجل مثلك، أردني متعلق بوطنه، حتي لو كان
مؤمن بقومية عربية أوسع، إنه يقبل إلحاق بلده بدولة أخري، بسورية ؟!
ويعود الجمعاني الي الأيديولوجيا التي أفسدتها التجربة والمعاناة
الشخصية، مؤكداً علي وحدة بلاد الشام تاريخياً. لكن هذا الاستفهام
الإنكاري لسامي كليب، يشي بموقفه الطبيعي، عند مطابقة الحالة، علي
لبنان. وهنا كان الأوجب، أن يتمثل سامي أسئلة مقلوبة، دون أن يكتفي
بالاستفهام الإنكاري، الذي يفترض التعارض بين الوطنية والقومية، من
جهة، والوحدة من جهة أخري، ويُماهي بين وحدة الأقطار، وإلحاق بلد
بنظام. فمثلما تكون مرفوضة، عملية إلحاق بلد من سورية الكبري، بنظام
فاسد وديكتاتوري، لن تكون مرفوضة، وحدة بلدين ديموقراطيين شقيقين، يعيش
فيهما شعب واحد. ومثلما لا يتعارض مع الوطنية الأردنية واللبنانية، ضم
سورية الي أي منهما، وليس العكس، باعتبار أن هذه تمثل مفهوماً أوسع
للوطنية وللقومية، فإن عملية الوحدة، لا تقوم علي قاعدة الإلحاق، ولا
تُقاس بمعايير التحقق القطري، أو الضياع القطري. فما يفسدها ويعطيها
المدلولات المشوهة، هو طبيعة الحكم في هذا البلد أو ذاك!
الحلقتان
الأخريان، من زيارة خاصة تمثلان عينة من هذا البرنامج الناجح، ويتوجب
التنويه الي اللغة الأدبية، المفعمة بالرمزيات، التي يبدأ بها سامي
برنامجه ويختتمه. فقد كان موفقاً للغاية، كعادته، في خاتمة اللقاء مع
شفيق جحا، ورسم بالكلمات، مصير الحركة القومية، التي تحولت الي رماد،
ككومة الورق التي ذابت في بطن الأرض!
كاتب من
فلسطين
www.adlisadek.com/adlisadeq@yahoo.com
2