المبادرة العربية والمعارضة السورية

 


ياسين الحاج صالح 
5 nov 2011

إذا نفذ النظام السوري بنود المبادرة العربية الخاصة بسورية، شكل ذلك نصرا مرحليا للثورة، ووفر حماية نسبية للمظاهرات السلمية، بما من شأنه أن يجدد زخمها ويوسع قاعدتها، ويفلّ سلاح النظام الأقوى، العنف المنفلت. وإذا لم ينفذ النظام البنود انكشف عربيا، وشكل هذا خطوة إضافية لرفع الغطاء الدولي، بما فيه الروسي والصيني، عنه. 
في الحالين النظام في مأزق. لقد استطاع طوال شهور أن يواجه الثورة بعنف مهول، دون أن تواجهه غير مواقف عربية ودولية متوانية. المبادرة العربية تشير إل أن هذا لم يعد ممكنا. مزيد من العنف الأهوج من طرف النظام سيعني إباحة عربية للتعامل معه كمنبوذ، ما يفتح الباب لتجريمه دوليا. من المحتمل أصلا أن النظام قبل بالمبادرة تحت ضغط روسي، لأن روسيا لن تكون قادرة على حمايته مرة أخرى من اللوم الدولي إذا رفض المبادرة العربية. 
ومن المستبعد هذه المرة أن ينجح النظام بالخروج من المأزق وفق الآلية المعتادة: قبول المبادرة وعدم قبولها في آن. أو القبول الشكلي وعدم الالتزام الفعلي، واختراع الحجج والذرائع للتملص من التنفيذ. هامش المناورة أضيق أمام النظام من أي وقت سبق، ويبدو أن ساعة الحقيقة تقترب.
وإن لم تحدد مرجعية لما يفترض أن يجري من "حوار" بين المعارضة النظام، توفر المبادرة العربية إطارا للاعتراف بالمعارضة السورية كطرف سياسي فاعل. هذا شيء يبنى عليه. وخلال الأسبوعين الفاصلين عن "الحوار" يمكن للمعارضة أن تقدم تصورا لمرجعيته. ولا يمكن لهذا التصور إلا أن يجمع بين مطلب الديمقراطية الذي تعرف المعارضة السورية نفسها به منذ سنوات أو عقود، وبين قضية الثورة اليوم. وما يستجيب لها التطلب المزدوج هو التحول نحو سورية ديمقراطية خلال أمد زمني محدد مع ضمانات عربية ومن الأمم المتحدة في هذا الشأن، ومع الضمانة السورية التي لا غنى عنها: التظاهر السلمي غير المرخص.
ليس من حسن السياسة أن يسارع معارضون، بعضهم محسوبون على المجلس الوطني السوري، إلى رفض المبادرة العربية. يمكن للمبادرة وجملة التفاعلات الجارية حولها أن تكون مناسبة لطرح القضية السوري وما لحق بالشعب السوري من اضطهاد ومهانة مديدين، وتقديم رؤية عن سورية المستقبل. قبل كل شيء، التسرع إلى رفض المبادرة العربية خطأ شكلا، ويدل على تواضع غير مفاجئ لمستوانا السياسي. لماذا لا نستطيع القول إننا أخذنا علما بالمبادرة، ونحتاج لمزيد من الوقت لبلورة موقف واضح بشأنها؟ أو إننا سنتدارس الموضوع ونراقب كيف سيتصرف النظام قبل أن نقرر ما نفعل؟ وهناك خطأ في الجوهر أيضا. فالمبادرة وتفاعلاتها فرصة لمخاطبة الشعب السوري وللتدرب على السياسة، وتثبيت وضع المعارضة السورية كطرف لا يمكن القفز فوقه. السلبية لا تجدي في هذا الشأن، وهي مؤشر ضعف وليس قوة. وهذا كله لا يقتضي أن تسارع المعارضة إلى قبول المبادرة العربية، لكنه يلزمها بسياسة أكثر إيجابية وديناميكية. فالمهم ليس المبادرة العربية بحد ذاتها، بل ما نفعله بها أو منها. 
والواقع أن المعارضة السورية بجميع أطيافها تجد نفسها في وضع أخرق منذ بداية الثورة. فهي لم تفجر الثورة، ومشاركتها فيها محدودة، وتأثيرها عليها محدود بدوره، ولذلك فإنها لا تكتسب وزنا إلا من اعتناق هدف الثورة المباشر، إسقاط النظام. إن قصرت عنه أو ترددت بشأنه تخسر اعتبارها، ولقد سُمعت في المظاهرات السورية هتافات تندد بأسماء معارضة معروفة، تقول أشياء غير واضحة. لكن من شأن انضباط المعارضة بمزاج الجمهور الثائر أن ينال من قدرتها على أداء دور سياسي أكثر مرونة واستقلالية عن الانفعالات الشعبية، ويفقدها أيضا القدرة على القيادة والمبادرة. هذه هو الوضع الذي تجد المعارضة السورية نفسها اليوم. الأصل فيه أن عملية تكون تشكيلات المعارضة كلها منفصلة عن عملية تفجر الثورة وتطورها. ولقد حالت الظروف السورية خلال الثمانية أشهر الماضية دون نشج شبكة من الروابط الوثيقة بين العمليتين. لكن الشيء الوحيد الذي يمنح معنى ودورا للمعارضة التقليدية، وينقذ اعتبارها، اليوم هو الانحياز القاطع إلى الثورة ودعمها بكل السبل. وهو ما لا يتعارض مع الانفتاح على مسارات سياسية قد تدفع قضية التحرر السورية إلى الأمام، بل قد يكون تثميرا لبعض أفضل مؤهلات المعارضين السوريين التقليديين. 
فتحت المبادرة العربية أفقا للربط بين الثورة والمعارضة لم يكن متاحا من قبل. فعبر ما تشترطه المبادرة من وقف العنف وسحب الآليات العسكرية والإفراج عن معتقلي الثورة، وإتاحة مجال لمراقبين عربا ولوسائل الإعلام العربية والدولية في تغطية الأوضاع السورية، تتوافق المبادرة مع انتشار حركة الاحتجاج واحتلالها مساحات أوسع في الفضاء العام واتساع المشاركة فيها. وهو ما من شأنه أن يثقل وزن المعارضة في أي تفاوض محتمل مع النظام، وتاليا أن يكون عنصر دفع نحو تغيير سياسي حقيقي في سورية. وبهذا فإن المبادرة العربية "ثورية" أكثر من الجامعة العربية والنظام العربي، وأكثر مما يتصور معارضون يخلطون بين الراديكالية والسلبية. وخلافا للانطباع المتعجل، لا يعترض الثائرون الميدانيون على العمل السياسي بحد ذاته، ولكن على التباس المواقع والمواقف وأنانيتها. فإذا كان لا لبس في احتضان التشكيلات السياسية قضية الثورة، وسع ذلك من هامش مبادرة هذه التشكيلات وأعطاها حرية حركة أوسع. 
وفي حال بدأ النظام بالمماطلة واللعب على الحبال، وهذا مرجح، ستكون معارضة أظهرت انفتاحا أكبر على المبادرة العربية ثبتت نفسها كطرف لا يمكن تجاهله. لكن سيقع عليها في هذه الحال عبء أكبر للسير بالثورة السورية وبالبلد إلى أوضاع أصلح أو أقبل للإصلاح. 
في كل حال، تبدو المبادرة العربية نقطة انعطاف مهمة في سير الأزمة السورية، ولا يبعد أن تدخل سورية في الأيام والأسابيع القادمة في وضع معقد كثير المجاهيل. 
انقضت سنوات طويلة لم يكن من السهل خلالها أن يكون المرء سوريا. وفي غير قليل من الحالات كان هذا شاقا كل المشقة. قد نكون اليوم مقبلين على طور أشد مشقة بعدُ ولعدد أكبر من السوريين. لكن أكثر من ذي قبل، لا مخرج اليوم غير مواجهة هذا الشرط وتغييره، والمجازفة بكل ما يتحتم أن يحمله ذلك من أخطاء ومخاطر وعدم يقين.