2005/07/05 |
|
front |
|
| ||
|
أظهرت تطورات الآونة الأخيرة أن الإرادة الموحدة، إن وُجدت بين اللبنانيين، كفيلة باجتراح المعجزات.
من مسلّمات المرحلة الحاضرة أننا بعد الانسحاب السوري من لبنان انتقلنا من تحت مظلة الهيمنة السورية إلى تحت مظلة الهيمنة الأميركية الفرنسية. وعندما يجري الحديث عن شراكة أميركية فرنسية فإن الحصيلة تكون في واقع الأمر هيمنة أميركية نظراً للتفاوت الهائل في السطوة بين أميركا وفرنسا على الساحة الدولية بفعل ما تتميز به الدولة العظمى من قوة عسكرية واقتصادية وبالتالي سياسية جعلتها فعلياً في موقع الأحادية على الساحة الدولية. أما سائر القوى الكبرى فأقصى ما تستطيع، على ما يبدو، أن تلعب دوراً اعتراضياً، ربما بالتهديد باستخدام حق النقض في مجلس الأمن.
وقد ظهر من التعاطي مع القرار 1559، الصادر عن مجلس الأمن، محدودية الدور الاعتراضي هذا. فالقرار جاء بمبادرة مشتركة بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وتأييد من بريطانيا، في مقابل اعتراض من روسيا والصين من دون أن يذهب الاعتراض بهما إلى نقض القرار. ولم تلبث الضغوط الأميركية أن دجّنت الاعتراض الروسي الصيني، فصدر بيان رئاسي عن مجلس الأمن يتبنى القرار 1559 من دون تحفظ من أحد. فالبيانات الرئاسية تصدر عن مجلس الأمن بالتوافق، أي بالإجماع عملياً. ولبنان يواجه إجماعاً دولياً على المطالبة بتطبيق هذا القرار، وتحديداً في الشق المتعلق منه بتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها. ففيما بقي الانسحاب السوري من لبنان ملتبساً بين أن يكون قد تمّ بناء على اتفاق الطائف، كما زعمت سوريا ومعها السلطة اللبنانية آنذاك، أو تنفيذاً للقرار 1559، فإن المطالبة بنزع سلاح المقاومة مطروح اليوم تطبيقاً للقرار الدولي تحديداً ومن دون مواربة.
ما أكثر القائلين إن لبنان وقع عملياً تحت مظلة الهيمنة الأميركية فانتقل مصدر التدخل من عنجر حيث كان مركز شعبة الاستخبارات العسكرية السورية، إلى عوكر حيث السفارة الأميركية. وكان أول مظاهر التدخل موقفاً أميركياً صارماً (ومعه موقف فرنسي) بالتزام الموعد القانوني للانتخابات النيابية. فلم يسمح بإرجاء الموعد بتعديل القانون من أجل الإفساح في المجال أمام مجلس النواب للنظر في وضع قانون جديد للانتخابات. هكذا فرضت أميركا (ومعها فرنسا) فعلياً العمل بالقانون القائم، أي قانون العام 2000. وإذا كان من إجماع آنذاك بين اللبنانيين وسط أجواء التشرذم والفرقة التي كانت سائدة فقد كان على رفض هذا القانون. فقد تحفظ عليه أطراف الموالاة للسلطة كما أطراف المعارضة، وإن من منطلقات متباينة. هكذا أملت أميركا فعلياً ظروف الانتخابات النيابية المتشنجة كما أملت في واقع الحال نتائجها. المفارقة أن أميركا تدعو إلى الديموقراطية وتملي على الشعوب ما تشاء وإن خلافاً لإرادتها.
مع ذلك فإن تطورين وقعا فيما بعد كان من شأنهما إظهار أن الإرادة الدولية ليست قدراً لا مرد له في حال تلاقي اللبنانيين على موقف موحد. فمن جهة، كان إجماع بين الأفرقاء اللبنانيين على أن مسألة سلاح المقاومة هي مسألة داخلية وأن أي تدخل خارجي في شأنها مرفوض، وأن المسألة لا تحل إلا بالتفاهم، أي أن أي تفكير باستخدام العنف لنزع سلاح المقاومة يجب أن يكون مستبعداً كلياً. أمام هذا الإجماع بدا الموقف الأميركي (ومعه الفرنسي) محيّداً، أقله حتى إشعار آخر.
ومن جهة ثانية، لم يعد سراً أن أميركا وفرنسا أعربتا للمسؤولين اللبنانيين عن رغبتهما في استبعاد الأستاذ نبيه بري عن رئاسة مجلس النواب تحت ذريعة أن التغيير مطلوب على كل صعيد، بدءاً برئاسة المجلس، ولعل الأستاذ بري في اعتبارهم من رموز الحقبة السورية. وقيل إن زيارة الشيخ سعد الحريري الرئيس الفرنسي جاك شيراك ومن ثم المملكة العربية السعودية عشية موعد انتخاب رئيس المجلس، كان لها علاقة بهذا الشأن. فإذا بتوافق النواب على إعادة انتخاب الرئيس بري يعطل القرار الدولي.
مع تسمية الأستاذ فؤاد سنيورة رئيساً للوزراء، ثمة خشية بين اللبنانيين من أن يكون وراء الأكمة أزمة جديدة، يمكن أن تنفجر
بعد تأليف الحكومة، محورها استكمال تنفيذ القرار الدولي 1559 القاضي بتجريد المقاومة من سلاحها.
من إرهاصات هذه الأزمة عودة الدولتين الكبريين إلى التذكير بهذا المطلب بشيء من الإلحاح. وقد صدرت بيانات متكررة عن جهات مسؤولة أميركية وفرنسية تعرب عن استعداد المجتمع الدولي لتقديم المساعدات المالية والاقتصادية للبنان بمجرد إعلان الحكومة اللبنانية العتيدة برنامجها الإصلاحي. هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها استعداداً دولياً لمساعدة لبنان قبل أن يطلب لبنان هذه المساعدة.
ليس في الأمر سر. فالمساعدات المعروضة اليوم مشروطة. شرطها استكمال تطبيق القرار الدولي 1559، أي تجريد المقاومة من سلاحها. عندما تربط المساعدات دولياً ببرامج الإصلاح، فإن سلاح المقاومة سيأتي في مقدم الأولويات الدولية، وتعليل ذلك نظرياً أن أي إصلاح جدي سيكون محوره بالضرورة بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات، ولن تكتمل مقوّمات هذه الدولة بوجود السلاح في يد أي فئة خارج نطاق الشرعية. هذا ظاهراً. أما في الحقيقة فإن تصفية المقاومة مطلب إسرائيلي، ولا فرق إطلاقاً بين استراتيجية أميركا في المنطقة وسياسة إسرائيل. هذا ما تعلمناه من تجارب الماضي والحاضر.
بين اللبنانيين من يرى، وبحق، أن حكومة الرئيس فؤاد سنيورة قد تكون فرصة نادرة لوضع الاقتصاد الوطني على مسار التصحيح بعد طول تراجع وتدهور، ودليل ذلك استعداد غير مسبوق من جانب المجتمع الدولي لمد يد العون المالي والاقتصادي لهذا البلد. ولكن بين اللبنانيين كذلك من يتخوّفون من أن لا يكون عرض المساعدة سوى طُعم لحمل الدولة اللبنانية على السير في طريق تنفيذ القرار الدولي 1559 لجهة تجريد المقاومة من سلاحها. وسوف يصوّر للشعب اللبناني أن طريقه إلى العافية والنمو والاستقرار إنما يمر في تصفية المقاومة، وأن تمسك <<حزب الله>> بسلاحه سيكون سبب استمرار حال التأزم في الوضع المالي والاقتصادي. وأخشى ما نخشاه أن يحتدم السجال بين اللبنانيين حول هذه المسألة على وجه ينذر بإشعال فتنة يتعذر التكهن بأبعادها.
ومَن يتوجس شراً من هذا المشهد لا يتوانى عن التذكير بما آل إليه احتلال أميركا للعراق من واقع جعل البلد على شفير الفتنة المدمرة. فماذا يمنع أميركا من دفع لبنان الى واقع مماثل بعد أن بسطت هيمنتها عليه؟ ويذكّر هؤلاء بأن سياسة أميركا في المنطقة باتت تدور حول نظرية <<الفوضى الخلاقة>>، وقد دخل لبنان أو أدخل في ما يشبه هذه الأجواء بدليل ما شهد خلال الأشهر الأخيرة من أزمة سياسية عنيفة حول القرار 1559، وكذلك ما شهد من اغتيالات وتفجيرات، وكان أخيراً ما رافق الانتخابات النيابية من انقسامات فئوية حادة. والله أعلم بما يخبّأ لنا مستقبلاً.
هكذا نجد أنفسنا عند هذا المفصل أمام فرصة لا تفوّت كما أمام تحد في منتهى الخطورة. حصانة لبنان الوحيدة في مواجهة الأخطار الماثلة لا تكون إلا بتوافق أبنائه. سبق أن عطّلنا، كما سبقت الإشارة، قرارات دولية بوحدة الموقف فيما بيننا. ونستطيع أن نحبط ما يخطط لنا في مقبل الأيام بتوحيد إرادتنا حيال مسألة سلاح المقاومة، انطلاقاً من الإجماع على أن المسألة داخلية ولا بد من حلها بالتفاهم. والتفاهم لا يكون إلا بالتوفيق بين قضية ومشكلة: القضية هي في الحفاظ على قدرة لبنان على التصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة. والمشكلة هي في تخوّف فريق من اللبنانيين من بقاء السلاح في يد فريق آخر. لا بد إذن من ابتداع صيغة توافقية تصون المقاومة ما دام لبنان يتعرض لاعتداءات إسرائيلية، وتطمئن في هذه الأثناء المتخوفين من استمرار وجود السلاح في غير يد الدولة على مستقبل السلم الأهلي.
هل سنكون على مستوى هذا التحدي؟ الجواب سيأتي عبر تكوين الحكومة عند تأليفها ثم عبر ما تتعهد به في بيانها الوزاري وأخيراً عبر السياسة التي سوف تنتهجها في التعاطي مع هذه المسألة التي أضحت في منزلة القنبلة الموقوتة.
... الى منتدى الحوار |
الصفحة الأولى| أخبار لبنان| عربي ودولي| اقتصاد| ثقافة |
رياضة| قضايا وآراء| الصفحة الأخيرة| صوت وصورة |
©2005 جريدة السفير |