الضغط علي الحكام العرب لاطلاق الحريات العامة
د. عصام نعمان
انه عالم عربي هذا الذي نعيش فيه اليوم أو نعايشه، نسكنه او
نساكنه، نعانيه أو نتمتع به، نرفضه أو نرتضيه. انه عالم وليس وطنا
بالمعني القومي أو امة بالمعني الديني. انه عالم فضفاض، فسيح، متنوع،
متعدّد، متغيّر، متبدّل، متجمّد، متحرّك، متخلّف، متطوّر، متديّن،
متحرّر، فقير حتي الإدقاع، مثر حتي الإشباع، يمتد فيه الماضي إلي
الحاضر والحاضر إلي المستقبل.
إنه عالـم في حال مخاض مترع
بالمتناقضات. يغلي بغرائز ورغبات، يغصّ بحاجات وضرورات، يضجّ بأفكار
وتطلعات، ويمور بنزعات وحركات.
إنه مخاض مزمن. بدأ مع إنهيار
الإمبراطورية العثمانية، بطيئاً متباطئاً ومنشغلاً بمسألة إستعادة
الخلافـة من بني عثمان وإعادة بنائها في بني قحطان وعدنان. تَسَارع مع إستفاقة متأخرة علي إستعمار أوروبي قاسٍ، ينشر نقاط رسوٍ في المغرب
والمشرق ووادي النيل، ثم يتجذّر فيها ويتوسع ويمتد باسطا سيطرته علي
الشعوب والموارد والثروات. بعدها يضرب ضربته في فلسطين مغتصباً أرضها
مشردا شعبها. يتنادي القوم، هنا وهناك وهنالك، إلي حمل السلاح دفاعاً
عن الأرض والعرض، فإذا بهم يصبحون أسري حَمَلة السلاح من الضباط وأهل
الرباط. يستولون علي السلطة بإسم القضية، ويستحيل كل شيء من اجل إحتكار
السلطة مجرد مطيّة. يشنّون علي بني قومهم وجيرانهم حروباً ظالمة، وينهزمون أمام أعدائهم في حروب غير متكافئة. حتي اذا نال تسلّط الحكام
وحصار الأعداء من الشعوب وأرهقها ولوي إرادتها وأحبطها إنقضّ الشيطان
الاكبر علي العراق وبسط عليه سيطرته أو كاد، محاكيا في حملته فعلة
الشيطان الصهيوني الأصغر في فلسطين السليب.
تتفجر اليوم في العراق
وفلسطين كما في لبنان إرادة المقاومة. تتخذ أشكالاً عدّة. بعضها يجيزها
العالم المتحضّر علي مضض. بعضها الآخر يدمغها بميسم الإرهاب بلا هوادة
ويتفوّق علي الإرهابيين في فنون الترهيب والتخريب والقتل والإبادة. في
هذه المواجهة القاسية تشن أمري كا وإسرائيل علي المقاومة وجماعات العنف الأعمي حرباً عالمية شاملة، تستخدمُ فيها الجيوشُ النظامية، سراً أو
علناً، أكثرَ أدوات القتل فعالية ووحشية. ومع ذلك فإن أمريكا تطالب
الحكام والمحكومين العرب بان يتضامنوا معها في حربها الشاملة، وبأن
يدينوا أساليب المقاومة والإرهابيين في القتال كونها ـ في رأي أمريكا ـ
منافية لقوانين الحرب ولحقوق الإنسان.
يردّ المقاومون وجماعات العنف الأعمي الكيل كيلين. يردّون في الميدان ويردّون بمنطق حقوق الإنسان. في
الميدان يجيزون لأنفسهم الردّ علي العدو بجميع الوسائل المتاحة بلا
هوادة. يقولون إن ما لديهم من وسائل الحرب أضعف بكثير مما للعدو من
وسائل بإستثناء السلاح الأخير وهو الإنسان. لذلك يلجأون إلي الإنسان،
وقد تساوت من فرط اليأس في نظره الحياة والممات، فيضربون به في الزمان
علي غير خط التوقعات، وفي المكان يصوبون علي الهدف الأغلي وهو إنسانهم
المخدوع والمساق إلي حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. وإذْ تتعاظم أرقام
الخسائر البشرية وتنتقل أخبارها المؤلمة إلي عمق مجتمع العدو، كما في
حرب فيتنام، يثور إنسانهم غير المخدوع والبعيد عن الميدان، يثور علي
حكومته الظالمة ويطلب، فردا وجماعة، حقن الدماء وتخليص الشبان من أتون
حربٍ ثبت أنها من دون مسوّغات علي الإطلاق.
أما منطق المقاومين
وجماعات العنف الأعمي في الردّ علي منطق أهل الحرب الأمريكيين فهو إستخلاص دروس الحروب العنصرية التي شنها الأوروبيون والأمريكيون علي
الشعوب الآمنة. هل إلتزم الأوروبيون المهاجرون إلي أمريكا في حروب الابادة التي شنوها علي الهنود الحمر، أبناء القارة الأمريكية
الأصليين، روح إتفاقات جنيف؟ هل إلتزمها الأوروبيون في حربهم علي أبناء
القارة الاسترالية الأصليين؟ إن الحق في الحياة هو أول وأعلي وأغلي
حقوق الإنسان، فهل يجوز أن يُطلب من الإنسان المعرّض لخطر الابادة أن
يحترم في دفاعه عن نفسه، بل عن الحياة، قواعد الحرب التي يحددها عدوه؟
هل بلغ حكام أمريكا من الجنون حدا يظنّون معه انه بمقدروهم إقناع الناس
المعرّضين للإبادة بإن ينتحروا كرمي لعيونهم او ان يتقبلّوا القتل بدمٍ
بارد حرصا منهم علي احترام قواعد الحرب المتحضرة لينعموا بموت
رحيم؟
من موقع الإيمان العميق الثابت غير القابل للتصرف بحقوق
الإنسان، وفي مقدمها الحق في الحياة، نرفض وندين كل حرب تُستخدم فيها
أدوات وفنون وحشية منافية لإتقافات جنيف، ايا كان الفاعل والمفعول به.
لكننا نرفض وندين بالقوة نفسها المنطق السخيف بل المنحـرف والجنوني
القائل بوجوب إلتزام المعتدي عليه الضعيف، المقهـور والمعرّض للإبادة
قواعـد الحرب التي يضعـها المعتدي القوي، المتسلط والمصمم علنا وحتي
إستباقا علي قتل المعتدي عليه، المناضل من أجل الدفاع عن نفسه، أو
المكافح من أجل تحرير بلاده، او الساعي إلي تأمين قوت عياله.
حتي
عندما فتح الأوروبيون المهاجرون القارة الأمريكية بالقوة والعنف، وجدوا
أن الأرض الجديدة والحياة الرغيدة اللتين ينشدانها تستأهلان منهم
تضحيات عظيمة، فما بخلوا بأرواحهم ـ وهي الغالية عليهم ـ في سبيل تحقيق مبتغاهم. فهل كثير علي العرب في فلسطين والعراق ولبنان وفي كل مكان، أن
يسترخصوا أرواحهم ـ وقد أضحت السلاح الأخير والأفعل ـ دفاعا عن حياتهم
وأرضهم وحقوقهم ومستقبلهم؟
إن العرب، مسلمين ومسيحيين، متدينين وغير
متدينين، يعيشون أو يعايشون اليوم في عالمهم الفضفاض، المتنوع،
المتجمد، المتحرك، الفقير، المثري، المتخلف والمتطور في آن مخاضا عسيرا
وطويلاً ومترعا بشتي الاحتمالات، فلا يجوز أن تغيب في حمأته عن قادة
الرأي والفعل في صفوفهم تحديات ثلاثة تتطلب إستجابات ومواجهـــات
ثلاثاً :
التحدي الأول، عمق التدخل الأجنبي ـ الأمريكي خصوصا ـ
وتداخله بنسيج أهل القرار الرسمي في طول القارة العربية وعرضها، وسعيه الدؤوب إلي إعادة تشكيلها سياسيا وثقافيا علي نحوٍ يؤمن للقطب الأمريكي
بين العرب، حكاما ومحكومين، استتباعا كاملاً ومديداً. ذلك يتطلب من
جانبنا إستجابة ومواجهة عميقتين وسريعتين غايتهما توليد إرادة التصدي
والمقاومة والفعل في منظور أخلاقي وقومي وإنساني. إنها إرادة
التغيّــــر بحرية ومن أجل الحرية كونها قيمة مرادفة للحياة
ذاتها.
التحدي الثاني، نزوع العدو المحتل في فلسطين والعراق ولبنان، ازاء تزايد فعل المقاومة، الي محاولة تنفيس حدة الصراع بحمل أهل القرار
الرسمي علي عقد تسويات معجلّة غايتها :
التخلي عن الحقوق غير
القابلة للتصرف في فلسطين في سياق تطبيق خريطة الطريــــــق وما تنطوي
عليه من وعد وهمي بدويلة قابلة للحياة.
محاولة تعطيل المقاومة في
العراق من خلال تأهيل وتفعيل قوات مسلحة عراقية قادرة علي حماية نظام
سياسي تابع وبالتالي تمكين قوات الاحتلال من الانسحاب في مدي
سنتين.
تجريد المقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان من السلاح
لحرمان لبنان وسورية معا من قوة رادعة مؤذية لأسرائيل وبالتالي تسهيل إستتباع نظام الحكم في كلا البلدين.
إن استجابة هذا التحدي ومواجهته
في البلدان الثلاثة تكون بتصعيد المقاومة الميدانية وتوسيع الاشتباك مع
العدو، وبتصعيد المقاومة السياسية من طريق إضطلاع القواعد الشعبية
ومؤسسات المجتمع المدني بنضالات هادفة كما حدث في القدس مؤخرا دفاعا عن
حرمها القدسي الشريف، وفي المدن العراقية من تظاهرات ضد الاحتلال في
ذكري سقوط بغداد، وفي لبنان من تظاهرات صاخبة في محيط السفارة
الأمريكية.
التحدي الثالث، حملة أمريكا الدعاوية من اجل نشر
الديمقراطية في إرجاء القارة العربية والهادفة إلي حمل قادة النظم
السياسية علي تجميل صورتهم لدي الناس لتمكينهم من إعادة إنتاج أنظمتهم
البالية والتابعة من خلال:
توسيع فرص التعبير عن الرأي.
الحدّ من
مظاهر توريث السلطة او تمديد ولاية الحكام.
تشجيع الانفتاح علي دول
أمريكا وأوروبا اقتصاديا وثقافيا وتعزيز النمط الاستهلاكي في
الحياة.
إستجابة هذا التحدي ومواجهته تكون بإقتبال الديمقراطية
وممارستها وإغتنام الحملة الأمريكية الدعاوية لنشرها من اجل الضغط علي
الحكام في جميع أرجاء القارة العربية وحملهم علي إطلاق الحريات العامة
وتوفير نظم انتخابية ديمقراطية تكفل إجراء انتخابات حرة ونزيهة. كما
يقتضي ان تولي القوي الحية اهتماما مركّزا علي بناء مؤسسات المجتمع
المدني والانخراط فيها وتوظيفها في نضال موصول من اجل الديمقراطية
والتنمية والعدالة.
العرب في مخاض عسير. ليكن أسلوبنا في إستجابة
تحدياته الثلاثة ومواجهتها منهجا مقاوما وديمقراطيا
وتنموياً.