ثائر
دوري
تتحدث نكتة قديمة عن رجل متزوج من امرأة
بكماء سمع أن طبيباً قادر على معالجة البكم ، فحمل زوجته و ذهب إليه قائلاً :
-
دكتور هل تستطيع أن تجعل زوجتي تتكلم ؟
و بعد أن فحص الطبيب الزوجة أكد للزوج
أن المسألة بسيطة فكل ما يحتاجه الأمر هو مجرد عملية جراحية لا تستغرق سوى ربع ساعة
. و بالفعل نجحت العملية وبدأت الزوجة تتكلم لكن بدون توقف لا ليلا و لا نهاراً ،
لا صبحا و لا عشية ،تتكلم على الغداء و العشاء و الإفطار ،و حتى أثناء النوم !! لا
تتوقف حتى لالتقاط أنفاسها أو لتستمع لشخص يكلمها ، و كأنها تعوض عن سنين الصمت .
لم يعد الرجل يحتمل هذا الوضع فعاد إلى نفس الطبيب قائلاً :
- دكتور جئتك في
المرة الماضية طالبا منك أن تجعل زوجتي تتكلم . لكني لم أعد أحتمل كلامها فهي منذ
أن تكلمت لم تتوقف عن الكلام . و أريد منك أن تعيدها إلى وضعها السابق .
يحمل
مضمون هذه النكتة تشابهاً كبيراً مع الوضع الداخلي السوري ، فبعد صمت هو الخرس أو
أشد منه استمر عقوداً بفعل القمع و القبضة الأمنية تكلم الجميع دفعة واحدة و تابعوا
الكلام دون أي توقف ، فصار الجميع يتكلمون في وقت واحد دون أن يستمع أحد للآخر و
إذا حدث و استمع له فهو لا يفهم ما يسمع ، أو يفهمه بشكل خاطيء ، فإذ قلت له :
- سنذهب إلى البحر ؟
رد عليك بأنه يكره الصحراء و اتهمك بأنك من أنصار
التصحر . فبات الحوار السياسي أشبه بحوار الطرشان . فكل من لديه فكرة حبيسة في
داخله منذ عقود انطلق يتحدث عنها دون أن يتوقف ليلتقط نفسه أو ليقيس ردود أفعال
الآخرين على أفكاره ، و أهم من ذلك دون أن يختبر أفكاره في الواقع . فاختلطت الألسن
و اللهجات و صار الكلام يجر الكلام حتى غمرنا طوفان الكلام . و بالطبع لم يكن الحل
أن يرجع الزوج زوجته إلى الطبيب طالباً منه إسكاتها بل كان عليه احتمالها ريثما
ينتظم كلامها بعد أن تشعر أنها عوضت سنين الصمت . لكن السلطة السورية فضلت خيار
الزوج لأنه بدا لها سهلاً ، فعادت لمحاولة إسكات الناس قبل أن تكتشفت أنها لم تعد
تملك الأدوات اللازمة لذلك في ظل المتغيرات الدولية و التطورات التي طرأت على
العالم و أهم من كل ذلك تغير موقعها و تراجع وظيفتها في النظام الدولي .
كان
الرهان أن الحديث سينتظم بعد أن يشبع الناس رغبتهم بالكلام ، لكن الناس لم يشبعوا
من الكلام بل أضافوا، في مرحلة تالية ، إلى فوضى الكلام فوضى الأفكار ، فبتنا نسمع
أفكارا و أراء غريبة لا يمكن أن تدخل تحت أي تصنيف فلا منطق يحكمها و بالتالي لا
يمكن أن تجادلها أو ترد عليها ، كما يطلب منك بعض الديمقراطيين الجدد حين تعبر عن
امتعاضك مما تقرأ أو تسمع . فكل من خطرت له فكرة و هو متكأ على أريكته يسلي صيامه
أمام التلفزيون صار يطلقها دون أي تدقيق بمدى جديتها و مدى تلائم الواقع معها . لا
بل يعتبرها فتحاً لم يسبقه أحد إليه و أنه سيغير وجه الكون بالفكرة ، التي جاءته في
الظروف السابقة .....
ذات يوم كان مدرس الجغرافيا يشير إلى منابع نهر العاصي في الهرمل شمال سهل البقاع اللبناني على الخريطة ، ثم أشار بشكل عابر إلى نهر الليطاني
الذي ينبع من جنوب سهل البقاع . بانت المسافة بين منبعي النهرين ، العاصي و الليطاني ، قصيرة جداً مما شجع أحد الطلاب على أن يفكر بفكرة اعتبرها عبقرية ، فقام
و سأل أستاذ الجغرافيا بمنتهى الجدية :
- أستاذ لم لا يحفرون الأرض و يوصلون
بين منبعي النهرين
تجاهل الأستاذ السؤال و تابع شرح الدرس . لكن الطالب عاد
ملحاً بسؤاله. فصمت الأستاذ قليلاً و بانت عليه الحيرة .ثم سأل الطالب بدوره :
- و لم تريدهم أن يوصلوا بين منابع نهري الليطاني و العاصي ؟ ما الفائدة من ذلك
؟
لم يجب الطالب على سؤال الأستاذ لأنه لا يملك هدفاً لفكرته العبقرية . لكنه
اعتبر نفسه منتصراً على الأستاذ الذي لم يستطع الإجابة على سؤاله العبقري !!و ظل
يتحدث عن عجز الأستاذ عن الإجابة حتى رسب في امتحان البروفيه و غادر المدرسة ليعمل
في تصليح السيارات ( مكنسيان ) فينسى كل شيء عن العاصي و الليطاني .
إن كثيراً
من الأفكار السياسية التي نسمعها اليوم شبيهة بأفكار وصل العاصي بالليطاني تتجاهل
التاريخ و الجغرافيا و أهم من هذا أنه لا هدف لها سوى أنها أفكار خطرت بذهن صاحبها
في لحظة ملل فحسب أنه اخترق الحجاب و أن حل مشاكل سوريا إن لم يكن البشرية بات رهن
يديه .
و إذا كنتم بحاجة على أمثلة أحيلكم إلى أي موقع سياسي سوري على الأنترنت
و ستجدون عشرات الأفكار و كلها ذات طابع جدي لكنها كأفكار وصل العاصي بالليطاني .
منذ أسابيع لا تفارقني أغنية فيروز :
- لشو الحكي خلص الكلام ....
أعتقد
أننا أمام طوفان الكلام الفارغ هذا لا نملك إلا أن نصمت و نردد ، لشو الحكي خلص
الكلام .