"قوتنا في وحدتنا"

 

مقدمة منهجية:

بدايةً كل إنسان بإمكانه ملاحظة، اختلاف مكونات الطبيعة وتنوعها، بجمادها وحيواتها. نباتية كانت أم حيوانية. إلا أن الطبيعة البشرية أكثر اختلافاً وأكثر تنوعاً وغنى.. حيث أثبتت آخر النظريات العلمية، أن الخارطة الوراثية "الكروموزومات" للإنسان، هي حالة فردية، عندما أكدت على أنه "لا يوجد تطابق بين فردين حتى في التوأم السيامي". وهذا ما يُفسر لنا تميز بصمة الإبهام لكل إنسان..!

من هنا يتوجب علينا التوقف، عند حالة التأصيل للطابع الخاص للفرد، كنموذج يتميز عن غيره بيولوجياً. إلا أنه حريٌ بنا أن نتنبه إلى تتمة النظرية، التي أكدت على أن في هذه الخارطة نقاط (مورثات) تتشابه مبديةً خاصية العام "الإنسان"..

من ذلك نسجل النتيجتين التاليتين:

أ‌-   لايوجد تتطابق بين أي شخصين، لكن يوجد نقاط تقاطع وهي نسبية بين فرد وآخر، من جهة أخرى لا يمكن أن لايكون نقاط تقاطع بالمطلق، وإلا انتفت الصفة العامة "الإنسان".

وهكذا لو اتخذنا معياراً من عشر نقاط مثلاً. فإننا نلاحظ فلان من الناس يتقاطع مع ذاك بأريع نقاط ومع الآخر بسبع نقاط.. وهكذا لن نرى نقاط تقاطع تساوي عشرة أو صفراً.

ب‌- النتيجة الثانية: لايوجد صح بالمطلق ولاخطأ بالمطلق. ولذا فإن كل انحياز لرأي أو فلسفة أو شكل ما في الحياة وتأييدها، هو تعصب لن يُنتج إلا أصولية ونفي للآخر.

وبالتالي فإنه على صعيد الفكر فإن هذا الكتاب أوالفكر أو الفلسفة... إلخ لن تكون صحيحة بالمطلق ولا خاطئة بالمطلق

مما تقدم فإن نقاط التقاطع كانت أساس تجميع قوى الفعل الإنساني عبر الأفراد، في صياغة تجمعات بشرية، التقت حول تحقيق مصلحة مشتركة، متخذةً "طريقة عيشٍ" للتحول إلى مجتمعات-عبر نشاط وجودي- تركت بصمة مشتركة (حضارة) خاصة بها. "لأن النشاط الوجودي للكائن الحي الذي يعتبر استمرار تأديته معياراً لبقاء الوجود. وحين يتوقف الكائن الحي عن تأدية نشاطه الوجودي فإن هذا انتهاء لوجوده ذاته" (1)

بعد تاريخي: بهذه المقدمة يصبح لدينا فهماً جديداً لبناء الدولة: "لن تقوم دولة حرة مستنيرة بالمعنى الصحيح، إلا إذا اعترفت الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتها، تستمد منه كل مالها من قوة وسلطان". (2)

وبالتالي نستطيع العودة إلى الوراء لنعلم كيف أن "معاوية"، خرج على الخلافة الراشدية، وعلى مفهوم الشورى، ثم تأسيسه لإسلام عائلي، يمتد إلى الصراع الأموي الهاشمي السابق على التوحيد. بل إنه أعاد قريشاً إلى سابق عهدها لتنتقل من القبيلة في الجزيرة العربية إلى الدولة في الشام. وبهذا التأسيس نرى كيف تعاظم (السلطوي) على (الفردي) ولكن بغطاء إيديولوجي.

لقد أسلفنا بأن الفرد أولاً لأنه بنية الدولة الأساسية، لذا فهو مقياس الحق. "وإذا كان القانون يقول غير هذا، فالقانون  فرضه الأقوى لا الأحق". (3)

من هنا كان يتوجب التأكيد على تعليم الناشئة احترام الحق أولاً ومن ثم القانون.

 إن العودة إلى العمق التاريخي ليس لإثارة الحساسيات، والجدل العقيم، إنما لمعرفة كيف لهذا الماضي حضوراً وتأثيراً في الراهن المعاصر، بهذا القدر أو ذاك.

فإذا نظرنا في التراث العربي الإسلامي، الذي أسس له أحد الأئمة الأربعة أحمد بن حنبل 241هـ،  مستكملاً الخطوة "أبو حامد الغزالي"، الذي كتب "التهافت" رداً على آخر فلاسفة وعلماء العرب "ابن رشد". فإننا نرى ما ذهب إليه "ابن تيمية" 728هـ حين قال: (لا يجوز الخروج على الحاكم طالما أنه يقيم الصلاة)، هذا التنظير الخطير صاغه اعتماداً على حديث نبوي، كان مساره وغايته مختلفاً في سياقه التاريخي. لكن الاشتقاق السياسي من قبل، رجال الفقه، قد جعل الحديث النبوي ذاك في صالح رجل الدولة.

لقد سوغ فقهاء الأمس تلك النصوص، بأن الحاكم الفاسد خيرٌ من الفراغ السياسي، شرط أن يحافظ الحاكم السياسي على فرائض الصلاة.

إلا أن "أبو علي المودودي" يذهب بالتنظير منحى آخر، ففي كتابه "المصطلحات الأربعة في القران" يطلب المودودي من المسلمين أن يرفضوا المساومة مع الأنظمة الفاسدة التي تضطهدهم في كل العالم الإسلامي، والتي تنتهك المبادئ القرآنية الأساسية. "فحاكمية المسلمين يجب أن تكون لله وحده"، وعلى المسلمين أن ينبذوا أوثان الإيديولوجيات والقيم الزائفة التي يعرضها عليهم المنافقون

غير أن "سيد قطب" في النصف الأول من القرن العشرين، طور أفكار المودودي عبر منظومة "الهجرة/الجهاد"، التي عرضها في كتابيه "ظلال القرآن" و "معالم في الطريق" حينما ذكر سيد قطب أن هناك مرحلتين ضروريتين في الكفاح من أجل بناء مجتمع إسلامي حقيقي.

الأولى: هي مرحلة (الاستضعاف)، حين يكون المسلمون المخلصون في وضع لا يسمح لهم بمقارعة النظام بفاعلية. حينها ينبغي لهم الانسحاب من المجتمع الفاسد، على غرار ما فعل النبي، حين انسحب أثناء مرحلة استضعافه من مكة مهاجراً إلى المدينة لاستجماع قوة جديدة لنفسه.

الثانية: مرحلة الاستقواء، أو مرحلة التمكن، حين يغدو في مستطاعهم مجاهدة الكفار بحظٍ لا بأس به من النجاح.

لقد أسلفت كيف لهذا الماضي حضوراً وتأثيراً في الراهن المعاصر. فلو أخذنا على سبيل المثال "الشافعي". فإننا نراه كغيره من الفقهاء، قد اتسعت دائرة تأثيره في البنية العامة، بينما الشاعر "أبو تمام" الرائد في التوجه الفردي العقلي لم يُنظر إليه كما يجب. حتى "ابن رشد" الفيلسوف، كان مضطهداً في عصره، وبعد عصره وليس حاضراً اليوم إلا عند النخب. لكن لننظر إلى الشافعي كيف هو حاضراً في القانون والمجتمع والدولة.

هذا مانراه في الضفة الأولى. وبالإنتقال إلى الضفة الأخرى، فإننا نرى رأياً معاكساً، سنأخذ مثالاً عليه الفيلسوف "زكي نجيب محمود" أحد أهم المفكرين المعاصرين في العالم العربي في كتابه  "تجديد الفكر العربي" حيث يقول: "إن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته، لأنه يدور أساساً على محور العلاقة بين الإنسان والله،على حين أن ما نلتمسه في لهفة مؤرقة، هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان".

وفي كتاب آخر بعنوان "المعقول و اللامعقول" فإنه أكثر قسوة وأكثر هجوماً عندما يقول: "إنه تراث عمي عن رؤية الكون والتأمل في الطبيعة بحرية وروح مغامرة، واكتفى بتوليد الكلام من الكلام، في شكل حواشي وتعليقات، يحتل الجانب الديني الخير الأكبر، وتغيب الدنيا بأسرارها ومجاهيلها ومباهجها عن أبصار أسلافنا وانتقلت عدواهم إلينا، فواصلنا السبات".

هل هذا ما يتوجب أن نبقى بين ضفتيه ؟

أم يفيدنا التذكير بما قاله المفكر "محمد عابد الجابري" من أن "الهوية هي الوعي المتجدد لذاتنا".

هذان النمطان من التفكير، اعتمد التعصب أساساً لبنية إنتاجها الفكري. ففي الجانب الأول: كان من يلبس العمامة و الجبة، وما يحمله من شهادة من أحد المعاهد، يستدعي بالضرورة تسميته "عالم". أما في الآخر، فإن ما يمكن ملاحظته، هو الانحياز لأفكار ذات مُنتج غربي، لا يخلو من تغريب. قرون طويلة مرت، كان الغرب يُعيد بناءه وينتج في مجتمعه تطوراً علمياً هائلاً بينما نحن نعيد إنتاج وتأبيد تخلفنا وأنظمة الحكم المستبدة..!

فإذا كان التحصيل العلمي اليوم يستدعي التعلم من الغرب المتقدم، فإن ما يلفت النظر، تحصيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من أحد جامعاته، والأخطر من هذا تلك الدعوات نحو التغريب و الاغتراب، أقلها نعت اللغة العربية بالتخلف وعدم إمكانية تطورها واستمراها كباقي اللغات. متجاهلين أن أية لغة لن يكون لها نصيب من التطور مادام أصحابها غير منتجين للحضارة، ولن تكون اللغة حيةً مالم يحرص أصحابها على الحياة، ولاتكون قادرة على الوفاء باحتياجات العصر مالم يرتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافةً وسلوكاً، أخذاً وعطاءً.

إن فهم الواقع ومتطلباته، هو مايجعل الإنسان يُفتش عن خصوصيته (هويته)، لا لكي يعزل نفسه عن جدل الخاص بالعام، إنما ليجد العوامل الفضلى، في نقل المجتمع نحو التحديث دون تقليد، وإنما الحاجة بما تقتضيه مضامين الواقع المكتشفة.

بكل الأحوال فإن الملاحظ: أن ما يحكم آلية منطق هؤلاء وأولئك هومحفوظاتهم (أي النقل) وتردادها عبر محاضراتهم المقروءة أو المسموعة أو المرئية. ولو أن المسألة كانت كذلك، لكان أكبر عالم وأكثر أمانةً هو آلة التسجيل أو الكومبيوتر.

* إن الدمار المغولي، والغزوات الصليبية، دفعت الدارسين والباحثين المسلمين للإنشغال بإستعادة ما فقدوه بصورة فاجعة، والحفاظ على ما تبقى، بدلاً من تجريب أفكار جديدة. هذه النزعة المحافظة، لم يكن لها محل في الإسلام، الذي كان يرى في العلم والاكتشاف فريضة دينية.

وهكذا في الوقت الذي كان فيه الغرب يندفع قدماً نحو إنجازات جديدة، كان العالم العربي والإسلامي ينظر إلى الوراء، إلى الماضي،غارقاً شيئاً فشيئاً في "عصر الظلمات".

لقد قيل للمسلمين أن أبواب الإجتهاد قد أُقفلت، وبات عليهم أن يمارسوا التقليد، تقليد فقهاء الشرع الاسلامي. (5)

هنا نلاحظ أن الواقع الموضوعي إزاء الأحداث التاريخية، قد أدخل البلاد بشكل عام في مراوحة ثم التخلف، أمام تقدم الغرب المضطرد.

أما على الصعيد الإيديولوجي فكان وقف الاجتهاد والعودة القهقرى للتمسك بتعاليم السلف الصالح للسنة، ووقوف الحركات (المذاهب) الأخرى عند حدود إمامية وعدم تحديث أي شيء إلا الحكايات في تقزيم وتهميش بعضها البعض.

* للنظر بتكثيف شديد للامور التالية ولاحظو معي تواريخها:

_ 1492م عام سقوط غرناطة.

_  بنفس العام، أبحر كريستوفر كولومبس واكتشف أمريكا.

_ 1498م أبحر فاسكودوغاما، واكتشف رأس الرجاء الصالح، للوصول إلى الشرق الأقصى، دون المرور بالشرق الأوسط.

_ 1517م انضواء العالم الإسلامي تحت الراية العثمانية، بعد تغلبهم على المماليك.

هذه الأحداث، التي حصلت في وقت متقارب (25سنة)، إضافة للحروب الصليبية التي دامت 400عام، وما رافق من همجية المغول والتتار. من كل ذلك تولدت مسألتان هامتان:

أ- حرمان الشرق الأوسط من الطريق التجاري الضروري، والالتفاف عليه، ليصبح بقعة خلفية معزولة وراكدة، على الصعيد الاقتصادي.

ب- خضوعهم وتبعيتهم للعثمانين، جعلهم معزولين عن العالم الخارجي (الآخر)، والذي كان أشبه من حيث نتائجه بالستار الحديدي.

هذان الأمران ولَّد أزمة ثقة بالنفس، وحرمان من الاتصال التجاري بالعالم الخارجي، ومن التواصل الفكري.

ثم لنحلظ أنه لم يكن هناك أي جديد في نظام الحكم العثماني، يستفيد منه العرب. بل أكثر من هذا، فإن اللغة التركية التي أصبحت اللغة الرسمية، واللغة العربية هي للعبادات فقط، ولَّد شعوراً بفقدان الهوية، وإحساساً فقط بعظمتهم الغابرة.

هذه العوامل والمفاعيل، ولًّدت إحساساً بالعودة إلى الماضي والتمسك به. بمعنى آخر بداية تأسيس لأصولية، أخذت وقتاً، حتى أصبحت على ما هي عليه الآن. إلا أن هذه الأصولية الصاعدة، جاءت كرد فعل على أصولية الغرب، التي تَجَذًّرتْ عبر حروبها الصليبية، بما أنتجته من عدوانية دموية للآخر، بَثَّتها في كل ما أنتجته من آلية تفكير غربي لدى العامة والخاصة، ومازالت إلى يومنا هذا. وبالرغم من الثورة الاقتصادية والاجتماعية والتقدم العلمي، بقيت هذه الأفكار المتصلبة، تنزع إلى وجود عدوٍ متمثل بالآخر وبالأخص الإسلام (المحمدي).

* في القرن الثامن عشر ميلادي، أسفر الضعف البنيوي للسلطنة العثمانية عن استفحال الظلم والفساد والفوضى والجمود. وفي منطقة الشرق الأوسط سادها موقف مهتم بالذات وغير قادر على استيعاب المنجزات الجديدة لأوربا الغربية.

في هذه الأثناء بدت أولى إرهاصات اليقظة العربية التي تمثلت بثورة العرب الطهرانية، التي أسسها "محمد بن عبد الوهاب" عام 1792م في الجزيرة العربية، حيث يمكن تصنيفها على نسق "مارتن لوثر" في اوربا. هذه الثورة كانت تشدد على العودة إلى الروح الأصلية للنبي محمد، ونزع كل ما علق بالإسلام من إضافات وزوائد غريبة عنه، لاسيما تلك التي أدخلها الصوفيون، فشجب المعتقدات الشعبية المتمثلة بقدرات الأولياء الصالحين كوسطاء أو شفعاء بين الإنسان وربه، وندد بزيارة قبور الأئمة، ورفض التسليم بمرجعية أي من المذاهب الإسلامية الكلاسيكة.. وهنا بالذات نسميها ثورة لأنه أعلن أن باب الاجتهاد قد فُتح. وبالتالي فهو قد أنكر التقليد. لكن ورغم:

- هجومه تجاه الظلم النازل بالفقراء، وعدم الاكتراث بمحنة الأرامل والأيتام.

- وتنديده بالفسق والفجور ومظاهر الوثنية.

- وتشديده على مبدأ الأخوة والمساواة بين المسلمين جميعاً بصرف النظر عن الإنتماء القبلي أو المنزلة الاجتماعية.

- وإصراره على ضرورة أن يكون العرب لا الأتراك هم من يحكم الأمة الإسلامية. رغم كل هذا لم يكن لدى هذا الإحياء العربي ما يقوله بشأن الغرب. إذ كانت ثورة على الأتراك وعلى المؤسسة الدينية الرسمية فقط.

* نستطيع أن نرى، كيف تلا التدين الشديد، الذي ساد القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوربا، تلاه رد فعل مثقل بشكوكية عصر التنوير. لندقق في عصرنا الحاضر، بادعائه أن الإنسان قد كبر، وبات في مقدوره الاستغناء عن الدين، على شاكلة ما فعل فلاسفة القرن الثامن عشر إلى حد ما (عصر التنوير). لقد اتضح أن ذلك الادعاء كان خاطئاً في حينه، وهو تنبؤ زائف اليوم أيضاً. وبالتالي فإن عصر عقل القرن الثامن عشر، كان رد فعل على شطط الإصلاح الديني، الذي اضطهد في حقبته آلاف الأشخاص بسبب معتقداتهم. لكن التنوير من جهة أخرى أثبت أن الناس بحاجة إلى ماهو أكثر من العقل والعلم. إنه الجانب الروحي. هل نلحظ في زمننا الحاضر أفول حقبة من العلمانية والشكوكية. لتظهر مكانها أصولية المسيحية الجديدة في أوربا وأمريكا وهي تكتسي عدائية شديدة تجاه الديانات الأخرى؟ ومع ذلك فليس من الواقعية في شيء أن تحاول إسقاط الحاجات الدينية للبشر وأن تتوقع زوالها تماماً. فالغريزة الدينية غير قابلة للقمع مثلها مثل الغريزة الجنسية. وفي الحقيقة إن الكبت في كلتا الحالتين يؤدي على الأرجح إلى رد فعل، أشد تطرفاً وعصي على السيطرة.

إن الكتاب المقدس اليهودي ماكان يستطيع مجابهة تحامل هو لباخ التنويري بأفضل مماجابه القرآن تحامل فولتير (6). ومع ذلك فإن العالم العربي لم يكن مكتوف الأيدي. بل كان يحاول أن يُعبيء نفسه:

1- ضد القبضة العثمانية التي طال زمنها، والتي بدت أنها تسير بكل وضوح على طريق الإنحطاط. إلا أن العرب تعرضوا لصدمة قوية عند نهاية القرن الثامن عشر، عند التقائهم الغرب الجديد وجهاً لوجه. وفي القرن العشرين، جاء انفجار النشاط الإسلامي الثوري صدمة للأوربيين، حيث أدركوا ولو متأخرين، أن الإسلام كان حياً، إنما هم لم يروا ذلك.

2- ضد الغرب الذي راح يكشف بصورة متزايدة عن أطماعه الاستعمارية الواضحة، منذ تحطيم دولة محمد علي باشا الوليدة، وغزو نابليون لمصر.

في هذه الحقبة، نلحظ بروز أسماء عديدة كان لها حضورها وتركت أثراً وتأثيراً فكرياً واضحاً منها:

الكاتب المصري رفاعة الطهطاوي 1873م. بعد عودته من فرنسا كتب بحماسة عن النظافة والصناعة والفضول الفكري للفرنسيين، وانتبه بنوع خاص إلى أهمية التربية، لما شاهده من عناية الفرنسيين بتعليم أطفالهم. لذلك حث شعوب الشرق الأوسط على العودة إلى دراسة العلوم العقلية، وأن ينال كل فرد تربية سياسية ليتمكن من انتقاد المفاسد الاجتماعية بصورة بنَّاءة. هذه القيم المذكورة كانت قيماً عربية فيما مضى، لكن العرب نسوها فسقطوا في غياهب الجهل والخمول.

لقد تزامنت أفكار الطهطاوي مع طرح أفكار ثورية بحق. إلا أن في عمله شيئاً من روح التراخي والتروي. فالحاجة إلى التغيير لم تكن شديدة الإلحاح عنده. إضافة لذلك فإنه مع مرور الوقت تبين للغرب أنهم ليسوا قوة محايدة، يتعلم منها العرب. كما لم يكن الغزاة الغربيون من النوع الذي يسهل صَّده كما صُدَّت حملة نابليون.

- جمال الدين الأفغاني 1897م. إن خطورة شأنه وأهميته، جاءت من كون معظم الحركات الإسلامية في القرن العشرين كانت تعود فكرياً إلى نظرياته وأطروحاته. كان لافتاً للنظر، قدرته المذهلة على العمل بمبدأ "لكل مقام مقال"، ومواهيه المتعددة، فطاف بلداناً عديدة، لكنه كان نزَّاعاً للشك، فقدم نفسه في أقنعة شتى، بحسب ما تقتضيه الظروف. هذا التعدد في أدواره إنما كان بتأثير تمرسه بالعرفان الصوفي، الذي يتضخم معه مفهوم "الأنا" تضخماً هائلاً.

لقد عمل الأفغاني إلى جمع شمل المسلمين ضد التهديد الآتي من الغرب، وأن يكونوا هم سادة مصيرهم، عبر تواصله مع علماء المسلمين لقناعته بأنهم القادة الشرفاء. إلا أنه أراد للإسلام الجديد أن يكون حضارةً وجامعة، لامجرد عقيدة دينية. من بين الأفكار الثورية التي أدخلها إلى المنطقة، النظرية الغربية الخاصة بالسياسة العلمانية. غير أن عدداً كبيراً من المسلمين عارضوها ورأوا فيها بدعةً مرفوضة في الإسلام. إلا أن إدخالها كان إنجازاً عظيماً.

لقد أدرك الأفغاني تماماً، أنه يتوجب على المسلمين أن يتعلموا الأفكار الغربية، إذا أرادوا أن يتغلبوا على المستعمرين. لكنه كان من المعارضين العنيدين لأي شكلٍ من أشكال التعاون مع السلطات الاستعمارية. وبالتالي فإن الإحاطة بمهمة خطيره كهذه، لم يكن متاحاً لها أن تسود في مثل ذاك الزمن القصير. إضافة لذلك فإنه استهان كثيراً بما يتوجب من عمل داخلي، ومن تمحيص الفكر قبل أن تصبح الأمة مهيأة لتخليص الإسلام من المفاسد وبناء حضارة إسلامية جديدة على أسس عربية كلاسيكية. غير أنه والحق يقال، كان يملك حساً واقعياً بالإلحاحية.

- محمد عبده 1905م: كان تلميذاً للأفغاني ومن مريديه، إلا أن نظرته كانت مختلفة عن أستاذه. فعوضاً عن مسرح العمليات الواسع لأستاذه، ركَّز محمد عبده نشاطه في مصر. وبالفعل، فإن عبارة "وطن" التي لم يسبق أن استعملت في الخطاب السياسي الإسلامي أو العربي، أخذت تتردد بوتيرة متعاظمة في كتاباته. كان حريصاً على زيارة أوربا من آن لآخر للإطلاع الفكري، وكان أكثر واقعيةً. فعلى سبيل المثال: كانت قناعته بأن سياسة الأفغاني المعارضة للمستعمرين تثير غضبهم، ولا تعود بأي نفع. مما دفعه لاتخاذ قرار عام 1888م بالعودة إلى مصر المحتلة من قبل بريطانيا، والعمل تحت قيادة اللورد كرومر. فَعُيِّن مفتياً للديار المصري، وكان يعتنق مبد "المصلحة"، الذي يحرر الطاقات، ويتيح تعديل بعض أحكام الشرع، بما يتماشى وأحوال مصر، فضلاً عن أخذه بمبدأ "الاجتهاد". كما أيقن بالحرية الفكرية، معارضاً بذلك مبدأ "التقليد". فأسس المدارس غير الدينية، كي يتسنى للعرب تلقي العلوم الدنيوية.

إلا أن محمد عبده، شأنه شأن كل المصلحين جميعاً، كان يريد العودة إلى الأصول. ولذا فإنه طَبَّقَ مبدأ "التوفيق"، حين استنبط الأحكام من خلال النظر لما تقوله المذاهب الأربعة، بغية الإمساك بالمبدأ الأساسي، ومن ثم إحالة المسألة ثانية على القرآن والحديث والمأثور عن الخلفاء الراشدين.

ومع ذلك عارضه بعض المسلمين الرأي، لأن المعضلة هي أن الله قد تجلَّى تعييناً في نص. وأي نقد للنص هو افتراء وتجنِّي على سلامة وكمال الإسلام بالذات. فحصلت انقسامات، وخلافات بين المسلمين: السلفيين من جهة، والعلمانيين المتخرجين من مدارس محمد عبده من جهة أخرى.

- أخيراً الصحافي الكبير رشيد رضا 1935م، وهو من تلاميذ محمد عبده.

كان قريباً جداً من الأفكار الوهابية، وجل اهتمامه انصبَّ على بعث الإسلام من جديد باسترداد الخلافة العربية، وليس على ظهور القومية العربية. كانت له ميول صوفية، وبوسعه عند الضرورة أن يتعاون مع السلطات، لكن عليه في بعض الأحيان أن يعلن العصيان والثورة. وفي العموم كان "رضا" من نتاج الراديكالية المتشددة في الإسلام، في حين كان "عبده" مثالاً للمسلم الأكثر محافظةً والمستعد للتعامل مع الأمر الواقع.

إن الأمر الهام هنا، هو أن جميع هؤلاء المصلحين لم يفكروا بتفكيك الامبراطورية الإسلامية، رغم اتفاقهم على وجوب التخلص من النير العثماني، ومع ذلك لم يفكروا بالحل الغربي المتمثل بالدولة القومية.

وعلى الرغم من ذلك فإن القوميين العرب، عوَّلوا على فكرة الجامعة الإسلامية المبكرة للعودة إلى الجذور العربية. وهذا ما التقطه الناصريون وحزب البعث أواسط القرن العشرين، مطورين على أساسها فكرة الجامعة العربية.

لقد حاولت فيما عرضته من أحداث على تبيان الأسباب في وجودها. هذا المبدأ الهام "ربط السبب بالنتيجة" إن لم نأخذ به لا نستطيع الإلمام بالظاهرة، ويبقى تناولها على الأغلب يدور في النتيجة كتوصيف فقط، كما هو سائد، فاقدين خلالها قوة المنطق والموضوعية. بل الأنكى من ذلك يُبيح تصدير حكم قيمي على مرحلة بأكملها، عبر جملة بسيطة لا قيمة لها إلا في ذهن صاحبها وهماً وتشطيباً لا أكثر.

* بعد الذي تقدم سأتوقف عند عنوان لا يقل أهمية عما سبق هو "اللاسامية" الذي سنجد فيه سبباً لأحداث وظواهر كبيرة وهامة.

في عام 1857م، أعلن العثمانيون أن اليهود والنصارى، رعايا متساوين مع المسلمين في السلطنة. هذه الخطوة لاقت استحساناً من أبناء الملل وتذمراً من جانب المسلمين. إلا أن التجار والقناصل الأجانب فضَّلوا التعامل مع "الملل" المسيحية، وهذا ما ولَّد شعوراً بالاستياء. حتى ذلك الحين لم يكن قد تخلل الأمر أي عامل عنصري بعد، رغم تأجيج المشاعر المعادية لليهود. لكن المقيمون الأوربيون، شرعوا باستقدام الأفكار الغربية الخطرة إلى قلب المنطقة. فاندلعت المذابح المنظمة على الطراز الأوروبي، في دمشق عام 1840م، حيث قام راهب بالترويج للأسطورة الغربية القديمة عن الفطير اليهودي المخبوز بالدم المسيحي، وعمل على إلهابها قنصل فرنسي معادٍ للسامية. هكذا أُرسي اتجاه خطير: الأفكار اللاسامية.

في عام 1869م نُشر أول نص معادٍ للسامية في الشرق الأوسط ملفق. عبارة عن اعترافات حاخام مولدافي اهتدى إلى المسيحية. كان لهذا العمل أثر كبير في أوربا في ذلك الحين. فأوقفت السلطات العثمانية توزيعه.

في تسعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت ترجمات معادية للسامية، كانت محل شجب واستنكار من الصحافيين الأتراك والعرب وكان وراءها مقيمون فرنسيون تلتهب مشاعرهم عداءً للسامية إثر فضيحة "دريفوس"، إلا أنها شكلت فرصة لدى بعض العرب للسخرية من الأوربيين المتنورين طالما تظاهروا بمظهرهم الليبرالي. وكان رشيد رضا بالذات هو من نبه إلى تلك النزعة اللاسامية الجديدة، ووصفها بأنها عنصرية أكثر منها دينية.

في بداية عهد النزاع الراهن بين العرب واسرائيل 1948م، لم يكن في الشرق الأوسط أي مظهر من مظاهر اللاسامية – يمكن مقارنته بالجنون الأوربي ضد اليهود منذ بداية الحروب الصليبية وحتى الحرب العالمية الثانية – إذ كانوا قبل إنشاء دولة اسرائيل، يستطيعون التفريق جيداً بين "الملة" اليهودية السابقة في بلادهم، والصهيونيين الروس، الذين كانوا يمثلون أعدائهم السياسيين كانت حظوظ اليقظة العربية الحديثة ضئيلة جداً إزاء المستعمرين الذين ارتأوا توظيف النظريات العرقية الجديدة – أمثال الفلاسفة الألمان التي تأسست على نظرياتهم، الفاشية وتفوق العرق الآراي، وأسماء كثيرة في شتى بقاع أوربا، مثل رينان في فرنسا.... إلخ – التي تُسوِّغ لهم فرض سيطرتهم الاستعمارية على الشعوب، والتي تجزم بأن العرب عاجزون عن تجديد الحياة في مجتمعاتهم بمفردهم. ولهذا رفض اللورد كرومر بازدراء أفكار محمد عبده، وأعلن أن الأسلام أعجز من أن يُصلح نفسه، وأن العرب غير منطقيين، وأكثر صبيانية من أن يعرفوا ماهو صالحهم.

إذاً ماهي الأسباب لوعد بلفور 1917؟ لماذا معاهدة سايكس بيكو؟ كيف تم إنشاء اسرائيل وما أسباب استمرارها إلى الآن؟

إن ثلاثة غزاة نجحوا في اختراق العالم العربي هم: الصليبيون، والمغول، والقوى الغربية. إلا أن الغرب أثبت أنه الأكثر إذلالاً والأبقى دواماً. لقد مرت بأدبيات كثيرة، أن القومية هي نتاج الثورة البرجوازية الأوربية. لكن لندقق كيف أن القوى الاستعمارية هي من خلقت الدول القومية الحديثة وجزأت وحدة الأمة العريقة، بينما عملت العروبة على اكتشاف القيم التي تتشارك فيها هذه الدول العربية مجتمعة. أما في أوربا، فكانت القومية مرادفة لتفكيك مجتمع من المجتمعات إلى كيانات أصغر تشعر أن لكل منها تجربة مشتركة هي الرابط الجامع لذاك الكيان.

لكن إذا كانت بريطانيا تكنُّ كل هذا الاحتقار لليهود والعرب  على السواء، زمن الحرب العالمية الأولى، ما الذي جعلها تفي بوعد بلفور رغم كل المعوقات خلال تلك الفترة الحاسمة 1920- 1928؟

إن الجواب يكمن في ذلك التقليد الطويل والمعقد للصهيونية البريطانية، التي مَسَّتْ وتراً حساساً في الهوية البروتستانتية للإنكليز.

فعلى غرار الصليبي الحقيقي، كان بلفور شديد الاقتناع بأن "رؤيتنا" - حسب قوله – للأراضي المقدسة، تسمح له بأن يكون فوق الاعتبارات الأخلاقية العادية. حيث أضحت الصهيونية  آنذاك راسخة الجذور، كحق واضح بذاته لدرجةٍ ما عاد معها بلفور يتصور أن للعرب مطالب بتاتاً في الأرض، التي سكنوها من آلاف السنين.

كان بلفور ذاته صهيونياً نموذجياً، تشوبه نزعة لاسامية. إنه هو من طرح عام 1905م مشروع "قانون الغرباء" في البرلمان، للحدّ من الهجرة اليهودية إلى انكلترا، ولذا فهو يرضى بأن يكون اليهود في فلسطين، لكنه لا يريدهم في بلاده. كانت مشاعر اللاسامية تُقلقه. فهو على بَيِّنةٍ من التاريخ المخزي للاضطهادات في أوربا. ولعله اعتبر أن الدعم الحماسي الذي محضه للصهيونية يُعوض عن لا ساميته الغريزية. أما سايكس الكاثوليكي، فقد اعترف صراحةً بأنه يكنُّ مقتاً شديداً لليهود. وقد عارض المشروع الصهيوني في بادئ الأمر. لكنه كان قومياً واستعمارياً متحمساً، وأحد مهندسي اتفاق "سايكس- بيكو" عام 1916م السيء الصيت. وحين شرحوا له ما تنطوي عليه الصهيونية من مضامين استعمارية، انقلب صهيونياً متعصباً. وبات ينظر إلى اليهودي باعتباره "ممثلنا" – حسب قوله – في الشرق الأوسط الهمجي، وهو من سيستحوذ على فلسطين باسمنا "نحن". كذلك رأى في الصهيونية حلاً للمعضلة اليهودية.

إن الدعم المسيحي لدولة اسرائيل في الغرب كان، ومنذ البداية، معقداً وعصابياً، لم تصغه الاعتبارات السياسية والإنسانية وحسب، بل والأفكار البروتستانتية والتوراتية، والأطماع الاستعمارية الصليبية الطابع، وكذلك النزعة اللاسامية ذات الروح الصليبية.

لقد كان الصهيونيون غير اليهود، صليبيين جُدداً، حتى وإن لم يعودوا مدفوعين بذاك التوق القديم إلى قبر المسيح.

بكل الأحوال، لقد انتقلت زعامة العالم المسيحي من أوربا "العجوز"، إلى الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين للأسباب الموضوعية التالية:

- إن بُعد الولايات المتحدة جغرافياً، عن الدمار الحاصل لأوربا، بسبب حربين عالميتين، وسياساتها، التي اتبعتها بعدم المشاركة الفعلية إلا في نهاية كل حرب، جَنَّبَها الخسائر الكبرى، التي مُنيت بها جيوش أوربا واقتصادها وبنيتها التحتيه.

- ثم إنها الوحيدة التي قطفت ثمار الانتصار على كل الصعد من جهة ثانية.

- ولأن عجلة اقتصادها بقى ينمو بقوة، وبمنأى عن الدمار من تلك الحروب جعلها الدولة الأولى اقتصادياً في العالم.

لتلك الأسباب وغيرها، كانت هيمنتها حتى على أوربا، عبر مشروع "مارشال" لإعمار أوربا المدمره. وقد تجلَّت بداية الهيمنة بشكلها الفاقع في عام 1956م، عندما اتخذت قرارها بوقف الحرب المفروضة من قبل فرنسا وانكلترا واسرائيل على مصر في حرب السويس. وهذا ما دعَّم موقف عبد الناصر، وحوَّله إلى شخصية قومية كارزمية. لكن يجب أن لا تغيب عن أذهاننا، الفجوة الواسعة بين شعور أمريكا بعظمة الحاضر، وإحساس العرب بعظمة الماضي الغابر، وقد تجلَّى هذا الأمر واضحاً على لسان هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، أثناء المفاوضات بين مصر واسرائيل، أعقاب حرب 1973م قائلاً: طلا تصدعوا رأسي بماضيكم ذاك". إن الكثير من المواقف الصليبية القديمة، قد انتقلت إلى أمريكا مع المهاجرين إليها من أوربا. ولم تكن زلة لسان -حسب التصحيح الوارد في الاعلام الأمريكي- عبارة جورج بوش الابن: "إننا نخوض حرباً صليبية في العراق". ومع ذلك فإن الموقف الأمريكي من ثروة العرب النفطية مغايراً لرد الفعل البريطاني.

ففي وقت يبدو فيه اقتصاد بريطانيا معتلاً وتشتد فيها الضائقة، ويزداد عدد العاطلين عن العمل. فإنه من المؤلم حقاً، مشاهدة الأثرياء الجدد من عرب الخليج يتدفقون على لندن ويضعون أيديهم على أحياء بكاملها. فالإمتعاض الذي كان الانكليز يشعرون به إزاء اليهود الأثرياء، يبدو أنه انتقل جملةً وتفصيلاً إلى العرب الأثرياء. وقد أصبحت النكات والملصقات اللاسامية الهازئة من العرب، شيئاً مألوفاً جداً منذ سبعينيات قرن العشرين: فمن حديث لحم الماعز المطبوخ في فندق هيلتون، إلى الأبل المركونة خارج نادي البلاي بوي، إلى إطلاق النفير بأن العرب يبتاعون البيوت العريقة. في كل هذا نجد نبرة بشعة وعدائية، طالت مؤخراً حتى الرسول "محمد"، عبر ملصقات كاريكاتورية. والظاهر أن هذا الغزو العربي الجديد قد أحيا من جديد الرهاب الدفين القديم من "الجهاد العربي".

ولكن، والحق يُقال، يجب أن نرى التحول الدراماتيكي الحاصل بين شعوب الغرب عموماً، منذ الإنتفاضة الفلسطينية في المناطق المحتلة. حيث أكسبت تلك الإنتفاضة متعاطفين ومؤيدين للعرب الفلسطينيين، ونفَّرت العديد أيضاً من إسرائيل.

وبالعودة إلى أمريكا: فإن التماهي مع الشعب اليهودي قد ظهر في وقت مبكر جداً في تاريخ الصهيونية. إذ استُقبل "وعد بلفور" استقبالاً حماسياً منقطع النظير في أمريكا. وقد أيده الرئيس ويلسون تأييداً تاماً، رغم تعارضه مع روح المبادئ الأربعة عشر الشهيرة الممهورة بإمضائه، والتي تشجب الاتفاقيات المنفردة بشأن الأراضي، وتنادي بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. لا بل إن المبدأ الثاني عشر شدد على وجوب أن تُعطى القوميات غير التركية في السلطنة العثمانية، الفرصة من دون مضايقة، لكي تنمو وتتطور ذاتياً. لكن الرئيس ويلسون، الذي نشأ على التعاليم البروتستانتية الأمريكية، كان صهيونياً بطبيعته. فالصهيونية غير اليهودية، هي شكل من أشكال الصليبية البرودتستانتية.

لقد واصل الأميركيون تعاطفهم القوي مع اسرائيل، لا بل ازداد مع ارتفاع موجة جديدة من الأصولية المسيحية الأمريكية المصطبغة بصبغة صهيونية عدائية، يستطيع أن يراها كل مواطن عبر الساسة، وبعض رجال الدين أو الفنانين أو الصحافيين... إلخ

إن التماهي القوي، الذي تشعر به أمريكا تجاه اسرائيل، يعني أن الموضوعية صفة يصعب التحلي بها، وأي تهديد لإسرائيل، فإنه تهديد لهوية أمريكا نفسها وجرحاً لوحدتها الكيانية. إنها "أناها الثانية".

هذا هو الفارق بين الموقفين البريطاني والأمريكي من ثروة العرب النفطية.

معاصرة وأحداث:

إذا ألقينا نظرة على خريطة العالم العربي السياسية في عام 1913م، فإننا لن نجد أي دولة عربية مستقلة. فالمغرب وتونس من محميات الجمهورية الفرنسية. والقسمين الشمالي والجنوبي من المغرب يُشكلا المغرب الإسباني. أما الجزائر فهي جزء من فرنسا. وليبيا من ممتلكات إيطاليا. وكان السودان خاضعاً شكلاً للحكم الثنائي البريطاني المصري، أما حقيقة الأمر فإنه مستعمرة بريطانية. أما اليمن فإنها جزءاً من الامبراطورية العثمانية. لكن الجزيرة العربية فإنها كانت جملة من الأمارات العربية الصغيرة التابعة لتركيا. كانت أراضي العراق والأردن وسورية الحالية موزعة بين بضع ولايات للأمبراطورية العثمانية. أما لبنان الحالي فكان جزء منه يشكل مقاطعة مستقلة باسم "جبل لبنان" تحت إدارة حاكم تركي، خاضع لرقابة قناصل خمس دول أوربية. أما أقطار شرقي وجنوبي شبه الجزيرة العربية من عدن وحتى الكويت، فإن عدن كانت مستعمرة بريطانية، والباقي كمحميات، كان يديرها موظفون بريطانيون. باسم حكومة الهند البريطانية.

* هكذا كان وضع البلدان العربية عشية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، متناسباً مع الوضع العام في العالم آنذاك، ومع نظام العلاقات الدولية الذي تكوَّن في العقود الأولى من عهد الامبريالية، الذي اتصف بسلطان كلي، وانفلات حفنة من الدول، في سعيها إلى الفتوحات الاستعمارية وعمليات الضم والإلحاق. هكذا يُصبح مفهوماً لدينا كيف تلك الأسباب اضطرت البلاد العربية إلى دفع فاتورة باهظة جداً باستغلالها واستنزاف مواردها من جهة، وفقدان مئات الآلاف من العرب كجنود للجيش التركي أو للجيوش الاستعمارية في أوربا، أو بفيالق العمل. إضافة لذلك الكم الكبير من المدنيين الذين هلكوا بسبب الجوع والأوبئة. فيما بعد فإن الصراع بين الإمبرياليات من أجل الاستيلاء على البلدان العربية، كان أحد أسباب الحرب العالمية الأولى. ونتيجة تلك الحرب برزت دولة جديدة على مسرح العمليات، هي الاتحاد السوفييتي، لينقسم العالم إلى نظامين اجتماعيين سياسيين متضادين، هما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي. هذه النتائج ستتحول، كما سنرى لاحقاً، إلى أسباب أخرى لتوليد نتائج جديدة وهكذا..

إن التغيرات التي طرأت على نسبة وميزان القوى في العالم بعد ولادة الاتحاد السوفييتي قد تلخصت في ظهور جار صديق لكثير من الدول الأسيوية، ومن ضمنها بلدان الشرق الأدنى والأوسط.

وكان لإلغاء الدبلوماسية السرية لتلك الدولة نتيجة هامة هي فضح المعاهدات السرية، ونشر مضمونها بما فيها اتفاقية سايكس- بيكو في بيروت عام 1917م، مؤكداً ذلك ماجاء على لسان الدبلوماسي السوري البارز: صلاح الدين الطرزي. هذه الفضائح هزت العرب حينها. مما دفع لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية آنذاك للقول: "إن النبأ أثار استياءً كبيراً في الأوساط العربية. فكان لا بد من تأكيدات جديدة لدرء القطيعة مع العرب" (7) لكن الدعاية الاستعمارية، لم تستطع، رغم كل تفننها ودهائها، أن تضلل الرأي العام في البلدان العربية. مما دفع بها في تلك الحقبة لصياغة سلسلة من المعاهدات والاتفاقيات والوعود، افتُضح مضمونها الحقيقي، وسببت في إشعال الثورات المسلحة في سبيل نيل الإستقلال، كانت بمثابة الموجة الأولى من حركة التحرر الوطني.

غير أن لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا، يُطل مرة أخرى، ليطرح فكرة الإنتداب بدلاً من الاتفاقيات السرية، وذلك بالتستر براية عصبية الأمم.

ففي المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، يؤكد المستعمرون على أن نظام الانتداب لم يُؤَسَسْ إلا لأن شعوب العالم "التي بقيت نتيجة الحرب (العالمية الأولى) تحت سيادة الدول التي كانت تحكمها من قبل (الدول الاستعمارية)، عاجزة عن حكم نفسها بنفسها في ظروف العالم المعاصر البالغة الصعوبة". (8)

* لقد تميزت المرحلة الممتدة بين الحربين العالميتين بالنسبة للعالم العربي:

- بالثورة المصرية في عام 1919م، وبالمقاومة الشعبية في سورية ولبنان.

- وتميزت بظهور الأحزاب الشيوعية في بعض الأقطار العربية، التي ساهمت في حركة التحرر الوطني بشكل فعَّال، وفي نشر الأفكار الاشتراكية والعلمية. ففي سورية ظهر الحزب الشيوعي عام 1925م. وبنفس العام أسس الوطنيون البرجوازيون حزباً هو "حزب الشعب"، الذي كان في أساس برنامجه، مطلب الاستقلال الوطني.

 - وظهور النفط في الجزيرة العربية ومن ثم في العراق، مما فتح شهية الدول الاستعمارية على المنطقة، وزاد من حدة صراعاتها فيما بينها.

- إضافة للأهمية الكبيرة للموقع الجغرافي للوطن العربي بشكل عام، والمشرق منه بشكل خاص. ولا ننسى أن قناة السويس من جهة وشرق المتوسط، كمعبر باتجاه آسيا والخليج من جهة ثانية، كانت أساس تلك الصراعات بين الامبرياليات وأسباباً في تحالفاتها وحروبها المدمرة، وسبباً في تقاسم تلك البلدان فيما بينها والسعي الحثيث دون توقف لوضع يدها عليها واستعمارها مباشرة.

في عام 1928م، طرأت تغيرات في سورية. حيث وافقت السلطات الفرنسية على عقد الجمعية التأسيسية. وجرت الانتخابات في 24 نيسان 1928م. ونال حزب "الكتلة الوطنية" – هذا الحزب الوطني الإصلاحي البورجوازي الجديد الذي أُنشئ عوضاً عن حزب الشعب الممنوع – نال أغلبية المقاعد النيابية. فالدستور الذي أقرته، قد أعلن سورية دولة مستقلة لا تعترف بالانتداب الفرنسي. وعندها أصدر المفوض السامي، قراراً بحل الجمعية التأسيسية. ولم يُطبق الدستور الذي أقرته إلا في عام 1930م، بعد أن أُضيف إليه مادة تحافظ بموجبها على نظام الانتداب في سورية، مع كل ماينجم عن ذلك من عواقب. وأُعلنت سورية جمهورية برلمانية.

كما أن الأزمة الاقتصادية التي دامت من عام 1929 وحتى 1933م، أدت إلى ركود شديد، تبعه تردي أوضاع الجماهير الكادحة في سورية ولبنان بصورة خطيرة. مما أدى إلى نهوض نضال التحرر الوطني من جديد. هذه الحقبة من الزمن هبطت فيها أسعار منتوجات الاقتصاد الفلاحي إلى الخمس، كذلك قلَّ تصريف عدد من المنتوجات الزراعية بضع مرات، في حين أن أجرة الأرض والضريبة بقيتا في مستواهما السابق تقريباً. علماً أن الملكيات للأرض كانت كبيرة، إلا أن استعمالها قطعاً صغيرة، وصغيرة جداً على أساس التأجير بالمحاصصة. وهذا كان الشكل السائد في الريف السوري واللبناني. ومن جراء سيطرة أساليب الاستثمار الإقطاعية الربوية، التي استتبعت فقر الفلاحين، كان يهيمن تجديد الانتاج البسيط، لأن الاقطاعي كان يستأثر بكامل المنتوج الإضافي وحتى بجزء من المنتوج الضروري ويستهلكها بصورة غير منتجة. الأمر الذي أدى إلى خراب الإقتصاد الفلاحي وتدهوره وإلى نزوح الفلاحين من القرى، وإلى تقلص السوق الداخلية.

منذ عام 1934م، بدأ نهوض إقتصادي في سوريا ولبنان. حيث انتهى من بناء خط أنابيب البترول (كركوك- طرابلس)، وتم بناء مرفأ وقاعدة بحرية حربية في بيروت، كذلك كانت تُنشأ الطرق الستراتيجية والمطارات بوتائر متسارعة.

في عام 1936م، نهض نضال التحرر الوطني لشعبي سورية ولبنان نهوضاً كبيراً. فالإضراب العام الذي نشب في سورية ودام خمسين يوماً، قد أجبر المستعمرين الفرنسيين على إعادة الحياة الدستورية وعلى الدخول قي مفاوضات مع زعماء حزب "الكتلة الوطنية" حول عقد معاهدة قوامها الاعتراف باستقلال سورية. وفي 30 تشرين الثاني من نفس العام جرت انتخابات للبرلمان السوري الجديد، فأحرزت الكتلة الوطنية النصر. وانتُخب زعيم هذا الحزب "هاشم الأتاسي" رئيساً لسورية. وكانت اللاذقية وجبل الدروز والجزيرة قد ضُمت إلى كيان الجمهورية العربية السورية بوصفها محافظات ذات حكم ذاتي. كما أُجيز نشاط الحزب الشيوعي.

إلا أنه في فرنسا وبعد اتفاقية ميونيخ، انتقلت الرجعية الفرنسية إلى الهجوم، وقضي عل مكاسب الجبهة الشعبية، وتعرض الحزب الشيوعي الفرنسي للملاحقة. وانعكس هذا بدوره على مصائر سورية ولبنان.

ففي كانون الثاني 1939م، رفض الرلمان الفرنسي المصادقة على معاهدتي 1936 ومدد مفعول نظام الانتداب. وفي حزيران 1939م، تم تسليم لواء الاسكندرون لتركيا، وفصلت اللاذقية وجبل الدروز عن سورية، وأُقيل الرئيس السوري والحكومة السورية، وأُلغي الدستور.

* عشية الحرب العالمية الثانية: كانت سورية خاضعة للانتداب الفرنسي. وفي الثاني من أيلول 1939م، أعلنت "منطقة حربية"، وحشدت في أراضيها أعداد كبيرة من القوات الفرنسية. وبعد استسلام فرنسا في 22 حزيران 1940م، وضعت سورية تحت رقابة لجنة الهدنة الالمانية- الايطالية التي شرعت بمساعدة السلطات الرجعية الفرنسية في غرس "النظام الجديد" الفاشي بقوة في البلاد.

تعاظمت حركة المقاومة. واتسعت حركة مكافحة الفاشية، وبمساندة الشعب السوري الفعالة في العمليات الحربية، تم طرد الفاشيين، وانتصرت قوات بريطانيا وفرنسا الحرة في حزيران 1941م. وبفضل نهوض حركة التحرر الوطني اضطرت السلطات العسكرية الفرنسية إلى الاعتراف في 27 أيلول 1941 باستقلال سورية، مع تحفظ مفاده أن هذا الاستقلال سيكون مقيداً "بمقتضيات زمن الحرب"، وأنه سيصار فيما بعد إلى تنظيمه بمعاهدات مع فرنسا.

في عام 1943م، اضطرت السلطات العسكرية الفرنسية إلى تنازلات جديدة منها، إعادة الدستور الجمهوري والسماح بإجراء انتخابات برلمانية. وقد كانت الغلبة في الانتخابات لحزب "الاتحاد الوطني القومي"- كان يُسمى قبل ذلك بحزب "الكتلة الوطنية"- الذي ترأس في تلك المرحلة نضال الشعب السوري من أجل الاستقلال والوحدة. وفي آب 1943م، انتخب أحد زعماء الحزب، شكري القوتلي، رئيساً للدولة. في كانون أول 1943م، أُلغيت من نصوص الدستور المادة المتعلقة بالانتداب الفرنسي. وأحالت فرنسا إلى الحكومة السورية المصالح الاقتصادية ووعدت بإجلاء قواتها فيما بعد، كما وعدت بأن تضع الحكومة السورية الوحدات العسكرية الخاصة المؤلفة من السوريين والعاملة تحت قيادة الجيش الفرنسي. في تموز 1944م، أُقيمت العلاقات الدبلوماسية بين سورية والاتحاد السوفييتي بناء على طلب الحكومة السورية. في شباط 1945م، أصبحت سورية عضواً في هيئة الأمم المتحدة. وفي آذار من نفس العام، كانت إحدى الدول المبادرة إلى إنشاء جامعة الدول العربية. لكن القوات الأجنبية ظلت ترابط في سورية، كما ظل اقتصاد البلد في أيدي الإحتكارات الفرنسية.

في أيار 1945م، وبعد طلب الحكومة السورية مراراً بسحب القوات الأجنبية، أرسلت فرنسا وحدات عسكرية جديدة، وشنت حرباً استعمارية حقيقية. إلا أن ضغط الاتحادالسوفييتي من جهة وتدخل انكلترا للحفاظ على النظام في سورية، حقق مكسباً وحيداً هو وضع الوحدات العسكرية الخاصة تحت تصرف الحكومة السورية في تموز 1945.

في مستهل عام 1946م، طلبت حكومتا سورية ولبنان من مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة، اتخاذ قرار بجلاء القوات المسلحة الأجنبية من أراضيها على الفور. وبفضل دعم الوفد السوفييتي، والمساندة الدبلوماسية الدائبة، وجو نهوض النضال وضغط الرأي العام العالمي، أدى إلى الموافقة في آذار 1946م على إجلاء قوات المستعمر. وكان ذلك انتصاراً كبيراً للشعبين السوري واللبناني في تاريخهما.

في 17 نيسان 1946م، غادر آخر جندي أجنبي أراضي سورية، واعتبر ذاك التاريخ عيداً وطنياً، يُحتفل به كل عام.

* إن الحرب تاعتامية الثانية، بكل إفرازاتها الإقتصادية والاجتماعية والفكرية، قدمت معطيات عديدة. وطرأت على سياسة الدول الامبريالية، حيال البلدان العربية، تغييرات معينة نظراً للتغيرات التي طرأت في هذه المنطقة إبانها. إلا أن مايهمنا هنا هو بعض منها كمفاعيل تركت بصمتها، وأثَّرت في مجريات التاريخ وحركته:

1- تمدد واتساع رقعة الإيديولوجيا الماركسية جغرافياً.

أ‌-   فعلى صعيد الوجود الفعلي، خرج الاتحاد السوفييتي من وحدته منتصراً وانضم إليه (الصين، وتشيكوسلوفياكيا، ورومانيا، وبلغاريا، وبولونيا، والمانية الشرقية، ويوغسلافيا)، مشكلاً المعسكر الاشتراكي وحلفه العسكري (حلف وارسو)، مقابل نقيضه الذي تجسد بأوربا الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها العسكري (حلف النيتو). ومنذ خمسينيات القرن العشرين برز مصطلح (الحرب الباردة) على السطح، ولم ينتهي فعله ومفعوله إلا حين تفكك هذا المعسكر في 1988م.

ب‌- امتلاك القوى والوسائط المادية التي جعلته يتبوأ مكانة الدولة العظمى (التكنولوجيا العلمية- الردع النووي- غزو الفضاء- مستوى تعليمي وتنظيمي متقدم... إلخ)، جعلت منه قبلةً لأغلب دول العالم الثالث وحركات تحررها.

2- خروج أوربا العجوز، المثقلة بأعباء الحرب العالمية الثانية، من زعامة اتخاذ القرار على مستوى العالم وقيادته، لتتبوأ مكانها الولايات المتحدة، كقوة عظمى، بعد أن طرحت مشروع (مارشال) لإعادة بناء أوربا، والهيمنة عليها.

3- تحول عصبة الأمم إلى هيئة الأمم المتحدة، وتشكيل هيئاتها وكاتبها (مجلس الأمن- الجمعية العامة- محكمة العدل الدولية... إلخ)، وصياغة شرعة حقوق الإنسان، بموادها التي ماتزال عنوان تحرك المسرح الدولي حالياً.

4- توفر الشروط الملائمة لظهور حركات التحرر، واستقلال العديد من الدول المستعمرة سابقاً.  وكان للمعسك الاشتراكي مساهمة كبرى (معنوياً ومادياً وعسكرياً).

5- إنشاء دولة اسرائيل 1948م، وما رافق ذلك من مشاكل وحروب، مما استدعى إلى تحول المسألة الفلسطينية إلى قضية محورية وعنواناً رئيساً لبعض الأنظمة العربية على برامج عملها وسياساتها.

6- عودة الكثير ممن درسوا في أوربا، وتأثروا بأجوائها وثقافاتها، تحدوهم أحلام وطموحات وطنية إلى بلدانهم وأثرهم على الواقع المتخلف فيه.

7- من كل الأسباب السابقة الذكر، كانت المجتمعات العربية عموماً والشرق منها خصوصاً يمر بخطاب مستحدث، أدى لظهور حركات وأحزاب، تُجسد تطلعات مثقفيها كردٍ على تخلف تلك المجتمعات ومتطلباتها..! فبعد سنوات من ظهور الحزب الشيوعي في سورية، كان لظهور قوى أخرى جديدة دوراً هاماً على المسرح السياسي والعملياتي، نذكر بعضاً منها حسب أهميتها وأثرها: (حزب البعث العربي الاشتراكي- إخوان المسلمون- الحزب القومي السوري الاجتماعي). وسنحاول تلمس سيرورة تلك المرحلة بقضها وقضيضها، لنتعرف بقليل من الموضوعية على الأسباب والنتائج ومن ثم تحول النتائج إلى أسباب، لإنتاج ظواهر أخرى جديدة، تمظهرت في سياقها التاريخي كناتج طبيعي لمتطلبات تلك الحقبة.

* رغم نيل الاستقلال السياسي، بقيت سورية هدفاً لمطامع الدول الامبريالية وتطلعاتها التوسعية. فالاحتكارات الأمريكية أخذت تحبك الخطط لبناء خط أنابيب البترول من العربية السعودية إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، عبر أراضي سورية. وبذلت الاحتكارات الفرنسية جهدها للاحتفاظ بمواقعها في اقتصاد البلد. وسعياً لزحزحة فرنسا، حاولت بريطانيا تنفيذ خطة توحيد البلدان العربية تحت إشرافها وإنشاء "سورية الكبرى" و "الهلال الخصيب".

وسعياً إلى إيجاد مخرج للوضع الإقتصادي العصيب. أعدت الحكومة مشروع اتفاقية مع شركة "التابلاين" وشركة "نفط العراق" بشأن مد خطين لأنابيب البترول عبر أراضي سورية، كما أعدت مشروع اتفاقية نقدية مع فرنسا. ولكنها، نظراً للمظاهرات والإضرابات المستمرة في البلد ضد الامبريالية، لم تعمد إلى طرح مسألة عقد هذع الاتفاقيات على بساط البحث أمام البرلمان.

في الوقت ذاته، كان الاستياء والتناقضات تتفاقم في قلب البرجوازية الوطنية نفسها. ففي عام 1947م، حدث انشقاق في الحزب الوطني، ونشأ وضع سياسي متقلقل. كما أن دخول سورية حرب 1948م في فلسطين وما نتج عنها من مآسي وهزيمة للجيش، زاد من تأزم الوضع السياسي الداخلي في سورية، وقُوضت أوضاعها الاقتصادية.

ومع تزايد تغلغل الاحتكارات الأمريكية والبريطانية، وتأزم التناقضات الانجليزية- الفرنسية- الأمريكية، وأزمة الاقتصاد السوري، وضعف البرجوازية الوطنية، فإن الجيش السوري دخل معترك الحياة السياسية. منجزاً سلسلة من الانقلابات العسكرية في فترة وجيزة (حسني الزعيم 30/3/1949- سامي الحناوي 14/8/1949- أديب الشيشكلي 19/12/1949 و 28/11/1951). وجميع هذه الانقلابات اتسمت بطابع فوقي ضيق، وعكست الصراع من أجل السلطة السياسية بين مختلف التكتلات البرجوازية الاقطاعية المعتمدة على أوساط معينة في الجيش، وعلى تأييد الأوساط الاحتكارية الأمريكية والبريطانية.

وباشتداد النضال ضد تعسف الاحتكارات الأجنبية داخل البلد، وقيام الاضرابات في مؤسسات شركة "نفط العراق" وشركة "التابلاين" وشركة "ريجي دي تابا" وغيرها، أمام كل هذا عمدت الحكومات البرجوازية السورية إلى تأميم مؤسسات شركة التبغ الفرنسية "ريجي دي تابا" وشركتي المياه والكهرباء، وتوصلت إلى بعض التحسينات- وإن كانت متواضعة- في شروط الاتفاقيتين المعقودتين مع شركة "نفط العراق" وشركة "التابلان"، كما اتخذ مرسوم يحد من امكانية منح الامتيازات للاحتكارات الأجنبية.

في 25/2/1954م، أُطيح بديكتاتورية الشيشكلي. وميزت هذا الإنقلاب عن سابقاته، أنه اشتركت في تحقيقه أوساط وطنية الميول من البرجوازية وفئات من البرجوازية الصغيرة والمثقفون والطلاب والعمال والفلاحين. وتحققت وحدة العمل بين جماهير الشعب والجيش. فعين رئيساً مؤقتاً للجمهورية زعيم حزب الشعب "هاشم الأتاسي"، وتألفت حكومة ائتلاف من الأحزاب السياسية الكبيرة (الحزب الوطني، حزب الشعب، وكتلة المستقلين) وعين رئيساً للوزراء صبري العسلي، الأمين العام للحزب الوطني.

من أهم انجازات هذه الحكومة المؤقتة: إلغاء أغلب المراسيم المتخذة زمن الديكتاتوريات العسكرية، وبعث المؤسسات الديمقراطية. وبالانتخابات البرلمانية التي جرت في خريف 1954م، فاز عدد كبير من ممثلي الأوساط المعادية للامبريالية في صفوف البرجوازية الوطنية. كما أحرز حزب البعث العربي الاشتراكي نجاحات مرموقة (وكان هذا الحزب قد تألف في أواخر 1953م من اتحاد حزب البعث العربي الذي أنشئ عام 1947م بزعامة ميشيل عفلق، والحزب الاشتراكي العربي الذي تألف في شتاء 1949- 1950م بزعامة أكرو الحوراني). وللمرة الأولى في تاريخ البلدان العربية، انتُخب نائب شيوعي في البرلمان. هو الأمين العام للحزب خالد بكداش.

هذه التطورات السياسية الهامة دفعت الامبريالية، إلى إنشاء الكتل الحربية العدوانية، وحاولت جر سورية بالقوة وإجبارها على الإنضمام إلى الحلف العسكري العراقي- التركي، الذي غدا فيما بعد أساس حلف بغداد.

إلا أن حكومة صبري العسلي الإئتلافية، أعلنت رفضها القاطع لعقد أي أحلاف ومعاهدات مع الدول الغربية، واستجابت للرأي القائل بضرورة اتخاذ البلدان العربية اجراءات دفاعية مشتركة جديدة. هذه الاجراءات أدت إلى اشتداد الضغط من جانب الدول الامبريالية. ففي آذار 1955، واجهت سورية خطر عدوان مسلح من جانب تركيا بتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى. غير أن الاتحاد السوفييتي أذاع بياناً في نيسان من نفس العام "جول الأمن في الشرقين الأدنى والأوسط" مندداً بكل ما يمس استقلال سورية وسيادتها، فاضحاً الخطط العدوانية للامبريالية. مما اضطر تلك الدول إلى العدول عن العدوان المسلح والانتقال إلى تنظيم الاستفزازات والمؤامرات داخل البلد. وكان أول عمل في هذا السياق الجديد، اغتيال العقيد عدنان المالكي المعروف بنشاطه ضد الامبريالية العدوانية. وبناءً على طلب الجماهير الثائرة، مُنع الحزب القومي الاجتماعي السوري الذي عُهد إليه بتنظيم المؤامرة واغتيال العقيد المالكي. وفي أواسط حزيران 1956، تألفت حكومة "الوحدة الوطنية" وعُهد فيها بمنصب وزير الخارجية إلى صلاح الدين البيطار، أحد زعماء حزب البعث. وللمرة الأولى يشترك ممثلوا هذا الحزب في الحكم.

في تشرين الأول 1955م، كانت سورية قد عقدت حلفاً دفاعياً مع مصر، ثم مع العربية السعودية، ثم بين مصر والعربية السعودية.

وفي تموز1956م، اتخذت حكومتا مصر وسورية قراراً بالاتحاد على أسس فيدرالية. وقد حظي القرار بتأييد القوى التقدمية والديمقراطية في سورية، منها حزب البعث الذي كان يعتبر اتحاد البلدان العربية إحدى مهام السياسة الأساسية، وأيد الخطوة الحزب الشيوعي.

وقد عارض الاتحاد، معظم ممثلي حزب الشعب، وحزب "الأخوان المسلمين" وقسم من أعضاء الحزب الوطني.

وأيد الشعب السوري قرار الحكومة المصرية بتأميم قناة السويس. وفي تشرين الثاني 1956م، قطعت سورية علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا إثر العدوان الثلاثي الغادر الذي شنته قوات بريطانيا وفرنسا واسرائيل على مصر، واتخذت قراراً بالتعبئة العامة لأجل مساعدة الشعب المصري. وفي أوج العمليات الحربية، نسف عمال البترول السوريون خطوط أنابيب البترول البريطانية المارة في الأراضي السورية، وفجر الضابط السوري "جول جمال" البارجة الفرنسية الشهيرة "جان دارك".

هذه التغيرات وغيرها في تلك المرحلة، أثرت على تركيبة الحكومة، التي عكست التطورات الطارئة على الحياة السياسية الداخلية في سورية في سنوات 1954- 1956.

صحيح أن السلطة ظلت، كما من قبل، في أيدي البرجوازية الكبيرة والاقطاعيين، ولكن الفئات المتوسطة في المدن والقرى، أخذت تطل في مقدمة الحياة السياسية وخصوصاً حزب البعث. كما أدى امتناع سورية والبلدان العربية الأخرى عن الانضمام إلى حلف بغداد، وفشل العدوان الثلاثي، إلى إضعاف مواقع بريطانيا وفرنسا نهاية 1956 بصورة حادة. وأصبح عام 1957، عام اشتدات هجوم الولايات المتحدة الأمريكية على بلدان هذه المنطقة ولا سيما منها سورية. أضف إلى ذلك هذا الصعود الكبير لشخصية الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" كداعية للقومية العربية ومدافع عنها.

إن المؤامرات والتهديدات وخطر العدوان المسلح السافر، أدى إلى تقوية التضامن العربي في النضال ضد الامبريالية وإلى تسارع عملية الاتحاد بين سورية ومصر أواخر عام 1957م. ولا ننسى تزايد سمعة ونفوذ حزب البعث بتلك المدة القصيرة من عمره، نسبة للأحزاب الأخرى، جعلته من أوسع الأحزاب السياسية جماهيريةً.

وبنتيجة المفاوضات التي جرت في كانةن الثاني 1958م، بين قيادة الجيش وقيادة حزب البعث من جهة والرئيس عبد الناصر من جهة أخرى، اتخذ في أول شباط 1958 قراراً بتوحيد الدولتين بصورة تامة، وبتأسيس الجمهورية العربية المتحدة.

وفي السنة الأولى من الوحدة، تضررت مصالح الأوساط البرجوازية الإقطاعية السورية من قانون الاصلاح الزراعي الذي كان مماثلاً للاصلاح الزراعي الذي طبق في مصر غير عابيء بالخصائص المميزة لسوريا. ناهيك عن أنه لم يكن يحق أن يحصل على الأرض في الاقليم السوري غير ثلث العائلات الفلاحية التي لا تملك أرضاً، بينما حُرم الثلثين الباقيين من هذا الحق. ثم إن تطبيق الاصلاح الزراعي، جرى ببطء شديد. فقد قاطع الاقطاعيون السوريين قرارات لجان مصادرة الأراضي، وقدموا الدعاوى أمام المحاكم، للمماطلة القضائية ممددين بذلك آمال مصادرة الأراضي. كما قام كثير من الاقطاعيين بتفكيك أجهزة الضخ في الأراضي المروية محولين هذه الأراضي إلى أراضي بعلية، لكي يحتفظوا لأنفسهم بمساحات أكبر حسب القانون. وبعد مرور سنة على إقرار قانون الإصلاح الزراعي تقلصت الأراضي المروية بشكل كبير. لذا لاحظنا تردي الوضع الزراعي، وقلت مزروعات القمح والقطن والرز. لاحظوا كيف أن إحدى المنتجات الزراعية (الرز) لم يعد لها أي وجود منذ عقود طويلة. كما أهملت رقع شاسعة من الأراضي المحروثة سابقاً. ومما زاد في تفاقم الوضع، أن سورية عانت من الجفاف الشديد طيلة السنوات الثلاث من الوحدة. وهذا أدى إلى خراب مئات من عائلات الفلاحين الذين اضطروا للنزوح إلى المدن والبلدان المجاورة بحثاً عن العمل. وفي مجال الصناعة والتجارة فقد أُغرقت السوق السورية بالأقمشة والمصنوعات الجلدية الرخيصة القادمة من مصر، وبظل القوانين والأحكام الجديدة ساءت أوضاع أرباب العمل وبدأ الإنتاج الصناعي ينخفض بلا انقطاع، وتوقفت عن العمل عشرات المؤسسات الصناعية والمشاغل الحرفية مما اضطر أيضاً أعداداً كبيرة من العمال إلى النزوح خارج سورية. كذلك فإن مشاريع الإنماء الإقتصادي التي وضعت في سورية قبل الوحدة، كانت تطبق ببطء شديد. وامتنعت البرجوازية السورية عن توظيف الرساميل في المؤسسات الوطنية. وازداد العجز في ميزانية الدولة وفي التجارة وفي ميزان المدفوعات.

ولكن لندقق في السياق التاريخي كيف النظام أخطأ في المعالجة. فبدلاً من تخفيف حدة التوتر لتوطيد أسس الدولة المتحدة، وعوضاً عن بحث البرامج الإصلاحية ومناقشة الانتقادات الصادرة من هنا وهناك، بدأت في الإقليم السوري حملة قمع ضد جميع العناصر الديمقراطية. واتضحت العلاقة بين قيادة البعث وقيادة الجمهورية العربية المتحدة وتأزمت، في الوقت ذاته، ألقت القوى الرجعية في سورية باللائمة للوضع المرهق على عاتق حزب البعث الذي هو المنظم والمبادر الأساسي للاتحاد السياسي الكامل. ولذا فإن حزب البعث فقد مواقعه السياسية، بينما الكثير من ممثلي الأحزاب البرجوازية الاقطاعية السابقة، انتُخبوا أعضاء في الفرع السوري للاتحاد القومي. وأصبح مأمون الكزبري، زعيم "حزب التحرير العربي" سابقاً، رئيساً للجنة الاتحاد القومي في مدينة دمشق.

لكن ما يجب أن نعرفه، أن الاتحاد القومي لم يُصبح في نشاطه العملي منظمة بوسعها أن تقوم مقام الأحزاب السياسية المحلولة. حيث واصلت هذه الأحزاب نشاطها سراً.

في عام 1960 و 1961، اتخذت قيادة الجمهورية العربية المتحدة جملة من الاجراءات باتجاه مركزة السلطة. وفي آب 1961، أُلغي مجلسا الوزراء في الإقليمين، وأنشئت حكومة مركزية واحدة مقرها القاهرة.

كما امتد الإستياء العام وخيبة الأمل من الوحدة، إلى الجيش السوري. وأخذت الحياة السياسية تتعقد وتتأزم يوماً بعد يوم. وهكذا كانت الفئات الاجتماعية والقوى السياسية مستعدة في أواسط 1961 لقطع عرى الوحدة.

غير أن تطور الثورة في مصر بلغ عام 1961م، مرحلة نوعية جديدة، إثر مراسيم التأميم للمؤسسات الصناعية الكبيرة، وذلك سعياً لتعزيز قطاع الدولة (القطاع العام)، ووضع نشاط البرجوازية الكبيرة والاقطاعية تحت رقابة الدولة. وهذا ما أدى إلى الإصطدام بالبرجوازية السورية التي فقدت قسماً كبيراً من رساميلها جراء التأميم. ومما زاد في صعوبة تطبيق المراسيم، أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة، كانت محرومة في سورية من السند الأساسي في هذا النضال ضد البرجوازية الكبيرة، أي تأييد القوى الديمقراطية التي كان قسم كبير منها رازحاً تحت شتى صنوف القمع أو في المهجر.

* في 28 أيلول 1961، قامت البرجوازية الاقطاعية في سورية بإنقلاب عسكري مستغلة الإستياء العام في البلد، وأًعلن انفصال سورية عن قوام الجمهورية العربيةالمتحدة. في اليوم التالي تشكلت الحكومة برئاسة مأمون الكزبري، وضمت كبار الصناعيين والاقطاعيين ورجال المال.

وقد أيد الانفصال، العديد من القوى بما فيها الأوساط اليسارية (خالد العظم، صبري العسلي، أكرم الحوراني، صلاح الدين البيطار).

في أول كانون الأول، عُينت الإنتخابات إلى الجمعية التأسيسية، واستطاعت البرجوازية السورية والاقطاعيون أن ينالوا ثلثي المقاعد، تلاها حزب البعث، رغم خسارته كثيراً من نفوذه. وانتخب أكرم الحوراني نائباً. كما انتخب ناظم القدسي أحد زعماء حزب الشعب رئيساً للجمهورية، وعهد بتأليف الحكومة إلى معروف الدواليبي وهو أيضاً من زعماء الحزب.

بعد فترة وجيزة، اتخذت حكومة الدواليبي، قانوناً بإلغاء تأميم الشركات والمصارف السورية التي شملها مفعول مراسيم 1961م. وفي 28 شباط 1962 صادقت الجمعية التأسيسية على المرسوم الذي قضى بإدخال تعديلات على قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958. واستناداً لأحكام القانون الجديد، انتزع الاقطاعيون بالقوة من الفلاحين الأراضي التي حصلوا عليها بموجب الإصلاح الزراعي.

أثارت سياسة الدواليبي استياء الجماهير، وانطلقت مظاهرات الاحتجاج الكبيرة في دمشق، وأضرب العمال في شركة "الخماسية" وفي غيرها من المؤسسات. وأثارت تلك الاجراءات قلق قادة حزب البعث، عبر بيان نشرته في شباط 1962 أشارت فيه إلى أن الأخطاء التي اقتُرفت في زمن الوحدة، لا تُشكل مبرراً كافياً لفصل الوحدة. وأن اخفاق الوحدة كان نتيجة لطرق تحقيقها. وقد دعت قيادة الحزب إلى وحدة جديدة تقوم على مبدأ القيادة الجماعية، وحرية نشاط الأحزاب السياسية، والمزيد من الحريات الديمقراطية، وعلى أسس الاتحاد الفيدرالي. كان لاستياء الجماهير، صدى في الجيش السوري، وخصوصاً بعد حملة التطهير للضباط الذين شغلوا مناصب رفيعة زمن الوحدة.

في 28 آذار 1962، وقع انقلاب عسكري جديد، قام به فريق من ضباط الجيش برئاسة العقيد عبد الكريم نحلاوي. أعلن الانقلابيون حل الجمعية التأسيسية واعتقال الرئيس والوزراء وعدد من السياسيين، وأن هدفهم إصلاح أخطاء الحكومات الوطنية السابقة.

في أول نيسان استولى آمر حامية حلب العقيد جاسم علوان وعدد من الضباط الناصريين على السلطة في المدينة وطالبوا القيادة العسكرية العليا في دمشق بالاتحاد فوراً مع مصر.

لقد دلت جميع هذه الأحداث على أن الاصلاح الزراعي لعام 1958 ومراسيم تموز 1961 قد دشنت مرحلة جديدة في تطور سورية الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تختلف مبدئياً عن المرحلة السابقة، وعلى أنه لم يبقى بمقدور البرجوازية الكبيرة والاقطاعيين أن يوقفوا هذه العملية أو أن يقضوا عليها.

لكن سرعان ما حاولت الأوساط البرجوازية الاقطاعية الالتفاف وإيجاد الحل الوسط مع قيادة الجيش. فأعيد في نيسان 1962، ناظم القدسي رئيساً، وتشكلت حكومة إئتلافية برئاسة أحمد بشير العظمة، اشترك فيها عضوان من حزب البعث إلى جانب ممثلي الأحزاب السياسية الأخرى. ورغم اعتدال حكومة العظمة، إلا أنها لم تعتزم إلغاء المراسيم التي أقرتها الجمعية التأسيسية. غير أن الضغط الجماهيري واجتياح المظاهرات اضطر الحكومة للتنازلات. فألغي المرسوم الذي اتخذته حكومة الدواليبي، بادخال تعديلات على الاصلاح الزراعي. ووضع قانون 161 من جديد، موضع التنفيذ. فتسارعت وتائر مصادرة الأراضي وتوزيعها، وأممت الشركة "الخماسية" من جديد.

في 25 أيار 1962. وجهت قيادة حزب البعث نداء إلى الحكومة السورية دعتها إلى الشروع بمفاوضات مباشرة مع حكومة مصر، لبعث الوحدة من جديد. مما أدى هذا النداء إلى المزيد من تأزم الخلافات داخل الحزب، وأدى إلى انسحاب كتلة أكرم الحوراني من الحزب.

إن اجراءات حكومة العظمة للتعجيل في تطبيق الاصلاح الزراعي أثارت استياء الاقطاعيين. كما أن سياسة التأميم أثارت استياء البرجوازية الكبيرة والأوساط التجارية ورجال الأعمال. هذه الأسباب، دفعت فريقاً من السياسيين إلى حملة من أجل بعث الجمعية التأسيسة المحلولة. وفي أيلول وافق الرئيس ناظم القدسي على عقد الجمعية التأسيسة وتشكيل حكومة جديدة، وصادقت الجمعية في دورتها الاستثنائية على تعديلات دستور 1950، ثم تنازلت عن صلاحياتها، وتحولت إلى برلمان بموجب الدستور المؤقت لعام 1961. وانتخب النائب المستقل "سعيد الغزي" رئيساً للبرلمان، كما عهد إلى النائب المستقل "خالد العظم" تأليف الحكومة، ضمت 21 وزيراً بينهم ثلاثة من أعضاء حزب البعث. هكذا توطدت تدريجياً مواقع حزب البعث. واستجابت حكومة العظم لمطالب الحزب والمنظمة الوحدوية (الناصريون)، التي أنشئت آنذاك، وأعلنت أن سورية سترحب بإقامة اتحاد فيدرالي مع مصر. لكن الحكومة لم تفي بوعدها ولم تقم بأي خطوة في هذا الاتجاه. ولهذا شدد حزب البعث حملاته على الحكومة.

في مستهل كانون أول 1962، تأزمت التناقضات في قلب الحكومة. وفي شباط 1963م، استمرت الأزمة الحكومية، الناجمة عن الصراع السياسي الحاد بين رئيس الوزراء خالد العظم من جهة، والبعثيين والناصريين من جهة أخرى.

* في 8 آذار 1963م: استولى الجيش بقيادة الضباط البعثيين والوحدويين وسقطت حكومة خالد العظم. وأخذ حزب البعث في يده كامل السلطة في البلاد. وما ميز هذا الإنقلاب عن سابقاته، أن السلطة انتقلت لأول مرة في تاريخ البلاد إلى فئات اجتماعية جديدة (البرجوازية الصغيرة) من المجتمع السوري. هذه المرحلة تميزت بصراع فكري سياسي بين القيادة القومية والقيادة القطرية، وجاءت قرارات المؤتمر القومي السادس للحزب صورة مجسدة لهذا الصراع. حيث ضمت القيادة القومية المنتخبة عدداً كبيراً من البعثيين اليساريين. ومن إجراءات هذه القيادة المرسوم 88 الذي أدخل تعديلات على قانون الإصلاح الزراعي، مفاده تخفيض الحد الأعلى لملكية الأرض. وبذلك أصبح الإصلاح الزراعي في سورية الأكثر جذرية في الشرق العربي كله. كما أُجريت تعديلات على قانون "تنظيم العلاقات الزراعية"، حسنت بموجبه حصة المستأجر من الغلة، وحمته من عسف الإقطاعيين. ثم تلت ذلك وعلى إثر تسرب الرساميل إلى الخارج، تأميم جميع المصارف وشركات الضمان الخاصة. بعدها فُرضت رقابة على النقد الأجنبي وأُغلقت السوق الحرة لتصريف العملة. ورداً على هذه الخطوة اتخذت البرجوازية خطوات مضادة، عندما خفضت من نشاطها الاقتصادي، وأغلقت العديد من المؤسسات وصرفت العمال.

تشكلت حكومة جديدة برئاسة اللواء "أمين الحافظ"، ضمت اليساريين من البعث، وبعضاً من القوميين. إلا أن اللواء "محمد عمران" الذي شغل نائب رئيس الوزراء، بالإضافة لحليفه "حمد عبيد" رئيس الحرس القومي، كانا دعامة لقيادة البعث القومية. مما أدى إلى صراع سياسي سافر بينهما، اشتد بعد حوادث العراق تشرين الثاني 1963. وفي شباط 1964م، نشبت اضطرابات في بانياس. وفي ذكرى الوحدة من نفس العام جرت في حماه اضطرابات كبيرة معادية للحكومة، شارك فيها ملاكوا الأراضي. لكن الحكومة قمعت الاضطرابات وقامت باعتقالات واسعة في حمص واللاذقية وحلب ودير الزور وغيرها.

هذا الوضع الإقتصادي العصيب، وفشل تحقيق فكرة الوحدة، ومحاولة القوميين التساهل تجاه البرجوازية وإعادة النظر بالقرارات التي أدت إلى ابتعادها عن المساهمة بالاقتصاد إضافة لدور العسكر في الأحداث. من كل ما سبق، برزت ضرورة ملحة في إعادة النظر باستراتيجية الحزب وتكتيكه، وإلى البحث عن السبل للحفاظ على مواقعه، تماشياً مع ما أرساه المؤتمر القومي السادس. وكانت المسألة الأساسية، مسألة اختيار السند الطبقي للحزب في أعماله اللاحقة.

في أواسط أيار 1964م، انتُخب مجلس الرئاسة وفقاً لأحكام الدستور. وقد ضم أمين الحافظ رئيساً للمجلس، وصلاح الدين البيطار واللواء محمد عمران بصفتهما نائبي الرئيس، وممثلين عن الحزب، كعضوين، هما الدكتور نور الدين الأتاسي ومنصور الأطرش. وعهد للبيطار بتأليف الحكومة الجديدة. وقد نادى برنامج الحكومة بالنضال ضد الاستثمار والتبعية للرأسمال الأجنبي، وبتوطيد استقلال الاقتصاد الوطني، وأفضلية تطوير القطاع العام، وتسيير الاقتصاد على أساس التخطيط، وتطبيق الاصلاح الزراعي بانسجام ومثابرة. كما أعلنت الحكومة العفو عن المعتقلين السياسيين، وسمحت للنقابات بالنشاط السياسي وباتحادها في اتحاد وطني عام. وتم إقرار نظام داخلي جديد للنقابات.

لكن (لنمعن النظر) قيادة حزب البعث القومية، حاولت في الوقت نفسه أن تقيم صلات وثيقة مع البرجوازية الكبيرة في القطر. وأعلنت أنه لايمكن أن يحالف النجاح تطور الاقتصاد السوري إلا بشرط اجتذاب الرأسمال الخاص على نطاق واسع، سواء منه السوري أم الأجنبي. وبدأت حكومة البيطار مفاوضات نشيطة مع الشركات الأجنبية بصدد اشتراكها في تطور البلد الاقتصادي. وشجعت إلى أقصى حد نشاط القطاع الخاص. ودعت الحكومة إلى الوحدة الفكرية والقومية بين الطبقات، مؤكدة على دور الرأسماليين المحليين البارز في تطور الاقتصاد الوطني. وأعلنت أن القطاع الخاص قطاعاً مقدساً لا يُمس.هذ التناقض بين جناحي الحزب أدى لاشتداد الصراع ومن ثم توطيد مواقع اليسار وإلى تنازل ميشال عفلق عن القيادة. صار اللواء أمين الحافظ أميناً عاماً للحزب، كما اضطلع الجناح اليساري بالدور الحاسم في القيادة القطرية.

شطل أمين الحافظ حكومة جديدة، وباشرت حكومته بجملة من الإصلاحات الإقتصادية الاجتماعية الهادفة لتعزيز قطاع الدولة (القطاع العام)، فأعلن مرسوم تأميم موارد القطر البترولية والمعدنية. وفي النصف الأول من 1965، صدرت مراسيم بتأميم عدد كبير من المؤسسات الصناعية. وبالتالي أصبح قطاع الدولة في الصناعة يملك 80% من الانتاج الصناعي. هذه الاجراءات، سددت ضربة خطيرة إلى الرأسمال الخاص. مما دفع بالطبع إلى احتجاجات البرجوازية والتجار. كما يمكن الإشارة إلى الأخطاء التي وقعت عند تطبيق التأميم عملياً. لأن الحكومة لم تُهيئه وتراقبه بدقة. هذا النهج الرامي إلى تحقيق التحويلات الاجتماعية والاقتصادية، أدى إلى المزيد من تفاقم الصراع داخل حزب البعث. وتبين أن تفوق القوى اليسارية كان قصير الأمد، عندما نجح زعماء الجناح القومي، في حل القيادة القطرية.

شكل صلاح الدين البيطار حكومة جديدة لم تضم أي ممثل عن قيادة الحزب القطرية ولا عن الجيش السوري. هذا الحل الشكلي للأزمة، أبقتها معلقة سياسياً، واحتدم الصراع داخل الحزب.

أنعش وصول البعثيين القوميين إلى الحكم، نشاظ البرجوازية والاقطاعيين وطالبوا بإصرار، إلغاء قوانين التأميم والإصلاح الزراعي، وبعث "حرية المبادهة".

* حركة 23 شباط 1966م: في هذا الوضع الناشيء، اقترح الجناح اليساري عقد مؤتمر قومي أو قطري استثنائي. لكن القيادة القومية رفضت هذا الاقتراح. وفي 23 شباط 1966 أُقصيت القيادة القومية، وحكومة البيطار من الحكم. وكان لدعم الحركة من قبل اللواء حافظ الأسد آمر القوات الجوية حينها أهمية كبيرة في نجاح الإنقلاب.

انتقلت السلطة إلى قيادة البعث القطرية السورية المؤقتة. وأُلغي الدستور المؤقت الساري المفعول، وحل مجلس الثورة القومي. ثم عين الدكتور نور الدين الأتاسي رئيساً للجمهورية. ألف الدكتور "يوسف زعين" الحكومة، وعلاوة على البعثيين اليساريين، ضمت الحكومة عدداً من الشخصيات التقدمية والشيوعية.

أعلنت الحكومة في بيانها، أن مهمتها الأساسية هي السير إلى النهاية بجميع التحويلات التقدمية، وبناء المجتمع الاشتراكي على أساس علمي، مع المراعاة للظروف الملموسة القائمة في العالم العربي. ونظراً للخلافات السابقة بين القيادتين (الجناحين)، تقرر عقد مؤتمر قطري استثنائي، لبحث جميع قضايا الساعة في سياسة الدولة والحزب، وانتخاب قيادة قطرية دائمة. في 10 آذار 1966 انعقد المؤتمر، ودام لأكثر من اسبوعين. حيث جاءت قراراته توطيداً للنهج السياسي الجديد وشكلت نقطة انعطاف في تاريخ حزب البعث السوري.

شرعت الحكومة بالتطبيق العملي للبرنامج الذي أعلنه الحزب والقرارات التي اتخذها المؤتمر الاستثنائي. فأُنشئت مزارع حكومية اختبارية (الاركادا لاحقاً). وتعاونيات زراعية للتصريف. ثم أنشئ اتحاد روابط الفلاحين. واتُخذت الاجراءات لتوسيع القطاع العام في الاقتصاد. ثم توطيد التعاون مع جميع البلدان العربية التقدمية وبالأخص الجمهورية العربية المتحدة، فعقدت اتفاقية الدفاع المشترك وتنسيق الأعمال السياسية والعسكرية والتعاون في ميادين الاقتصاد والثقافة والإعلام. في نيسان 1966 تم التوقيع مع الاتحاد السوفييتي على بناء سد الفرات ومحطته الكهربائية، ومشاريع أخرى. وفي 10 أيلول 1966 طلبت الحكومة من "شركة نفط العراق" زيادة العائدات لقاء مرور البترول من الأراضي السورية كما طلبت دفع الدين الناجم عن خطأ حسابات الشركة للسنوات العشر الأخيرة، وتم إحراز النصر بمطالبها. في 6 أيلول 1966 تم القضاء على مؤامرة نظمها ميشال عفلق والبيطار، وفي اليوم التالي تم القضاء على مؤامرة أخرى بقيادة سليم حاطوم.

بازدياد خطر الثورة المضادة الداخلية والخارجية تم إنشاء اللجنة العليا للدفاع الشعبي وجرى توزيع السلاح على أعضاء المقاومة.

بعد سلسلة من الاستفزازات العسكرية، شنت اسرائيل في 5 حزيران 1967 حرباً على سورية ومصر والأردن. خسرت سورية بموجبها القنيطرة ومرتفعات الجولان. وخسرت الأردن الضفة الغربية، ومصر خسرت سيناء. وسميت نتائج تلك الحرب "النكسة".

ورغم ما أضافته هزيمة 1967 من تعقد وصعوبات للوضع الداخلي السياسي والاقتصادي، فإن الحكومة استأنفت في تنفيذ المشاريع الاقتصادية التي توقفت بسبب الحرب. ففي حزيران 1968، تمت مصادرة نحو مليون و 300 ألف هكتار من فوائض أراضي كبار الملاكين وتوزيعها على الفلاحين. كما وزعت 660 ألف هكتار من أراضي الدولة على الفلاحين. وأُنشئ 370 تعاونية زراعية في الأراضي المصادرة. وأُنشئت مزارع حكومية أولت الحكومة أمر تنظيمها قدراً كبيراً من الاهتمام. وزيدت اعتمادات الدولة لتنمية الزراعة. وفي الميدان الصناعي قامت ببناء مؤسسات صناعية جديدة، التي في وسعها أن تعطي مفعولاً اقتصادياً في المستقبل القريب. وفي 27 تموز 1968، بدأت سورية تصدر البترول إلى بلدان أوربا الغربية. وكان لهذا الحدث أهمية كبيرة لا اقتصادية وحسب بل وسياسية. لأن سورية كانت أول بلد عربي يقوم باستخراج البتول وتكريره وتصديره إلى الأسواق العالمية بدون مشاركة الشركات الأجنبية. في نيسان 1968، وُضع مشروع قانون تنظيم النقابات. وفي 12 حزيران 1968، نشر مشروع قانون الإدارة المحلية، وطُلب من الشعب أن يبحثه ويناقشه.

واتخذت الحكومة الاجراءات لأجل المزيد من توطيد العلاقات مع البلدان العربية (جمهورية مصر العربية، الجزائر، العراق).

بيد أنه سرعان ما أخذت تبرز المصاعب السياسية الداخلية الناجمة عن عواقب العدوان. وتركزت بين القيادة السياسية من جهة ووزير الدفاع حافظ الأسد من جهة أخرى. ومما طرحته نكسة حزيران 1967 ضرورة الوحدة والتعاون بين جميع القوى التقدمية، وضرورة إنشاء جبهة وطنية عامة، بدلاً من شعار (لقاء القوى التقدمية). إلا أنه نشأت مضاعفات مع قيادة الجيش والبرجوازية الصغيرة. وتشابكت هذه القضايا مع القضايا المتعلقة بتصفية عواقب العدوان الإسرائيلي.

في أيلول 1968، انعقد المؤتمر القطري الرابع والمؤتمر القومي العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي ولم يتوصلا إلى حل الخلافات القائمة.

بالإضافة إلى اللاآت الثلاث التي طرحتها سورية في مؤتمر القمة بالخرطوم آب 1967، لحل أزمة الشرق الأوسط بالسبل السلمية، فإن القيادة السياسية السورية طرحت شعار حرب التحرير الشعبية، ومارسته عملياً على جهازها الحزبي. إضافةً لذلك نادت بدعم الحركة الفلسطينية بلا قيد ولا شرط.

في نيسان 1969، تأزمت الخلافات السياسية الداخلية، رغم انعقاد المؤتمر القطري الاستثنائي في آذار 1969 وتأكيده على المبادئ التي صاغتها المؤتمرات السابقة. وأكدت قيادة الحزب من جديد موقفها في مسألة اختيار السبيل لتسوية أزمة الشرق الأوسط. وبما أن المؤتمر لم يستطع حل الخلافات القائمة داخل الحزب، فقد ظلت تضغط وتؤثر سلباً في نشاط القيادة على صعيد الدولة والحزب. ولذا لم تستطع القيادة أن تنفذ جميع القرارات التي اتخذها المؤتمر، ومنها انتخابات مجلس الشعب، ونشر الدستور الدائم، وانشاء هيئات السلطة المحلية.

* الحركة التصحيحية: في أيلول 1970، ازدادت الأزمة تفاقماً من جراء اشتداد نشاط الرجعية الداخلية والخارجية في عموم الشرق العربي بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وتفاقمت بشكل حاد الخلافات داخل حزب البعث خصوصاً بعد الاصطدام المسلح في الأردن بين الفدائيين الفلسطينيين، والقوات الملكية الأردنية، وما تلى ذلك من موقف للقيادة السورية من هذا الاصطدام. من كل ما تقدم، تطلب من القيادة الحزب والدولة في سورية اتخاذ اجراءات عاجلة لإعادة الوضع إلى مجراه الطبيعي. ولهذا الغرض انعقد في 30 تشرين الأول 1970 المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي. وكان جدول الأعمال يتضمن، بحث الوضع الناشيء في العالم العربي بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، والصدام المسلح في الأردن. أما في الواقع، فقد انقلب عمل المؤتمر إلى صراع حاد بين قيادة الحزب، وأنصار وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد.

في 16 تشرين الثاني 1970، أخذت كتلة حافظ الأسد السلطة في يدها. وأذاعت القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث السوري، التي ألفتها هذه الكتلة، بياناً أوضحت فيه أسباب الحوادث الأخيرة في القطر وأشارت فيه إلى أن هدف الحركة هو تصحيح الأخطاء التي اقترفتها القيادة السابقة، وتطبيق قرارات مؤتمرات الحزب. وأن برنامج القيادة الحزبية الجديدة هو حشد القوى التقدمية وتوحيدها تحت قيادة الحزب في جبهة وطنية، وإنشاء مجلس الشعب في مدة ثلاثة أشهر، وإعداد الدستور الدائم، ومواصلة تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية وتلبية حاجات الشعب الأساسية، ورفع دور المنظمات الاجتماعية في بسط الرقابة على نشاط جهاز الدولة، وتعزيز القوات المسلحة.

في 21 تشرين الثاني 1970، تشكلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة اللواء حافظ الأسد. وضمت علاوة على أعضاء حزب البعث، ممثلي أحزاب وكتل سياسية أخرى، بينها الاتحاد الاشتراكي، والحزب الشيوعي السوري. وعين أحمد الخطيب رئيساً للدولة، إلى أن ينتخب مجلس الشعب رسمياً رئيساً للجمهورية العربية السورية.

في 26 تشرين الثاني 1970، أعلنت سورية نبأ انضمامها إلى البلدان التي وقعت ميثاق طرابلس حول إنشاء اتحاد الدول العربية من (سورية ومصر وليبيا).

* هذه الأحداث التاريخية من عمر سلطة البعث (من 8 آذار 1963 وحتى 16 تشرين الثاني 1970) تشير بشكل واضح إلى ما عاناه هذا الحزب على الدوام، من صراع سياسي داخلي حاد نتيجة تركيبته الاجتماعية المتناقضة من حيث مصالحها الاجتماعية والسياسية. وتجسد الصراع منذ البداية بين "قوميين" و "قطريين". وفيما بعد تجسد هذا الصراع بمفهومين أكثر حدةً وانقساماً "يساريين" و "العقل اليميني". وانعكس ذلك في مواقف الحزب السياسية في مختلف مراحل تاريخه.

الآن وقد وصلنا إلى مرحلة حافظ الأسد، كحاكم فعلي وحيد منذ 16 تشرين ثاني 1970، فإنني لن أتناول إلا الجانب السياسي وتحليل البنية الشخصية فقط. ما عداه فهو معروف لدى من يريد المعرفة، على الأقل من معيشته وتعويم حياته على الشفرة الفاصلة بين الموت والحياة.

ولذا سأختار النقاط والظواهر التي أراها تدلل على ما أردت تبيانه:

- في أوج الأزمة المتفجرة بين قيادة الحزب والدولة من جهة، ومجموعة وزير الدفاع حافظ الأسد من جهة أخرى، فإن أحد رفاق الأمس، العقيد عبد الكريم الجندي، وهو واحد من ضباط اللجنة العسكرية البارزين، قد غَيَّبَهُ الموت عام 1969م مع غياب حقيقة موته إن كان انتحاراً كما أُشيع أم قتلاً من قبل حافظ الأسد، كما فعلها بغيره ممن لم يمتلك تجاههم شجاعة المواجهة.

- في عام 1968م، تم إعداد المساعد أول "رفعت الأسد" لدورة عسكرية، نال من خلالها رتبة ضابط. وبموجب هذا الترفيع، شكل أول ظاهرة عسكرية لم تُلفت نظر القيادة في حينها، وهي ماتحولت فيما بعد إلى "سرايا الدفاع" لحماية سلطة شقيقه من أي عمل انقلابي.

- بعد نكسة 1967 مباشرة، وزعت قيادة الحزب قراراً، يتم بموجبه خوض الجهاز الحزبي دورات عمل فدائي على الجميع دون استثناء. إلا أن أعداداً من الجهاز الحزبي استنكفت عن المشاركة، مما أدى إلى فصل قوائم كبيرة منها. وبمجيء حافظ الأسد إلى سدة الحكم بانقلابه 1970، تم استدعاءهم جميعاً، وإعادة عضويتهم.

- بانقلاب عام 1970، المسماة حركة تصحيحية، تم اعتقال قادة الدولة والحزب: (رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب الدكتور نور الدين الأتاسي- رئيس الوزراء الدكتور يوسف زعين مع وزرائه- الأمين العام المساعد صلاح جديد- أعضاء القيادة القطرية- بعض من القيادة القومية- وممن خالف الأسد من قيادات الحزب في المحافظات... إلخ) دام اعتقالهم حتى عام 1994، حين أُفرج عمن تبقى منهم حياً، لكن بعد أن قُتل صلاح جديد...

- إن انقلاب حافظ الأسد على القيادة الاسياسية والحزبية، تم بمساعدة ضباط في الجيش العربي السوري- بعد أن أبعد منافسيه، وقَرَّبَ مؤيديه- من أهمهم: (اللواء محمد عمران، أحد أعضاء اللجنة العسكرية- واللواء ناجي جميل).

في غمرة الشهوة للسلطة، والشك بكل من يملك كفاءة بارزة، اعتمد قانون الغربلة، وتصفية الشخصيات جسدياً أو نقلاً من مهامها أو تسريحاً. وهذا بالذات مادفعه إلى اغتيال اللواء محمد عمران، بعد فترة وجيزة من استلامهىالسلطة، كونه من الشخصيات القوية بكل المعاني.

- في بداية تلك الفترة، انشق الحزب الشيوعي أولى انشقاقاته التي ستتوالى لاحقاً، وخرج جناحٌ أكثر راديكاليةً سمي بالحزب الشيوعي (جناح رياض الترك)، والذي تحول بعد ثلاثة عقود ونصف إلى حزب الشعب عبر مؤتمر عام. هذا الجناح رفض الانخراط في الجبهة الوطنية حينها، ثم فيما بعد انسحب حزب الاتحاد الاشتراكي أيضاً من تلك الجبهة، عندما تأكد لأمينه العام "الدكتور جمال الأتاسي" من أن الجبهة لم يكون لها المصاقية والفاعلية للعب الدور الوطني المعلن عنه.

- كان انقلاب 1970، مصدر راحة لطبقة رأي المال التجاري والصناعي والاقطاع، التي أُبعدت سابقاً وصودرت وأممت أملاكها. وبعد إعلان الأسد رئيساً للجمهورية ، قام بزيارة بعض المدن  السورية، واستُقبل على بواباتها وأسواقها الشهيرة من قبل تلك الطبقة مع حشد جماهيري واسع، حيث قدمت مئات الذبائح في كل مرة مع العراضات الشعبية احتفاءً بقدوم المخلص، في سابقة لم يشهدها القطر إطلاقاً. هذه البداية هي التي ستقود إلى تأسيس ظاهرة التقديس للرئيس، وامتلاء المدن وشوارعها ومكاتب الدولة بالصور الضخمة والتماثيل من مختلف الأحجام.

- بعد معارك 1973، وبموجب الاتفاقيات المعلنة في أعقابها، أُعيدت مدينة القنيطرة عاصمة الجولان المحتل ليصبح حافظ الأسد "بطل التشرينيين".

في هذه الفترة الذهبية، أُغدق على القطر هبات ومساعدات نقدية من "البترو دولار". مما أنعش القطر اقتصادياً، وأعمى بصيرة الناس والأحزاب السياسية عن حقيقة وجوهر هذا النظام. وزاد في ذلك انفتاح دول الخليج وعلى رأسها السعودية بما يسمى "دول الاعتدال"، بسبب توفر العمالة الاقتصادية من جهة والسياسات المتصالحة من جهة ثانية. وهذا بالضبط ما أضاف رصيداً قوياً في إحكام سلطة حافظ الأسد.

- بعد معارك أيلول الأسود 1970 في الأردن، تم انتقال المنظمات الفلسطينية إلى لبنان، وانفتح الجنوب اللبناني لعملياتها العسكرية. كان أهم الزعماء الذين دعموا وجودها "كمال جنبلاط" زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، والقوى الوطنية اللبنانية التي تلاحمت معها في تحالف مصيري وعمليات عسكرية مشتركة، أقلق اسرائيل والغرب عموماً.

في عام 1974، بدأت تطفح على السطح تناقضات بين اليمين اللبناني بقيادة حزب الكتائب من جهة والفلسطينيين مع حلفائهم القوى الوطنية اللبنانية من جهة أخرى. تطور التناقض قتالاً دموياً، ثم مالبث أن انفجر حرباً أهلية في عموم الساحة اللبنانية.

في عام 1976، كانت انتصارات القوى الوطنية اللبنانية المدعَّمة بالفعل الفلسطيني تقترب من نهاياتها، عندما هربت قيادات اليمين إلى قبرص، وما تبقى من قواتها تخوض معركتها الأخيرة في آخر معاقلها (الكرنتينا، والمسلخ) في بيروت. في هذع الأثناء دخلت دبابات الأسد إلى لبنان تحت اسم "قوات الردع العربية" وخاضت أعنف المعارك ضد القوى الفلسطينية في معسكر "تل الزعتر" المشهور الذي صمد 47 يوماً، مدمرة تحصيناته ومقاتليه ونساءه وأطفاله بشكل وحشي. اندحرت القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية وأُعلن يومها شعار "لا غالب ولا مغلوب"، وأُعيدت قيادات اليمين إلى لبنان. إنها بداية التأسيس لهيمنة القيادة السورية على لبنان التي تمت بمقايضات سرية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً.

- في عام 1974، بدأت عمليات اخوان المسلمين المسلحة على الساحة السورية، وتبلورت عملياتها في عام 1976، بمقتل "محمد الغرة" رئيس جهاز المخابرات العسكرية في حماة. توالت عمليات الإغتيال والتفجيرات حتى عام 1982، عندما خُتمت بمعركة فاصلة، سُحقت على أثرها حماة بعد دكِّها بالمدفعية والدبابات، وكان حصيلتها 35 ألف قتيل، و17 ألف مفقود، أُعدموا من خلال محاكم ميدانية صورية في تدمر.

تحت هذا الغطاء من العمليات والصمت الدولي، شنت السلطات الأمنية اعتقالات واسعة لكافة فصائل المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وبدأت مرحلة جديدة بمسمى "الداخل مفقود والخارج مولود".

- بهذه المرحلة الصاخبة من السبعينيات، تم اغتيال الزعيم الوطني "كمال جنبلاط" لمعارضته سياسات حافظ الأسد في لبنان. ولم يسلم من تلك الإغتيالات حتى أصحاب القلم. فاغتيل "سليم اللوزي" الصحفي الشهير حينها. إثر مقالة انتقد فيها سلوك النظام. فوجد جثة هامدة في غابة الصنوبر مقطوع اللسان وبجانبه ورقة كُتب عليها (هذا جزاء كل من يطيل لسانه).

- في إحدى الحكايات المتناقلة مايلي: عندما كان حافظ الأسد طالباً في الصف العاشر بثانوية جول جمال في اللاذقية، عاقبه مدرس مادة الجغرافية بصفعة على وجهه. وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية استدعاه إلى قصر الرئاسة، عندما كان المدرس عاثر الحظ في الثمانين من عمره، يقف أمامه مستنداً على عكازه محسناً الظن بما يجري. إلا أن سيادة الرئيس وهو يعيد ذاكرته إلى تلك الصفعة المشؤومة ناوله صفعةً مقابلها أطاحته أرضاً.

- في عام 1980، جرت محاولة اغتيال للرئيس الأسد من عناصر إخوان المسلمين، وباءت بالفشل. ورداً على تلك المحاولة قام شقيقه "رفعت الأسد" بإنزال قواته "سرايا الدفاع" عبر طائرات الهيلوكابتر في سجن تدمر، مستبيحاً ساحاتها عبر مجزرة رهيبة، أصبحت على لسان كل مواطن ناشرة الذعر والخوف.

- في عام 1984، وصلت ظاهرة رفعت الأسد إلى الذروة، عندما أنصاره صار لهم تواجد في كل مؤسسات الدولة والحزب، وتحول زعيمهم "رفعت" على ألسنتهم بـ "القائد" مع إبراز صورة له صغيرة معلقة على الصدر كشعار.

كان يبدو كل شيء مهيء لخلافة حافظ الأسد، ولما دخل الرئيس في غيبوبة سارع رفعت نائب الرئيس لنشر قواته واستولى على المراكز الحساسة ورتب كل مايجعله هو الرئيس. إلا أن حافظ الأسد، وبعد أن تجاوز الخطر واستفاق من غيبوبته، فاجأه استعدادات أخيه لاستلام السلطة بالقوة. لم تُفلح جهود المصالحة بينهما، وأصر على إبعاد أخيه من سورية نهائياً وهذا ما حصل فعلاً.

- في سيرورة حياته السياسية كان حافظ الأسد يجهد في إيجاد أوراق هامة للإمساك بها والحفاظ عليها لتجعل منه لاعباً أساسياً في المنطقة وتعطيه قوة المناورة والمساومة. (كالورقة اللبنانية- الورقة الفلسطينية- الورقة الكردية ومنها ب ك ك- الورقة العراقية عبر احتضانه معارضتها في سورية... إلخ). لكن لم يكن هناك أي قاعدة حتى الأخلاقية منها للتعامل والالتزام بالحقائق الموضوعية: فهو من اقتنص السلطة من رفاقه وهو من قتل حلفاؤه الذين ساعدوه على الوصول إلى دفة السلطة وهو من قتل حلفاء الأمس في لبنان (كما جنبلاط) وغيره، وهو من انقلب على حليفه (عبد الله أوجلان) والأمثلة كثيرة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر سأتناول مثالاً واحداً نؤكد من خلاله ما أسلفناه: في الورقة الفلسطينية كانت كل المحاولات في إضعاف الفلسطينيين وشقهم ومن ثم ضربهم لينضووا تحت عباءة النظام. غير أن الظروف الدولية والاقليمية التي نضجت سمحت للزعيم "ياسر عرفات" بالجهر نحو استقلاله بالورقة الفلسطينية مما استدعى عداء النظام السوري له وتحول حافظ الأسد إلى عدوٍ لدود. كانت الأوامر للقوات السورية صريحةً بمطاردة الفلسطينيين والظفر برأس ياسر عرفات إلا أن التدخل الدولي وخصوصاً الأوربي منها أنقذ الفلسطينيين من المذبحة الرهيبة ونقلتهم أساطيل فرنسا من طرابلس شمال لبنان إلى منفاهم الجديد تونس.

- في حادثة ليست فريدة من نوعها إنما في شكلها فقط.. عندما اعتقل حافظ الأسد أعضاء قيادة الدولة والحزب في 1970، استطاع ابراهيم ماخوس وزير الخارجية مع آخرين الهرب إلى لبنان. كان أحد الهاربين "عقل قربان"، الذي شغل منصب أمين سر مكتب الأمن القومي. لم يطل المقام بهم كثيراً، عندما جرت محاولة اغتيالهم من قبل عناصر الأمن السوري، مما دفع رئيس الجزائر "هواري بومدين" لاستدعائهم إلى الجزائر وتأمين حماية لهم، كون (الدكتور ابراهيم ماخوس مع رفيقيه الدكتور نور الدين الأتاسي والدكتور يوسف زعين) قد خدموا في صفوف الثورة الجزائرية قبل الاستقلال.

في محاولة أخرى من قبل الأمن السوري تمكن هذه المرة من إلقاء القبض على "عقل قربان" فَهرَّبوه مُخدَّراً داخل تابوت إلى سورية. أُلقي به داخل زنزانة "السيلول" في سجن المزة مدة ثلاثة عشر عاماً.. لم يُحاكم ولم يُسأل عن شيء ومُنع من أي اتصال بأي بشرٍ طيلة سجنه.. في العامين الأخرين من حياته لم يكن ينطق بأي كلمة بشرية، إنما يُسمع له عواء كالحيوانات يصدر من زنزانته.. في يوميه الأخرين نُقل إلى مشفى المزة وكان جسده مُغطى بفقاقيع ودمامل تنز قيحاً ورائحةً نتنة. لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة على أسئلة جاره الموجود على السرير المجاور..! قضى "عقل قربان" نحبه وذهبت معه الأسرار التي كانت سبباً في مأساته كغيره..!

كان الحقد والغدر أهم صفات حافظ الأسد، وكان الأكثر حفظاً وتمسكاً بتعاليم "ميكيافيلي" لاستقرار حكمه وديمومته.. إنها "الغاية التي تبرر الواسطة"..!

- في المجال السياسي الذي ركَّزتُ عليه، سبق أن أشرت إلى انعقاد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي في 30 تشرين الثاني 1970. وكانت الغاية منه بحث الموضوع الناشيء بعد وفاة جمال عبد الناصر والصدام المسلح في الأردن. وكيف انقلب في حقيقة الأمر إلى صراع حاد بين قيادة الحزب وأنصار حافظ الأسد..

كانت النقاط الخلافية، السبعة عشر، قد أخذ به حافظ الأسد، بعد انقلابه، كتسمية فقطبعد أن جّرَّدها من كل مضمون وفصَّلها على مقاساته التي ضَّمنها برنامج عمله السياسي لاحقاً.. فحزب البعث الحاكم لم يعد له أي دور حقيقي في الحياة السياسية.. هو واجهة ديكور للتجميل لا أكثر.. لم يعقد أي مؤتمر لا قطري ولا قومي.. فأي حزب هذا الذي سبق أن تبوأ في الدستور بالمادة 8 من أنه قائد الدولة والمجتمع؟

الجبهة الوطنية هيكل كما هو مجلس الشعب، وكما هي كل المؤسسات الأخرى.. باستثناء المؤسسة الأمنية، طالما كل شيء حتى الوكن تماهى في شخص الرئيس. لقد دمرَّ كل شيء حتى الحياة السياسية. ولم يبقى إلا الرعب والخوف المعمم رازحاً على مساحة الوطن وحتى بين الجاليات السورية في الاغتراب..! الأهم في كل ذلك تَهَدُّمْ الطبقة الوسطى وإفقارها طالما كانت الإطار الاجتماعي المنتج للوعي والحراك السياسي.

لكن لاحظوا معي كيف رتَّب حافظ الأسد بيته الداخلي:

منذ البداية أسلفنا كيف تم الإعتماد على عناصر وقوى مختلفة عكست ظاهرياً نمط حكم فيه مشاركة من قوى ومشارب مختلفة. واعتمد على تنظيف ذلك البيت من العناصر المشكوك بأمرها وولاءها. ثم فتح الباب على مصراعيه للتوظيف من الطائفة العلوية- رغم بؤس تلك الطائفة اقتصادياً في أغلبها- ثم زاد من نسبة الموفدين من الطائفة في البعثات الدراسية أيضاً. إلا أن أوسع قطاعات التوظيف كان في مؤسسة الجيش والمخابرات- بكل فروعها- التي نمت وتمددت بشكل سرطاني.

ففي مؤسسة الجيش، كان لابد من أن تكون قيادة الوحدة في يد ضابط علوي. وإن لم يتوفر فلا بد من أن يكون ضابط أمن الوحدة علوياً حتى لو كان ضابط صف. أما في المؤسسة الأكنية فهي الأخرى اتسمت بالنسبة العظمى من تلك الطائفة. وفي كلا المؤسستين كان البقية من خارج الطائفة يُعانون من التهميش إلا القلة القليلة المختبرة في ولائها..!

هذه اللفتة الخبيثة، لم يكن لأهلنا من تلك الطائفة أي ذنب بها، لكنها فعلت فعلها مع الوقت، وجعلت الكثير منهم وبايحاء من هرم السلطة للاعتقاد بأن هذا الحكم للطائفة العلوية. كما بدأت تنتشر تلك الملاحظة في بقية أبناء الشعب على اختلاف مذاهبها.

أثناء صراعه مع إخوان المسلمين، يتبدى واضحاً التفاف عناصر تلك الطائفة حول النظام، دفاعاً مستميتاً، ظناً منها أنها تُدافع عن الطائفة وحقوقها المكتسبة. وهنا لابد من الإشارة إلى سياسة إخوان المسلمين الخاطئة، التي أعطت للسلطة كل ذلك الزخم والقوة والتعاطف والالتفاف حولها، خوفاً من تَسيّد فئة متعصبة أصولية.

ومع الوقت كانت دائرة تلك السلطة الفعلية تضيق، إلى أن وصلت إلى حكم العائلة الأسدية وفيما بعد إلى السيد المطلق، الذي لم يقبل أن يكون له شريك حتى أخيه. مما دفع به للتأسيس إلى مفهوم التوريث لإبنه.

هذا العقل الذي لم يحتمل صفعة أستاذه، هو نفسه لم يستطع تقبل منافسة أخيه، وهو الذي لن يحتمل أية معارضة من أي لون كان.. وهو من أسكرته شعارات أجهزته الأمنية "يا الله حَلِّكْ حَلَّكْ يُقعد حافظ محلك"..

وهو نفسه من سمح بصرف المبالغ الباهظة على احتفالات ذكرى التصحيح وغيرها من صور وتماثيل لا حصر لها.. وأخيراً هو نفسه من فتح باب الرشوة والسرقة على مصراعيه مقابل الولاء، وتحوله إلى رمز مقدس.

- إن ظاهرة تقديس القائد وصلت إلى الحد الذي بدأ فيه الناس يشاركون في تردادها لا لقناعتهم بذلك. فهم يُدركون أنها كذبة. إنما جُعل الناس واعين بمحاولة الدولة للتحكم بلغتهم، كما أنهم جُعلوا واعين أيضاً بإرادتهم للإمتثال.

إن جعل شخصية ماتنفي مبدأً أو اعتقاداً بدون سبب، هو الخطوة الأولى نحو جعلها لا تملك ذاتاً. لأنها تُصبح غير قادرة على نسج شبكةٍ متماسكة من الاعتقاد والرغبة. إنها تجعلها غير عقلانية بالمعنى الدقيق. فهي غير قادرة على إعطاء سبباً لاعتقادها المنسجم مع اعتقادات أخرى. وتُصبح غير عقلانية- ليس بمعنى أنها فقدت الإتصال بالواقع- لكن بمعنى أنها لا تستطيع بعد الآن عقلنة أو تبرير نفسها لنفسها.. ولذا فإنها تكذب وتُزَيِّف دون ضغط، وتتحول إلى مخبر مجاني، بل تَكُمُّ أفواهها بإرادتها لتعكس لنا ظاهرة غريبة أسميناها "الرهاب المعمم". (10)

عندما لفحت رياح الربيع العربي سورية في آذار 2011م، لاحظنا منذ الوهلة الأولى فرح الشباب ومشاعرهم العجيبة حينما عَبَّر أغلبهم بجملة واحدة: "أشعر أنني الآن إنسان آخر". هذه الجملة بحد ذاتها كانت كافية للتعبير عن إعادة امتلاكه حريته، للتعبير بكل صدق عما كان قد فقده وشارك بإرادته في الغاء ذاته وكيف استعاده الآن.

إن المشاركة في سياسة الخداع، تخلع المواطن من وجدانه وكرامته. والإنقسام بين الحاكم والمحكوم، يمر خلال كل شخص، كل بطريقته، ليُصبح الضحية والداعم للنظام بآن واحد. هكذا نسطيع أن نُدرك، خلال حكم الأسد الطويل، كيف كانت المعارضة بقضها وقضيضها تتلقى كل صفوف التصفية والتعذيب والملاحقة، بالوقت الذي كان فيه غالبية الناس تبدو من خلال عدم مبالاتها، متورطة عن وعي بتواطؤها. مما ترك المعارضة منفردة بتصديها للنظام، لتتمزق وتتهرأ عبر 40 عاماً من هذا الحكم التسلطي العجيب.

إن ما أقدمه في هذه الفقرة، ليس للتقليل من شأن الشباب الثائر، إنما لتفسير ماحصل أولاً، ثم لمعرفة ماغاب من حقيقة عن أولئك الذين يقولون "لا نريد تنظيمات أو سياسيين فهم يلوثون الحراك".

إن من يريد أن ينتقد ماضي القوى السياسية كما هو حاصل الآن، يجب أن يبدأ بنفسه لأنه هو من كان سلبياً وبعيداً عن أي فعل تشاركي، بل أكثر من هذا كان متواطئاً.. أما وقد تحرر الآن من كل هذا الكابوس، الذي جَرَّده من إنسانيته، فإننا نحترم ونقدر تضحياته وتطلعاته ونقف معه ولجانبه بكل إجلال.. لكن ليكن معلوماً، أن لكل طرف حقه ودوره، فمن أولى مبادئ الديمقراطية الإعتراف بالآخر وعدم الإقصاء..!

إلى هنا أعتقد أنه يكفي تلك المقتطفات. فالملف طال واستطال ولابد من النهاية التي هي السبب في كتابتي لهذه المادة..

مختصرات ونتائج:

اليوم ونحن نرى ونراقب ظاهرة لا سابقة لها في التاريخ. ظاهرة الاحتجاج والتظاهر السلمي، رغم العنف الذي يقابلها من السلطة الأمنية فإننا نسجل الملاحظات التالية:

1- إن ما ورد من استفاضة في البعد التاريخي سببه بيان ملاحظتين:

أ‌-   محاولة الكشف-عبر استعراض الظواهر- عن الأسباب التي أدت إلى وجودها بذاتها لا غيرها. وهذا ما أكدنا عليه باعتماد دنا على مبدأ ربط السبب بالنتيجة. بينما في الحوارات التي تجري الآن، فإن في أغلبها، تُقدم الظاهرة على شكل توصيف لها ومن ثم حكم قيمي تنتفي من خلاله الموضوعية والدراسة العلمية لها.

ب‌-  بيان الظواهر الحاضرة على أنها لم تأتي مقطوعة الجذور، إنما أسبابها بهذا الماضي الذي أنتج ثقافة حتى الشفهية منها وولدَّ تلك الاحتمالات في وجودها.

وحتى تكون الملاحظتين واضحتين لا بد من مثال: لقد طرحت الماركسية علماً عبر قوانين لم تستطع الرأسمالية دحضها حتى الآن. إلا أن عدم وجود من يطورها لمواكبة المكتشفات العلمية من جهة، وقادة الأحزاب الشيوعية، بما مارسوه من عسف وتسلط من جهة ثانية، دفع بالكثير للحكم على النظرية بالموت ومن ثم تحميل النتائج للفكر لا إلى من مارسه خطأً. فتسمع بكل بساطة سقطت الشيوعية.. ديكتاتورية عبد الناصر هي السبب بما نحن فيه.. حزب البعث فاشي وعصبوي.. ووو

هذه الأحكام التعسفية لم تنوجد إلا لأن من يرددها لا دراية له بتفاصيل الماضي وحيثياته، ولم يُكلف نفسه إيجاد السبب، وبالتالي فإنه إن تمكن مستقبلاً من الوصول إلى السلطة لن يكون منتجاً إلا لذات الظاهرة التي ينتقد، بل سيكون أكثر خطأً وأفدح خطراً.

وفي مثال آخر: فإن حزب البعث في سورية أقر قانون رقم 6 عام 1963. لكن هذا القانون وُضع لصالح الفلاح، وكسر شوكة الإقطاع. غير أن من سخرية القدر، حاكم حافظ الأسد البعثيين وغيرهم عام 1982 على ذلك القانون. حيث أن الفقرة هـ منه تدفع بالمحكوم إلى حبل المشنقة. السؤال الذي يفرض نفسه، من كان بإمكانه أن يتخيل أو يتصور أن القانون الذي وُضع لردع الإقطاع، إنما سيطاله يوماً.لا لإنه إقطاعي، إنما لوجود طاغية يستخدم القانون على هواه.

ثم لننتبه إلى أن لكل ظاهرة شرطها التاريخي. بمعنى آخر، لا يمكن أن تكون إلا إذا توفرت لها المناخات الملائمة والمعطيات المناسبة والأسباب الموجبة لوجودها. وهذا يجعلنا نؤكد على أنه لو أعاد التاريخ أو (الزمن) نفسه، فلن يكون إلا ما كان.

إذاً فالنتيجة الأولى: هي الإحاطة بالظاهرة من جوانب عدة ووضعها بسياقها التاريخي وعدم التسرع في إعطاء أحكامنا دون تدقيق ومعرفة.

2- إستناداً إلى الفقرة السابقة، فإن المعارضة التي تواجدت من 1970 ودفعت ثمناً باهظاً من حياتها وحيات عوائلها وأطفالها تشرداً واعتقالاً وتصفيةً جسدية ليست نكرة. إنما ما قدمته هو فعل تراكمي. ولذا مع كل الاحترام للحركة الشبابية التي نزلت الآن إلى الشوارع بصدورها العارية، لم تكن نزوة أو قادمة من فراغ، إنما فعل مكمل لماضي له أسبابه الموجبة. صحيح أن مافعله النظام كان سبباً رئيسياً. لكن أيضاً ما قدمته المعارضة عبر أربعة عقود، كان سبباً آخراً لا يمكن لأحدٍ أن يتجاهله، كما طرح بعضهم، طالما توافق الجميع على برنامج الحد الأدنى، وهو تغيير النظام وبناء مجتمع مدني ديمقراطي برلماني. كما يجدر بالجميع أن يعرف أن لهذه المعارضة تجربة وخبرة يُمكن توظيفها والاستفادة منها. ولذا فإن النتيجة الثانية هي: المعارضة وحركة الشباب، مكونان متكاملان في العمل الوطني، لا يستطيع أحد تجاوز الآخر أو الإدعاء بأن أحدهما هو صاحب الموقف وله الحق بإحتكاره.

3- أشرت في المقدمة المنهجية أن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتها، وما يجمع بين الأفراد نقاط تقاطع، أي أننا نعترف ضمناً أن هناك نقاط اختلاف أيضاً. وإذا قمنا بمراجعة الماضي نلحظ أن كل القوى الاجتماعية السياسية قامت بفعل سلبي تجاه بعضها، وكل ما سُمي حواراً بينها لم يكن إلا بالاسم فقط. والسبب غياب الديمقراطية بينها وحتى بين أفراد التنظيم الواحد. والأنكى من ذلك أن الجميع استخدموا مفردة الديمقراطية في أدبياتهم، إلا أنه لم يوليها أحد ذاك الاهتمام والفهم والوعي لحيثياتها وقيمتها، فجاءت الممارسة مصادرة وفعل فوقي. هذا الفعل ساهم في دعم تلك الأنظمة الشمولية، وبالتالي فإننا كمعارضة، نتحمل قسطاً من المسؤولية تاريخياً. لأن حواراتنا كانت في أغلبها تقع في حقل نقاط الإختلاف بسبب وعينا القاصر في حينها. ومع ذلك يجب ألا ننسى الإرهاصات المبكرة عام 1979 التي أدت إلى ظهور "التجمع الوطني الديمقراطي".

أما الآن وبعد المراجعات التي قام بها الغالبية، والتجارب والمحن بما حملته من مرارات، فإن الفعل الحالي يجب أن يكون في حقل نقاط التقاطع، وهو فعلاً ابتدأ من هذا المستوى، عندما تحرك الشارع معارضاً السلطة ومختزلاً برنامجه إلى الحد الأدنى، حيث نال إجماعاً كافياً لذاك الفعل.

وبذلك تكون النتيجة الثالثة: هي أن نشاط الأفراد أو القوى والأحزاب، كانت تتم في حقل الإختلاف. أما ظاهرة اليوم من فعل جماهيري، بدأت في حقل الالتقاء، ولذا يجب أن نعيه ونعمته ونعرف قيمته التاريخية وأن نشتغل عليه.

4- إن فكرة المراجعات التي ذكرتها بالفقرة السابقة، كانت نوعاً من النقد والنقد الذاتي وامتلاك الجرأة للاعتراف بالخطأ والحوار لإيجاد البدائل المناسبة. هذه المراجعات، رغم أنها ناقصة. فإن أغلب السياسيين والقوى الاجتماعية السياسية مارستها وسنرى أثرها في المثالين التاليين:

·   إن إخوان المسلمين في بداية الثمانينات من القرن الماضي وماقبلها، لم يكن بالإمكان إيجاد لغة حوار مع الآخر ولا تقبلاً له. وإن وُجد فإنه لم يتعدى بضع دقائق في أحسن الأحوال، ضمن جوٍ متوتر، يُشهرون خلاله القرآن في وجوهنا مع عبارات: هذا دستورنا وهو برنامج عملنا وكل ما يتطلبه الإنسان والمجتمع موجود فيه. أما مفرداتكم المستوردة من الغرب فهي لا تصلح لنا.. كافرة وملحدة..!

عندما انتهى قتالهم مع النظام في 1982، وقُتل من قُتل وهرب من هرب. فإن الإدانات وما صاحب تلك المرحلة من آلام ومرارات، دفعت ببعض الأفكار الجديدة التي كنا نسمع بها من هنا وهناك. وبعد ثلاثون عاماً تقريباً برزت على لسان قياداتهم مفاهيم لم تكن يوماً من منهاجهم. لقد نزلوا من مفاهيم السماء إلى مفاهيم الأرض، التي هي أساس التعايش اليومي بين كل مكونات هذا الوطن (سوريا). والتي يجب أن نتشارك في انتاجها وتحديدها جميعاً دون استثناء.

·       في مثالٍ آخر: نجد معظم الأحزاب الكردية كيف صاغت خطابها بشكل مختصر: هناك قضية كردية فقط ومن لا يعترف بها فهو شوفيني.. و.. و.. وبالتالي فإن المسألة هي بين عرب وكرد.

لكنهم كغيرهم، فإن طبيعة المرحلة وعسف النظام على الجميع دفع لإنتاج خطاب جديد ووعي يتقارب فيه الجميع نحو حل واحد: "تغيير النظام، وبناء مجتمع ديمقراطي برلماني تتساوى فيه كافة مكوناته بالحقوق والواجبات، تحت سقف الوطن الواحد سوريا".

وبالتالي فإن النتيجة الرابعة: هي الإعتراف بالآخر. وكل استثناء هو خرق فاضح لامبرر له على الإطلاق، طالما اعترفنا أن الديمقراطيه هي المفتاح. كما أن كل رأي يًشكك أو يُجرِّم على ماضٍ أو إسمٍ، هو حكم قيمي إلغائي سببه عدم تخلصنا مما علق بنا من ذلك الماضي. أما مانراه من انقسامات وتضاد في الآراء على مستوى الأفراد أو القوى في التنسيقيات أو بين الأحزاب، وما نراه من اتخاذ البعض من أنفسهم مراجع لا يمكن تجاوزها، فهي الطاقة الكبرى في بعثرة الحراك الشعبي وإضعافه.

5- بالنسبة لمسألة المفاهيم فهي من الكثرة، بحيث لا تنتهي طالما الحياة مستمرة وتولِّد مع الوقت أشكالاً مختلفة. إلا أن المتتبع تُفاجئه تلك الآراء التي لا رابط بينها وبالتالي نجد السؤال الملح: كيف السبيل إلى تفاهمات ومساهمات نحو بناء مجتمع واعٍ لمتطلباته؟

فعلى سبيل المثال لا الحصر: "الحرية، الوطنية، الديمقراطية... إلخ" مفاهيم متغيرة حسب الشروط والمفاعيل المتوفرة في السياق التاريخي، وكل ثبات جمود ومقتل، وللتوضيح فإن مفعوم "الوطنية" كان يعني في مرحلة الاستعمار الفرنسي: التحرر والاستقلال. وفي مرحلة لاحقة كانت تعني النمو الاقتصادي والعلمي. والآن أراه يعني، إضافة لتحرير الأراضي المحتلة، تغيير النظام الشمولي وبناء المجتمع المدني الديمقراطي البرلماني. هذه المفاهيم التي رأينا قلة دراية بها وقلة تحديد لها، قد خلقت تشويشاً وتباعداً في الرؤى فكيف نستطيع أن نُكوِّن نظرة متقاربة لما بعد إسقاط السلطة..؟

إن ما على ذلك، تَعَرَّض البعض للسؤال: "ماهي الحرية التي تريد؟". والمفاجأة كانت بتلك الإجابات المرتبكة..! وفي سياق آخر كنا نرى خلطاً بين إسقاط السلطة وإسقاط النظام وتطابقهما لدى الغالبية. بينما إسقاط السلطة تعني الرموز التي ترسم سياسات البلد بدءً من الرئيس والوزراء وضباط الأمن... إلخ. بينما إسقاط النظام يعني تغيير تلك المفاهيم والقيم التي أفرزتها السلطة عبر مؤسساتها. وهي تتطلب وقتاً لا يقل عن عقدٍ من الزمن على الأقل، حتى نضمن عدم إعادة إنتاج سلطةٍ تُدمر الحياة السياسية والبلد مرة أخرى.

لذا أرى من الضروري، تناول المفاهيم المتداولة في حوارٍ جدي، لتحديدها بما ينسجم وواقع الحال، وليس بما هي مُعرَّفه من قبل هذا الكاتب أو ذاك أو نقلاً عن تجربة هذه الدولة أو تلك. إن الإضطلاع على ثقافات الآخرين عامةً مفيدة، والتعرف على تجارب الآخرين ضرورية، لكن لا أن نُقلِّدها بحرفيتها.

هكذا تكون النتيجة الخامسة: معرفة ووعي واقعنا ومتطلباته والشروط المتوفرة لتحقيقه.

6- بالنسبة لسلمية الحراك، فهو مفهوم، وفعل حساس جداً. ورغم تأكيدنا وإصرارنا على سلمية الحراك، فإننا نطلب من الداخل والخارج، أن لا ينسوا المثل الشعبي "من يأكل العصي ليس مثل الذي يَعدُّها". وبمعنى آخر، فإن قدرات الإنسان مختلفة من واحد لآخر. فالبداية التي ابتدأنا بها من تأكيدٍ على الطابع الخاص للفرد كنموذج يتميز عن غيره، هي ما تفسر لنا سلوك بعض الأفراد وخروجها عن الإجماع في سلمية الحراك أولاً، وتفسر أيضاً تنامي السؤال لدى البعض الآخلا: "إلى متى هذه السلمية، والموت يحصد ويغيِّب يومياً أعداداً منا؟" ثانياً. وتفسر أخيراً إصرار الآخرين وهم الغالبية، على استمرار سلمية الحراك، لإيمانهم بأن السلمية هي السلاح والقوة الحقيقية، لتحقيق النصر على الطرف الآخر وبث الطمأنينة لكل مكونات الوطن، وهذا ما نؤكده ونصر عليه.

وبالتالي فإن النتيجة السادسة: للوقوف بوجه الطائفية المدمر لنسيج الوطن، يتوجب وعي ما بدأه شباب الحراك من شعار السلمية وإصرارهم عليه حتى النهاية، رغم وقوع بعض الأخطاء كردود فعلٍ تبدو وكأنه لا بد منها. لكننا سنرفض ردود الفعل تلك وندينها حتى تبقى استثناءً يؤكد القاعدة الأساسية وهي: "سلمية الثورة".

7- إذا كان الحراك الشعبي قد أكدَّ على سلمية الثورة، ونبذ الطائفية، فإن ما أكد عليه ثالثاً هو عدم التدخل الخارجي. وهنا أيضاً سنجد آراءً مختلفة كانت تتبدى كلما تقدم الوقت، أمام العنف الذي ابتدأته السلطة وتوغلت فيه كحل وحيد لأزمةٍ طال عمرها. وأمام هذا الدم المهدور وما رافقه من اعتقالات لكسر إرادة الشعب وإرهابه وتحقيره، فإن الزمن لعب دوراً بدأنا نتلمسه من أفرادٍ وقوى ومنظمات، حول مسألة العلاقة بين الداخل والخارج، لسببين هما:

أ‌-   إصرار السلطة على الحل الأمني وما رافقه من وحشية من جهة. وإصرار الشعب المنتفض، على ثورته مهما كانت النتائج وضريبتها من جهة أخرى.

ب‌-  بروز الحقد وتناميه كلما زادت الضريبة دماً واعتقالات واسباحة للمدن والبلدان. ونهب وتخريب، عكس تحدٍ بين الطرفين وإصرارٍ على حسم الصراع كل لصالحه. 

هذه التجاذبات التي بدأت تطفح إلى السطح، كانت الدافع الأساس لكتابتي هذه، لأنها ظاهرة غير صحية. صحيح أننا أكدنا على التنوع والإختلاف النسبي. لكن عندما كانت بعض تلك المظاهر ستؤول- من وجهة نظرنا- إلى تأسيس انقسامات وبعثرة الحراك الشعبي، كان تخوفنا هو ما دفعنا للتنويه إليها وتوضيح كل ما يتعلق بها أسباباً ونتائج، وذلك للتقليل ما أمكن من خسائر نحن بغنىً عنها هذه المرحلة. إننا نعرف أن هناك ايديولوجيات وقوى مختلفة وأفراداً لها تطلعات وتوجهات، قد تصل إلى درجة التناقض. ونعرف أيضاً- ومنذ البداية- أن هذه الموجة سيمتطيها الكثير في الداخل والخارج. لكن مع ذلك كان طموحنا كبيراً ومازال في أن تحكمها آلية حوارٍ هادفة متأنية، على قاعدة الديمقراطية، لا الأنا المتضخمة، وإلا ما معنى تشارك وتنوع إذا سكتنا عن ظاهرة نراها منذ الآن تؤسس إلى شكل لا يختلف بمضمونه عن النظام الذي تداعينا لإسقاطه..؟

إن ما حكم الرؤى المستقبلية للبعض، شهوة القضم لأكبر نسبة من الكعكة قبل أن نخبزها. هذه الطروحات التي بدأت تتزايد، تجعلنا نُذَّكر ونُحذِّر من مخاطر عدة:

لقد أسلفنا، أن مايميز هذا الحراك الشعبي هو سلميته. وقلنا أنه لا سابقه له في التاريخ. فهل نسينا وبدأنا ننحرف عن توجهاتنا التي ابتدأنا بها؟ هل بدأ الحقد يأخذ مجراه، لننساق إلى قتالٍ لن يكون إلا طائفي، إذا ما ألغينا لغة العقل..؟

لقد أكدنا على ضرورة رؤية الظاهرة بشكل كلي ومن زوايا مختلفة. فهل تراجعنا إلى الرؤية الأحادية الجانب، وضيق الأفق..؟

إن بعض الآراء التي بدأت تتزايد في هجومها وانتقاداتها اللاذعة، على فلان أو ذاك، على هذه القوة أو تلك، لن يكون مآلها إلا إلى الانقسامات والتشرذم، وهذا ماتصبوا إليه السلطة. فهل عدنا إلى ردود الفعل والتعصب، بدل ما أكدنا عليه من حوارٍ ديمقراطي خلاق في إطار الفعل الجماعي المتنوع في فسيفسائه..؟ أو تُرانا "كلام الليل يمحوه النهار"..؟

إن الصراع الجاري في سورية تحكمه وتتحكم به حسابات محلية وإقليمية ودولية. هذه الحسابات مبنية على مبدأ المصلحة أولاً وأخيراً. وبالتالي فالغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً لها مصالحها المقيدة بمبدأ الربحية ورأس المال، الذي لا دين له.

وإذا تأملنا جيداً فللدول الأخرى- ونحن منها- مصالحها أيضاً. وهنا يتطلب منا وعيٌ بكيفية تحقيق تلك المعادلة. لقد عودنا الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً أن لا قواعد أخلاقية وإنسانية تتحكم في سياساتها تجاه الشعوب الأخرى. فهل نسينا أن عملاؤها تخلت عنهم أو قتلتهم..؟ لقد ادعينا في شرق المتوسط، أكثر الأمة وعياً وتحضراً. ومع ذلك في مجتمع كاليمن الذي تتحكم فيه العشائرية والقبلية والتخلف، فإنه أكثر منا تمسكاً بسلمية الثورة وأكثر سعة صدر تجاه الإجرام وفعل القتل، الذي سيُخرج كل من تآمر ويتآمر عليهم وسيجبرهم على خطوات لا يُحبذونها. بمعنى آخر سينتزعون منهم المواقف الملائمة انتزاعاً.

هذه المعطيات، تُذكِّرني بمثل شعبي "كل شي صرلنا بالقصر من مبارح العصر". فلماذا هذا التسرع وضيق الأفق لدى البعض..؟ لماذا هذه الدعوات للتدخل الخارجي وتخلينا عن شعارات، من المفترض أن تكون ثوابت لحراكنا الشعبي العظيم "لا للطائفية- لا للعنف- لا للتدخل الخارجي"..؟

إن مثالاً واحداً يكفي للدلالة عما تقدم: هل أنجزت الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها ما ادَّعته من تحقيق للديمقراطية وحقوق الإنسان.. و.. و.. و.. في العراق؟ أم دمَّرته مادياً ومعنوياًوعزلته اقليمياً عن محيطه الطبيعي، وفقد كل مقومات الدولة الفاعلة حتى داخلياً..؟

أما وقد وصلنا إلى نهاية وخاتمة المادة، فإن المطلوب منا جميعاً (شباب الثورة وقوى المعارضة)، فعلاً لا أقوالاً، وحدة العمل نحو تغيير النظام ونبذ الأفكار المحبطة، وألا يفد في عضدنا اليأس والملل. فالسلطة المسيطرة، بدى عجزها وإفلاسها حتى في حَلِّها الأمني. لذا سنرى ولوغها في الدم السوري، يدفعها مع الوقت إلى تجريدها من عناصر قوتها ومزيداً من حصارها. وهذا لن يكون إلا بإصرارنا على الاستمرار بجهودنا وابتداع الأشكال الملائمة لمقاومة السلطة وجبروتها. لأن قوتنا في إصرارنا على الإستمرار في التظاهر، عبر وحدتنا، في فعلٍ كلٌ من موقعه. وهذا الشكل هو الحلقة الأقوى التي ستُضعف السلطة، وتجبر القوى الإقليمية والدولية للاعتراف بنا وبحقوقنا، واستصدار الأفعال التي تُساعدنا على توسيع قدراتنا وقوتنا نحو الحسم والنصر لانتزاع حريتنا. أما وأن نلجأ إلى استجرار الغرب للتدخل وإسقاط السلطة، فما هذه الدعوة إلا تدليلاً على التعب والوهن أو اليأس والشك بسلمية الثورة كسلاح أمضى ضد قوة السلاح والقتل للسلطة..!

أما في رؤيتنا للمستقبل، مابع إسقاط السلطة، فإنه يتوجب أن نعي- وقبل أن تستغرقنا أحاديث الاحتكام إلى صناديق الإقتراع، وشهوة الوصول إلى السلطة لدى البعض- أن نجاح السلطة المستقبلية موهون بعمل حكومات الوحدة الوطنية. لأنها الضمانة للاستمرار وقتاً طويلاً بقصد اسقاط النظام وتغييره. وضمانة لبث الطمأنينة لجهات وفئات عديدة تُبدي تخوفها من الآتي.

إننا نُدرك أننا في زمن العولمة وزمن هيمنة الأقوى إقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. وندرك أيضاً أن الجميع يتسابق نحو تحقيق هيمنة مصالحه. ولذا كلٌ سيُفكر بطريقته لتحقيقها والالتفاف على ثورتنا لتجريدها من عناصر قوتها. وهنا بالضبط، أنوه إلى أن قوتنا في استقلال قرارنا وإرادتنا وأفعالنا، لصوغ مطالبنا ومصالحنا المحقو والمشروعة، لا أن يُملي علينا طلباتهم وشروطهم. وهذا ما دفعني للتحذير من الإرتماء أو إلقاء أوراقنا في سلة الغرب دون تدقيق وحوار شامل، مع اعترافنا سلفاً بمصالحهم كما هي مصالحنا.

مع احترامي لكل الآراء ووجهات النظر التي نسمعها وسنسمع الكثير..!                                                28-8-2011

هوامش ومراجع: