وافد جديد رقمه 1614: <<ميزتا>> البراءة والحياد

 جوزف سماحة


 

الوافد الجديد إلى لبنان رقمه 1614. ليس هو 1559 تماماً لكن الشبه كبير إلى حد يثير القلق. لنتوقف عند البند السادس: <<يدعو (مجلس الأمن) حكومة لبنان إلى أن تبسط بشكل كامل وتمارس وحدها سلطتها الحصرية والفعلية في كافة أرجاء الجنوب، وذلك من خلال جملة تدابير منها نشر عدد كاف من أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن اللبنانية، لكفالة إشاعة أجواء هادئة في جميع أرجاء المنطقة، بما في ذلك على طول الخط الأزرق، وأن تحكم سيطرتها على استخدام القوة وتحصره فيها في كامل أراضيها، وتمنع شن الهجمات من لبنان عبر الخط الأزرق>>. بكلام آخر نشر الجيش ونزع سلاح الميليشيات.

العاصفة التي ضربت لبنان لا تزال عاتية ولو أنها، لوقت قصير، في فترة استراحة. إنها تبحث، في الواقع، عن مسارب جديدة.

إن الخط الأقصر بين نقطتين، في السياسة، ليس الخط المستقيم بل الملتوي. والقرار 1614 هو طريق التفافية تقرّر للقرار 1559 أن يسلكها.

كان من المتوقع سلوك طريق أخرى. كأن يقال مثلاً إن نزع السلاح الفلسطيني في فلسطين صعب ومؤجل، ونزع السلاح اللبناني في لبنان صعب ومؤجل، فلمَ لا ننزع السلاح الفلسطيني في لبنان. نبدأ في المخيمات ثم نرى. ولكن يمكن الزعم، الآن، من دون خوف المجازفة، أن هذه المناورة في طريقها إلى الفشل. فلقد صاغ الفلسطينيون، على لسان أكثرهم اعتدالاً محمود عباس، موقفاً حكيماً مؤداه: نحن ضيوف في لبنان وما تقرّره حكومته الشرعية في شأن القرار 1559 نلتزم به. والمعنى السياسي لذلك هو: <<لن نتبرّع بالإقدام على كشف المقاومة، ولن نبادر إلى التصدي. ليقرّر اللبنانيون في ما بينهم ونحن ننفذ>>. وبعد أن ظهرت صعوبات البوابة الفلسطينية للبدء بتنفيذ 1559 جرى تغيير الرقم بمناسبة التمديد لقوات الطوارئ أواخر الشهر الماضي.

يجب الاعتراف بأن هذه الطريق الالتفافية تعبّر عن قدر من البراعة. فهي تتقدم بصفتها خدمة مقدمة للبنان عبر الإبقاء على القوات الدولية، وهي تركّز على الوجه <<الإيجابي>> المتمثل بإرسال الجيش تاركة قدراً من الغموض محيطاً بالوجه <<السلبي>> (نزع السلاح)، وهي تلوّح باحتمال إعادة النظر بالتمديد بعد ستة أشهر.

إن البراءة والحياد هما ميزتا 1614.

القرار بريء لأنه يبدو مثل تحصيل حاصل يقع في استمرار التطلب السيادي اللبناني. لقد استعيدت هذه السيادة من <<الخارج>> السوري وآن أوان استعادتها من <<الداخل>>. ثم إن الجيش اللبناني هو، من حيث المبدأ، فوق الشبهات بعد كل ما قيل عن <<عقيدته>>. ويمكن عبر التعديل في الشعار المرفوع كسب مترددين يخشون عواقب الانتظام وراء 1559. وللقرار الجديد جاذبية عربية ودولية خاصة أنه لا يتضمن، شكلاً، أي عنصر صدامي مع أي طرف لبناني داخلي ويتساوق مع أطروحة انبعاث الدولة والمؤسسات. وأخيراً يوحي القرار أنه لا يفعل سوى تكرار البديهية القائلة بأن المرجعية الجنوبية يفترض أن تكون رسمية لا أهلية.

والقرار حيادي لأن الجهة التي سيوكل إليها أمر تسويقه هي الأمم المتحدة. وإذا كان ثمة شبهة نسب بين 1559 و<<قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان>>، وإذا كان يمكن رؤية فرنسا وأميركا كقوتين دافعتين له، فإن الأمر مختلف مع 1614. يبدو، مثل مولود شرعي للأمم المتحدة ذات <<الأفضال>> السابقة على لبنان والتي لا يمكن أن تريد له إلا الخير. يصعب <<الهجوم>> على الأمم المتحدة لأن لا أطماع معروفة لها ولا مشاريع هيمنة. أكثر من ذلك يستطيع كوفي أنان أن يخاطب لبنان قائلاً إن لديه متاعب كافية مع الأميركيين، وإنه، مع مؤسسته، منخرط في نقاش صعب حول مهمات حفظ السلام في العالم التي باتت تستنزف بمواقعها (18) وبعديدها (90 ألفاً) القسم الأكبر من ميزانية الهيئة الدولية. أضف إلى ذلك أن أنان يستطيع أن يهدد الممتنعين عن التجاوب معه بتذكيرهم بأنه سيكون عليهم انتظار المفاعيل الكارثية لتعيين جون بولتون مندوباً أميركياً إلى مجلس الأمن.

سيتم التركيز في مستقبل الأيام على صفتي <<البراءة>> و<<الحياد>> المرتبطتين بالقرار 1614، في حين تتولى <<دول الوصاية>>، في تقسيم حاذق للعمل، الضغط من أجل تنفيذ 1559.

رداً على ذلك سيجد لبنان الرسمي نفسه (أي لبنان رسمي؟) مضطراً إلى الإشارة إلى أن القوى الأمنية موجودة في الجنوب، وإلى تذكير الأمم المتحدة بأنها لم تكن فعالة في ردع الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية التي يشير إلى بعضها القرار الأخير. إلا أن الرد الرسمي لا يجوز له أن يختزل كل ما يمكن قوله.

إن ديناميات الوضع الداخلي اللبناني، في المرحلة الجديدة، تجعل من 1614 بداية الانزلاق نحو حلقات أخرى يلوح 1559 في أفقها. وما يمكنه أن يبدو <<بريئاً>> و<<حيادياً>> اليوم سيكشف عن وجهه لاحقاً وذلك حسب خطة متدرّجة تنتهي خلاف ما بدأت به. قد نفاجأ بشروط إسرائيلية لنشر الجيش وبزيادة التحرشات به إذا كان نشره عند <<الخط الأزرق>> نهاية المطاف. وستعلو الأصوات متسائلة عن جدوى السلاح بعد ضبط الحدود. وستحشر المقاومة في زاوية كسر احتكار الأمن... وسيتم تدريجياً الانتقال من تقديم الحياد حيال الصراعات بصفته الخيار الأفضل إلى تقديم الالتحاق بالخطة الأميركية بصفته الخيار الوحيد.

إن السؤال المطروح يتناول الموقف اللبناني الإجمالي وطبيعة الانقسام الوطني. فعناوين من نوع 1559، أو 1614، أو مصير المتعاونين مع الاحتلال، لا ترد في سياق عناصر متكاملة لتسوية مستقرة. إنها ترد، في الحقيقة، في سياق الانقلاب المتمادي على مرحلة سابقة حتى لو أدى ذلك إلى تهديد الاستقرار.

ولعل الخطورة في التركيز على 1614 هي في أنه يعيد وضع الجيش اللبناني موضع تجاذب بين مَن ينسب إليه دوراً سيادياً ومَن ينتقص من ذلك. وهذا تكرار لسيناريو شهدناه في بداية الحرب الأهلية. فالقوى نفسها (أو المتناسلة منها) التي استهولت عدم تدخل الجيش ضد الفلسطينيين وحلفائهم معتبرة أن هذا هو سبب استمرار الحرب، إن هذه القوى نفسها هي التي تدعو اليوم، ولو بشكل أكثر خبثاً، إلى هذا الدور للقوات المسلحة.

لقد أمكن فرض حصار جزئي على استكمال تطبيق 1559. ثمة قوى تؤيّد وثمة قوى تعارض. وهناك من يتهرّب من تحديد موقف عبر الدعوة إلى حوار من دون تحديد آليته وجدول أعماله.

والدخول من مدخل 1614 هو محاولة لفك هذا الحصار عبر القفز فوق دعوة الحوار وإشاعة الوهم بأن القرار الأخير هو غير 1559 وليس رديفاً له أو بديلاً مرحلياً عنه.

"السفير"