مقالات العدد.................... المصدر: السفير

في <خيار السلام الاستراتيجي>...................  لؤي حسين

أعلى الصفحة

الانقلاب في الأولويات والتحالفات ....................  فهمي هويدي

 الحرب الأهلية: أعضاء بلا جسد1 ..............طارق الدليمي

الحرب الأهلية :أعضاء بلا جسد 2........طارق الدليمي

هل يصحّ دمج المقاومة بالجيش؟......ياسين سويد


في <خيار السلام الاستراتيجي>

 لؤي حسين

يصعب على المرء فهم موقف السلطة السياسية السورية في ما يتعلق بقضية الجولان، وبموضوع إسرائيل عموماً. وذلك ليس لاختلاف وتباين آراء ومواقف مسؤوليها تجاه هذه القضية، وليس لتقلب موقفها الرسمي بين تمجيد الحرب وبين القبول بالسلم، بل لعدم وجود تصور واضح وناجز عند أي من أطرافها أو مستوياتها عن الكيفية أو الطريقة أو الاستراتيجية التي تمكّنها من إنهاء حالة النزاع مع إسرائيل واستعادة الأراضي السورية المحتلة.
ومن الواضح أن خطاب السلطة لا يتطابق ولا يتناسب مع أدائها. فالخطاب، المتعدّد والمتقلب، الذي تعتمده السلطة الحالية ليس إلا انتقاء عشوائياً لعناوين كبيرة من أدبيات عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، مع عجز وإخفاق بيّنين في التمكن من متابعة أو حتى استلهام أداء السلطة السابقة في جانبه العملي. ف<خيار السلام الاستراتيجي> الذي أراده الأسد الأب عنواناً لطبيعة المواجهة مع إسرائيل، تطلب منه فعل الكثير، على جميع الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية وعلى جميع المستويات، لتكريسه. على الرغم من عدم انسجام مفرداته مع بعضها ومع واقع الحال.
وقد بدأ التأسيس ل<خيار السلام الاستراتيجي> بعد حرب 1973 وإعلان اتفاقية الهدنة. وكان بمثابة تعبير صريح لانتهاء مرحلة الحروب السورية ضد إسرائيل، واعتماد صراع المفاوضات بديلاً عن صراع السلاح. ولم تجد السلطة السورية السابقة طريقاً لتحقيق فوز في هذا الميدان الجديد، خصوصاً بعد خروج مصر من الحلبة العسكرية لهذا الصراع المستعصي، سوى بجعل دمشق ممرراً إجبارياً لأي خطوة سلام تريدها إسرائيل، أو المجتمع الدولي، في المنطقة. أي أنها سعت لأن تمتلك المقدرة على تعطيل مشاريع الآخرين طالما أن موازين القوى في تلك المرحلة لا تسمح لها بفرض خياراتها ومشاريعها. فاعتمدت لتحقيق هذا الخيار العمل على صعيدين متلازمين وتزامنين في الوقت نفسه، الأول: تعزيز وتثبيت دور سوريا، أو دور سلطتها، الإقليمي لتكون طرفاً رئيسياً ومقرراً على طاولة المفاوضات. وفي سبيل ذلك عملت على خلق مسار لبناني وضعته تحت إمرة المسار السوري. والثاني: عرقلة مباشرة للمسارات الأخرى التي يمكنها الاستقلال عن المسار السوري. وكان الأهم على هذا الصعيد هو المسار الفلسطيني. غير أن هذا التوجه ما كان يمكن للسلطة أن تسير فيه خطوة واحدة من دون الانفتاح على الخارج الإقليمي والدولي، والاعتراف بدوره الرئيسي في المسار العام للصراع العربي الإسرائيلي. وعدم الاكتفاء بالخطابات والتصريحات.
هذه اللوحة، وما تتضمّن من عوامل، تغيرت جذرياً ونهائياً مذ خسرت السلطة السورية الحالية الملعب اللبناني على أثر انسحابها منه. إذ استقل المسار اللبناني عن مسارها، وبدا هذا واضحاً في نشوب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وتأكد من خلال مسار الحرب حيث لم يكن للسلطة السورية أي دور حتى لو كان استشارياً، وأتم استقلاله بشكل نهائي بالقرار .1701 لكن بالإضافة إلى هذا، والأهم منه، أنها، وبسبب عدم مقدرتها على استيعاب انسحابها من لبنان وانفكاكه عنها، أوقعت نفسها بعزلة شبه تامة إقليمياً وعربياً، بل وضعت نفسها بخصومة خاسرة مع كل الأطراف المعنية والفاعلة في أوضاع المنطقة ومستقبلها.
هذا الواقع الجديد أسقط مقولة <السلام الاستراتيجي> من أن تكون خياراً بيد السلطة السورية. بل إنه أفقدها غالبية الخيارات، ولم يُبق لها إلا خيار اللاسلم. وهذا لا يعادل ولا يكافئ خيار الحرب، بل يترك لها، فقط، رفض الحلول السلمية المطروحة، أو التي يمكن أن تُطرح لاحقاً. خاصة بعد أن ثبتّت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان أن قراري الحرب والسلم مازالا بيد إسرائيل حصراً.
فامتلاك خيار السلم لا يشترط فقط امتلاك إمكانية اعتماد الحرب كخيار ثانٍ، بل يشترط أيضاً، وهذا هو الأهم، المقدرة على إلزام الخصم باللجوء للحل السلمي من خلال إفقاده إمكانية الفوز بالحرب. كذلك فإن خيار الحرب ليس مجرد القدرة على القيام بها، بل المقدرة على النصر أو الصمود بها، أي يرتبط خيار الحرب بالنتائج السياسية التي يمكن تحصيلها. وإلا لكان أي طرف في أي نزاع يمتلك خيار الحرب. فإن كانت الحرب تشترط ذلك لتكون خياراً، وألا تكون مجرد ضرب في المجهول والمغامرة أو مجرد رد فعل، فإن خيار السلم هو أعقد من ذلك ويتطلب جهوداً وقوى متعددة المستويات. ولهذا تُعتبر الحرب هي الخيار الأسهل، لكنها، بالتأكيد، لا تحقق غير الخراب والدمار في أغلب الأحيان. ويبقى أنه لا يمكن تحقيق السلم إن كان القبول به متأتياً من مجرد العجز عن الحرب أو الفوز بها. بل ربما يكون العكس هو الأكثر جدوى وصحة، أي حين يكون السلم خياراً في لحظة المقدرة على خوض الحرب. وبغير ذلك لن يكون هذا السلم أكثر من مجرد هدنة، وقد تكون طويلة الأمد أو غير محدودة. وأعتقد أن الحالة الصراعية القائمة الآن بين سوريا وإسرائيل تأتي ضمن هذا التصنيف. فحالة اللاحرب القائمة الآن بينهما ليست مستندة إلى رفض الطرفين لحل النزاع بينهما بالطرق الحربية، بل لشعور السلطة السورية بعجزها عن رد العدوان الإسرائيلي، المتمثل باحتلال أراض سورية، عن طريق الحرب، ولتقديرات القيادة الإسرائيلية أن الأراضي السورية التي تحتلها تكفيها في هذه الفترة لضمان أمن حدودها.
أما ما نسمعه من منابر السلطة السورية في هذه الآونة، بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، من دعوات تتناوب بين الحرب والسلم فهي لا تخرج عن الإطار الخطابي العاجز عن أن يجد له في الواقع ما يقترن به. فدعوات الحرب ليست أكثر من خطابات لفك الإحراج الذي وضعت السلطة نفسها فيه جراء انفلات مواقف مسؤوليها المؤيدين لاستمرار الحرب في لبنان (في حينها)، وإعلائهم لشأن العمل المسلح، وبهجتهم في سقوط <زيف> العملية السلمية التي بدت من خلال تصريحاتهم على أنها كانت مفروضة عليهم وليست خياراً تبنوه بمحض إرادتهم.هذا في مواضيع الحرب والسلم التي تغفل أن الجولان ليس مجرد ساحة حرب أو ملفاً للمقايضة، بل هو قبل كل شيء حق وملكية لكل الشعب السوري وليس للسلطة. ومن حق أصحابه على سلطتهم، وعلى معارضتهم أيضاً، أن يسمعوا أقوالاً، بل أن يروا أفعالاً، تبين لهم آليات واضحة ومفصلة وجادة لاستعادة أراضيهم المحتلة، غير تلك التي تلوم المحتل أو هيئة الأمم المتحدة التي لا تعيد لهم هذه الأراضي على طبق من فضة.
(?) كاتب وناشر سوري

أعلى الصفحة


 

الانقلاب في الأولويات والتحالفات

 فهمي هويدي

الأحداث التي تلاحقت في عالمنا العربي خلال الأسبوعين الأخيرين تتجاوز قدرة العقل على الاستيعاب، فضلا عن التصديق، الأمر الذي يصيب المرء بخليط من الدهشة والذهول، ويسرب إليه شعوراً قوياً بالجزع على الحاضر والخوف من المستقبل.
من كان يتصور مثلاً أن يأتي زمان تتراجع فيه قضية فلسطين في الخطاب الرسمي العربي، بحيث تغدو إيران هي الخطر الذي يهددنا لا إسرائيل؟ ومن كان يتصور أن يسهم العالم العربي في حصار فلسطين وتجويع شعبها، في حين يستنفر النظام العربي لإطلاق سراح أسير إسرائيلي وهو الذي سكت لسنوات طويلة على احتجاز إسرائيل لعشرة آلاف فلسطيني؟ ومن كان يتصور أن يسقط الصراع العربي الإسرائيلي من <الأجندة>، بحيث يستأثر بالضوء صراع قديم وسقيم بين السنّة والشيعة؟ ومن كان يتصور أن ينفجر الوضع في غزة بحيث يقتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً في النهار، ثم تأتي الغارات الإسرائيلية في الليل لقصف الجميع بلا استثناء؟ ومن كان يتصور أن تسيل دماء العراقيين أنهاراً كل يوم بحيث يتعرض أهله لما يشبه الإبادة ويتواصل مسلسل تآكل البلد وتقطيع أوصاله، في حين يقف العالم كله متفرجاً، والعالم العربي ذاهلاً ومبهوتاً؟ ومن كان يتصور أن يذهب رئيس العراق <المحرر>إلى الولايات المتحدة. ليطلب استمرار الاحتلال لعدة سنوات قادمة؟ ومن كان يتصور أن يترك العرب لبنان ويتخلوا عنه وهو يتعرض للعدوان والتدمير، لتطلق فيه بعد ذلك يد قوى الهيمنة لتعبث بمقدراته وترعى تفجيره من الداخل؟ ومن كان يتصور أن ينفضّ العرب من حول السودان بحيث يتركونه وحيداً وبلا ظهر في مقاومته جهود التدويل والتمزيق والتركيع التي تقودها الولايات المتحدة، منطلقة من دارفور؟ ومن كان يتصور أن ينتكس العالم العربي بحيث يخضع للوصاية الأميركية في بدايات القرن الواحد والعشرين، وهو الذي كافح طويلاً ودفع ثمناً باهظاً حتى تخلص من الوصاية البريطانية والفرنسية في القرن العشرين؟
عديدة هى الأسئلة التي تعبر عن مدى عبثية المشهد العربي. لكن ذلك كله في كفة، والتقارير التي ظهرت الأيام الأخيرة متعلقة بخلفيات المشهد في كفة أخرى.
في الثالث والرابع من شهر أكتوبر الحالي نشرت صحيفتا <الأخبار>اللبنانية، <والقدس العربي>اللندنية معلومات مثيرة حول الاتصالات التي قامت بها الولايات المتحدة في أعقاب الفشل الإسرائيلي في الحرب على لبنان.
أشارت تلك المعلومات الى أن الحيوية التي دبت في ذلك الشارع العربي خلال الاسابيع الخمسة التي استمر فيها العدوان الإسرائيلي على لبنان، أحدثت نقلة نوعية مهمة في الوجدان العام، حققت لأول مرة توازناً مع موقف الأنظمة العربية، ظل ضاغطاً عليها طول الوقت. وهو ما رصدته الأجهزة المختصة في الولايات المتحدة، الأمر الذي دفعها إلي إيفاد مسؤول كبير إلى المنطقة على وجه السرعة، زار الأردن قبل أن ينتقل إلى إسرائيل ويتوجه بعدها إلي ثلاث دول عربية أخرى. وكان هدف الزيارة هو الدعوة إلى احتواء الموقف في المنطقة بعد حرب لبنان، خصوصاً في الساحة الفلسطينية.
تم للبمعوث ما أراد، واتفق خلال جولته على عقد اجتماع سياسي أمني قبل سفر الرئيس محمود عباس إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث كان مقرراً أن يعقد عدة اجتماعات مع المسؤولين الأميركيين هناك. والرسالة التي نقلها المبعوث الأميركي في هذا الصدد أشارت بوضوح إلى أن ترتيب اجتماعات رئيس السلطة الفلسطينية في الولايات المتحدة مرهون بأمور عدة، أبرزها عدم تنفيذ الاتفاق مع حركة حماس على قيام حكومة الوحدة الوطنية، مع تجميد الملف حتى إشعار آخر، لأن هناك فرصة لتغيير الوضع برمته على مسرح المنطقة، بعد الذي حدث في لبنان، حيث أصبح الهدف هو إجهاض دور <محور الشر>الذي تقوده إيران وسوريا، ويشمل حزب الله وحركة حماس. ومما تسرب عن ذلك الاجتماع أن المبعوث الأميركي شدد على <ضرورة مبادرة النظام العربي الرسمي الذي تعدده غالبية سنية، للقيام بما يلزم من أجل منع تمدد قوى النفوذ الإيراني الذي يبدو أنه يتعاظم داخل العراق نفسه>.
وفقاً للترتيبات المتفق عليها، عقد الاجتماع المشار إليه في العقبة بالأردن، وحضره ممثلون عن الأجهزة الأمنية في أربع دول عربية، بينها دولتان خليجيتان، وشارك فيه الرئيس محمود عباس بصحبة مدير المخابرات الفلسطيني توفيق الطيراوي. وكان من بين حضوره رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت) يوفاك ديسكن. ومن أهم الامور التي نوقشت في الاجتماع ضرورة مواجهة التحالف الذي يجمع إيران وسوريا وحزب الله، عن طريق إحكام الحصار حول حزب الله. والتنسيق بين الدول المشاركة للتصدي <للإرهاب المتنامي>خصوصاً في الساحة الفلسطينية. وفي هذا الشق الأخير انصب الكلام على ضرورة إسقاط حكومة حماس. وكان البديل المطروح هو تشكيل حكومة طوارئ تتولي إدارة البلاد وفق القانون الفلسطيني لمدة ثلاثين يوماً، يتم خلالها ترتيب أمر الحكومة البديلة. وحين تحدث أبو مازن عن صعوبة إبعاد حماس بصورة نهائية، فإنه سمع كلاماً واضحاً خلاصته أن المجتمع الدولي لن يقبل تحت أي ظرف مفاوضة حماس إذا لم تعترف بإسرائيل. ونصح بعدم التمسك بوثيقة الأسرى، (التي لم تتحدث صراحة عن الاعتراف بإسرائيل) والعودة إلى برنامج منظمة التحرير، مع مطالبة حماس بالقبول بكل الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وبتأييد المبادرة العربية التي أعلنت في بيروت، والتي تقود إلى الاعتراف بورقة اللجنة الرباعية.
هذا الكلام نشر وجرى تداول معلوماته من خلال منابر إعلامية عدة، ولم يعقب عليه أحد، ولم ينف مضمونه أحد.
ثمة إشارات اخرى قادمة من إسرائيل تسلط أضواء أقوى على المشهد. ففي يوم الاربعاء 27/9 بثت الإذاعة الإسرائيلية العامة باللغة العبرية حديثاً للجنرال عامي ايالون، أحد قادة حزب العمال والمرشح لرئاسته (في السابق كان رئيساً لجهاز المخابرات الداخلية <الشاباك>) قال فيه ما نصه: <علينا أن نشرع على الفور في بذل كل الجهود الممكنة من أجل إقامة تحالف بين إسرائيل والدول المعتدلة في المنطقة. وتلك أهم العبر التي يتعين استخلاصها من تجربة الحرب الأخيرة ضد حزب الله>. ولم يكن الرجل وحيداً في إطلاق هذه الدعوة، لأن وزير الخارجية السابق سيلفان شالوم ردد الكلام نفسه في الليلة السابقة، أثناء حديث له إلى قناة التلفزيون العاشرة. وهي الفكرة ذاتها التي تحدث عنها القائم بأعمال رئيس الوزراء شمعون بيريز حين ذكر أن حسم المعركة في مواجهة حماس وحزب الله وإيران لا يمكن أن ينجح إلا بالتعاون مع الدولة <المعتدلة>في المنطقة.
أثار الانتباه في تصريحات الجنرال عامي ايالون قوله ان قادة الأنظمة العربية التي وصفها بالمعتدلة، يعتبرون أن تواصل المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ونجاح إيران في تطوير مشروعها النووي، يهدد الاستقرار في بلادهم، بنفس القدر من الخطر الذي يمثله ذلك على إسرائيل. وهذه الفكرة عبر عنها سيلفان شالوم حين قال انه أثناء توليه وزارة الخارجية عقد عدة لقاءات سرية وعلنية مع مسؤولين كبار في دول عربية لم يسمها، بعضها ليست لها علاقات مع إسرائيل. وفي وصفه لتلك اللقاءات قال: <لا يمكنكم أن تتصوروا حجم الضيق والضجر الذي تشعر به قيادات تلك الدول من تواصل المقاومة الفلسطينية ومن مجرد وجود حزب الله>.
استطراداً من هذه النقطة فإن الجنرال افرايم سنيه رئيس كتلة حزب العمل في البرلمان الإسرائيلي لفت الانتباه في مقابلة أجراها مع إذاعة الجيش الإسرائيلي (يوم 27/9) إلى أن للدول العربية مصلحة أكيدة تماماً مثل إسرائيل في عدم نجاح حركات المقاومة في فلسطين ولبنان في تحقيق إنجازات سياسية، لأن من شأن ذلك إحراج الأنظمة، ومنازعتها شرعيتها. وامتدح الطريقة التي تجري بها الانتخابات في تلك الدول قائلاً إنها لو كانت حرة ونزيهة لفازت الحركات الإسلامية التي تمثل تهديداً لتلك النظم ولإسرائيل أيضاً.
من الملاحظات المهمة في هذا الصدد أن وزير الحرب الصهيوني عمير بيريتس انضم إلى دعوات تعزيز موقف <المعتدلين>في العالم العربي والتحالف معهم. وكذلك الأمر مع كل من الوزيرين اسحق هوتزوع ومئير شطريت وغيرهما. لكن اللافت أن أصحاب هذه الدعوات يرفضون في الوقت نفسه تقديم أي تنازل يمكن أن يساعد أنظمة الحكم <المعتدلة>في العالم العربي على إقناع شعوبها بالتحالف مع إسرائيل والتعاون معها في مجال محاربة الحركات الإسلامية. وهو ما دفع الصحافي موتي كير شنباوم إلى توبيخ الوزير شالوم عندما كرر عبارة <يجب أن نعزز معسكر الاعتدال في العالم العربي>قائلاً: <هل تعتقد أن رفع شعار محاربة الإسلام الأصولي يمكن أن يقنع الجماهير العربية بابتلاع التحالف معنا؟>. من ناحية أخرى، فإن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي والرئيس السابق لجهاز <الشاباك>أشار في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إلى أن لمعظم الدول العربية المصلحة نفسها في عدم نجاح حكومة حماس، على اعتبار أن نجاحها يعني فتح المجال أمام عهد جديد في المنطقة، تتبوأ فيه الحكومات الإسلامية الحكم. ومثل سابقيه رفض ديختر تقديم تنازلات للأنظمة العربية من أجل دفعها للتحالف مع إسرائيل في الحرب ضد الحركات الإسلامية، قائلاً: <لماذا نقدم لهم التنازلات، فهم أصحاب مصلحة مثلنا في نجاح تلك الحرب>.
ماذا يعني ذلك كله؟
قبل الإجابة عن السؤال، أنبه إلى أن المعلومات والأفكار التي استعرضتها ترسم صورة للكيفية التي يفكر بها الآخرون. والأهداف التي يتطلعون إلى تحقيقها. وما يريده هؤلاء لا يعني بالضرورة أنه قدر مقطوع بوقوعه وقضاء لا سبيل إلى رده. لأن تنزيله على أرض الواقع مرهون بإرادة الأطراف العربية المعنية ومدى الممانعة المتوافرة لديها، وهي الممانعة التي تثار حولها أسئلة كثيرة، منذ اختبرت في موقفها من العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.
إن المطلوب والمستهدف الآن أميركياً وإسرائيلياً هو إحداث انقلاب في أولويات العالم العربي وتحالفاته. في ظل ذلك الانقلاب يهمش الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث تصبح قضية فلسطين شأناً داخلياً يتم التفاوض حوله وتسويته بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. أما <القضية المركزية>المطلوب إشغال العرب وإسرائيل معاً بها، فهي الخطر الذي تمثله إيران النووية، التي يرون أن نفوذها يتمدد في المنطقة. وتسعى في ذلك إلى تدعيم قوى التطرف الممثلة في حزب الله حماس، وغيرها من الحركات <الراديكالية>التي تهدد الأنظمة العربية بقدر ما تهدد إسرائيل.
ولأن إيران دولة شيعية، ولأن خطر الهلال الشيعي يلوح في الأفق على نحو حجب عن الأعين رؤية نجمة داود (!)، فلا سبيل إلى مواجهة <التحدي>إلا من خلال التحالف مع الدول السنية، شريطة أن تتوافر لها شروط <الاعتدال>. ومعيار الاعتدال هنا يقاس بمقدار <تعاون>كل دولة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. أي بمقدار انسلاخها من محيط الأمة وتخليها عن استحقاقات الانتماء العربي والإسلامي.
لا أستبعد أن تكون السيدة كوندليسا رايس في جولتها الأخيرة بالمنطقة قد وزعت على الأطراف المعنية أوراق الالتحاق بالحلف الجديد الاسرائيلي السني <المعتدل>صدق او لا تصدق!
(?) كاتب مصري

 اعلى الصفحة


 الحرب الأهلية: أعضاء بلا جسد (1)

 طارق الدليمي

<غالباً ما يقال ان الجغرافيا لا تتغير، ولكن الواقع يقول غير ذلك . فالجغرافيا تتغير وفي سرعة لا تقل عن سرعة تغير الافكار نفسها أو التغير في مجال التكنولوجيا، أو بتعبير آخر فإن معنى الظروف الجغرافية يتغير>. بومان .1948
يعتقد بيتر تيلور في كتابه <الجغرافية السياسية>أن هذا الرد المبكر، هو القاسي المتميز الذي تستحقه مجموعة المحافظين الجدد في واشنطن. فدعاة الحرب هؤلاء استعادوا حججاً جيوسياسية من أجل إسناد اندفاعاتهم الاستعمارية بعد الحرب الباردة ولتسويغ تنظيراتهم حول إعادة بناء الأمم، أي إعادة احتلال العالم والبدء من النقاط الاستراتيجية الملتهبة فيه وتحديداً أواسط آسيا والخليج العربي. بهذا المعنى التاريخي فإن إعادة احتلال أفغانستان والعراق، يشكل الخط التاريخي المعاصر والذي هو امتداد للخط الجيو سياسي في منتصف القرن الثامن عشر والذي استمر حتى سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. واللافت للانتباه الآن، أن معظم هؤلاء العناصر المحافظة بدأت بارتباك شديد، مع مكابرة جلفة، على ترديد رأيها الخاص حول احتمالات انفجار! الحرب الأهلية في العراق وعلاقاتها مع جيرانها أولاً والصراع الداخلي العراقي ثانياً. وهذا النمط من التكثيف الساذج لهؤلاء دليل فشلهم الذريع في رسم منظومة فكرية سياسية متكاملة حول قضية حرب احتلال العراق ومدى الإمكانيات المتاحة لإعادة بناء الدولة وإرساء المفاهيم الديموقراطية كما يتصورها هؤلاء أو زعموا ذلك في أطروحاتهم المتكررة. فما هي السبل لمواجهة ذلك على المستوى النظري! لا شك بأن مناقشة الحرب الأهلية بشكل تجريدي، بكونها مفهوماً اجتماعياً خاصاً يلحق الأذى لا بالمستوى الفعلي للمناقشة بقدر ما يساعد على غموض الصورة وإضفاء الطابع المدرسي المحض على الدراسة المباشرة، لا سيما إذا كانت على الصعيد التاريخي المقارن. من هنا أصبح عرض الآراء المختلفة ضرورياً للتحليل، ومهمة سياسية خاصة لتسليط الضوء على الجوانب المعقدة للصراع وجذوره التاريخية وآفاقة السياسية. لا يمكن الإقرار بمنهج الضليع علي الوردي في مداخلاته الخطيرة في تاريخ العراق المعاصر. ولكن أيضا ليس بمقدورنا غض النظر عن فتوحاته الخاصة في مضمار الدراسة والنقد الاجتماعي المباشر. ولا شك بأن دراسات العالم عبد الجليل الطاهر، ليست أقل أهمية من الوردي وإن كانت في بعض جوانبها أكثر منهجية ولديها الإمكانيات على الاستنتاج الدقيق من المسيرة السياسية الصعبة للعراق. ففي النظر الآن، إلى الأحداث القاسية الدامية، والمباشرة في البلاد، لا يمكن إلا الرجوع إلى تعريف المؤرخ ارنوجي ماير، بأن الحرب الأهلية هي الصراع المسلح البدائي القاسي والذي قلما يمكن رسم تحديدات إيديولوجية معينة له، وهو يعتمد على النزعة الانتقامية المتفجرة من قاع المجتمع. وفي ظروف ملموسة معينة لا يمكن معرفة اتجاهات الريح في مثل هذه الحروب الشائكة. لكن بافل باييف، المتخصص في مركز دراسات الحرب الأهلية، والتابع لمعهد أبحاث السلام العالمي في اوسلو، يقول ان تاريخ الحروب الأهلية يشير منذ البداية إلى أهمية الحسم العسكري، أي تحقيق النصر إلى جانب واحد وبطلان البديهية الفارغة بخصوص لا غالب ولا مغلوب!! لكن المؤرخ بول جونسون يستمد فيض أفكاره من الحروب الأوروبية في القرن التاسع عشر وذروتها الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين، ليؤكد أن <الحرب الأهلية>تحدث دائماً <داخل الأخوة الإنسانية>وبأنه من الصعب فرز <المحلي>عن الإقليمي والأخير عن <العالمي>خاصة في سياق تاريخي مفصلي. لكن المؤرخ الاميركي المتخصص بالحرب الأهلية، جيمس ماك فيرسون، يرد على ذلك بأنه نوع من النباح نحو الشجرة الخطأ! فالخصوصية المحلية التاريخية أهم بكثير من العوامل العالمية، والتقيد بالقوانين الجغرافية والسياسية أصبح بضاعة رائجة في ظل الفراغ الإيديولوجي المعاصر. يعتقد المؤرخ ايان لوستك من جامعة بنسلفانيا أن الحروب المحلية تشكل انعكاساً واضحا لأقرب محور إقليمي مرتبطة به. وفي حالة انتفاء ذلك، فإن الحرب المحلية تستهلك ذاتها، وعلى العموم تصل الى نتائج حاسمة قبل أن يندثر الجميع في بحار ظلمات التاريخ. وحين يناقش هؤلاء جميعاً محاور هذه الحرب، يعتمد معظمهم على نقطة ارتكاز أساسية: فقسم كبير، معظم المحافظين الجدد، يلجأ الى الأهمية الحاسمة للجغرافية السياسية. والقسم الثاني يعتمد على حيوية مادة تاريخية جغرافية تشكل الأساس الموضوعي للصراع على المستوى المحلي أو الصعيدين الإقليمي العالمي. وبالنسبة للعراق، يركز بول جونسون على عامل الموارد الطبيعية، النفط والماء، حيث يؤكد على دوريهما في تشكيل الحرب الأهلية والتقسيم والانفصال في البداية، ومن ثم فإن هذه الموارد الطبيعية ستستخدم لاحقاً للقضاء على الانفصال واسترجاع الوحدة الجغرافية للبلاد، تحت الحماية العربية العامة، وليست المظلة الاميركية أو الأطماع الاقليمية وفي مقدمتها الإيرانية. أما القسم الثالث فإن منطلقاته المباشرة هو في التركيز على المكونات الاثنية والمذهبية والدينية للبلاد وتأثيراتها الحاسمة في الصراع أو في الوصول إلى التسويات التاريخية المعروفة. ومن هؤلاء بيتر غالبرايث في كتابه، نهاية العراق، ومن خلال تجربته في البلقان وصراعاتها السياسية وحروبها الاثنية. ويعتبر حديث موسوليني في عام (1938) الضوء الأخضر للانجرار في مثل هذه الدوامات العرقية السياسية، حيث قال: إذا وجدت تشيكوسلوفاكيا وضعها في حالة رخوة، فذلك لأنها ليست تشيكوسلوفاكيا!! وإنما هي (تشيك المانيا بولونيا هنغاريا رومانيا سلوفاكيا)!! هكذا فإن الدول هذه مرشحة للتحول إلى كتل عديدة متنافرة ومتصارعة، يستثمرها السياسيون الانتهازيون ليخوضوا فيها حروباً عديدة من أجل مصالحهم الخاصة. والعراق حسب الادعاء هذا (غالبرايث) هو حالة نموذجية لمثل هذه الأمور. لكن هذا الخطأ المنهجي التاريخي هو أكذوبة، حيث دحضها الأستاذان (جيمس فيرون، ديفيد لاتين) في دراستهما الشهيرة في عام 2003 في جامعة ستانفورد. ناقش الخبيران في الدراسة (127) حالة من الحرب الأهلية بين أعوام 1945.1999 معظمها في آسيا وأفريقيا. وبالرغم من التنوع الطائفي والمذهبي والعرقي، فإن الدول التي يرتفع مستواها المعيشي ويزداد غناها، تقل فيها احتمالات الحرب الأهلية. وتزداد الاحتمالات في الدول الفقيرة أو المحاصرة اقتصاديا (العراق مثلاً). بل ان احتمالات الحرب الأهلية ترتفع في الدول المتجانسة اجتماعياً في حالة انهيارها الاقتصادي، أكثر من الدول الغنية ذات النسيج المختلط! ومن هذه الزاوية، فإن الانهيار السياسي والتشرذم الاقتصادي، والفساد الشامل في مثل هذه الدول الضعيفة أو السلطات السياسية المنخورة، ستكون عوامل حاسمة في تأجيج الصراعات وانفجار الحروب الأهلية. لكن هذه الأطروحة وجدت لها رداً من داخل منظموتها البيانية. فقد كتب الاقتصاديان بول كولير، انكي هوفلر في اوكسفورد، أن المجموعات الطائفية أو العرقية حين تشكل 4590 من المجتمع فمن المرجح أنها تسعى إلى الحرب الأهلية ما دامت مستبعدة من الدولة أو <السلطة السياسية>. لكن الخبير السياسي الإفريقي كراوفورد يونغ، رئيس الجامعة الوطنية سابقاً في زائير، يؤكد أن معظم حالات الحرب الأهلية التي انفجرت في أفريقيا، ما بعد عام ,1989 ليست لها علاقة مع الأديان أو الاثنيات، وإنما هي حصيلة الأخطاء العميقة (عشوائية أو متعمدة) في ترسيم الحدود ( الاستعمارية) بين الدول الأفريقية الناهضة، والميراث الدموي الذي رافق هذه العمليات المعقدة. وهو يعتقد أن معظم هذه المجموعات المسلحة لا تحتاج إلى الدعم الشعبي في استمرار حياتها السياسية والعسكرية وإنما إلى التموين المالي الخارجي وكذلك من خلال الصفقات التجارية والتعدينية وتهريب بعض المواد الاستراتيجية. وعليه فإنه يصر على أن الحروب الأهلية هذه لا تحدث فجأة كهذه، وإنما هي تصنع بمعظمها وفي سياق تاريخي ينسجم مع العولمة واتجاهاتها السياسية والعسكرية الممتدة. لكن هناك مغالطات ملموسة في التعامل <الشاذ>مع القسم المحدد بخصوص إقامة العلاقة المباشرة بين الجغرافية السياسية للبلاد وبين احتمالات، أو حصول الحرب الأهلية. فالنقد الخاص لهذه المنظومة السياسية يتلخص:
1 إن الصراعات الحادة المسلحة التي يشهدها العراق، هي النتاج المباشر للحصار الطويل الأمد، أكثر من عقد، وللحرب الدائمة، مناطق الحظر والقصف المستمر، وصولاً إلى الحرب الشاملة وما رافقها من تدمير منهجي للبنية التحتية للبلاد، وبعدها الاحتلال وما نفذه من تفاصيل التدمير والتي كانت من أبرز عناوينها تحطيم الدولة وبعثرة الجيش والإجهاز على كل المنظمات السياسية والاجتماعية في البلاد. والولايات المتحدة ما زالت لحد الآن مصرة على <البقاء في الوضع الداخلي>وبالتفاصيل وتستند في نظرياتها على <قواعد بناء الدول الأمم>ومن أجل تحقيق دولة عراقية جديدة تدور في فلكها السياسي الاقتصادي.
2 إن هذا الجيشان الذي يحدث في العراق والمحيط الإقليمي، ليس إلا بسبب التدخل الاميركي الخارجي في المنطقة وتفاصيل الوضع الخاص للدول. فهذا الصراع على الموارد النفطية مضافاً إلى الفوز بالطريق الاستراتيجي، يحول الحروب الخارجية منطقيا إلى سلسلة من الحروب الداخلية، تتخذ في البداية شكل الحروب الدينية، وفي حالة تصاعدها يمكنها أن تتحول إلى حرب أهلية شاملة. وتوجد فرصا عديدة وبعد ذلك بأن تتخطى هذه الحروب <الحدود>الجغرافية المعروفة للبلدان، وتعبر <التخوم>إلى كل المحيط الذي يشكل من جهة المجال الحيوي للآخر ومن الجهة الأخرى مخزناً جاهزاً للمواد التاريخية المشتعلة. وعليه فإن هذا الصراع المتقلب، سيأخذ مداه الخاص أيضا في النماذج المتعددة في اللغات الاصطلاحية المختلفة. وتستفيد أميركا من هذا <اللغو>المرتبك في إضفاء طابع الغموض، ومحتواه الكاذب الرخيص، في التغطية على طبيعة الصراع ومتطلباته المباشرة. لذلك فإن الإصرار العنيد عل قطع كل جسور الحوار واعتماد أساليب التأديب الحادة وذروتها في التعديات العسكرية المنفلتة: القصف المدمر المنهجي والابادة الجماعية وإلغاء كل الفرص في الدبلوماسية السياسية وانخراط المجموعات الدولية في هذا الخضم، يؤسس باستمرار التربة الملائمة لاستيقاظ الخلايا النائمة للصراع التاريخي. فالولايات المتحدة عند استعمالها القوة المسلحة تشير إلى اهتمامها الخاص والفعلي بشكل الحكومة التي تبغيها (الديموقراطية الاميركية الخاصة!!) وبفحواها الاقتصادي السياسي (الارتباط مع السوق الاميركية واستثمار الشركات العملاقة ونهب المادة التاريخية للطاقة) وهي إذ تردد ليل نهار بأن مهمتها التاريخية في <الثورة الديموقراطية العالمية>فقط الإطاحة بالحكومات <المستبدة>وجلب <الحريات والانتخابات>الى هذه الشعوب فإنها تؤكد بسذاجة مضحكة أنها <فاعل خير>عالمي ولكن من نمط جديد، مصرّ على تحقيق أهدافه في ( السوق الحرة + الديمقراطية) عملياً السوق فقط، إذا لم تحقق الديموقراطية ومن الناحية العملية الوصول إلى الحالة الاستراتيجية المطلوبة، التشرذم الشامل تحت مظلة اللا استقرار السياسي والاجتماعي. إن أميركا في محاولاتها العنفية المطبقة تعمل بالتفاصيل على تحطيم <النظام المدني العام>في المنطقة ودولها وتعرقل فعليا إمكانيات نضوج كل الشروط الملائمة لنهوض حكم القانون الفعلي المستند على قواعد تاريخية ثابتة ومجربة. ما تريده أميركا هو تحطيم الكيانات القائمة وتحويلها إلى أعضاء بدون جسد.
(?) سياسي وكاتب عراقي

 

أعلى الصفحة


 

الحرب الأهلية: أعضاء بلا جسد (2)

طارق الدليمي

<في المفاصل التاريخية عليك أن تضع أيمانك بالله، وأن تحافظ على مسحوق بارودك جافاً>
كريستوفر هيل في الحرب الأهلية الإنكليزية
يكرّر كريستوفر هيل في دراسته المعمقة حول الثورة الإنكليزية بقيادة اوليفر كرومويل، وهي الحرب الأهلية فعلياً، على أن التركيز بشكل مكثف وأكثر من اللازم على فترة زمنية معينة قد تقود إلى فقدان القدرة على الحصول على آفاق معينة في التحليل والاستنتاج العملي.
فالأحداث مرسومة عموماً ومقررة عن طريق الصدفة أو بفعل الشخصيات التاريخية، وعليه فمن الأهمية الابتعاد بشكل واضح عن الأشجار لرؤية الغابة كلها! وهذا ما يحدث الآن في العراق. فالكل، وفي مقدمتهم الاحتلال الأجنبي، يكررون باستمرار مسألة آثار النظام السابق وكيف يقعد كالقرد على أكتافهم جميعاً. وإذا كان لا بد من الحديث عن آلية الحرب الأهلية حالياً، فلا بد من اللجوء تواً إلى العوامل الحاسمة خارج إطار هذا اللغو الفارغ بخصوص مسألة النظام السابق أو مفاعيله السياسية الباقية أو المتراكمة. إن هذه القضية بحاجة إلى دراسة مستفيضة، سنحاول جهد الأمكان تجاوزها حالياً لمناقشة المسائل المباشرة والتي بدورها ستمدّنا بالكثير من المواد المهمة والتي يمكن من خلالها تسليط الضوء على اللوحة التاريخية السابقة. ستكون طريقتنا معاكسة للمألوف والتي هي بلا شك مهمة وجازمة لا سيما إذا كررنا القول نفسه الذي يوده دائماً كريستوفر هيل: يجب التركيز والنظر على التربة أحياناً!! أكثر من البذرة والمحراث! لذلك فنحن نعتقد بأن الانتخابات الأخيرة، أواخر العام 2005 هي الحاسمة في اقتفاء آثار الحرب الأهلية الشاملة. لأن الصراع قد وصل، مع الحرب والمقاومة، إلى النقاط الحرجة التي تستوعب جميع عوامل الاندماج والاقصاء في المجتمع العراقي المباشر. ولا جدال بأن هذا التجريد الأول لا يكتب له النجاج، مؤقتاً، إذا لم يرافقه تجريد آخر، يساهم في صنع قراءة موضوعية متكاملة للأحداث الجارية. إنه العامل الكردي، الكاتاليستي، الذي هو مساعد وثانوي، يدخل في التفاعلات، ولا يتأثر عملياً أو يؤثر فيها. ولعل السلوك الاحتلالي مع هذا العامل يعيننا جيداً في فهم دوره التخريبي المركزي، وما حكاية العلم الذي يرفض البارزاني رفعه الا قصة سافلة، عرف الأميركان كيف يعالجوها برقاعة حين غطوها فعلياً ورتبوا اجتماعاً مركزياً حاسماً في وضع البشمركة والقوات المسلحة في الشمال (ومنها القوات الاميركية طبعاً وفي المقدمة) بكونها هي المسؤولة الأولى عن حماية المنطقة الشمالية أمنياً وعسكرياً (صفحة اصدارات طريق الشعب حميد زنكنه 19/9). وهذه الإجراءات تتناسب مع التصريحات المتعددة للمندوب السامي الاميركي خليل زاد وشهادته الأخيرة أمام الكونغرس. فالرجل في قمة الصراع <البرلماني> الرخيص حول المشروع المطروح من قبل عبد العزيز الحكيم بخصوص إقليم الوسط و الجنوب الفدرالي، يؤكد أهمية الفدرالية في العراق. علماً بأن موقع إصدارات حميد زنكنه قد نشر خبراً مهماً في 12/9 السابق يؤكد فيه بأن جريدة كيهان الإيرانية ذكرت بأن رئيس مجلس الشورى الإيراني قال بوضوح بأن إيران تدعو العراقيين إلى اعتماد الفدرالية بسرعة في البرلمان. وعليه فإن كرونولوجيا الأحداث منذ نهاية العام الفائت تسلط الضوء على النقاط التالية: 1 لقد توصل الأطراف الثلاثة الاحتلال، الطوائفية السنية، الطوائفية الشيعية المرتبطة مع إيران، إلى مقايضة رخيصة تمّ تتويجها بالوزارة المالكية الهجينة. 2 أن تتوصل الطوائفية السنية إلى إمكانية احتواء المقاومة المسلحة وفي عدم حدوث ذلك فإن الاحتواء العسكري المباشر يطرح نفسه. 3 أن تحرص إيران على استيعاب الانحدار الطوائفي المنفلت في الشارع والتي تصعده بعض القوى التي تنمو تحت إبطيها، وإلا فإن الحرب الشيعية الداخلية ستكون هي السائدة وتحديداً في البصرة. 4 إذا لم يتمكن الاحتلال من تنشيط الفعاليات اليومية <للعملية السياسية>، فلا يمكن السكوت عن مضاعفات ذلك، وأن الأيام المقبلة، هكذا هدد خليل زاد، ستكون هي الحاسمة، وتحديداً في نوع الأساليب التي يمكن اللجوء إليها لتقويم اعوجاج نتائج الانتخابات الأخيرة. 5 حاولت قوى الاحتلال والحكومة العميلة، التلويح بمسارات جديدة على صعيد المقاومة المسلحة، حين أعلنت موت الزرقاوي ونهاية عهد معين من العنف الإرهابي المعادي للجميع. وجاء هذا متوازياً مع تغيير وزاري لمصلحة وزير دفاع سني مسلكي متعاون منذ القدم مع الأجهزة الأجنبية. وترافق ذلك مع خطاب إيراني مرن يعلن بأن طهران تفكر دائماً بالعراق بكونه وسيطاً جغرافياً سياسياً من اجل الوصول إلى صفقة شاملة مع الاميركان. ولم يوافق الاميركان على جزء يتيم واحد من الصفقة. فتصفية الزرقاوي السني لا بد أن يتساوق معه تصفية أكثر من زرقاوي شيعي حسب الادعاءات المباشرة لإعلام البنتاغون. وبات من الواضح أن الاحتلال يركز على كوادر جيش المهدي وقيادات الحزب الصدري بالرغم من الصراعات الداخلية المتسربة في داخل هاتين المؤسستين. لكن هذه العملية تبدو صعبة جداً والمالكي غير مؤهل لإتمامها. كان الحل السهل (شفرة اوكهام) هو فسح المجال أمام الصراع المسلح الاقتصادي بين مختلف الفصائل الساعية إلى السيطرة على تهريب النفط لكي يأخذ مجراه الطبيعي. من هنا وفي خضم هذه الانفلاتات الدامية تمت المعرفة الكلية للعديد من المشاريع <الشيعية> المختلفة والمطروحة على مسرح الأحداث من البصرة إلى النجف وإلى بغداد. فما بين الإقليم الحكيمي وفدرالية الجنوب الثلاثية الخاصة برز الرفض الشعبي الشيعي العارم مما اضطر المرجعية إلى التعليق على ذلك باحتجاج بارد وغموض سياسي متردّد. والقضية الجوهرية التي عرفتها الأطراف الأخرى، ومنهم التيار الشيعي العروبي الوطني، بأن كتلة الائتلاف الشيعية: 1 قد تصدّعت نهائياً. 2 إن القطب الأساسي للكتلة، الحكيم، قد حسم خياره السياسي في عدم قدرته الاستيلاء على <الدولة>، وأن مهمة السيطرة على <السلطة السياسية> هي الواجبة الآن وبالذات في الوسط والجنوب، انتظاراً إلى أن يتم تحقيق الفدرالية التي طرح مشروعها. 3 أن المرجعية أدارت ظهرها للجميع وطالبت منهم عدم السفر إلى الخارج والانصراف إلى تمشية معاملات المواطنين!! 4 أن الطرف الإيراني في الصراع لم تعد لديه قوة حاسمة على الأرض يعتمد عليها في إدارة الأمور مع الاحتلال الاميركي، فلجأ إلى تصعيد الممارسات الطوائفية وتأجيج الشارع أمام الطوائفية السنية الاحتلالية. كل ذلك قد رافق التصعيد العسكري الصهيوني الاميركي الإجرامي على لبنان ومقاومته الباسلة، علماً بأن المقاومة الوطنية المسلحة العراقية قد صعدت أيضاً من عملياتها وأكثر من 60? في بعض المناطق، ضد الاحتلال الاميركي، وبأن كتائب ثورة العشرين تحديداً قد أهدت الكثير من عملياتها إلى المقاومة اللبنانية الشرعية.
5 الإعلان الواضح للمالكية الفاشلة عن تخليها عن مسألة نزع سلاح الميليشيات. 6 الورطة الجديدة التي توحّلت فيها الوزارة حين بدأت تتسلم الأمن الدفاعي في بعض المحافظات، مما عرضها إلى شماتة قوات الاحتلال وزيادة مأزقها السياسي الأمني. 7 زيادة القوات العسكرية الاميركية إلى أكثر من 160 ألف عسكري حالياً، مع بعض القوات الخاصة 8 الفشل الذر يع في تحقيق النصر العسكري السياسي المرتقب في خطة بغداد الشهيرة والتي أدت إلى فضيحة خاصة حين هربت من العمل العسكري عشرات الكتائب من الجيش والشرطة، وانهيار الحالة إلى الحضيض مع ما واكب ذلك من قتل يومي عشوائي ومدبر، حيث علق على ذلك أمام جامع المنطقة الخضراء، الشيخ فاضل والذي يرتدي ملابس راهبة معمدانية: بأن الشيعي يواجه ربه بلا رأس والسني مثقوباً بآلات الحفر المعروفة. وقد ذكر محقق الأمم المتحدة الخاص في التعذيب مانفرد نوفاك ذلك بالتفصيل وعلناً. 9 الانقسام الحاد في صفوف الطوائفية السنية، وفشلها الشعبي في حماية الناس أمام مخاطر الإبادة والتهجير والاجتياحات، 10 تخبط الدول الإقليمية في سياستها وفشلها في مواجهة تزايد الضغط الإيراني في العمق العراقي، وعبر ذلك من خلال السلوكات الهوجاء لبعضها، وتحديداً الحكم الأردني، في تلويحه لبعض الأوساط العشائرية العراقية بأن اعلان النية بالانفصال سيكون الرد الحاسم على الضغط الإيراني. بعد إن سكتت مدافع العدوان على لبنان، وبان الضعف المنهجي، سياسياً عسكرياً لقوى إيران الداخلية العراقية. أصبح البديل الوحيد أمام هذه القوى أحد احتمالين 1 زيادة الاعتماد على التمويل السياسي والعسكري الإيراني. 2 الرجوع مرة ثانية وبشكل صاغر إلى التفاهم مع الاحتلال الاميركي. إن زيادة عادل عبد المهدي، تصبّ في هذه الخانة الى كل من أميركا والسعودية. لا سيما وأن المشروع الفدرالي الحكيمي يعتمد في جوهره السياسي على العنصر النفطي الاستراتيجي. فالمنطقة التي لم تتحمل السيطرة العراقية على نفط الكويت، كيف يمكن لها أن تسكت عن السيطرة الإيرانية على ثلثي نفط العراق الاحتياطي الأول في المخزون الاستراتيجي للطاقة العالمية. وهذا ما يشير بوضوح أيضاً إلى أن كلاً من الطرفين لا يستطيع القتال على جبهتين في آن واحد، الجبهة الإيرانية الاميركية، وجبهة القتال المتواصلة مع المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، طرحت قوات الصدر مؤخراً شعار النضال السلمي وبأن القوات الاميركية لديها ملف كامل عن المهدي المنتظر <ما عدا الصورة> جريدة الزمان 23 أيلول الماضي. إن هذه التناقضات المندرجة في أرض الصراع ليست غير مفهومة، مادامت هي تعكس التناقض العام الذي يعيشه الوطن ضمن الاحتلالات المتعددة، الانجلوسكونية من جهة، والتغلغل الإيراني العسكري والسياسي والاقتصادي من جهة أخرى. إن السياسة المتناقضة بين طرفي الوجود الأجنبي وعلاقة ذلك بالسياق الاستراتيجي للمنطقة هو الذي يعقد التحليل من طرف ويزيد في عجز القوى الوطنية المعادية للاحتلال، لا سيما في الحقل السياسي وأهمية بناء وحدة وطنية عريضة وعميقة في خطابها السياسي وقاعدتها الجماهيرية الوطنية، من نمط الميثاق الوطني الذي طرحه آية الله حسين المؤيد. تبدو هذه الأطراف بعيدة عن تلبية الواقع المتحرك بحدة وتكتفي بالفعاليات العسكرية بدون تنظيم شعبي وطني واضح يسند هذا العمل المقاوم ويشقّ الطريق أمام نجاحات جديدة. وفي هذا الإطار، يمكن القول بالاستناد إلى السياق المعلوماتي التحليلي إلى أن طرفي الصراع في الكوندومينيوم الدموي، يحضران للمعارك القادمة بالشكل الميداني المباشر: الأول: الطرف الإيراني، 1 ضخ الأموال الكثيفة في المناطق المتاحة كافة، حتى بغداد، وذلك لتصليد جبهة سياسية مساندة لها ضد الاحتمالات المفتوحة في المعارك القادمة. 2 تسليح وتدريب الألوف من مختلف القوى، أكثر من 11 ألف مجند لمجموعة الحكيم في منطقة كرمنشاه تحت التدريب الخاص، التي لديها الاستعداد للمشاركة في المعارك المقبلة.
3 الضغط على الحكومة، وتحديداً من خلال المعابر المالية (باقرصولاغ) والنفطية (الشهرستاني نسيب المرجعية!)، وذلك لابتزاز برنامج النهب المنظم الذي يمارسه الاحتلال الاميركي والساعي إلى تقييد العراق باتفاقيات (المشاركة) الجديدة مع العشرات من شركات النفط العملاقة، وتحديداً المرتبطة مع كارتل كارليل تشيني بوش رايس.
4 فتح جسور مع الطوائفية السنية ونجاحها المحدود مع البعض وفشلها مع معظم المكونات لأسباب عديدة، أهمها العوامل الاميركية الإقليمية المانعة. الثاني: الطرف الاميركي، حيث يسعى إلى: 1 زيادة فعالياته العسكرية ضد كل القوى الإرهابية <السنية والشيعية>، حسب تعبير بوش نفسه. 2 الضغط المتواصل على حكومة المالكي وانتظار انتهاء المدة المحدودة، إلى ما بعد رمضان لتقرير ما يمكن اتخاذه من استعدادات خاصة في الحقلين السياسي والعسكري. 3 الاعتماد على وجهة نظر مباشرة من قبل مجموعة جيمس بيكر <الحزبية الثنائية> من أجل المساعدة في فهم عوامل الصراع القائمة وآلياته المختلفة. علماً بأن مايكل ابراموفيتز في 17/,9 (واشنطن بوست) قد قال نقلاً عن بيكر بأن على بوش أن يحدّق في عيني ويقول لي: ماذا يريد من العراق؟!
4 رافق ذلك تصريح مهم لمستشار رايس السياسي اللعوب فيليب زيكلوب، بأن أحداث العراق والتقدم السياسي في المنطقة مرتبط مع نوايا إيران في التخصيب مداخلة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وفي هذه الأجواء نشر المحلل السياسي الإيراني، عباس بختياري في دراسته <الحرب الهجينة>، تفاصيل الخطة والسيناريو المعدّ للحرب على إيران، ازدياد فعاليات القوى المعارضة، سفر مجموعات عربستان إلى الولايات المتحدة للتنسيق، تفجير عسكري في مناطق شمالي غرب إيران من الأكراد أو الآذريين مع تفاقم الحالة في بلوشستان الإيرانية. وكذلك المقالة المفصلة التي كتبها العسكري الطيار سام غاردنر وتشير إلى تفاصيل العمليات العسكرية الاميركية الخاصة في العمق الإيراني!! 5 اللعب الاحتلالية بخصوص التهديد بالحرب الأهلية وبكونها البديل الموضوعي عن الفدراليات الطوائفية او طرح البقاء الدائم كنموذج حي للعلاقة بين الشعوب!! في حالة موافقة المؤسسات الدستورية على ذلك في البلاد، تصريحات طالباني المشينة، وإلا فإن الأطراف الأخرى التي تهدّد بالانفصال النفطي تريد إحداث زلزال للطاقة في المنطقة لا يمكن أن تتحمله البنى السياسية الموجودة هناك. فحين تصطدم الخيارات المتعارضة تتعرض القوى المادية إلى امتحانات عديدة قاسية وفي مقدمتها الاحتمال العسكري المفتوح. فأمام البدائل الوحيدة للإدارة الاميركية، أي البقاء الدائم، ستكون مدافع نافارون الإيرانية هي الجاهزة لتحكم سيطرتها على مجرى حقول النفط الخليجية برمّتها؟ وفي ظل غياب المشروع العربي الوطني ستكون المعارك القادمة مختزلة فقط أمام مشروع أميركي صهيوني واضح ومشروع إمبراطوري إيراني قديم وملتبس.
(?) سياسي وكاتب عراقي

 

 

أعلى الصفحة


 

 هل يصحّ دمج المقاومة بالجيش؟

ياسين سويد

يكثر الحديث، في هذه الآونة، عن دمج المقاومة بالجيش، بينما يجهل المتحدثون، وغالبيتهم من السياسيين، عمل كل منهما، استراتيجياً وتكتياً، الا ان قصدهم معلوم وواضح، وهو: إلغاء المقاومة كلياً، والإبقاء على الجيش، وحده، للدفاع عن الوطن. وسوف نعالج هذا الموضوع، من ناحية علمية عسكرية، ومن دون ممالأة او محاباة لأي من الجيش او المقاومة، بل لإبراز الفارق بينهما، استراتيجياً وتكتياً (عملانياً).
وفي مقارنة موجزة بين جيشي البلدين (إسرائيل ولبنان) مستمدة من احدث الاحصاءات (نشرة الميزان العسكري Military Balance لعام 2005 2006) يتبين ما يلي:
1 اسرائيل: تمتلك اسرائيل جيشاً يعتبر من أقوى جيوش منطقة الشرق الأوسط عديداً وعدة وعتاداً، وهو مدعوم ومعزز من قوة خارجية كبرى (الولايات المتحدة الاميركية) تمده بكل ما يحتاجه للحفاظ على قوته، بل وتأمين تفوقه.
ويكاد يبلغ عديد هذا الجيش، عند الاستنفار العام، الستمئة الف مقاتل، من الرجال والنساء، في الجيش النظامي وفي الاحتياط، موزعين في تشكيلات قتالية من فرق المدرعات والمشاة والمظليين والمدفعية الميدانية، والمدفعية المضادة للطائرات، ومن الصواريخ المتعددة والمختلفة الاحجام والعيارات، بما فيها الصواريخ الاستراتيجية.
والجيش الإسرائيلي مجهز بالاسلحة البرية والبحرية والجوية بشكل يجعله متفوقاً على الجيوش العربية كافة، فهو يمتلك سلاحاً بحرياً يشغل قواعد في حيفا وأشدود وايلات، ويتضمن غواصات ومراكب بحرية وخافرات سواحل ومراكب إنزال، وطوافات (هليكوبتر) بحرية وفرقة كومندوس بحري.
ويعتبر سلاح الجو الاسرائيلي اقوى اسلحة العدو وأكثرها حداثة، وقد اعتمدت اسرائيل على هذا السلاح في معظم حروبها مع العرب، الى درجة يصح معها القول ان اسرائيل مدينة، في انتصاراتها، لهذا السلاح، فهي تمتلك اكثر من 400 طائرة قاذفة ومقاتلة وقاذفة مقاتلة، كما تمتلك طائرات استطلاع وانذار مبكر وطائرات حرب الكترونية، وطائرات استكشاف بحري وطائرات تموين وقود في الجو، وطائرات استطلاع بدون طيار، وسلاح طوافات <هليكوبتر> من مختلف الأنواع.

وتمتلك اسرائيل سلاحا استراتيجيا هو كناية عن مئتي رأس نووي، وصواريخ لرمي هذه الرؤوس: اريحا ,1 وتبلغ مسافة رميها ال 500 كلم، واريحا ,2 وتبلغ مسافة رميها من 1500 حتى 2000 كلم.
وقد بلغت ميزانية الدفاع الاسرائيلية للعام 2005: 7 مليارات و870 مليون دولار اميركي، يضاف اليها مساعدات عسكرية خارجية (من الولايات المتحدة الاميركية) بلغت 2 مليار و200 مليون دولار اميركي، فيكون مجموع ميزانية الدفاع الاسرائيلية لعام 2005 ما يزيد على عشرة مليارات دولار اميركي.
ويجب ان لا يغرب عن بالنا ان هذه الترسانة العسكرية الضخمة في اسرائيل لا تفتأ تتزود، عند الحاجة، وعند ضرورات القتال، بكل انواع السلاح الغربي، الاميركي خصوصا، وبأحدث تلك الأنواع.
2 لبنان: كان الجيش اللبناني، قبل الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 واستمرت حتى اتفاق الطائف عام ,1989 يختزن قوة معنوية عالية، ويمتلك، من السلاح والاعتدة الحربية، ما أتاح له مقارعة الجيش الاسرائيلي في معارك عديدة، لردّ اعتداءاته المتكررة، وخصوصاً في اعوام 1948 (المالكية) ومعركة العرقوب الأولى (في أيار عام 1970) ومعركة العرقوب الثانية (في شباط عام 1972) ومعركة القطاع الاوسط في الجنوب (ايلول 1972)، الا ان الحرب الاهلية في لبنان جعلت الجيش ينقسم على نفسه فيتقاتل إخوة السلاح والدم بسلاحهم نفسه، حتى فني السلاح، واستعادت أخوة السلاح رونقها وصفاءها، بعد درس أليم يجب ان لا ينسى، الا ان الجيش لم يستعد قدراته بعد.
ويمتلك لبنان، اليوم، وفقا لإحصاءات النشرة نفسها (عام 2005 2006)، جيشاً من 72 ألف مقاتل، (بمن فيهم مجندو خدمة العلم) يتشكلون في ألوية من المشاة وأفواج من باقي الاسلحة، من المدرعات ومركبات الاستطلاع وناقلات الجند، ومن المدافع من مختلف العيارات، ومن قاذفات الصواريخ، مع عدد من الصواريخ ضد المدرعات والطائرات، مع اسطول بحري في قاعدتين (بيروت وجونية) يمتلك خافرات سواحل ومركبات انزال للدبابات، كما يمتلك لبنان بعض الطائرات المقاتلة وطائرات التدريب وطائرات الهليكوبتر.
وقد بلغت ميزانية الدفاع اللبنانية عام 2005: 530 مليون دولار. دون أية مساعدات خارجية على غرار إسرائيل.
والذي يجعل الأسى والألم يعتمل في نفس كل لبناني هو انه، اذا ما نشبت الحرب بين لبنان واسرائيل، لأي سبب كان، وسواء كان ذلك بسبب تعد اسرائيلي غير مبرر، أو تحرش لبناني غير مبرر، فإن أية دولة (ونشدد على القول: أية دولة) عربية شقيقة او أجنبية صديقة، لن تقدم العون والمساندة للبنان في هذه الحرب، وقد جرّب لبنان ذلك في حربه الأخيرة مع اسرائيل.
واذا كانت الاستراتيجية العسكرية تعني <استخدام القوى العسكرية لتحقيق الاهداف السياسية> كما قدمنا، فان هذه الأهداف، لدى اية دولة، تعظم وتصغر بعظم القوة العسكرية لهذه الدولة، وصغرها، وتنطبق هذه المعادلة على لبنان، كما على اسرائيل وسائر الدول.
وبما إن لبنان لا يمتلك، ولا يستطيع ان يمتلك قوة عسكرية تضاهي قوة اسرائيل العسكرية، فمن الطبيعي ان يختصر طموحه، في أي حرب مع هذا العدو، بالدفاع، ما أمكن، عن حدوده وكيانه، ومنع اسرائيل من تحقيق اطماعها التاريخية بلبنان، في أرضه ومياهه خصوصا.
ونستنتج، من هذا العرض، ان القوة العسكرية للبنان محدودة جداً ازاء القوة العسكرية الاسرائيلية، وبما ان الدولة العبرية مدعومة، وباستمرار، بسبب علاقاتها الحميمة مع الدولة الاقوى في العالم، الولايات المتحدة الاميركية، وذلك منذ نشأتها الى اليوم، الى درجة ان الدولة العبرية تعتبر، في الواقع، قاعدة عسكرية اميركية في هذا الشرق، او تعتبر الذراع العسكرية للولايات المتحدة، كما بدت في حربها الأخيرة على لبنان، وبما ان لبنان ليس مرتبطا، ارتباطا جديا او مجديا، بأي تحالف عسكري، عربي او اجنبي، وبما أنه من الثابت والمؤكد ان اسرائيل لا تحترم أية قرارات تصدر عن اية دولة او عن أية مجموعة من الدول ولو كانت الأمم المتحدة نفسها، كما انها لا تحترم أية معاهدة تعقد بينها وبين اية دولة، اذا وجدت ان هذه المعاهدة لم تعد تلبي حاجاتها، او انها تحول بينها وبين تنفيذ اطماعها (مثل معاهدة الهدنة التي عقدت، عند إنشائها، بينها وبين لبنان عام ,1949 والتي ظلت تنقضها طوال الفترة التي انقضت)، ونظراً لما تخفيه هذه الدولة من اطماع بلبنان، بالاضافة الى انه يشكل، بالنسبة اليها، وبسبب تركيبته الاجتماعية والديموغرافية المكونة من مذاهب وطوائف من ديانتين مختلفتين تتعايشان معاً، والتي تشكل تناقضاً تاماً مع تركيبتها العنصرية، وهو ما يجعلها تسعى الى تقويضه وتدميره، هكذا حاولت، في حروب متتالية شنتها على لبنان عام 1993 وعام ,1996 واخيراً، وليس آخر، حربها الأخيرة.
ثم، هل خطر لنا ان نتساءل، ولو لمرة، لماذا لم تحدد اسرائيل، بعد، حدوداً لكيانها، وقد مرّ على إنشائها ثمانون عاماً؟ أو لا يشير ذلك الى ان <ارض اسرائيل> لم تكتمل بعد؟ هذا بالاضافة الى الصدمة الكبرى التي اصابت اسرائيل، مجتمعا وجيشا وحكومة، في خسارتها لهذه الحرب على يد المقاومة، وما خلفته هذه الخسارة من قلق وغضب وثورة في المجتمع الاسرائيلي، ينذر بحرب انتقامية، ولو بعد حين؟
ويتبادر، الى الذهن، السؤال التالي: كيف استطاعت المقاومة ان تصمد في وجه هذا الجيش <الذي لا يقهر>، بل وتنتصر عليه بان تمنعه من تحقيق اي هدف من اهدافه في هذه الحرب، وهو في القوة التي قدمنا، عديدا وتجهيزا وتسليحا ودعما؟
يقودنا ذلك الى الحديث عن استراتيجية المقاومة وتكتيكها، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن استراتيجية اي جيش نظامي وتكتيكه، فالجيوش، في الحروب النظامية تتحارب وجها لوجه، دبابة في مواجهة دبابة، ومدفعا مقابل مدفع، وطائرة مقابل طائرة، اما في حرب العصابات، فالجيوش النظامية تحارب قوماً يرونها ولا تراهم، يفاجئونها ولا تنتظرهم او تتحسّب لهم، وذلك هو سر انتصارهم.
تعتمد استراتيجية المقاومة على منع العدو من تحقيق اهدافه بمختلف الوسائل المتاحة لديها، ثم على خذلانه ومنعه من الانتصار، وبما انها لا تمتلك الاسلحة التي تمتلكها الجيوش النظامية (من مدرعات ومدفعية وطائرات وما شابه)، فإنها تعتمد الاسلحة البسيطة والفعالة بشكل يمنع العدو من الاستفادة مما لديه من اسلحة متفوقة لتحقيق تلك الاهداف، لذا، فهي تعتمد تكتيكا مخالفا تماما لتكتيك الجيوش النظامية، وهي، لذلك، تعتمد السرية والتخفي والمفاجأة، ثم القتال وفقا للظروف، هجوما او دفاعا، الا انها تقاتل ببسالة وشجاعة وإقدام حتى الاستشهاد.
وتعتمد المقاومة السرية في إعدادها لمواجهة العدو: فهي حفرت الخنادق والسراديب في كل بقعة من بقاع الجنوب، وأعدّت تلك الخنادق للقتال، في مختلف القرى، بسرية تامة، حتى عن اهل القرى نفسها، فشكلت تلك الخنادق والسراديب المواقع المحصنة لقتال المقاومين، حيث اختفى رجالهم من دون ان يتمكن العدو من اكتشاف مواقعهم وخنادقهم، وما إن بدأ العدو حربه البرية حتى فاجأوه من كل اتجاه، وقد أعدّوا له العدة: سلاح الصواريخ القريبة المدى ضد مدرعاته (الميركافا)، ثم ما تجهزوا به من الغام ومتفجرات وقنابل يدوية وبنادق، حيث فوجئ العدو بان سلاحه لم يعد ينفع في حرب لا يعرف فيها من اية جهة يؤتى ويباغت. أما مدفعيتهم الخاصة، وهي الصواريخ المختلفة الانواع التي رموا بها مستوطنات العدو وبلداته ومدنه، فهي أكرهت سكان تلك المستوطنات والبلدات والمدن على الهرب منها او اللجوء الى الملاجئ طوال ايام الحرب، وقد شكلت هذه الصواريخ رداً، ولو متواضعاً، على القصف الجوي الاسرائيلي، خصوصاً ان المقاومة افتقرت، كما الجيش اللبناني، الى الاسلحة المضادة للطائرات.
في حروب الغوار، او حروب العصابات، لم يعرف التاريخ حرباً انتصر فيها جيش نظامي على مقاومة، وتلك هي حالة الجيش الاسرائيلي مع المقاومة، في هذه الحرب.
لقد انتصرت المقاومة الفيتنامية على الجيش الفرنسي، ثم على الجيش الاميركي، في منتصف القرن المنصرم، رغم ما كانت تتميز به كل من فرنسا واميركا من قوة عسكرية، وانتصرت الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي بعد حكم استمر اكثر من 130 عاماً.
وها هي المقاومة، في لبنان، تنتصر على الجيش الاسرائيلي بصمودها الاسطوري، فما هي المزايا التي سيجنيها لبنان ان تحول رجال هذه المقاومة الى جنود في جيش نظامي؟ حيث يصبح المقاوم جندياً يخضع، كما باقي الجنود، لأساليب القتال في الجيوش النظامية؟
إن دمج المقاومة بالجيش ينزع من لبنان قوة لا تضاهيها قوة اي جيش نظامي، وقد بدا ذلك واضحاً، وبالدليل الحسي، في الحرب الأخيرة، فهل نحطم، بأيدينا، قوة شكلت لنا درعاً واقية؟ هذا مع ايماننا بمصداقية المقاومة بأنها لن توجه سلاحها الى الداخل، في اي حال، وان هذا السلاح منذور لمقاومة العدو فقط؟
وفي مشروع وضعته، قبل الحرب الاخيرة، بعنوان <استراتيجية دفاعية مقترحة للبنان>. اقترحت ان يكون الدفاع عن لبنان منوطاً <بجيش قوي، بالتنسيق مع مقاومة وطنية قوية، وسلطة وطنية قوية>، ويقوم هذا الحل على هرم ذي ثلاث زوايا: في القمة: الدولة الوطنية القوية، التي تضع <استراتيجية دفاعية عامة> ويكون لها قرار الحرب والسلم.
في أسفل الهرم يميناً: الجيش الذي يجب ان يعزز ويقوى ويسلّح بأحدث الاسلحة وأكثرها كفاية لرد اي عدوان مسلح.
في اسفل الهرم يساراً: مقاومة وطنية قوية ومتماسكة وقادرة على استيعاب كل لبناني راغب، حقاً، بالقتال ضد العدو، والاستشهاد في سبيل الوطن، الى أية طائفة انتمى.
ويمكن في اي حال، أن تبقى المقاومة على وضعها الحالي، وبجهوزيتها الحالية، على ان تقوم الى جانبها <حركة وطنية مقاومة> (كتلك التي شهدناها بعد الاحتلال الإسرائيلي مباشرة وقبل ظهور حزب الله)، على أن يجري السعي لضم الحركتين معاً، بحيث تعملان بالتنسيق التام مع الجيش، وتحت سلطة الدولة.
إلا أن هذا الحل يفرض علينا ان نقدم على خطوات جريئة، سواء في مناهجنا المدرسية أم في اعلامنا، أم مجتمعاتنا، بحيث نوجه أجيالنا نحو ثقافة مقاومة وطنية موحدة خارجة عن قيود الطائفية التي تكبلنا، ولا تزال. تقوم المقاومة، أية مقاومة، على أقانيم ثلاثة:
عقيدة (استشهادية) وقضية (وطنية) وقيادة (مؤمنة وواعية وحكيمة).
(?) لواء ركن متقاعد

 تصويب

سقطت سهواً من مقالة اللواء ياسين سويد المنشورة في عدد يوم أمس، الفقرة الأخيرة ما أدى الى اجتزاء المعنى. ونعيد هنا نشرها مع الاعتذار من اللواء سويد والقراء.
تقوم المقاومة على ثلاثة أركان، عقيدة <استشهادية>، وقضية <وطنية>، وقيادة <مؤمنة وواعية>. هكذا كانت اليابان في الحرب العالمية الثانية حيث <الكاميكازي> يقدمون انفسهم قرابين على مذبح الوطن، وهكذا فعل الطيار العربي السوري المسيحي جول جمال في حرب العالم 1956 التي خاضها عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي، وهكذا استشهدت سناء محيدلي ووجدي الصايغ ولولا عبود وغيرهم من شهداء المقاومة الوطنية اللبنانية في سبيل تحرير الجنوب والبقاع الغربي.
فهل ينتصر الوطن على الطوائف؟ نصلي لأجل ذلك.

 

اعلى الصفحة