تواطؤ الحكام العرب

د. أحمد ثابت


 

لا تعانى انتفاضة الشعب الفلسطينى الثانية انتفاضة الحرية والاستقلال ولا تعانى القضية الفلسطينية برمتها من العدوان الصهيونى الأمريكى فقط، بل لقد أسهمت النظم العربية الحاكمة بتفريطها المستمر فى ثوابت ومرتكزات القضية حتى حولتها إلى محض مسألة أمنية مطلوب من السلطة الفلسطينية أن تتحول حسب مصالح هذه النظم العربية العفنة التى انتفت شرعية وجودها لدى شعوبها أولا ولدى قضايا العرب الكبرى وعلى رأسها قضية فلسطين ثانيا، إلى مجرد حارس أمنى لحساب الكيان الصهيونى.
والملاحظ أن الحاكم العربى الذى يريد تخفيف الضغوط الأمريكية عليه وتخفيف ضغوط الداخل عليه بتقليص صلاحياته وسلطاته المطلقة وخصوصا بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة وبعد تصاعد الضغوط الجماهيرية المطالبة بالحريات يلجأ إلى تقديم تنازلات كبيرة لإسرائيل والولايات المتحدة بمزيد من التعاون السرى الأمنى والاستخبارى مع واشنطن ومزيد من التطبيع السرى والعلنى مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية وكأن هذه القضية هى السوق الذى يعرض فيه الحاكم العربى بضاعته الخائبة الراكدة لكى لا تضغط عليه واشنطن بالابتزاز وبتقليص فساده وسلطاته شبه الإلهية.؟ تم ذلك الأسلوب منذ زمن طويل مع توقيع السادات صلحا منفردا مع إسرائيل وعلاقة تبعية مهينة لأمريكا ويواصل الحكام العرب بعده سلوك نفس السبيل وهذا ما يكشف عنه واحد من كبار الآباء والمؤسسين الأوائل لحركة النضال الفلسطينى وواحد من أبرز حكمائه الرفيق المناضل نايف حواتمة فى أحدث كتبه بعنوان الانتفاضة.. الاستعصاء، فلسطين إلى أين؟ الصادر فى مارس 2005 عن دار الأهالى للنشر بدمشق. الرجل يكشف عن أن الانتفاضة الباسلة بالدماء والشهداء والحصار والمقاومة التى كبدّت العدو الصهيونى قتلى وجرحى بأكثر مما كبده أى جيش عربى نظامى، وجعلت النمو السنوى فى الاقتصاد الإسرائيلى يتراجع إلى ما دون الصفر، وتجبر الانتفاضة أعدادا كبيرة من الإسرائيليين على الهجرة النهائية من فلسطين المحتلة وبأرقام كبيرة حيث كشفت صحيفة القدس العربى الرائدة عن هجرة أكثر من ثلاثة أرباع المليون من الإسرائيليين حتى النصف الأول من عام 2004.
عانت القضية والانتفاضة أيضا من الانفراد بالسلطة واحتكار القرار والمناصب السياسية والإدارية من قبل الرئيس الراحل عرفات وسلطة الحكم الذاتى التى عطلت عبر الاستقواء بالنظم العربية الموالية لواشنطن وبالرغبة فى الانضواء تحت الأضواء العالمية والانجرار خلف مكوكيات المفاوضات والاجتماعات التى وصلت إلى حالة مزمنة من الاجتماع لمجرد الاجتماع والتفاوض لمجرد التفاوض منذ فتح قناة المفاوضات السرية فى أوسلو النرويج وصولا لإعلان أوسلو الأول ثم اتفاقات واشنطن والقاهرة وطابا وواى ريفر التى اختزلت القضية فقط فى الحلول الأمنية مع تهميش تدريجى ومتعمد للتسوية الشاملة العادلة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلى بعد أن جمدت النظم العربية دائرة الصراع العربي- الإسرائيلى.
ومن الملاحظ أن السلطة الفلسطينية تحولت إلى واحد من نظم الحكم فى العالم الثالث والوطن العربى والتى تقوم على تسلط الحزب الواحد وهيمنة حاكم فرد ملهم وعبقرى وتحولت كذلك إلى لعبة تصنيف شهيرة دون مدلول حقيقى وهى لعبة الحكم والمعارضة حيث الحكم يمثل الأغلبية بالإدعاء والأمر الواقع دون أن تجرى عملية انتخابات ديمقراطية نزيهة وحرة ومباشرة لفرز قوى الأغلبية والأقلية.
ومن هنا يؤكد المناضل نايف حواتمة على أن المدخل لأية عملية توحيدية فلسطينية يجب أن يبنى على حقيقة أن الحال الفلسطينية لا ينطبق حالها على حال ما بعد الاستقلال سلطة ومعارضة. الكل ينخرط فى إطار السياق العريض لحركة التحرر الوطنى وضد التناقض الرئيسى الجامع تجاه كل الشعب بكافة حساسياته، أى ضد الاحتلال والاستعمار الاستيطانى للأراضى الفلسطينية المحتلة هذا أولا. ولذلك الاستحواذ على السلطة من قبل الأخوة فى قيادة فتح سياسة انقسامية خاطئة، إنها عملية مرسومة ومدروسة على يد العديد من العواصم العربية والعواصم الخارجية الأجنبية فى ظل الاختلالات العربية- العربية بعد كامب دافيد وصلح السادات المنفرد مع إسرائيل وحربى الخليج الأولى والثانية واحتلال إدارة بوش الابن للعراق بعد بروز القطبية الأحادية وإيديولوجيا وبرنامج العولمة الأمريكية. وعلى سبيل المثال كانت كل السلطة بيد صدام حسين ومجموعة صدام وانتهى الوضع إلى ما انتهى إليه.
لقد تراجعت وتأخرت القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية كثيرا بفعل إحجام السلطة الوطنية وسياسة الهيمنة الفئوية عن التقدم خطوة إلى أمام باتجاه برنامج القواسم المشتركة، يلفت حواتمة النظر أيضا إلى أن التشيع بالفرق المتعددة ليس محكوما بالأيديولوجيا بل محكوم بالرؤية البرنامجية السياسية، وبالتالى فالمشكلة ليست مشكلة أيديولوجيا، فغياب البرنامج المؤسس على قواسم مشتركة أدى لحدوث انشقاقات فى قيادة فتح عام 1983.
يستعرض حواتمة مراحل الحوار المشترك بين الفصائل من أجل صيانة الوحدة الوطنية وصياغة برنامج مشترك لبناء السلطة على أسس ديمقراطية تعددية على قاعدة الإصلاح الديمقراطى وقد وافقت الفصائل الكبرى على هذا البرنامج فى حوارات غزة والقاهرة ما أسفر عن إعلان القاهرة الأخير الذى كرس الثوابت والمرتكزات الرئيسية للقضية وللحقوق الفلسطينية غير القابلة للتنكر، ويقول إن حركتى حماس والجهاد عبرت عن موافقتها على حل دولة فلسطينية بحدود الرابع من يونيو 1967 مقابل هدنة 10-20 سنة وهذه خطوة هامة باتجاه المساهمة الوطنية بالحوارات الجارية نحو برنامج مشترك لهذه المرحلة، ويضيف أنه ينبغى استكمال ذلك بشعار معلق فى الهواء والدليل على ذلك الهدنة مقابل دولة بحدود 4 يونيو 1967، من يفعلها وكيف ومتى، ومع من وبين من ومن؟. هذا يتطلب بالضرورة إعادة صياغة الموقف على قاعدة الائتلاف الوطنى، برنامج القواسم المشتركة، قيادة وطنية/ حكومة اتحاد وطنى.
إن ذلك يتطلب مراجعة السلطة لسياستها الانفرادية وعلى مدى الاستكمال عند الأخوة بحماس والجهاد بشأن البرنامج الوطنى الموحد، لأن هذه العملية لا يمكن أن تولد إلا فى ظل ائتلاف وطنى عريض لا يعيد إنتاج منظمة التحرير الموحدة فقط، بل يعيد على يد حوار الجميع صياغة العلاقات الوطنية- الوطنية الفلسطينية فى إطار الائتلاف الأهلى حتى ننهض من جديد بدمقرطة مؤسسات منظمة التحرير.