بين الحقيقة ونصفها

 

 
 سليم الحص

 رئيس وزراء لبنان الأسبق
لخليج الاماراتية ) : 6/7/2006 )


 


تعلّمنا من التجارب أن الحقيقة تعمّر، أما نصف الحقيقة فيدمّر.
الحياة السياسية في لبنان عليلة، والشاهد على ذلك هزال الممارسة الديمقراطية بمعناها الصحيح، حتى لا نقول انعدامها. وانعكس اعتلال الحياة السياسية اعتلالاً في الخطاب السياسي. فلا تواصل ولا حوار بنّاء بل مجرّد أصوات تتصادم عبر الأثير وعلى صفحات الجرائد. هناك من يتحدّث وليس من يصغي. ويدفع المجتمع الثمن من وحدة موقفه وقوة إرادته في تقرير المصير. فنحن من الذين يشعرون بأن المصير الوطني لا يقرره اللبنانيون بل هو يُكتب في عواصم الدول الكبرى وبعض الدول الإقليمية. لا شأن للحوار الوطني في تقرير المصير الوطني والكل يرى أن ما يسمى حواراً وطنياً ما هو إلا منبر لتبادل الأفكار والمواقف المسبقة. فلا سبيل للتفهّم أو التفاهم أو الإقناع أو الاقتناع. وأحياناً كثيرة يكون نصف الحقيقة أسوأ من الباطل.
كثيراً ما نسمع من بعض المراجع المحترمة أن سوريا خرجت من لبنان بجيشها ولكن بقيت لها فلول من حلفائها واستخباراتها. أن يكون لسوريا وسائر الأقطار العربية في لبنان حلفاء فهذا أمر طبيعي، وإلا فما معنى عروبة لبنان التي كرّسها اتفاق الطائف في الحديث عن انتماء لبنان وهويته العربيين؟ ثم أليس لدول عظمى وكبرى أصدقاء في لبنان؟ فلماذا تعتبر صداقة سوريا مأخذاً ولا تعتبر كذلك صداقة أمريكا وفرنسا؟
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستخبارات. قد يكون صحيحاً أن في لبنان فلولاً من الاستخبارات السورية، ولكن أليس في لبنان استخبارات أمريكية وفرنسية وعربية مختلفة لا بل حتى “إسرائيلية”؟ فلماذا نركّز على ذكر واحدة منها دون الأخرى، نحن في غنى عنهم جميعاً، فالاستخبارات في نظرنا هي الشرّ المطلق.
مشكلة لبنان في فقدان روح المواطنة، التي تجمع اللبنانيين على الولاء والوفاء للوطن الواحد، وفي طغيان الفئوية، المذهبية والطائفية، وهي جملة عصبيات تتصادم وتفرّق بين أبناء الشعب الواحد. يوم تسود روح المواطنة اللبنانية والعربية يستعيد لبنان حصانته في مواجهة كل التحدّيات الداخلية والخارجية وتعود العافية إلى الحياة العامة فيه وتنفتح آفاق الحرية والديمقراطية وسائر حقوق الإنسان، وكلها من القيم الحضارية التي يفتقر إليها لبنان في الوقت الحاضر. بعبارة موجزة، فإن حصانة لبنان هي في وحدة شعبه الوطنية، وهي مفتقدة.
وكثيراً ما يُقال نصف الحقيقة، وهو أسوأ من الباطل، في الحديث عن المقاومة. صحيح أن ليس بين اللبنانيين من يريد أن يبقى السلاح في يد فئة دون الأخرى. فهذا مدعاة للقلق وعدم الاستقرار. ولكن الصحيح أيضاً أن ليس بين اللبنانيين من يرضى بأن تبقى أرض لبنانية تحت الاحتلال ويتعرّض لبنان لاعتداءات شبه يومية على أجوائه ومياهه الإقليمية وأحياناً للقصف البري، ولا ننسى وجود مناضلين لبنانيين في السجون “الإسرائيلية”، فإذا كان من حق بعضنا أن يعترض أمام الدولة العظمى على وجود سلاح في يد المقاومة، فمن واجبه أيضاً أن يطالب الدولة العظمى بضمان حقوق لبنان في أرضه وكرامة إنسانه وحريته وهي، أي الدولة العظمى، معروفة بدعمها دولة العدوان دعماً أعمى مادّياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً على حساب الحقوق اللبنانية والعربية.
ومنطق نصف الحقيقة كثيراً ما يُعبّر عنه في الحديث عن حقوق الطوائف. ارتضينا التوافقية نظاماً لديمقراطيتنا، حيث الحكم للتوازنات الفئوية وليس للعدد. مع ذلك، نشاهد يومياً ما يشبه التمادي في الحديث عن أكثرية تصرّ على الاستئثار، ويبقى صراع الطوائف محتدماً وكل فئة تسعى إلى حسم الصراع لمصلحتها بمنطق الغالب والمغلوب، ولم نتعلّم بعد من تجارب الماضي القاسية والمتكررة أن هذا البلد لا حكم فيه إلا لحكم اللاغالب واللامغلوب.
ومنطق نصف الحقيقة وقعت فيه حتى المقاومة اللبنانية، إذ رفعت بحق شعار المقاومة للاحتلال وتناست أن ضحية الاحتلال ليست فئة بل هي لبنان بكل فئاته. لم يكن سلاح المقاومة ليشكّل مشكلة لولا أن المقاومة تتبنى الصفة الإسلامية، فتستبعد سائر الفئات. آن الأوان أن تُلبنن المقاومة مجدداً، ويكون ذلك ربما عبر ثلاثة سبل: إقامة رابطة ارتباط عليا بين قيادة المقاومة وقيادة الجيش اللبناني، إقامة مرجعية عليا مختلطة تواكب أداء المقاومة في متابعة رسالتها الوطنية ولو بصفة استشارية توجيهية، وفتح باب الانخراط في المقاومة في شكل أو آخر أمام كادرات وعناصر من سائر الفئات اللبنانية.
لبنان يواجه وضعاً عصيباً سياسياً ووطنياً ومعيشياً وحياتياً. والمخرج من هذا المأزق إنما يمرّ في طلب الحقيقة، وعدم الاكتفاء بنصف الحقيقة، وبالتالي إطلاق مبادرة إنقاذية شاملة تتبنّاها حكومة اتحاد وطني تجمع أطراف الحوار الوطني وربما سواهم.
وقد خرج الخطاب السياسي في الآونة الأخيرة عن حدود التهذيب السياسي في حالات معينة. وفي غياب التهذيب السياسي ماذا يبقى من قواعد العمل الوطني والسياسي