2005/07/12 |
|
front |
|
| ||
|
هذا السؤال كان معبّراً عن حيرتنا في الانتخابات النيابية: ما الذي يجمع بينهم؟ أمام مشهد تحالفات انتخابية جمعت مرشحين من حزب الله وحركة أمل مع مرشحين من القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل، كان هذا السؤال مشروعاً. لم نجد جواباً عليه سوى في المصلحة المشتركة، وما كانت المصلحة المشتركة سوى التعبير اللائق عن الوصولية، أو شهوة الوصول إلى النيابة. ولمّا كانت الغاية في السياسة تبرر الوسيلة: فقد كانت المعارك الانتخابية طاحنة، لم يوفر في إدارتها سلاح، مشروعاً كان أو غير مشروع، فاستُنفرت العصبيات المذهبية والطائفية، وأُطلقت شلالات من المال السياسي في شراء الذمم وتسخير وسائل الإعلام على نحو فاجر، واستُحضرت أرواح الشهداء ودماؤهم بأقصى ما يمكن من الإثارة والاستعطاف. تحقق الهدف إذ وصل الجميع وإن بمقادير متفاوتة من التمثيل. وكان ذلك بفعل حاجة كثير من الناس وانفعالهم كما بفعل سذاجة بعضهم وجهل بعضهم الآخر.
السؤال إياه يطاردنا اليوم أمام مشهد محاولات تأليف حكومة جديدة: ما الذي يجمع بينهم؟ المنادي بالإصلاح يقف إلى جانب المستهدف
بالإصلاح، كلاهما يرتّل أنشودة مكافحة الفساد والمساءلة والمحاسبة. والملتزمون القرار الدولي 1559 في مركب واحد مع المعترضين عليه. الجواب البسيط هو مرة أخرى الوصول وإنما هذه المرة إلى جنة السلطة.
وفي الحالتين، في الانتخابات النيابية كما في تأليف الحكومة، ورقة التين التي تحجب العورات واحدة: هي المصالحة الوطنية والوحدة الوطنية. وفي سبيلهما توظف كل مزايا الديموقراطية: الانفتاح والحوار والتفاعل لا بل والحرية والجرأة في استخدامها. والجرأة قد تعني الانقلاب على الذات أو الاستدارة من موقع إلى نقيضه. كل الحواجز تتساقط أمام مطلب الظهور في صورة واحدة، حول طاولة مجلس الوزراء، والابتسامات العريضة ترتسم على الوجوه فتبعث الآمال، ولو مصطنعة، في نفوس المواطنين.
بعضهم علّل دخوله الحكومة باشتراط أن يكون للحكومة برنامج. عجباً، هل كان في تاريخ لبنان الحديث حكومة لم يكن لها برنامج، هو البيان الوزاري الذي تنال على أساسه ثقة المجلس النيابي؟ هكذا يبدو شرط البرنامج بمثابة لزوم ما لا يلزم. وقد تعلّم اللبناني من تجارب الماضي أن لا يصدق البيانات السياسية. فأي حكومة استطاعت أن تنفذ ما وعدت به بأمانة؟ البيانات الوزارية، كما خطب القسم الرئاسية، كانت إلى حد بعيد حبراً على ورق. فالسياسة في لبنان، بانعدام المساءلة والمحاسبة بفعل هزال الممارسة الديموقراطية، تختصر بعبارة موجزة: <<وعود ولا وفاء>>. والدليل الساطع هو في الحال التي نعيش اليوم: بتفاقم الدين العام واستشراء الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع واستفحال معضلة البطالة في صفوف اليد العاملة وظاهرة هجرة الشباب إلى الخارج وتعمق مشكلة الفقر والتفاوت في مستويات المعيشة بين شرائح المجتمع. هل كانت هذه الظواهر يا تُرى من حصاد الوعود التي قطعت في الماضي عبر البيانات الوزارية أو عبر خطب القسم الرئاسية؟
هذه صورة العقم في السياسة اللبنانية في أبلغ وجوهها. هل تغيّر هذا المشهد بنتيجة الانتخابات النيابية؟
في واقع الحال أن المشهد لم يطرأ عليه تبدل يستوقف النظر. فالانتخابات النيابية أجريت على أساس قانون العام 2000، فلم تسفر عن تبدل جذري في الطبقة السياسية ومن ثم الطبقة الحاكمة المنبثقة منها. فمع أن الانتخابات تمخضت عن تبدل في وجوه لا أقل من 61 نائباً، أي ما يناهز نصف المجلس، إلا أن الطبقة السياسية، ومن ثم الطبقة الحاكمة، إنما تُعرف برموزها وليس بعناصرها. فالقرار السياسي يكاد يكون حكراً على بضعة رموز تطغى على الساحة السياسية، وبقية النواب والوزراء من الأتباع والملحقين. فلا غلو في القول إن نظامنا ديموقراطي في الشكل ولكنه أوتوقراطي في الجوهر. هذه القلة من الرموز لم تتبدل بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة. بين الرموز وجه جديد إلا أن شعاره التزام خط سلفه، وآخر يبشّر ببرنامج جديد إلا أنه يستعجل على ما يبدو دخول الحكومة بأي ثمن، والثمن قد يكون التضحية ببرنامجه.
نكاد نقول إن ما يجمع بين المشاركين في الحكومة العتيدة ليس خطاً سياسياً مشتركاً، ولا رؤية حكم مشتركة، ولا حتى توجهات مشتركة، بل هو، إن سمينا الأشياء بأسمائها، قنبلة موقوتة وسراب. هذه القنبلة هي في مسألة سلاح المقاومة، في القرار الدولي 1559. أما السراب فهو في التزام إصلاح لواقع هو أساساً نتاج أداء، أو سوء أداء، الطبقة السياسية القائمة إياها على امتداد السنوات الماضية، وبخاصة منذ نهاية الحرب القذرة التي اجتاحت بلدنا عبر خمسة عشر عاماً.
وقفة أولى أمام القنبلة الموقوتة: الحكومة مقدر لها على ما يبدو أن تجمع قوة سياسية تجزم بعدم استعدادها للتخلي عن سلاح المقاومة وتهدد بقطع اليد التي تمتد لنزعه، وقوة سياسية تقول برفض القرار الدولي 1559 ووجوب حماية المقاومة وسلاحها، وقوة سياسية تعهدت عبر وسائل إعلام خارجية بتجريد المقاومة من سلاحها متوسلة طريق التفاهم والحوار، وقوة سياسية تدعو إلى تسليم المقاومة سلاحها للجيش اللبناني بمنطق أن البلد يحتمل وجود جيش واحد ولا يحتمل وجود جيشين، كما بمنطق أن هذا ما يمليه الانصياع لإرادة الشرعية الدولية ولموجبات اتفاق الطائف حيث قضى بتجريد الميليشيات من سلاحها، من دون تمييز بين المقاومة والميليشيات.
كيف ستستطيع هذه الحكومة أن تصمد والحال هذه فتحافظ على تماسكها ووحدتها في وجه ضغوط متواصلة من المجتمع الدولي، وبالأخص من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والأمم المتحدة، لاستكمال تنفيذ القرار الدولي 1559؟ لا بل كيف ستنطلق هذه الحكومة، علما بأن أول ما يتوجب عليها بطبيعة الحال وضع بيانها الوزاري الذي ستنال على أساسه ثقة المجلس النيابي؟ ماذا يمكن أن يقول البيان الوزاري عن القرار الدولي وسلاح المقاومة؟ هنا القنبلة الموقوتة. أما السراب، أي الحديث عن الإصلاح ومكافحة الفساد وإطلاق آليات المساءلة والمحاسبة عن الماضي كما عن الحاضر والمستقبل. فنحن نتصور أن يسهب محررو البيان ويسترسلوا في الحديث عن هذه المسائل على أمل أن لا يظهر عجز الحكومة عن تحقيق ما تعد به إلا بعد ردح من الزمن قد يطرأ خلاله ما ليس في الحسبان، وقد يكون الزمن كفيلاً بطمس الوعود في ذاكرة الناس.
أما مسألة سلاح المقاومة فموضوعة على نار حامية دولياً، ولا تقبل تسويفاً أو تمييعاً. ولن يكون سهلاً تلاقي القوى المتمثلة في مجلس الوزراء على موقف واحد منها. ولعل عبقرية الصياغة تأتي بتسوية لفظية تجانب الحل الناجع للمسألة وإن كانت تتيح الاتفاق على بيان وزاري يعرض على مجلس النواب. المخرج، بعبارة أخرى، قد يكون إنشائياً لفظياً. في تلك الحال تبقى القنبلة موقوتة. فالضغوط الدولية، وربما الداخلية المواكبة لها، ستضطر الحكومة في يوم من الأيام، وقد لا يكون هذا اليوم بعيداً، إلى تبني قرار في شأن سلاح المقاومة. عند ذاك يكون المحك الحقيقي.
إن انتزاع فتيل القنبلة الموقوتة يبقى ميسور المنال فيما لو عدنا بالمواقف المتعارضة إلى منطلقات مشتركة: ثمة إجماع على أن المسألة يجب أن تبقى داخلية وأن أي تدخل خارجي في شأنها ينبغي أن يكون مستبعداً، وثمة شبه إجماع أيضاً على أن الحل لهذه المسألة لا يكون بالقوة أو العنف بل بالحوار والتفاهم.
السؤال هو: علامَ يكون التفاهم؟ في اعتقادنا أن في المسألة مشكلة وقضية، والحل يكون بالتوفيق بين المشكلة والقضية. القضية تنبع من أن لبنان يتعرض لاعتداءات إسرائيلية متواصلة جواً وبحراً، وليس ما يضمن عدم تعرضه مستقبلاً لاعتداءات برية. والرد على الاعتداء لا يكون إلا عبر المقاومة. فالجيش النظامي غير قادر على التصدي لعدوان من إسرائيل التي تتمتع بقوة عسكرية غاشمة هزمت الجيوش العربية في الماضي مجتمعة ومتفرقة. ولم يصمد في وجه القوة الإسرائيلية الغاشمة سوى المقاومة، سواء في لبنان أم في فلسطين. القضية إذن في المحافظة على قدرة لبنان على الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، أي على المقاومة.
ولكن لا بد من الاعتراف في المقابل أن ثمة مشكلة لا بد من حلها. المشكلة كامنة في كون المقاومة فئوية (تحمل اسم المقاومة الإسلامية)، وهناك فريق وازن من اللبنانيين يسوره خوف على مستقبل السلم الأهلي في لبنان باستمرار وجود السلاح في يد فئة من الشعب اللبناني دون الأخرى. ولا يجدي تذكير هؤلاء بأن سلاح المقاومة موجّه حصراً إلى العدو الإسرائيلي. فالجواب يأتيك للتو أن ليس ما يضمن عدم توجيه هذا السلاح في لحظة من اللحظات ضد فئة لبنانية أخرى.
وعليه، فإن البيان الوزاري يمكن أن ينص على ما يأتي: السبيل إلى الحل هو الحوار فالتفاهم. والتفاهم ينبغي أن يتوخى إيجاد صيغة وفاقية من شأنها التوفيق بين المشكلة والقضية، أي صيغة تحفظ قدرة لبنان على مقاومة اعتداءات إسرائيل عليه من جهة، وتطمئن، من جهة أخرى، الفريق المتخوف إلى أن السلاح لن يصوّب في اتجاهه في يوم من الأيام. وقد يكون الحل الحقيقي بلبننة المقاومة، أي بنزع صبغة الفئوية عنها.
... الى منتدى الحوار |
الصفحة الأولى| أخبار لبنان| عربي ودولي| اقتصاد| ثقافة |
رياضة| قضايا وآراء| الصفحة الأخيرة| صوت وصورة |
©2005 جريدة السفير |